03‏/04‏/2022

الإمامة وأنواعها في نظر العلامة ناصر سبحاني (الحلقة 13)

د. عمر عبد العزيز

 من جملة القضايا التي شغلت حيّزاً واسعاً من اهتمامات العلامة ناصر سبحاني الفكرية، موضوع الإمامة، وكيفيتها، وشروطها، وما يتعلق بها من فروع مباحث النظام السياسي في الإسلام، ونظام الحكم الإسلامي، أو الإمارة، وقضية الشورى والمشاورة، ومعنى أولي الأمر، وكيفية تحديدهم، أو اختيارهم، والفرق بين الخلافة والإمامة، وغير ذلك.

   ولا يخفى أن ثورة الشعوب الإيرانية عام (1979م) ضد الحكم الملكي، وما تلاها من تشكيل (الجمهورية الإسلامية)، وتداعياتها داخل إيران وخارجها، وما أثارته المعارضة الإيرانية بجميع فصائلها ـ لا سيما بعد توجيه

المعارضة العلمانية واليسارية جميع انتقاداتها للإسلام، من خلال معاداتها لإيران ـ كان لكل ذلك الأثر الكبير في لفت أنظار سبحاني نحو الاهتمام بهذا البعد، وتخصيص سلسلة مفصلة من دروسه في العام الأول والثاني من الثورة (1979 ـ 1980م) لشرح النظام السياسي في الإسلام([1])، وهي بحوث قيّمة جداً، فيها أفكار جديرة بالاهتمام للباحثين والمحققين، إضافة إلى كتابه القيم (الولاية والإمامة)([2])، الذي ألّفه باللغة العربية والفارسية في آن واحد، والذي خصّ جزءاً أساسياً منه للموضوع نفسه، وسوف أعتمد عليه في مقالنا هذا، كمرجع أصلي، مع مصادر أخرى له ذات صلة في الإطار نفسه، وذلك في المقاطع التالية:

 

   أولاً/ الإمامة والخلافة، وما يتعلق بهما في اللغة والاصطلاح:

1 ـ أصل الإمامة من (أ. م. م)، "وكل شيء يضمّ إليه سائر ما يليه فهو أمّ، ومن ذلك أمّ الرأس، وهو الدماغ. وكل من اُقتدي به وقُدّم في الأمور فهو إمام. ولهذا يطلق على الطريق الإمام([3])، وكذلك الصّقع من الأرض([4]). قال الراغب الأصفهاني: " كل شيء ضُمَّ إليه سائر ما يليه سُمّي أمَّاً. وسمي اللوح المحفوظ بأمّ الكتاب، لكون العلوم كلها منسوبة إليه ومتولدة منه. والإمام: المؤتم به، إنساناً، كأن يقتدى بقوله أو فعله، أو كتاباً، أو غير ذلك، محقّاً كان أو مبطلاً. قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الإسراء/٧١، أي بالذي يقتدون به"([5]). ولقد استعمل القرآن الكريم مصطلح الإمام للكتاب الذي نزّله الله على موسى - عليه السلام-، قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}هود/١٧، باعتباره مؤتماًّ به في أمور الدين.

   أما استعمال القرآن لكلمة الإمام بمعنى من يتقدم الناس في أمور الدين، فلقد ورد في سياق الحديث عن إبراهيم - عليه السلام - في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة/١٢٤، وفي قوله على لسان عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان/٧٤.

   قال العلامة سبحاني: "الإمامة والإمام من الأَمّ، بمعنى قصد الأصل أو الغاية والمصير. والإمام اسم لمن أو ما يُؤتَمّ به، أي: من أو ما يُقصد باستعانته أصلاً أو غاية ومصيراً. ومعنى أمَّ بالناس: جعلهم يقصدون ذلك القصد"([6]). ثم تابع باستقراء دقيق جميع الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيها كلمة الإمام، سعياً للوصول إلى المعنى المقصود فيها كمصطلح، أرى من الضروري عرضه هنا لصلته المباشرة بمبحثنا. قال ـ رحمه الله ـ: " وقد ورد (الإمام) و(الأئمة) في القرآن في اثني عشر موضعاً، سبعة منها للإمام (بالإفراد)، والخمسة الباقية للأئمة (بالجمعية). ففي موضع منها جيء به للدلالة على الطريق، يقصد بسلوكها غاية ومقصداً. يقول الله تعالى: [وِإنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِين]الحجر/٧٩. وفي موضع للدلالة على كتاب قد أُحصي فيه كل شيء من أعمال العباد، فهو ـ من ثمة ـ إمام يُقصد باستعانته غاية. يقول تعالى: [وكل شيء أحصيناه في إمام مبين]يس/١٢. وفي موضعين للدلالة على كتاب موسى، الذي يقصد به المصير الذي يؤدي إليه الإيمان به، والعمل الصالح الذي يستلزم الإيمان به. يقول تعالى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً} الأحقاف/١٢. وفي موضعين للدلالة على متقدمين في سبيل الكفر والسيئات، ويقصد أهل الباطل والشرّ باتباعهم مصيرَ الكفر والسيئات. يقول تعالى: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} التوبة/١٢، ويقول: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} القصص/٤١. وفي خمسة مواضع للدلالة على من يكون بتقدّمه في سبيل الإيمان والعمل الصالح أسوة حسنة، يقصد مريدو الحق والخير باتباعه مصيرَ سلوك الصراط المستقيم. يقول ـ تعالى ـ مخاطباً إبراهيم عليه السلام: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}البقرة/ ١٢٤. ويقول: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان/٧٤. ويقول ـ تعالى ـ : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} الأنبياء: ٧٣. ويقول: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}القصص/ 5. ويقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} السجدة/٢٤. وفي موضع يحتمل مفهومه الصدق على كتاب الأعمال، وكتاب الهدى، وأئمة الكفر، وأئمة الهدى. يقول ـ تعالى ـ : {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ..} الإسراء/٧١"([7]).

   وأخيراً، نوّه إلى أمر مهم يتعلق باستعمال لفظة الإمام، حيث أكد على أنه لا يجوز استعمالها إلا مقيّدة بقيد (في صراط الإيمان والعمل الصالح)، أو قيد (في طريق الكفر والسيئات)، أو مقرونة بقرينة معينة، لأنها عند الإطلاق والتجرد عن القرينة لا تفيد شيئا محدداً([8]).

2 ـ أما الخلافة فهي من (خ، ل، ف)، والخَلْف في أصل اللغة ضد القدام([9])، والخَلَف: الخليفة، فالوالد يموت، ويكون ابنه خلفاً له،  فيقوم مقامه، ولذا استعمل الخليفة لمن استخلف مكان من قبله، وقام مقامه([10]). والخلافة: النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، أو لموته، أو لعجزه، وإما لتشريف المستخلف([11]).

   وللعلامة ناصر سبحاني رأي خاص في الخليفة والخلافة كمصطلح قرآني، فهو يرى أن للمصطلح علاقة جوهرية مع ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، حيث من فروعها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يجعل كل فرد منهم آمراً وأميراً، كما يجعله مأموراً. ثم يبين أن كون المؤمنين قد شملهم وعد الله بالاستخلاف: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ}النور/٥٥ـ يستلزم أن صفة الأمرـ التي هي من صفات الله المستخلف لهم ـ لكل واحد منهم. ومن جانب آخر يرى أن هذا الاستخلاف بعينه يستلزم لأولي الأمر ـ إضافة إلى ثبوت تلك الصفة العامة ـ ثبوت صفة أمرٍ يختص بهم، حيث يجعلهم يأمرون بما يستنبطون.. فإذا انتخب مؤمن لرئاسة السلطة التنفيذية، فقد أضيف إلى إمارته العامة ـ التي يشركه فيها سائر المؤمنين وأولو الأمر منهم ـ إمارة خاصة.

ومن هنا عرّف الشهيد ناصر الخلافة بأنها: "إمارة خاصة، يستلزمها نيابة الخليفة عن المؤمنين، في الأمر بالأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة، ونيابته عن أولي الأمر في الأمر بما يستنبطون. ولهذا يسمى رئيس السلطة التنفيذية في نظام الحكم الإسلامي أمير المؤمنين([12]). وبهذا يتبين أنه يرى أن الخلافة أو الإمارة نيابة الخليفة أو الأمير عن المؤمنين في الأمر بأحكام الله وتنفيذها، كأهم فرض من فروض الكفاية، التي يغني قيام واحدٍ من المؤمنين به عن تصدي الآخرين له.

ولقد اكتسب نظام الحكم الإسلامي ـ بعد وفاة رسول الله مباشرة ـ اسم الخلافة، بعد عقد البيعة للصديق - رضي الله عنه- (ت: 13هـ/674م). ثم غدا مصطلح الخلافة اسماً مطّرداً لنظام الدولة الإسلامية، إلى حين انتهاء حكم سلاطين آل عثمان([13]).

   ولقد اشتهر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بخليفة رسول الله، إثر وفاة الرسول مباشرة، علماً أن مصطلح (الخليفة) لم يرد في القرآن الكريم كتسمية سياسية. بل إن الذي ورد فيه هو إطلاق لفظة الخليفة على نبي الله داود - عليه السلام - في قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ..}ص/٢٦. ولقد اختلفت آراء المفسرين في معنى كون داود خليفة، فقال الطبري: "إنا جعلناك خليفة، أي: استخلفناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا، حكماً بين أهلها([14]). وأضاف القرطبي الأئمة الصالحين([15])، وكذا قال غيرهما من المفسرين؛ كالشوكاني وأبي الفرج ابن الجوزي([16]). إلا أن الزمخشري حمّل الآية معنيين: إما بمعنى الاستخلاف على الملك في الأرض، أو كخليفة لمن قبله من الأنبياء([17]). هذا، ولقد استدل بعض المفسرين ـ ومنهم القرطبي ـ بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}البقرة/٣٠، "على أنها أصل في نصب إمام وخليفة يُسمَع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة"([18]).

   وبعد وفاة الصديق - رضي الله عنه - استثقل الأصحاب منح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لقب خليفةَ خليفةِ الرسول، كما رأوا أن لقب خليفة رسول الله لم يكن إلا لأبي بكر، لذلك استقر الرأي على مصطلح أمير المؤمنين، بإشارة من عمر - رضي الله عنه - نفسه. حيث ورد أن أحد الأصحاب ـ وهو المغيرة بن شعبة ـ نادى عمر: يا خليفة الله! فقال عمر: ذاك نبي الله داود. فقال: يا خليفة رسول الله! فقال عمر: ذاك صاحبكم ـ أي أبو بكر ـ . فقال: يا خليفةَ خليفةِ رسول الله! قال عمر: ذاك أمر يطول. ثم قال عمر: أنتم المؤمنون وأنا أميركم"([19])، فاستعمل منذ ذلك الوقت مصطلح أمير المؤمنين.

 

   الاستخلاف التكويني:

   ولقد شرح العلامة ناصر سبحاني أمر استخلاف الله للإنسان ـ الذي سماه (الاستخلاف التكويني) ـ على ضوء قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة/٣٠، فقال: "قد بين الله - تعالى - أنه قد استخلف البشر في الأرض استخلافاً عاماً، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}البقرة/٣٠. وبعد أن تخلّى أكثر بني آدم عن حمل مقتضـى هذا الاستخلاف التكويني، تعيّن لحمل الواجب كله الأقلية المؤمنة، فجاء في تذكير هؤلاء بواجبهم، وتأكيد وجوب خلافتهم استخلاف تشريعي، وحُمِلَّت هيأة أولي الأمر منهم ـ إضافة إلى نصيبهم من هذا الواجب العام ـ واجب خلافتهم الخاصة. وإذا انتخب مؤمن لرئاسة السلطة التنفيذية، فقد أضيف إلى خلافته العامة ـ التي يشركه فيها سائر المؤمنين وأولو الأمر منهم ـ خلافةٌ خاصة، يستلزمها نيابته عن أولئك في القيام بتنفيذ الأحكام. ولهذا يسمى رئيس السلطة التنفيذية في النظام الإسلامي الخليفة"([20]).

 

ثانياً/ أنواع إمامة رسول الله – (صلى الله عليه وسلم)-:

1ـ اختار الشهيد سبحاني مسلكاً خاصاً به في الحديث عن موضوع الإمامة، فتحدث في البداية عن الإمامة العامة، فأشار إلى أن الله تعالى قد قضـى أن يقوم أهل الدرجات العُلى من الاستعدادات ـ إضافة إلى أصل الإيمان والعمل الصالح ـ بالتقدم في طريق العلم والتسليم والعمل، وتمهيدها للآخرين، ليكون في مقابل تماثيل الباطل والشر مُثُل من الحق والخير، حيّة، فردية وجمعية، يتأسى بها في الإيمان والعمل الصالح الفرد والجمع الطالبون للسعادة. وهذا بسبب تفاوت الاستعدادات بين أنزل درجة وأعلاها، كما هي سنة الله في عباده"([21]).

   قلت: ولقد أكدت آيات عديدة من (سورة الأحزاب) ـ التي خُصّ محورها لضرورة وجود القدوة العملية في شخص الرسول ، وأهل بيته ـ لا سيما أزواجه ـ ثم مجتمع صحابته، وغيرها، على هذا الأمر، فقال ــ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}الأحزاب/٤٥ــ٤٦، وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..}الحج/٧٨.

2ـ بعد ذلك أشار إلى نوع آخر من الإمامة، فيما يتعلق بوظائف رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، سماها الإمامة الأُسَرِية. فبعد أن بيّن أن الإمامة من مقتضيات رحمة الله عزّ وجل ومِلكه وإكرامه، وأنها مهذّبة ومكمّلة برعاية وعناية إلهية خاصة، لكي تتحقق هداية الناس فرداً فرداً، شرع في الحديث عن الإمامة الأسرية، باعتبار أن قسماً من أحكام الشريعة تتعلق بالأسرة، فقال: "بتهذيب وإكمال هذه الإمامة (الإمامة العامة التي تحدث عنها قبل ذلك) يكون النبي الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أدّى في هداية الأفراد ما عليه. ولكن لأن قسماً من أحكام الشريعة الربانية خطابات تطلب بناء الأسرة على قواعد الحق والخير، يجب عليه القيام ببناء أسرة تكون أصلح قدوة يقتدي بها كل من يريد أن يكون في حياته الأسرية عاملاً للصالحات وهو مؤمن، أي يجب عليه أن يُحّقق مع الإمامة الفردية الإمامةَ الأسرية، وذلك إنما يكون باختيار أزواج صالحات يتلو عليهن آيات الله، ويزكّيهن، ويعلّمهن الكتاب والحكمة، هنّ وسائرَ أعضاء أسرته. هذا التكليف قد جاء به ما يلي من الآيات.."([22]). ثم ذكر الشهيد الآيات: (28 ـ43) من سورة الأحزاب، وفسرها تفسيراً قلّما انتبه إليه من سبقه من المفسرين.

   ولتوضيح مقصده من الإمامة الأسرية، يلزم علينا نقل بعض ما قاله على ضوء (سورة الأحزاب). قال رحمه الله: "لقد قام الذين كفروا في العهد المكي، في مجال السعي في القضاء على دعوة الحق وأهلها، بكل ما استطاعوا، ولكنهم خابوا، ولم ينالوا خيراً. وبعد قيام المجتمع الإسلامي ونظام الحكم بما أنزل الله في العهد المدني، جعلوا يقاتلون المؤمنين حزباً حزباً، ولكنهم لم يظفروا بما أرادوا، فاستبدلوا بذلك السعي في حمل المؤمنين على البقاء على أعراف جاهلية، هي ثغرات يتمكّنون من الإغارة منها عليهم، ليحققوا ما لم يحققوه بالقتال.

   عند ذلك نزلت (سورة الأحزاب) تذكرّ المؤمنين بنعمة هزم الأحزاب، وتأمرهم بشكر تلك النعمة، باجتناب إطاعة الكافرين والمنافقين في أمرهم إياهم بالبقاء على الأعراف المذكورة، وتدعوهم إلى اتباع ما يوحى إليهم من ربهم.. والآيات المذكورة منها في جعل أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يتخذون سبيل شكر تلك النعمة، بالابتعاد عما هم فيه من الأعراف الجاهلية المذكورة، والتطهر منها، ليكون بيتهم خيرَ قدوة للمؤمنين، فهي تبدأ بالنبي (صلى الله عليه وسلم) تكلّفه بأن يواجه أهل بيته مواجهةَ من يأبى أَن يزاوج إلا أهل العزم على إخلاص العبودية لله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا. وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} الأحزاب/٢٨ــ٣٠. ولقد قام النبي بما كلف به.. وهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك نزل في إذهاب الرجس عنهن وتطهيرهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}الأحزاب/30. {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} الأحزاب/32 ، ذلك أن بتقواهن تتحقق الإمامة الأُسْرية"([23]).

   ويختتم الحديث عن هذا الموضوع بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بلّغ ما نُزّلَ عليه من آيات (سورة الأحزاب) ـ تلك التي أوردناها، وغيرها ـ مما يتعلق بأحكام الأسرة وتكوين الإمامة الأسرية ـ وأدىّ ما عليه من تكاليفها، فتمّت ـ بذلك ـ نعمة الهداية في الحياة الأسرية على المؤمنين، كما كملت ـ في الوقت ذاته ـ إقامة الحجة الإلهية على الكافرين"([24]).

   أقول: ومن الأحكام الأسرية والاجتماعية الأساسية التي أشير إليها في (سورة الأحزاب): الأحكام المتعلقة بالتحدّث، والستر، والقرار في البيت، والاحتشام، وعدم التبرج، وكذلك طاعة الله ورسوله، مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقراءة وذكر ما يتلى من الآيات والحكمة في بيت النبوة، بالإضافة إلى الأحكام المتعلقة بالنكاح والطلاق والعدّة والمهور، وأحكام تتعلق بالحياة الاجتماعية والتعامل الاجتماعي، كآداب دخول البيوت، والاستئذان، وتناول الطعام، وآداب طلب الأمتعة، وغيرها، مما يجعل ـ بالالتزام بها وامتثالها ـ من بيت النبوة أنموذجاً حياً وقدوة عملية في دائرة الإمامة الأسرية، التي هي نواة أساسية ـ بعد القدوة الشخصية والإمامة الفردية ـ نحو الإمامة الاجتماعية، التي سيأتي الحديث عنها في الفقرة التالية.

3 ـ بعد الحديث عن الإمامة الفردية (العامة)، والأسرية، تحدث الشهيد ناصر عن الإمامة الجمعية الاجتماعية، معلّلاً أن الإمامتين السابقتين لا يكفيان لتحقيق كمال العبودية لله، حيث تقتضي استخدام ما وهبه الله من القوى والطاقات، واستعمال ما آتى عباده من النعم والأسباب ـ التي لا يمكن للبشر أن يستخدموها فرداً فرداً، نظراً لتفاوت القابليات. ولذلك انقسم هدى الله ـ سبحانه ـ كما يرى الشهيد إلى أقسام، فمنه ما يجعل الإنسان متهيئاً للقيام بما عليه من العبودية الفردية، سواء كان الفرد رجلاً أو امرأة. ومنه ما يحتاج إلى اجتماعهما كزوجين يشكلان الأسرة، وهذا ما أشرنا إليه آنفاً.

   ثم يستكمل الحديث عن الإمامة بذكر الإمامة الاجتماعية، فيقول: ".. إذا تكوّنت ـ على أساس هدى الله ـ أُسَر تتمكن باجتماعها من استخدام واستعمال ما قد بقي من الطاقات والأسباب، جاء من الله هدى يهدي للعبودية الاجتماعية، ووجب على النبي الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يقوم بإقامة مجتمع يكون خيرَ مثال يحتذيه كلُّ جماعة يريدون أن يكونوا في حياتهم الاجتماعية بحيث ينالون رضوان الله. أي وجب عليه أن يحقق مع الإمامة الفردية والإمامة الأسرية، الإمامة الاجتماعية. ثم تحدث عن أركان هذه الإمامة، فقال: "أركان هذه الإمامة الجمعية أصلحُ أفرادٍ من البشر في عصرهم، يكون النبي الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد جعل منهم ـ بتلاوة آيات الله عليهم، وتزكيتهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة ـ مُثُلاً حيّة من الهداية، وكوّن منهم ـ بوضع كل واحد منهم في دائرة عملٍ يناسب ما له من الاستعداد والاختصاص، ثم بتنسيقهم  ـ خيرَ جماعة مقيمة للدين، تتقدم السالكين سبيل الإيمان والعمل الصالح"([25]). ثم يشير الشهيد بأن رضوان الله لا ينال من لا يتبع تلك الإمامة الجمعية، كما لا يناله من لا يتبع إمامة رسول الله الفردية والأسرية، والتي أركانها هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، مستدلاً لذلك بقوله تعالى:

﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..﴾التوبة/١٠٠، التي بينت أن فوز غيرهم متوقف على اتباع أولئك بإحسان. هذا لأن جانباً من الهدى الرباني تمثل في حياة هؤلاء، الذين حُفّوُا برعاية الله وإصلاحه وتهذيبه، حيث من المستحيل أن يجعل الله الاتباع الكامل لإمامة فيها أقل خلل، الوسيلة الوحيدة إلى السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة.

إن ما ذكرناه هو بحق وظيفة الإمامة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، التي سماها في كثير من مؤلفاته ودروسه بإمامة الهداية. أما حديثه عن الإمامة العظمي (إمامة أولي الأمر)، وأسس النظام السياسي ونظام الحكم الإسلامي، والفرق بين إمامة الهداية والإمامة العظمى، فحديث ذو شجون لدى الشهيد سبحاني، وله فيها قصب السبق.

 

الإمامة العظمى (إمامة أولي الأمر)، وأسس النظام السياسي الإسلامي

في فكر العلامة ناصر سبحاني

أولاً/ طبيعة نظام الحكم الإسلامي:

   اختلف نظام الحكم الإسلامي ـ الذي وضع أسسه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة ـ عن كل الأنظمة التي كانت تحكم في ذلك العصر، سواء العربية في صورتها البدائية المتخلفة، أو البيزنطية، أو الفارسية، ذات التاريخ والحضارة العريقة، وذلك بحكم طبيعة الدين الإسلامي، والظروف القائمة، والآثار التي ولّدها. فلم يكن ذلك النظام فردياً (ديكتاتورياً)، ولا مَلَكياً وراثيّاً، ولا طبقيّاً، ولا عشائرياً قبليّاً، ولا طائفياً أو عِرقيّاً، ولا عسكرياً، ولا دينياً (ثيوقراطياً)([26]) قائماً على نظرية الحق الإلهي، بل كان حكماً مدنياً، مبنيّاً على التوحيد وقِيَم العدل والحرية والشورى.

وإذا أثير تساؤل حول الفرق بين حاكمية الله ـ التي هي شطر من الألوهية، تقتضيها معاني الإله ومدلولاته ـ وشكل النظام (الثيوقراطي) الكهنوتي، فالجواب هو أن نظام الحكم الإسلامي يختلف عن الحكم الديني (الثيوقراطي) اختلافاً جوهرياً، فحاكمية الله هي غير نظرية الحق الإلهي الذي آمن به الكهنة، وتسلطوا بها على رقاب العباد وثروات البلاد. ولا تتعارض مع كون نظام الحكم الإسلامي شورياً مدنياً منتخباً من الناس، فالحكم الإسلامي أعطى حق التّولية بالبيعة – التي من صورها الانتخاب –، والعزل - الذي من أشكاله سحب الثقة - للناخبين، وسحب الثقة عن السلطة التنفيذية. كما أفسح المجال للولوج في تفاصيل التشريعات القانونية من قبل مجلس الشورى أو (البرلمان)، أو مجلس نواب الأمة، فيما لا يدخل دائرة الثوابت والأسس التي هي محدودة جداً، إذا قيست بالمتغيرات التي تملأ حياة الحضارات والمجتمعات، وتستجد برهة بعد برهة، وآناً بعد آن. بينما لم تكن نظرية الحق الإلهي تعترف بأي انتخاب أو تولية أو عزل، بل لم تكن الكنيسة تسمح بالحديث عن العلوم الكونية والطبيعية والطبية وغيرها، وترى أن الكهنة هم نواب لله، وأوصياء منتصبون مصطفَوْن من قبله، ليس من حق أحد أن يفكر في انتقادهم، فضلاً عن عزلهم عن الحكم.

   ولهذا، فمن الخطأ وضع النظام الإسلامي في (خانة) التصانيف الموضوعة للأنظمة الحاكمة - سواء في ذلك الزمن، أو بعده -، لكونه نظاماً خاصاً جديداً في هيكله وشكله، وفي المبادئ والقيم التي يتبناها، وفي الغايات والأهداف التي يسعى لتحقيقها. فليس هناك ـ في التصور الإسلامي ـ وسيط بين العباد وربهم، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه من أوصياء الله، فليس في النظام الإسلامي طبقة الكهنوت والمختارون المعصومون. والحكام في ذلك النظام محكومون بوظائف تنفيذية واجتهادات مشروطة ومضبوطة بإطارات، على غرار الأطر الدستورية المعاصرة، فلا خوف للتسلط أو التحدث باسم الله، أو الخبر عن الله، كما كان الحال في النظام الديني الكنسيّ في العصور الوسطى، وغيرها.

ولإبراز جانب من خاصية نظام الحكم الإسلامي، يرجع سبحاني إلى الجذور قائلاً: "لفهم طبيعة النظام السياسي الإسلامي، لا بدّ - في البداية - من معرفة التصور الإسلامي حول الله سبحانه والكون والإنسان، لكون الشريعة الإسلامية منظومة موحّدة متكاملة غير قابلة للتجزئة، وهي مع ذلك متناسقة الأجزاء، لا يمكن فك جزء منها عن جزء"([27]).

   وهكذا بدأ الشهيد يشرح ما قاله، مؤكداً - مثلاً - على أن توحيد الألوهية هو الركن الأساسي في النظام السياسي الإسلامي، حيث يقتضي أن يعتقد المؤمن بأن ليس من حق أحد ـ كائناً من كان ـ أن يكون المشرّع والحاكم والآمر الأول والأخير، إلا الله الخالق الآمر: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}الأعراف/٥٤. ويؤكد - في دروسه المخصصة لشرح النظام السياسي الإسلامي - أنه نظام خاص، له ميزاته الخاصة به. وأن للعقيدة دوراً أساسياً في بنيان هيكله، وتشييد معالمه، وهذا ما سنلقي الضوء عليه لاحقاً أثناء الكلام عن أسس النظام الإسلامي.

 

 

 

 

   ثانياً/ حكم وجود نظام الحكم لدى العلماء، وفي تصور العلامة سبحاني:

استدل كثير من المحققين؛ من المفسرين وشراح الحديث والفقهاء، بما حدث في اجتماع يوم سقيفة بني ساعدة([28])، على إجماع الصحابة على وجوب تعيين الإمام أو الخليفة، رغم وقوع بعض الاختلاف بينهم في تعيين الشخص المرشح. قال القرطبي بهذا الصدد:" هذه الآية - يقصد قوله تعالى -: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ..} البقرة/٣٠، أصل في نصب إمام وخليفة يُسْمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفّذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة"([29]). وأجمع الصحابة على تقديم الصديق، بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين. ثم استدل بحصول المناظرة الحاصلة بينهم في شخص المرشح: هل يكون من المهاجرين أو الأنصار، على أنهم لم يختلفوا في وجوب تعيين الخليفة، قائلاً: "لو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم، لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل: إنها ليست بواجبة، لا في قريش ولا في غيرهم، فما لتنازعكم وجه، ولا فائدة في أمر ليس بواجب. ثم إن الصديق لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد: هذا غير واجب علينا ولا عليك، فدلّ على وجوبها، وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين"([30]).

 ولقد روى إجماع السلف، في موضوع وجوب نصب الإمام، كل من تحدث عن موضوع الخلافة، وأنه واجب شرعاً، ومسوّغ عقلاً، كأبي الحسن الماوردي، في (الأحكام السلطانية)، وغيره من كتبه، وحجة الإسلام الغزالي، في (إحياء علوم الدين)، و(سرّ العالمين)، وابن قتيبة الدينوري في (الإمامة والسياسة)، والأصولي المحقق السعد التفتازاني في (متن مقاصد الطالبين في علم أصول عقائد الدين)، والشهرستاني في (نهاية الإقدام في علم الكلام)، وعبد القاهر البغدادي في (الفرق بين الفرق)، وهو القائل: "إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام، ينصب لهم القضاة والأمناء، ويضبط ثغورهم، ويغزي جيوشهم، ويقسّم الفيء بينهم، وينتصف لمظلومهم من ظالمهم"([31]).

   إلا أن سبحاني ينحو منحىً آخر في إثبات وجوب إقامة الحكم الإسلامي، فيعتقد اعتقاداً يتقطّر منه اليقين أنه لا يتحقق الفلاح لبني البشر إلا بالاعتقاد بمعينية الله وحاكميته ـ وهما شطرا الألوهية ـ وإبطال ما تبطلانه، وإحقاق ما تحققانه في واقع الحياة؛ فكما أنه لا يملك غير الله سبحانه قدرة جلب نفع أو دفع ضر، فكذلك لا يملك أحد غيره القدرة على حكم قائم على أساس كون الأمر إلى أولي الأمر من المؤمنين، مما يحقق العدل والرفاه والسعادة. ولنستمع إلى ردّه لسطوة المنكرين قائلاً:

   "إن الذي تبطله كلمة لا إله إلا الله - التي لا فلاح إلا بإبطال ما تبطله، وإحقاق ما تحققه في واقع الحياة - معينية غير الله سبحانه المدّعاة، التي يدل على بطلانها أنه لا يملك نفعاً أو دفع ضر إلا الله، وحاكمية العباد المفتراة، التي تقوم على غير قدرة على حكم، وعلى غير مِلك ومُلك به تولية الأمور الوجهةَ التي لتولّيها خُلِق، وإليه القضاء في مصير كل عبد بما قد كسب أو اكتسَب، إضافة إلى قيامها على غير قدرة على جلب نفع أو دفع ضر، وأن الذي تحققه هذه الكلمة الطيبة معينية الله الرحمن الرحيم، وحاكميته.. وحاكمية الله لن يحققها إلا نظام قائم على أساس كون الأمر إلى أولي الأمر من المؤمنين. وكل نظام قائم على غير هذا الأساس فإنه طاغوت حاكم بما لم يأذن به الله من الدين.."([32]).

قال هذا كتوصيف منه لواقع الحال، أما طريقة بحثه للتأصيل الشرعي للاستدلال على مواجهة الباطل وتغيير الواقع، فمختلف عن كثير من الآخرين، فيقول - بعد المقدمة التي نقلناها -: "إذا كان كذلك، وكان بيّنا أنه لن يزيد القائلين ما لا يفعلون قولهم ـ عند ربّهم ـ إلا مقتاً، فإنه لن يُقبل قول لا إله إلا الله إلا ممّن يجاهد بماله ونفسه في نفي أنظمة الحكم القائمة عن أرض الله، وإقامة النظام الحاكم بما أنزل الله. وإن ذلك يقتضـي أن لا يبخل العبد بشـيء - من تفكير أو قول أو عمل - يُنقَضُ به جزء من بنيان نظام من هذه الأنظمة. ويقتضـي - كذلك - أن يضنّ بأقل شيء من ذلك يؤيد به شيء منها إلا أن يكون ذلك ذريعة إلى خير أكثر مما يُنال بترك التأييد"([33]).

وبعد أن يستشهد سبحاني بآيات؛ منها: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الحجرات/١٥، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} التوبة/١١١، وغيرها، يقول: "فإذا تعارض حفظ الدين وحفظ النفس، فالمقدم حفظ الدين... لأنه تعالى الله عن أن يرضى أن يكتسي دينه ثوب الذلّة، يحرّم على فريق الدعاة إلى الله، الهداة للناس - الذين منهم يُسمع الحق المبين، وفي تفكراتهم وأقوالهم وأعمالهم يتجلّى الدين، الذين لا يبقى من حياتهم شيء إن حُذفت منها الشهادة لله على الناس - ما فيه أقل تأييد للأنظمة الجاهلية!"([34]). ثم يستشهد لذلك بآيات؛ منها قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}الأعراف/٣، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا}النساء/١٤٤، وقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} النساء/١٣٩، وقوله: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} الشعراء/ ١٥١.

ثالثاً/ الفرق بين إمامة الهداية والإمامة العظمى:

   قلنا في المبحث السابق أن سبحاني فرّق بين إمامة الهداية المخصّصة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والإمامة العظمى أو رئاسة السلطة التنفيذية، التي انتقلت إلى من بعده من الخلفاء أو الأمراء. حيث يرى الشهيد أن انتقال الناس من واقع جاهلي إلى واقع قائم على إفراد الله بالعبادة والاستعانة، لا يتأتى بعرض التصورات فقط، بل لا بدّ من إقامة واقع يقاوم الواقع الجاهلي المرفوض.. ويضيف: أنه لا يمكن أن يتصف بهذا، من لم يرفض الأول، فضلاً عن أن يتصّف به في كثير أو قليل. وهو يستدل بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}البقرة/١٢٤، على أن إمامة هداية الناس إلى ربهم مكانة لا يبلغها الإنسان إلا بجعل من الله وعهد. ويلاحظ الشهيد - في تلك الآية - أنه يتقدم على ذلك الجعل الابتلاءُ بكلمات ـ يتصور أنها أوامر ونواه ـ فمن أتمها وائتمر بها، جُعل إماماً بعهد من الله، من غير حاجة إلى جعل من غيره، ومن ظلم - بأن وضع نفسه في غير مكانة الائتمام والائتمار والانتهاء - أبى عهد الله أن يناله. ثم إن سبحاني، قد بيّن في مواقع عديدة من دروسه وكتبه([35])، أن تلك الكلمات المبتلى بها المذكورة في الآية السابقة (الآية 12من البقرة) هي التي وردت في (سورة الفرقان) في وصف عباد الرحمن([36]). وبهذا يعد الإمامة - تلك - رحمة لدنيّة يهبها الله لبعض عباده ممن ينالهم عهده.

أما الإمامة العظمى، فيقول فيها: ".. وأما ما اصطلح على تسميته بالإمامة العظمى من رئاسة السلطة التنفيذية ـ كما قد اصطلح على تسميته أيضاً بالخلافة وبإمارة المؤمنين ـ فهو أمر آخر غير ما بيّن كتاب الله أن الارتفاع إلى مكانته لا يكون إلا بجعل من الله. فإن الأمر الأول أمر لا يختلف ثبوته عن التحلّي بأهلية الاتصاف به وإن أبى العباد كلهم، أو كثر المتحلّون. وأما الثاني، فإنه ليس إلا نيابة عن جمع المؤمنين في تنفيذ الأحكام المنصوص عليها والمستنبطة بالإجماع. وتولّي أمرٍ ما نيابةً إنما يكون بعد عقد بين الجانبين، مما يجعل ثبوت هذه الإمامة يتوقف ــ إضافة إلى الأهلية ورضى الله ـ على جعل من المؤمنين. كما أنه قد يكون المتحلّون بأهلية حمله كثيراً، ولكن كونه مستطاعاً حمله لواحد، وكون إسناده لأكثر من واحد مجلبة للمفسدة، يجعلانه لا يُسنَد إلا إلى واحد (شأن كل واجب كفائي مثله). نعم، يجب أن يكون الذي يسند إليه هذا الواجب من جمع أولي الأمر"([37]).

هذا، ولا بدّ من القول هنا بأن سبحاني حاول - من خلال هذه الرؤية وتلك التصورات - أن يردّ نظرية الإمامة القائلة بإمامة الأئمة الإثني عشر([38]) المتعاقبين، والتي اعتبرتها الشيعة الإمامية من أصول الدين الكبرى، بل أعظم ركن من أركان الدين([39])، ولا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها([40])، ولذلك فهم يجزمون بأنها أعظم من مقام النبوة([41])، وأن أئمتهم أفضل مقاماً من الرسل والأنبياء - عليهم السلام -، سوى أولي العزم منهم([42])، بل منهم من يرى أن للأئمة أفضلية على أولي العزم من الأنبياء، وغيرهم!([43]). وبناء على هذا كفّر معظمهم منكر الإمامة، بل اعتبروا الجهل بها كالجهل بالنبوة على حد سواء([44])، فمنكر الإمامة كافر ضالّ مخلد في النار، حسب قول معظم مراجعهم([45]). كما قالوا بأن من أنكر المهدي المنتظر ــ الإمام الثاني عشر ـ عُدّ من المرتدين([46])، ويجوز سبّه وغيبته، بل يجب لعنه، والبراءة منه كائناً من كان، لكونه شرا من اليهود والنصارى([47])، بل إن ماله ودمه حلالان لهم([48]). والإمامة جعل إلهي وهبة ربانية في نظرهم، بعضهم يحتج لذلك بقوله تعالى بحق إبراهيم - عليه السلام -: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة/١٢٤، ظانين أن الناس كلهم ظالمون ـ لأنهم فاسقون غير معصومين ـ إلا أئمتهم.

 وهكذا اقترن الفكر السياسي الشيعي، منذ القرن الثاني الهجري، بنظرية الإمامة التي تحصر الحق بولاية أمور المسلمين في أئمة يُنسبون إلى أهل البيت، رافضين بذلك مبدأ الشورى الذي أقره القرآن في كل ما يتصف بالأمر بين المسلمين، في قوله سبحانه: {وأمرهم شورى بينهم}الشورى/٣٨ كطريقة أو وسيلة لانتخاب ولي أمر المسلمين.

   سدّ العلامة ناصر سبحاني الطريق أمام هذا التصور من أوله، وذلك على أساس التصنيف الذي قام به لأنواع إمامة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حيث أكد على أنه إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) - وهو معصوم في مهمتي النبوة والرسالة، بالقوة ثم بالفعل ـ ، غير معصوم ـ بالقوة، ولكن معصوماً بالفعل ـ في مجال مهمته الثالثة، التي هي الإمامة العامة، بمعنى الرئاسة بالقوة، فكيف بمن يأتي بعده، كائناً من كان؟ وهل كان الأئمة إلا أناساً غير معصومين، ولهذا يقّر سبحاني جازماً: "لا مكان في معتقداتنا ـ بعد ولاية الله الخاصة، وولاية رسول الله وإمامته الفرديتين - لولايةٍ وإمامةٍ فرديتين أخريين. فمن أخص خصائصنا وأبرز ميزاتنا - نحن أتباع كتاب الله وسنة رسوله ـ في مجال السياسة، اعتقاد والتزام النظام السياسي المبتنى على الإمامة والولاية الفرديتين"([49]).

رابعاً/ أسس النظام السياسي الإسلامي في فكر الشهيد ناصر سبحاني:

السياسة في اللغة والاصطلاح:

   السياسة مصدر من ساس يسوس. والسّوس في الأصل: "العثّة التي تقع في الثياب والطعام([50])، والعثة هي الدودة. أما الفيروزآبادي، فيرى أن السوس هو الطبيعة، والأصل، وشجر في عروقه حلاوة وفي فروعه مرارة، ودود يقع في الصوف([51]). ويقال: ساس الفرسَ، أي: قام على أمره وترويضه. ولعل من هذا المعنى أُخذ مفهوم سياسة الإنسان للإنسان مجازاً. ولقد استعمل رسول الله، في حديث له حول سياسة الأنبياء -عليهم السلام- لبني إسرائيل، كلمة (يسوّسُهم) بذلك المعنى، فقال: (تُسوِّسُهم الأنبياء)([52])، وبهذا تكون السياسة فعل السائس، كما يقول الفراهيدي: "السياسة فعل السائس الذي يسوس الدواب سياسة، يقوم عليها ويروضها"([53]).

   والكلمة لم ترد في القرآن الكريم، ولكن ورد ما يدل عليها أو يشير إليها بكثرة، مثل كلمة (الحكم)، كقوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}الأنعام/٥٧، وكلمة (التمكين)، كقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}الحج/٤١، وكلمة (الملك)، كقوله: {َ.. فقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}النساء/٥٤، وعشرات الكلمات الأخرى؛ مثل: أولي الأمر، والقضاء، والعدل، والقسط، والشورى، وغيرها، التي تدخل في إطار السياسة، أو تتعلق بها. ومن هذا الأصل وذلك المعنى استعملت لفظة السياسة منذ القرن الأول الهجري، فاستعملها عدد من الصحابة، واستعملها الخلفاء بعدهم، واستعملها الفقهاء([54])، ثم المشرّعون بعدهم. ولقد أخذ المشرعون المعاصرون كلمة السياسة عن سلفنا ممن ذكرناهم.

   ولا بدّ أن نذكر هنا أن علماء الأمة الإسلامية، بمختلف أقوامها، قد ألّفوا مصنفات عديدة حول السياسة والحكم والنظام الإداري، منذ القرن الثاني الهجري. مما دفع ببعض (الأكاديميين) أن يخصصوا دراساتهم لمحاولة استقراء ما في التراث من أسماء الكتب والمصنفات حول السياسة([55]).

   ولقد وضع القانونيون، ومعدو الموسوعات السياسية، تعريفات عدة للسياسة، يجتمع معظمها حول محور واحد، هو أن "السياسة من إدارة الشؤون العامة"([56]).

   أسس النظام السياسي الإسلامي:

   قلنا فيما مضى أن سبحاني نوّه إلى أنه لا بدّ لدرك النظام الإسلامي وخصائصه من معرفة التصور الإسلامي حول الله سبحانه والكون والإنسان، وذلك لكون الشريعة الإسلامية منظومة متكاملة غير قابلة للتفكيك والتجزئة، وهي - مع ذلك - متناسقة، بحيث لا يمكن فك جزء منها عن جزء. ومن هذا المنطلق يرى:

1ــ أن التوحيد هو الركن الأساس في النظام السياسي الإسلامي، وذلك لأن توحيد الألوهية يقتضـي أن يعتقد المؤمن - من الأساس - بأن ليس من حق أحد أن يشرع ويحكم ويأمر إلا من بيده الخلق والأمر.

2 ــ وفي ملاحظة أخرى يرى أن القرآن اكتفى، في مجال بحث الأنظمة الإسلامية - سواء السياسية منها، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية - ببيان الأصول والقواعد الكلية، وترك الحديث عن التفاصيل وطرق الإجراءات والتطبيقات، وكيفية استنباط الأحكام الجزئية لمجتهدي كل عصر ومتخصصـي كل مجال، وذلك لكي لا يُحدّد طاقات الناس وقابلياتهم، ويدع المجال للعقل البشري للتحرك وفق تلك الأصول والقواعد. وكذلك، فإن سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - بالنسبة لآراء أولي الأمر - بمثابة معادن كلية تُراجَع لاستخراج الجزئيات اللازمة"([57]).

3ـ أما بالنسبة لأصل الهدف من تشكيل الحكومة، فيرى سبحاني أن إقامة الحكم الإسلامي ليس مقصوداً بذاته، وليس هدفاً بعينه، بل الحكومة ليست إلا وسيلة لتحقيق نظام القسط في مجالات الحياة"([58]).

4 ـ مرجعية بعض الوزارات: هذا وللشهيد سبحاني ملاحظات أخر متميزة حول شكل النظام السياسي الإسلامي، وتوزيع وظائف الوزارات فيه، ومرجعياتها، وصلاحياتها.. فيرى - مثلاً - أنه لا بدّ أن تكون وزارة المال والاقتصاد، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الدفاع والقوى العسكرية، خاضعة لمجلس الحل والعقد - أو القوة التشريعية - لا الحكومة. والسبب - كما يرى - هو أن لوزارة التربية في النظام الإسلامي شأناً، فيُخشـى أن يهمل ما سماه بُعْدُ التزكية في العملية التربوية، الذي هو البعد الضروري الموازي للتعليم في نظره. أما وزارة المال، فلكونها وزارة حساسة تحتاج إلى رقابة شديدة لا تتأتى إلا لمجلس الحل والعقد. أما وزارة الدفاع، فلأنها تمتلك القوة العسكرية، ويُخشـى أن يستعملها القائمون عليها لمطامع ومصالح شخصية، أو أن يستغلوها لقمع المواطنين، ولذا لا بدّ أن يكون تحت رقابة شورى أولى الأمر([59]).

5 ـ ترابط القوى الثلاث الأساسية: ويعتقد العلامة سبحاني أن القوى الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية) ليست مفكّكة ومنفصلة، بل إن القوة القضائية تختارها السلطة المقننة التشريعية، ثم تصبح مستقلة. وأن القوة التنفيذية تكون تحت إمرة القوة المقننة، التي تديرها هيئة الشورى أو هيئة أولي الأمر. وكان لا يستبعد استفادة مقنني قوانين الولايات المتحدة الأمريكية لتحديد وظائف الحكومة والرئيس من منهج الإسلام، لما قرّروا أن ينتخب الشعب رئيس الجمهورية، ثم يعطيه هو صلاحية ترشيح هيئة الوزراء.

6ـ عدم تحديد مدة الرئاسة: ومن جانب آخر كان يعتقد أن مدة الرئاسة لا تحدّد، بل يعوّل على الأهلية والكفاءة والأداء، فما دامت لياقته مستمرة وأداؤه دون بأس، وما دام موفّقًاً في القيام بمسؤولياته، فهو باقٍ إلى حين عجزه عن القيام بها، أو تقصيره بحقها"([60]).


[1] سجّل في ذينك العامين (18) ساعة من الدروس العلمية حول النظام السياسي في الإسلام، في مسقط رأسه مدينة (ثاوة) التابعة لمحافظة (كرماشان) في غربي إيران، ولقد طبع في صورة كتاب.

[2] طبع في العراق عام 1428هـ/2007م من قبل مؤسسة (برهم)، ضمن سلسلة نتاجات سبحاني.

[3] الفراهيدي، العين، ص: (38-39).

[4] ينظر: الرازي، مختار الصحاح، ص: (26).

[5] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص: (85-86).

[6] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: (88).

[7] المصدر نفسه، ص: (88-89).

[8] ينظر: المصدر نفسه، ص: 90 (الحاشية).

[9] الراغب الأصفهاني، المفردات، ص: (293).

[10] ينظر: الفراهيدي، العين، ص: (263-264).

[11] الراغب الأصفهاني، المفردات، ص: (294).

[12] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: (165).

[13] السلاطين العثمانيون كانوا (37) سلطاناً، أولهم عثمان بن (أرطغول) (725هـ/1324م)، وآخرهم عبد المجيد بن عبد العزيز الثاني (1343هـ/1924م) الذي خلع. انتقلت إليهم الخلافة عام (923هـ/1517م) بعد انتهاء حكم السلاجقة، وانتهت بإعلان الجمهورية التركية بزعامة مصطفى كمال، عام (1342هـ/ 1923م). ينظر: محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية. تحقيق: د.إحسان حقي، بيروت، دار النفائس، 1430هـ، ط 11، ص: (777-778).

[14] الطبري: جامع البيان، 12/151.

[15] ينظر: القرطبي، الجامع الأحكام القرآن، 8/188.

[16] ينظر: الشوكاني، فتح القدير، وابن الجوزي، زاد المسير، في تفسير الآية.

[17] الزمخشري، الكشاف، ص: 924.

[18] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/264.

[19] ينظر: الجاحظ، التاج في أخلاق الملوك، ص: 161. نقلاً عن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية 2/188.

[20] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: 167.

[21] ينظر: المصدر نفسه، ص: 86.

[22] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: 105. والآيات هي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا] إلى قوله تعالى: [ﱠ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} الأحزاب: ٢٨– ٤٣.

[23] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: (107-109).

[24] ينظر: المصدر نفسه، ص: (113).

[25] المصدر نفسه، ص: 114-115.

[26] النظام (الثيوقراطي): هو نظام الحكم الديني الذي يبتنى على نظرية الحق الإلهي التي تسلب كل حقوق التشريع والتقنين عن غير الكهنة، ويظن أصحابها أنهم وكلاء الله في أرضه، ولا حق لغيرهم كي يتصرفوا في شؤون العباد. وكلمة (ثيوقراطية) تتكون من كلمتين هما: (ثيو) بمعنى الدين و(قراطية) بمعنى الحكم، وهو نوع من أنواع الحكم الفردي الوراثي، عانى منه الغربيون في عصورهم الوسطى المظلمة. وهي التجربة الفاشلة التي ولَدت ردود فعل عنيفة ضد الكنيسة ورجالها، إلى حد التمرد على الدين المسيحي بطبيعة الحال. (ينظر: موقع النبأ: www.alnabaa.org).

[27] ناصر سبحاني، نظرة حول المفردات والمفاهيم القرآنية، (122).

[28] سقيفة بني ساعدة: حي من أحياء المدينة اجتمع فيه الأنصار إثر وفاة الرسول (صلوات الله عليه)، ليبايعوا الأنصاري سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة الجراح رضوان الله عليهم، وناقشوا في أمر الخليفة والخلافة، ثم اتفقوا على اختيار الصديق. في قصة طويلة.(انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، (1/369).

[29] الصحيح أن هناك آراء تعد شاذة لبعض من لم يعتقد بوجوب الإمامة. منهم: أبوبكر حاتم البلخي المعتزلي الشهير بالأصم (ت: 237هـ/851م) الذي قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجّهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وأقاموا الحدود، أجزأهم ذلك. ينظر: (تفسير القرطبي، 1/264) وأول من ابتدع القول بعدم وجوب إقامة الحكم الاسلامي من المعاصرين المحسوبين على الأزهر، علي عبد الرازق، الذي ألّف كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، وظن أنه ليس في القرآن والسنة دليل واحد على وجوب الخلافة، ونفى الإجماع على ذلك، بل صرّح أن "الخلافة كانت نكبة على الإسلام، وينبوع شر وفساد"! (انظر: علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، ص: 34).

[30] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/264.

[31] عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، ص: 270.

[32] ناصر سبحاني، أحكام شرعية وجملة فتاوى، ص: 13.

[33] المصدر نفسه، ص: 14 .

[34] المصدر نفسه،16.

[35] ينظر ـ مثلاً ـ كتابه: الولاية والإمامة، ص: (85) وما يليها. وكتابه: أحكام شرعية، ص: (24) وما يليها.

[36] من قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} الفرقان/63، إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان/٧٤.

[37] ناصر سبحاني، أحكام شرعية وجملة فتاوى، ص: 32.

[38] الأئمة الاثنا عشر في نظر الشيعة الإمامية، هم بالترتيب الزمني: 1- علي بن أبي طالب، (ت: 40هـ/ 661م). 2- الحسن بن علي، (ت: 50هـ/670م). 3- حسين بن علي، (ت:61هـ/ 680م). 4- على بن الحسين، السجاد، (ت: 95هـ/ 712م). 5- محمد بن علي بن الحسين، الباقر (ت: 114هـ/ 732م). 6-جعفر بن محمد، الصادق، (ت: 148هـ /765م).7- موسى بن جعفر، الكاظم، (ت: 183هـ/ 799م). 8- علي بن موسى بن جعفر، (ت: 203هـ/818 م). 9- محمد بن علي بن موسى، (ت: 220هـ). 10- علي بن محمد بن علي، الهادي، (ت: 254هـ/ 868م). 11- الحسن بن علي بن محمد، (ت: 260هـ/ 873 م). 12- محمد بن الحسن العسكري، المهدي، المنتظر.

[39] آية الله الخميني، كشف الأسرار، ص: (149).

[40] محمد رضا المظفر، عقائد الشيعة، ص: (43).

[41] كاظم الحائري، الإمامة، ص: (29). وآية الله الخميني، الحكومة الإسلامية، ص: (47).

[42] الشيخ المفيد، أوائل المقالات، ص: (85).

[43] نعمة الله الجزائري، الأنوار النعمانية، (1/21).

[44] أبو جعفر الطوسي، الرسائل العشر، ص: (103).

[45][45] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، (23/390).

[46] علي الميلاني، الإمامة، ص: (279).

[47] أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، 1/324.

[48] يوسف البحراني، الشهاب الثاقب، قم، 1419ه، ص: 257.

[49] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: 156.

[50] ينظر: الفراهيدي، العين، ص: (403).

[51] ينظر: الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: (710).

[52] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب أحاديث الأنبياء (60)، حديث (3455).

[53] الفراهيدي، العين، ص: (403).

[54] ينظر: د. يوسف القرضاوي، الدين والسياسة، دبلن، (2007ز)، ص: (9-38). فلقد أتى بنماذج عديدة مما قاله الفقهاء والعلماء حول موضوع السياسة، مما ثبت في التراث الإسلامي.

[55] مما اطلعت عليه في هذا المجال عمل السيد نصر محمد عارف في كتابه (في مصادر التراث السياسي الإسلامي)، الذي طبعه المعهد العالمي للفكر الاسلامي عام (1994م)، والذي عرض فيه أسماء (307) كتاباً من مصنفات السلف، مع شرح موجز لكل كتاب، وهو عمل مشكور، فليراجع.

[56] موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت، ص: 102.

 [57]ينظر لتفاصيل ذلك: أشرطة النظام السياسي الإسلامي، للشهيد سبحاني. وكتاب نظرة حول المفردات والمفاهيم القرآنية، (مصدر سابق)، ص: 122 وما يليها.

[58] المصدر السابق، ص: 130.

[59] ناصر سبحاني، نظرة حول المفردات والمفاهيم القرآنية، ص: (148).

[60] ينظر: المصدر نفسه، ص: (136-138).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق