وحين تتحد الغاية في جماعة إسلامية ما، ويكون الله تعالى وحده هو غايتها على وجه الحقيقة لا على وجه
الشعار المستخدم للاستهلاك الدعائي، تصبح ربانية بالكامل؛ قولاً وعملاً وممارسة. وهذا لا يعني أن يتسم عمل أفرادها بوحدة الرؤية والنظر في قضايا حركة الحياة، بل تدخل سنة الاختلاف والتباين في الرؤى في المسير بالاتجاه نحو الغاية النبيلة، وما يجعل خلاف العالمين في جماعة ربانية مختلفاً عن ما سواها من الجماعات، هو أن يكون الخلاف في الله وبالله ومع الله ولله، متجرداً من الأهواء الشخصية، والمنافع الدنيوية، والتكتلات المصلحية.ولهذا الخلاف
أن يأخذ كل الأشكال التي تعكس طبيعة البشـر وأمزجتهم وتوجهاتهم النفسية، التي تعكس
قدرة الله وعظمته على خلق الشـيء وضده، في كل الوجود، وكل موجود.
كيف نختلف؟
افتراض أن
الخصومة بين الدعاة أمر ينبغي أن لا يحدث، وأنهم اسمى من ذلك، وعليهم الترفع عنه،
هو محاولة للوصول إلى الكمال الذي لم يصل إليه الصحابة الكرام من قبل.
فقد ثبت في
الصحاح أن أهم رجلين بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أبو بكر وعمر، اختلفا،
واختصما، خصاماً بالمعنى الذي ورد في المعاجم (نزاع وقطيعة وهجران ومشاقة).
حيث أخرج
البخاري عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: "كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- مُحَاوَرَةٌ، أي كلامٌ وجدال، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ
عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ
يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي
وَجْهِهِ".
وتكرر الأمر
عندما قدم ركب من بني تميم على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال أبو بكر: أمّر
عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة .
وقال عمر: بل
أمّر الأقرع بن حابس .
قال أبو بكر:
ما أردت إلا خلافي.
قال عمر: ما أردت خلافك. فتماريا حتى ارتفعت
أصواتهما في ذلك، فنزل قول الله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا
تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله، إن الله سميع عليم}.
طبيعة تكويننا
البشـري أننا على خلاف طوال الوقت، وفي مختلف المسائل، وليس المطلوب منا أن لا نختلف،
بل وقد يصل اختلافنا إلى حد الخصام. وهذه إرادة الله، التي نص عليها في القرآن: {وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ}.
إذن، ليس
المطلوب منا أن لا نختلف أو نختصم، إنما المطلوب أن ندير الخلاف الذي فطرنا عليه
بأسلوب حضاري، وأن يكون الحسم بآلية ترد المختلفين إلى الأصل؛ الأخوة والمحبة وحسن
النية، وأن لا يدوم الخلاف الشديد طويلًا، ولا يُحدث فُرقةً وعداوة، بل لا يزيد
المختلفين إلا محبة وألفة وصلة.
وهذا ما انتهى
إليه خصام أبو بكر وعمر؛ فعندما ندم عمرُ أَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ مهموماً،
فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فازداد همًّا وغمًّا، فما كان
منه إلا أنْ توجّه إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) مهمومًا حزينًا،
فَسَلَّمَ عليه، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَمَعَّرُ، أي
يتغيَّر من الغضب والحنق، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ على عمرَ، فَجَثَا عَلَى
رُكْبَتَيْهِ، وقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ،
وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، بدأ يُدافع ويُحاجج عن أبي بكر، بل ويحلف بالله
أنه كان أظلم.
المطلوب منا
أن نراعي الآداب الإسلامية عند الحوار، وفي إدارة خلافاتنا، وأن نترك الحدة في
الطرح والنقاش والرد والرد المقابل.
آداب الخلاف
تتعدد الآداب
الإسلامية في مسألة اختلاف الآراء، وفي سير علمائنا وصالحينا قصص رائعة في هذا
الباب، وأهم ما يجب مراعاته هو:
- نشـر ثقافة
الاعتذار.
إذا كنت من
الذين يجبرون الخطأ بالاعتذار، فاعلم أنك شجاع، فالاعتراف بالخطأ فضيلة، والاعتذار
عنه فضيلة إضافية، كلاهما فضيلتان تعززان الحفاظ على رقي مجتمعاتنا، وسمو
حواراتنا.
حين تنتشر
ثقافة الاعتذار في صفوف الدعاة، نؤسس لبناء علاقات قائمة على أساس صفاء النية وصدق
التوجه، فتأخذ الأجيال مسارها بالارتقاء في هذا المسلك؛ خصوصاً حين تتبناه
القيادات والقدوات.
علينا أن
نعترف أن ثقافة الاعتذار بيننا ضعيفة، فالبعض يعتقد أن الاعتذار نقطة ضعف، ودليل
انكسار وهزيمة لا تليق به، ولو تأملنا لوجدنا أن عدم الاعتذار هي أثر لازم لصفة
الكِبَر الذي اتسم به الشيطان، لذلك أشد المكابرين الرافضين للاعتذار، هم الذين
يصنفون أنفسهم كطبقة مثالية لا تخطئ؛ وإن أخطأت فهي سامية لا تعتذر.
- عدم احتكار
الحقيقة عند طرح الرأي، حتى لو كان على رأينا ألف دليل ودليل.
- حفظ اللسان،
وعدم الاستطالة على المخالف، ولين القول، وسعة الصدر.
- الصبر، وعدم
التسرع في الرد، والعدل مع الرأي الآخر.
أخيراً..
فإن الأصل
الأصيل في العلاقات البشـرية قائم على (الخلاف) و(الاختلاف) و(التباين) و(التضاد)
في وجهات النظر، والدليل على ذلك؛ قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ
رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. ومع هذا الأصل في التكوين، هناك أصل ثان، هو أن
كل انسان سيتمسك برأيه ويدافع عنه، ولو كان خطأ أو مجانباً للصواب، أو على غير
الحق، والدليل على ذلك قول الله تعالى في سورة الكهف: {وَكَانَ الإنْسَانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا}.
هذان الأصلان
ينطبقان على كل شيء، بدءاً بالعلاقة الزوجية، مروراً بالشـراكة التجارية، انتهاء
بالروابط السياسية والثقافية. وأصل الحروب بين البشر، وسفك الدماء، يعود لهما،
والله أعلم: {إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك...}.
بعد حربين
عالميتين سببها الخلافات بين دول الغرب، ما بين شـرق وغرب، وكاثوليك وبروتستانت...
إلخ، توصل الناس إلى أن ما يجنب البشـر الصراعات الدموية هو؛ الوصول لآلية تدير
خلاف الرأي وتضارب وجهات النظر، فكانت (الديمقراطية).
وكما سبق
الإسلام في تشريعاته كل الشـرائع الوضعية، سبق الغرب في هذه الجزئية، فكانت الشورى
مفاز وملاذ كل مختلف، وما تعطلت مسيرة سمو الوحي في حكمه إلا بتعطيل الشورى،
بإجماع من أرّخ.
من وجهة نظري؛
ليس عيباً أن يكون تعاطينا الدعوي والسياسي والفكري فيه تعدد، العيب أن لا نكون
قادرين على إدارة خلافاتنا بأسلوب حضاري، على نهج الغرب بـ(الديمقراطية)، أو على
نهج الإسلام بـ(الشورى).
وهكذا؛ كلما
اعترضتنا مشكلة، وتركتنا في الأرض حيارى تائهين، ورجعنا إلى أصلها، وجدنا أن مردها
تعطيل الشورى فينا، وسيرنا على نهج من جعل الشورى معلمة غير ملزمة في صفوف الحركة
الإسلامية، فتربت أجيال على النهج، وبات من يريد إصلاح شئننا والتصدي لهذا الأمر،
يصطدم بأمر (شاب عليه الكبير، وشبّ عليه الصغير).
* صحفي وكاتب- عضو مجلس شورى حركة العدل والإحسان-
العراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق