03‏/04‏/2022

شهر رمضان والعلة في صيامه، وأحكامه في القرآن

 هفال عارف برواري

يجب العلم أن رمضان فريضة مطلوبة وليست فريضة مفروضة، وفلسفة الله في الخلق هي للعبادة، وحول هذا المحور يجب أن ندور، كما ذكرت الآية (٥٦) من (سورة الذاريات): {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. لكن علينا معرفة أن كلمة {ليعبدون}، (اللام) هنا هي (لام) الطلب، أي إما أن تكون عابداً أو لا، وهذا موجود في كل العبادات التي هي فرائض مطلوبة، ولسنا مجبرين على ذلك، فالإنسان في النهاية  مخير: إما أن يؤمن أو يكفر!

أولاً- الصيــام /

هو تدريب للنفس البشرية، بحبسها عن الحلال في نهار رمضان، تدريباً لها كي تمتنع عن الحرام في غير رمضان!

وهو تدريب فسيولوجي للإنسان في كل سنة، وارتقاء قرآني أثناء صومه، يغذي به الروح، فلا غرابة أن يسمى (القرآن، والوحي، وناقل الوحي) روحاً، والغاية {لعلكم تتقون}!

بدأت آيات الصيام بقوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)﴾.

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾(سورة البقرة).

النص القرآني واضح وضوح الشمس، ففيه التخفيف، وفيه العلة، وفيه الغاية، وفيه التيسير في التكليف !

فرسول الله – (صلى الله عليه وسلم)- ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وليس أسهلهما، كما يُدعى ضمناً من بعض المروجين لعدم الصوم، فمعنى اليسر بمعنى أيسرهما للمثوبة ودخول الجنة !

قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)}.

فالصيام فريضة شاقة، لذلك تلطف الله مَعَنا بالتخفيف في هذه الفريضة، ومن ذلك:

١- التخفيف بالنداء:

}يا .. أيها الذين آمنوا}، فأنت من المؤمنين، وقد دخلت بهذا النداء من درجة ركن الإسلام الى ركن الإيمان، فاحمد الله وكُن من الشاكرين على أنك من المؤمنين!

٢- وفي اللسان القرآني يتبين أنه إذا كان التكليف شاقاً، سيكون هناك تخفيف، بإضمار اسم المكلف - جل جلاله - لأن كلمة (الله) كلمة شاقة بحد ذاتها، لذلك قال الله تعالى: {كُتِبَ عليكم الصيام}، ولم يقل: (كَتَب الله عليكم الصيام)!

وهو أداء لغوي يبين فيه أن فريضة صوم رمضان من أصعب العبادات، وأصعب حتى من (الحج)، لذلك حُذِفَ اسم الجلالة للتخفيف، أما في الحج، فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وقد ترك لنا في أداء فريضة الحج الرخصة في عدم الأداء، بشرط عدم الاستطاعة.

٣- التخفيف بالمثل:

عندما قال {كُتِبَ}، أي بمعنى (ألزم)، (أوجب)، (فرض)، وليس كما يقال - عند البعض - أنه مجرد كتابة !

إنه استخفاف بلغة القرآن ومعرفة مراد الله من الكلمة القرآنية، ذلك أن معناها أن الله (كتب) الصيام، منذ بدء الخليقة، في كل دين، وفي كل أمة، منذ عهد آدم، أي نحن مجتمعون بالمثل مع كل الديانات التوحيدية. فهو بذلك أصبح ركناً للدين:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، فلسنا الوحيدين المأمورين بالصيام، بل هذا العمل موجود منذ عهد آدم. وهذا بيان في ارتباط كل الديانات مع بعضها البعض، وأن الدين عند الله الإسلام.

لكن هذا الصيام، عند هذه الأمة، يجب أن يكون بصورة بحيث يكون أصحاب هذه الأمة شهداء على كل الأمم:

{وكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(سورة البقرة/ 143).

٤- التخفيف بالغاية، ونعمة التقوى:

فعلّة الصيام هي للتقوى: {لعلكم تتقون}، وهو مقام يناله الصائمون حسب مراد الله، بعد أن كانوا من الناس، فقد كنا قبل ذلك من الناس، في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}.

٥- {أياماً معدودات}، وهو تخفيف مستتر على هيئة التدريب على الصيام في التكليف.

حيث كان يستطيع القول (أياماً معدودة!)، لكن كلمة (معدودة) تدل على الكثرة في العربية، وجمع (معدودات) يدلّ على القلة!

٦- تخفيف في العلة الحقيقية من هذا الشهر بنزول القرآن في هذا الشهر، وصيامنا لهذا الشهر يعتبر شكراً لله بنزول القرآن، في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ{.

٧- التخفيف للمرضى، والمسافرين:

{ومن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

والأصل، كما في الحديث، أنه (لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَر) (رواه البخاري).

لكن علينا أن ندرك أن هناك ملاحظات  في بيان هذه الآية، التي اختلف فیها علماؤنا، ولم يعرضوها بشكل صريح،

فظهر على الساحة الآن من يأولها حسب أهوائه، وهي في قوله تعالى: {...أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)}.

ولكي نكون على دراية، فقد كان هناك في البداية من لا يصوم رغم الإطاقة، فكان يفدي، ومن الأغنياء من كان يزيد في الفدية تطوعاً: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}، رغم أن البلاغ القرآني يحث على الهداية في معرفة مراد الله، وهو في قوله: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، فمراد الله فينا هو أن نصوم، وأن لا نتدلع في عدم الصوم !

لذلك تتبعت الآيات، لتبين حقيقة الأمر الإلهي في قوله:

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185)}.

فقوله تعالى:{فَلْيَصُمْهُ} هو أمر إلهي بالصوم لا يمكن التغاظي عنه، لكن حتى هذا الأمر الرباني بالصيام هو مغلف بنصيحة ووعي بحقيقة الأمر.. وكأن الله يكلفنا بأمر، ويريد منا أن نصوم رمضان شكراً لله على ما أعطانا من نعمة عظمى بنزول القرآن، وكأن الله  يقول لنا – أيضاً -: أنه (لو لم آمركم بالصيام، لكان حقاً عليكم أنتم أن تبادروا إلى الصيام شكراً لله على هذه النعمة العظيمة)!

وهذا كان هدي رسول الله، عندما كان يصوم أيام (الإثنين) شكراً لله..

لذلك لم يتم شرح هذه الآية بصورتها الصحيحة، لأن مراد الله في(التخفيف)، مع وجود الأمر بالصيام، لم يفهم على حقيقته!

لكن لماذا تبيَّن هذه الحالة في القرآن، بصورة لا تدع مجالاً للاختلاف؟

الجواب هو في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}!

ففي هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}، بيّن القرآن وجود شرائح في المجتمع ترغب في ذلك، في بداية الدعوة، وعلينا أن نستوعب كل الأفكار، وكل المزاجات البشرية، وهذا هو دور القرآن، فهو كتاب هداية.. لذلك سبقت هذه الآية بآية {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، أي بتكليفهم وأمرهم بصيام شهر كامل متتابع؛ بأيامه ولياليه، فالصوم يشمل النهار والليل، واليسر هو في التكليف، وعين التكليف هو اليسر!

وهذا ما لم تتحدث عنه الآيات؛ لا في الصلاة، ولا في الحج، ولا في الزكاة. فالصيام هدايته التقوى، والغاية منه التقوى، وحقيقة الصيام ليس في ما يدخل الجوف، بل ما يدخل في القلب، فقد {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}.

لذلك، فصيام شهر رمضان لم يبدأ بصيام شهر كامل، بل  بدأ بـ ثلاثة أيام من كل شهر، واختلف فيها المؤرخون، هل هي بداية، أم منتصف، أم نهاية الشهر، أم بعد مرور 10 أيام من كل شهر.. وقد كان الصيام تدريجياً: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184)}، لأن الصيام مشقة، بدليل أن تكليف الصيام:

1 - جاء بالتخفيف: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}..

2 - وكان التخفيف للمرضى والمسافرين: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}..

3 - والتخفيف كان ترفيهياً على الذين يطيقون ولا يصومون، لكن شريطة إعطاء فدية إطعام مسكين عن كل يوم لا يصومون فيه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}..

4 - ومن تطوع خيراً فهو خير له، كتخفيف تدريبي على العطاء، وذلك بفتح دائرة إطعام المساكين لأكثر من واحد، ولم يحدد العدد، لكي يبقى باب العطاء مفتوحاً: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}..

5 - مع التأكيد في النهاية على أن الصيام هو خير لهم، مهما أنفقوا وقدموا بسخاء في العطاء. وهي إشارة مسبقة لأهمية عبادة الصيام، والاستعداد النفسـي لهذه الفريضة الصعبة! {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}..

لكن لما نزلت آية صيام شهر رمضان، ولم يخيرهم في الصيام، بل بيّن أن كل من شهد منكم الشهر فعليه الصيام، أمراً من عند الله، صياماً لا يتهاون فيه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}..

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(185).

وتم تخصيص التخفيف المنطقي بالمرضى والمسافرين فقط: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، دون دفع فدية طعام مسكين !

ومن هنا تتبين الإشكالية التي كان يقع فيها كل من يتدبر القرآن، ولا يدري العلة من ذكر حكم المرضى والمسافر في آيتين متتاليتين!

ولذلك فإن إلزام دفع فدية إطعام مسكين لمن كان له عذر في الإفطار في شهر رمضان، بسبب مرض أو سفر، هو اتجاه متناقض مع هذا الفهم.. إذ ما هو وجه العلة من دفع الفدية، مادام كان سيؤديها في أَيام أُخر؟

وتم نسخ التخفيف التدريبي (الترفيهي) في الآية التي قبلها، في كلمة {وعلى الذين يطيقونه} !

لكن تبقى فاعلية الآية غير معطلة، وفاعلة، كي لا يظن أحد أن هناك آية منسوخة!

فيبقى الحث:

1- على صيام الأيام المعدودات في كل شهر..

2 - وعلى التدريب على الفدية الطوعية عن التقصير في إي عمل، بإطعام مساكين، أو التصدق..

3- وعلى الإكثار من العناية بالمساكين، واِطعامهم..

4 - والتأكيد على خيرية الصيام، وأن فيه من الخير الكثير..

ولا يوجد تبرير لتأويل كلمة {يُطِيقُونَهُ}، لبيان أنها تعني الذين يطيقونه لكن بصعوبة وبمشقة، لأن الصيام في أصله شاق ومن أصعب العبادات، لذلك جاءت الآية بصيغة التخفيف في النداء!

والذي يرى أنه سيهلك، أو أن طاقته لا تتحمل؛ بسبب عمله الشاق، أو دراسته المكثفة، أو أي واجب ينهكه، أو لكهولته، فعليه أن يقضـي ما نقص من صومه، بحسب الآية {....فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 185}.

وحكمه يقع - أيضاً -  ضمن الآية القرآنية: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...} (286)البقرة.

وكذلك ضمن الآية {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (195)البقرة.

وكل يعرف وسعه وقدرته بحيث لا يتهاون في الصيام، ولا يلقي بنفسه للتهلكة؛ كالمسافر، والمرضى، الذين قد يستشيرون المختصين، لكنهم - في النهاية - هم الذين يقررون..!!

 

ومن هذه الآيات يتبين باختصار ما يلي:

١- صيام شهر كامل.

٢- بركة الشهر تكمن في نزول القرآن في هذا الشهر لهداية البشرية جمعاء.

٣- في هذا القرآن تبيان لمعاني الهداية بكل تفاصيلها، مع التفريق المبين بين الحق والباطل، بكل تفاصيله.

٤- عند مشاهدة بداية الشهر القمري لهذا الشهر، يجب أن يبدأ الصيام (فرض عليهم الصوم)، وهو ليس أمراً اختيارياً، والإلزام يكمن في كلمة {فليصمه}، فهو  أمر ملزم على الكل!

٥-  حالات الاستثناء تكمن عندما يكون الشخص مسافراً، أو مريضاً، وهو نفسه الذي يُقدر مرضه، بعد الاستشارات الطبية. أما في حالات السفر، فهو من سيحددها، وذلك بمعرفة قدرته على الصوم أم لا. ولا معنى لتحديد اختلاف المسافات وما إلى ذلك! (لاحظوا هنا أنه سينجلي عنا التعجب من ذكر المرض والسفر في آيتين متتاليتين)، فكل آية تتحدث عن طبيعة صوم المكلف به، ولا تكرار زائد في القرآن !

فقد تم فيه (استنساخ)، وليس (نسخ!)، استثناءات المرض والسفر في الآية السابقة..

٦- يريد الله لنا اليسر، ولا يريد بنا العسر.

ويجب أن نقضي ما أكلنا من الأيام أثناء السفر أو المرض فيما بعد رمضان، ولا يوجد هناك أي فدية، حتى وإن لم يستطع الصوم خلال العام كله، لأن الفدية كانت للأمم السابقة التي لم تصم رغم الإطاقة والاستطاعة!

 

ثانياً- سر آية الدعوة الإلهية والمعادلة الدعوية في آية جاءت وسط آيات أحكام الصيام

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)}،

 تتخلَّل هذه الآية، التي لا تتحدَّث عن الصوم، آياتِ الصيام، وكأنَّها في ظاهرها خارج السياق، فهي تتحدَّث عن الدعاء، ثم يقع المسلم في ارتباك كبير عندما يدعو ولا يتم قبول دعائه، فيشك في الوعد الرباني في القبول الفوري للدعاء.. لكن المتدبِّر للآية سيقِف على دقة التوقيع القرآني في الكلمة، وعدم فهمنا للكلمة القرآنية، ومدى الصِّلة الوثيقة بين هذه الآية وآيات الصيام، وذلك لأنَّ الصلة وثيقة جدًّا بين الصيام والدعاء!

فعند تحليل الآية بدقة، سيتبين أن الله قال لنا:

١-أُجيبُ، ولم يقل: أُلَبي؟

٢- والإجابة تكون في مصلحتك، وهو أعلم بها منك؟

٣- الله يجيب (دَعْوَةَ) الداعِ، فهي ليست دعاء !

فالدّعاء هو قول يسمعه الآخر أو لا يسمعه، إن كان أصمّ مثلاً.. وقد يقبله أو لا يقبله.. فإن قبِله، أصبح دعوة.. وإن لم يقبله، بقي دعاءً ..فالله تعالى يستجيب كل دعوة، لأنه قَبِلها بعد أن سمعها، وقد كانت دعاءً أولاً ..

ولا يستجيب لكل دعاء، لأنه قد لا يقبله نهائياً، ويبقى معلّقا حتى يحين وقت الإجابة المتعلّق بالقبول أولاً (ليكون دعوة)!

٤- {إذا دعان}، و(دعان) أي وحده لا شريك له، فهو المتفرد بالدعاء.

٥- {فليستجيبوا لي}، أي أنهم قبل السؤال عليهم الاستجابة فيما أُمِروا به، وليؤمنوا به.. فهي دعوة منه أيضاً لنا في الاستجابة لما أُمِرنا به، والإيمان به..!

فهل استجبنا، وآمنا، حتى يجيب....؟

ولنتعمق أكثر في هذه الآية، التي حيّرت كثيراً من العلماء، حيث جاءت في وسط آيات أحكام شهر رمضان !

فقد رجّحوا أن مراد الله فيها لعلّو منزلة الدعاء، خاصة في هذا الشهر، حينما يكونون صائمين لله، عابدين، وهذا مفهوم جميل، تستجيب له مشاعرنا.. لكن :

١- وكأن الله يوحي في هذه الآية أننا لم نتعرف على الله حق معرفته بقوله: {وإذا سألك عبادي عني؟}، فكيف نصوم ونصلي ولم نتعرف بعد على الله؟

لماذا لم يقل مثلاً: (ياعبادي، ادعوني فأنا قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعان!)..

٢- وكأن المعنيين بالسؤال ليسوا هم المؤمنون الصائمون فقط، بل كل عباد الله، فلماذا جاءت وسط آيات الصيام؟

٣- وإذا كان المعنى هو (الدعاء) والإجابة، كما نفهمها، فلماذا لا يجيب الله كل دعواتنا؟

والآية لا تحتاج الى تأويل وتفلسف في الشروط صراحة، فهو دعاء واستجابة، وانتهى؟

٤- لنقرأها مرة أُخرى بنظرة متجردة غير متوارثة..؟

 -إنها دعوة لطرح الأسئلة على الله في مسائل الأحكام، وسط آيات الأحكام؟

{وإذا سألوك يا محمد عني، فإني قريب أُجيب دعوة الداعي إذا دعان}..

وكأن الله أدرك - بسابق علمه - أن المسلمين، في شهر رمضان، يسألون عن كل تفاصيل أحكام الدين المرتبطة بشؤونهم الحياتية.... !

ففي رمضان يسألون عن:

١- الطهارة، والمحيض، وكيفية الوضوء، والغسل... إلخ.

٢- كيفية الصيام، ومدة الصيام، ومبطلات الصوم، وشروطه.

٣- الزكاة، وشروطها، وأركانها، وكيفيتها.

٤- الحقوق والواجبات المترتبة عليه؛ من وراثة، وأمانة، وما إلى ذلك من كل الاسئلة التي يتم فتحها غالباً في هذا الشهر!

والإجابة ستكون كلها من عند الله، وليس من غيره !!

 -وهذه الآية تبين أيضاً أنه سيتشكل لدينا كمسلمين مفاهيم القرآن، لذلك يقول الله في هذه الآية: {وإذا سألك عبادي عني}، وكأننا نسأل غير الله في المسائل الدينية !!

فقل لهم يامحمد، إنني قريب، وكل ما تسألونه ستجدونه في القرآن، وسأجيب دعوة من يدعوني. لذلك فقد دعا الله في هذه الآية رسوله، على أُمة القرآن أن يستيجبوا له وحده، وأن يؤمنوا بقرآنه لا غيره ممن يتقولون على الله، فقال بكل وضوح:

{فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي}!! وختمت الآية بـ{لعلهم يرشدون}، فعلّة السؤال من الله هو الإجابة من القرآن، لكي يرشدوا.. وتأمل في معنى الرشاد، فالرشد هو إصابة وجه الحقيقة، وهو السداد، وهو السير في الاتجاه الصحيح، فإذا أرشدك الله فقد أوتيت خيراً عظيماً، وهو حسنُ التصرف في الأشياء، وسداد المسلك في علَّة ما أنت بصدده، فحين بلغ موسى إلى الرجل الصالح لم يطلب منه إلا الرشد!

{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}!!

فهل معنى الآية هو الدعاء، كما هو دارج في فكرنا؟

 

ثالثاً- بيان أحكام الصوم :

وهكذا، فبعد البيان القرآني في أن نسأل الله في قرآنه عن أحكام الصيام، انتقل إلى آيات بيان أحكام الصوم - في الآية ١٨٧ - مباشرةً..

تأمل أحكام  آية (187):

﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ 187.

هنا لا حاجة لاستفسار أحد في  أحكام الصوم، فالقرآن أجاب فقال :

١- يجوز استمتاع الزوج مع زوجته في ليالي رمضان، وركّزوا على كلمة (ليلة)!

٢- {أُحِّل لكم}، أي بمعنى أنه لم يكن حلالاً قبل ذلك، ولكن علم الله أن البعض كان يفعلها، وكانوا يختانون أنفسهم !

وكان الأكل والشرب بعد العشاء إلى الفجر محرماً، حتى جاءت الرخصة الإلهية لأُمّة القرآن، فرّخص الله لهم الاستمتاع - ما لم يكن ناوياً الاعتكاف - مع الأكل والشرب، في ليالي رمضان.


٣-  وهذا يعني أنه لا يجوز الاستمتاع، ولا الأكل والشرب، في نهار رمضان، فلا داعي للأسئلة المتكررة، وركّزوا على كلمة ومعنى (النهار)!

٤- لاحظوا أن الآية بيّنت أن الرخصة ليست إلى الفجر!، بل قالت: حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر !!

وحسب توقيتاتنا لدينا ٢٠ دقيقة باقية على الأقل !!

لكن الإمساك أقرب للتقوى، وعلينا أن نتعلم الانتظام..

5 – الإشكال يأتي في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وركّزوا في كلمة {إِلَى اللَّيْلِ}، التي تعني بداية الليل !

فلو قال: (أتموا الصيام لـ الليل)، بمعنى إلى منتصف الليل!

ولو قال: (أتمّوا الصيام في الليل)، أي بمعنى: في أي وقت من أوقات دخول الليل!

أما قول القرآن: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، أي بمعنى الصيام لحين بداية الليل !!

فهل نحن نصوم حتى بداية الليل؟

والليل في القرآن بمعنى عدم وجود أي خيط من خيوط النهار فيه، فلو دخل فيه أي خيط من النهار لما سمي بالليل قرآنياً!!

وتوقيتاتنا غير منضبطة، وكان الأجدر بنا انتظار ٢٠ دقيقة على الأقل بعد توقيتاتنا بعد آذان المغرب لكي نفطر حسب مراد الله في القرآن !

والله أعلم .

رابعاً - أحكام الطهارة في القرآن /

لقد قمنا بربط هذا الموضوع بباب الصيام لكثرة أسئلة العوام في هذا الشهر عن مواضيع الطهارة، وربطها بالصيام والصلاة..

فكل سؤال تسأله، فإن القرآن هو الذي سيجيبك، فإذا قلت: فما هو حكم الطهارة، وكيفيتها، وربطها بعبادة الصيام والصلاةا؟

فإن القرآن سيجيب ويقول: إذا سألوك يا محمد عن المحيض، فقل لهم :

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْن فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} آية (222) من (سورة البقرة).

سيتبين أن المرأة الحائظ لا تصوم، ولا تصلي، حتى تطهر، لأن من شروط الصلاة والصيام هي الطهارة وووو..

وانظر إلى آية 43 من (سورة النساء):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً} [النساء  : 43]  .

لكي تعلم حكم الدخول في الصلاة، والاغتسال، والتيمم، في حالة عدم وجود ماء للاغتسال!

٣- ولبيان كيفية الاغتسال والغسل من الجنابة، وحالاتها عند وجود الماء، وعند عدم وجود الماء، في آية 6 من (سورة المائدة):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }﴿٦﴾.

هذه الآيات أجوبة شافية وكافية لقضايا الطهارة والغسل والاغتسال والمحيض أثناء أداة أي عبادة، فماذا تريد بعد ذلك؟

ولماذا يفتح علماؤنا كل سنة دورات في الطهارة، حتى ينتهي شهر رمضان؟ !ليعودوا في  السنة القادمة ويقولوا ما قالوه في العام السابق، وهكذا..

لكن قد يتبادر إلينا السؤال عن كيف تكون الطهارة من شروط الصيام، وأغلب العلماء لا يجدونها كذلك؟! لذلك فقضية السؤال عن الطهارة هل هي ملزمة ومشروطة للصائم أم لا، تعتبر أكبر مصيبة ابتليت بها الأمة، فقد قالوا إن الطهارة ليست من شروط الصيام، وكان دليلهم بعض المرويات!

ومن جهة أخرى، جاء من يسمون بالقرآنيين التنويريين، وبينوا أنه لم تذكر أحكام الحيض في آيات الصيام، لذلك يجوز للحائض أن تصوم !!لكنهم لم يبينوا ما هو المحيض؟

ولم يُراعوا حالتها، وأن من طبيعة المرأة في الحياة أنها تمر بحالة تسمى بالدورة الشهرية، وأنه يجب رعاية حالها وضعفها وحالتها النفسية، وعدم قدرتها على الصوم!

لذلك بعد التدقيق ومتابعة عميقة لأهل الدراية باللسان القرآني، والمتبحرين في أغواره، تبين لنا أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وأن آياته محكمة بدقة، ولذلك نقول مختصراً: إن الطهارة ملزمة للصائمين، ولا يجوز للحائض أن تصوم، ولا يجوز للجنب من غير احتلام أن يصوم، من دون أن يغتسل، إذا أخّره عمداً بعد أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ودليلنا من القرآن !

وهي في الآيات ١٦٢-١٦٣ من (سورة الأنعام)، التي لم يفهمها أغلب المسلمين؛ العلماء قبل العامة!

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }﴿١٦٢﴾

{لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }﴿١٦٣﴾

فقد قالوا أن (النسك) بمعنى الذبائح التي يتقرب بها إلى الله، والصلاة هي الصلاة التي نؤديها !

وهذا تفسير مبتور وناقص وعارٍ عن الصحة، فهل العبادات كلها فقط صلاة وذبائح؟!

لذلك ذكر الشيخ ابن عاشور: "أن النسك هي حقيقة العبادة، ومنه يسمى العابد: الناسك"، وهذا هو الصحيح، فكل حق لله سبحانه وتعالى يسمى نسكاً، فهي تشكل كل العبادات؛ من صيام، وصلاة، وحج... إلخ.

أما (الصلاة) في قوله تعالى: {إن صلاتي}، فهي بمعناها الشامل لكل عمل يقربنا إلى الله؛ من أذكار ودعاء وارتباط وتقرب من الله تعالى، وهذا كله يسمى الصلاة.

والغريب أن التفاسير بينت أن هذه الآية نزلت في محمد رسول الله على أنه أول المسلمين، وجعلونا نخطئ في افتتاحية الصلوات عند البدء بها بحذف كلمة (قل)، واستبدال (أول المسلمين) بـ ( وأنا من المسلمين)!، وهذا سوء فهم بمراد الله في الآيات، فليس معنى ذلك الأسبقية الزمنية، فكل واحد يجب أن يقول: وأنا أول المسلمين !

ولذلك الصحيح استفتاح الصلاة بهذه الآية دون حذف أو تغيير !

والإجابة الكارثية على جواز الجنب بالصيام هو هذا الحديث عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال سمعت أبا هريرة يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه، فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن، وانطلقت معه، حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما-، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال فكلتاهما قالت كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصبح جنباً من غير حلم، ثم يصوم!

وأول ما يتبادر إلى العقول النيرة في هذا الحديث: هل الرسول لم يصل إماماً لصلاة الصبح؟ لماذا أصبح وهو جنب ومن غير حلم، وإذا جامع لماذا لم يغتسل؟

لذلك قرر الفقهاء جواز صيام الرجل وهو جنب !!لكن عليه الطهارة عندما يستيقظ من النوم، وهناك من يستيقظ عند الظهر، لأنه انطبع عنده فكرة أن الصيام جائز وهو جنب!!

وجاء القرآنيون، ومنهم محمد شحرور وغيره، ليبينوا أنه يجوز للحائض أن تصوم، لأنه لم يذكر نص على منعها من الصيام، والمعنيون هم فقط المرضى والمسافرين !

وقد صدق القرآن في الفريقين عندما قال الله تعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}!!

وليس لدينا الحق أن نجبر الله فيما لم يذكره في آياته، ولو ذكر القرآن في كل آية تفاصيل كل شيء لأصبح مجلدات لا معنى لها، ولكن علينا التدبر في آياتها بدقة.. فالكلمة القرآنية والآية القرآنية ابتلاء!!

فلو كانت الآيات تشرح كل شيء في كل شيء لكانت النار أكثر سعيراً، والجنة أخف مما هي عليه، وليس هذا هو مراد الله في قرآنه، فالكلمة والآيات جاءت تخفيفاً، لأنه في الابتلاء سعة!

ولكن الأجوبة ستجدها حتماً عندما تدبر آيات القرآن.. فما حكم الجنابة والحائض إذن؟

لكي نعلم، يجب معرفة معنى الجنابة، والكلمة القرآنية لها طبيعة المشترك اللفظي، ومن كلمات الأضداد بمعنى القرب وبمعنى البعد أيضاً، فعلم المجاز في البيان البلاغي في القرآن واسع جداً، فمثلاً في قوله تعالى:

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّه...}، الجنب هنا بمعنى القرب !

والجنابة بمعنى البعد، أي الابتعاد عن الطهارة !!

وجنباً في (سورة النساء) بمعنى المحتلم، وكذلك الحائض، والمجامع لزوجته، والنفساء، كل هذا بمعنى الجنب، فهل يجوز للجنب؛ رجلاً كان أم امرأة، أن يصوم أو يصلي؟

والله بيّن فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، والأذى ليس نقيصة، بل هو فضيلة بفضل الله، فاعتزلوا النساء في المحيض، أي بمعنى دعوها في حالها، فحالتها وتحملها لها تكفيها، فلا داعي لكي تزيد عليها فوق ما هي فيه، واعتزلها في الأذى، لكن اقترب منها في كل شيء لتخفف عنها الأذى.. لكن ولا تقربوهن حتى يطهرن!!

فهي بمعنى ليست طاهرة، أي هي جنب، وهذه إحدى انواع الجنابة، فكيف تصوم والصيام نسك وعبادة يتقرب بها العبد من الله؟!

وكذلك الصلاة، فلا يجوز الاقتراب من الصلاة ونحن جنب، لأنه - أيضاً - نسك نتعبد به إلى الله، فلا يجوز إلا أن نكون على طهارة..

وتأمل هذه الآية ٤٣ في (سورة النساء)، التي لم يفهمها أغلب المسلمين، ويتجاوزونها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا...}، ففي هذه الآية تبين منع السكارى بالاقتراب من الصلاة الأولى، التي هي بمعنى الصلاة الحقيقية، والمراد الحقيقي التي هي صلاة العبادة، والشطر الثاني فيها أيضاً المراد المجازي للصلاة  !

فمعنى إلا عابري سبيل، أي بمعنى الصلاة في المسجد، مع العلم لم يذكر المسجد في الآية!!

أي بمعنى يا أيها الذي آمنوا لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، أي الذي يريد دخول المسجد لكي يرفع عنه الجنابة ويتطهر !

والآية (٦) في (سورة المائدة) تبين أن الحياة بصورة عامة فيها طهارة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أي إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا.. لكن الذي يقوم للصلاة هو في الحقيقة طاهر، لكن يُراد له أن يكون عليه طهارة فوق طهارة، أي علينا بطهارة إضافية !

وهنا تكمن العظمة في الأداء الإلهي، ولذلك عاد إلى الذين على جنب، وبيّن أنه من المفترض أن يكون طاهراً قبل أن ينوي القيام بالصلاة.. بمعنى على المؤمن أن يكون طاهراً حين قيامه بأي عبادة !

فكما ذكرنا في آية ١٦٢ من سورة الأنعام أن محيانا ومماتنا لله، فكيف نصوم ونحن جنب!!

بمعنى أن الصائم يجب أن يكون طاهراً ساعة دخوله في عبادة الصيام، فعلى الصائمين أن يكونوا على الطهارة قبل الفجر، ولا يجوز للرجل أن يبقى جنباً عمداً ، والمرأة الحائض لا تصوم ولا تصلي، لأنها ليست على طهارة الحياة، فما بالكم بالصلاة والصيام، التي هي نسك؟!

ويجب معرفة أن (الغسل) في القرآن يكون من طهارة للصلاة، وليس كما هو دارج في كتب الفقه أنه الاغتسال!

 أما (الاغتسال) في القرآن، فيكون من جنابة للطهارة..

المصادر/

- الدراسات القرآنية، لفضيلة الدكتور محمد هداية.

- تفسير التحرير والتنوير (الطاهر بن عاشور).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق