02‏/07‏/2022

دروس حركية هادية من سورة الكهف لمسيرة العمل الإسلامي

محمد صادق أمين*

الدرس الأول: الرشد القيادي في إدارة الموارد البشرية:

 حين قطع نبي الله موسى - عليه صلاة الله وسلامه - المفازات بحثاً عن العبد الصالح، ساعياً وراء العلم والمعرفة، وطلب المتابعة {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، لم تأت الاستجابة فورية بناء على رغبة التابع (النبي المرسل)، بل جاءت مشفوعة بإيضاحات مبنية على قراءة المآلات، التي تكشف للتابع نتائج المتابعة قبل تحققها.

{إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، فالقيادة الرشيدة تملك إحاطة عامة شاملة تفصيلية بقدرات الاتباع

وإمكاناتهم ومواهبهم ومؤهلاتهم وأمزجتهم ونفسياتهم، بحيث تكون قادرة على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهي بذات الوقت قادرة على أن تقدم توقعاتها للأفراد حال تصدرهم، أو رغبتهم في التصدر لأمر من أمور دين الله وحركة الحياة.

فقدّم العبد الصالح لموسى صورة لمخرجات المتابعة ونتائجها، جاءت لاحقاً متطابقة تماماً مع تلك التوقعات، وهو ما يعكس حجم الإحاطة التي كانت لدى العبد الصالح؛ بإمكانات موسى وقدرته على تحمل تبعات المصاحبة.

ولا تقف قدرة القيادة على التنبؤ بإمكانات الأفراد وقدراتهم فقط، بل تتجاوز ذلك إلى فهم طبائع شخصياتهم وتكوينهم الإنساني، وهو ما يجعلها قادرة على تعليل سلوكياتهم، ووضعها مفسَّرَة في الإطار الصحيح، دون تأويل وتهويل وتشكيك: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}.. وبناءً على ذلك، توفّرُ للتنظيم أسباب التماسك التي تحفظ عقده من الانفراط، حين تراعي طبائع النفوس وما جبلت عليه من فطر تكوينية، فلا تبني قرارتها بناء على الغيب المجهول، أو استناداً إلى قواعد الثقة والعلاقة التنظيمية فقط.

وعند العودة إلى سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، نجد هذه القاعدة الحركية متجسدة في مواضع عدة، روى مسلم في (صحيحه) عن أبي ذر (قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول اللَّه، ألا تَستعمِلُني؟ فضَـرب بِيدِهِ عَلَى مَنْكبِي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمانةٌ، وإنَّها يَوْمَ القيامَة خِزْيٌ ونَدَامةٌ، إلَّا مَنْ أخَذها بِحقِّها، وَأدَّى الَّذِي عليهِ فِيها).

عِلْم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بقدرات الرجل وطاقاته ومواهبه ونفسيته، لا يقل عن علم العبد الصالح بموسى، وحين نتتبع سيرته (صلى الله عليه وسلم) ندرك أن أبا ذر لم يكن حالة استثنائية أو خاصة، بل إن إحاطة النبي (صلى الله عليه وسلم) بمن حوله من الرجال والنساء، كانت إحاطة علم شامل وفهم عميق وتحليل دقيق.

ففي الحديث الصحيح على شـرط الشيخين قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).

وهو (صلى الله عليه وسلم)، لا يضع معايير غير موضوعية في اختيار الأشخاص للمهام، فإسلام خالد بن الوليد جاء متأخراً، وهو الرجل الذي تسبب بهزيمة أحد، حين كان منضوياً تحت لواء المعسكر المقابل، وفيها يشير رواة السير إلى عظم ما أصاب النبي (صلى الله عليه وسلم) باستشهاد حمزة والتمثيل بجسده تمثيلاً بشعاً، وكان في صناديد الصحابة من أهل السابقة مؤهلات عسكرية فذة، ومقتضى المنطق أن تقديم الرجل مرجوح، إلا أن القيادة الرشيدة لا تنظر في حيثيات قراراتها بمثل هذه الأمور الحساسة إلا إلى ما يصلح شأن الدعوة.

وفي السياق، يقول لحسان بن ثابت في الحديث الصحيح: (اهْجُ المُشْـرِكِينَ؛ فإنَّ جِبْرِيلَ معكَ).

ويأمر زيد بن ثابت بتعلم لغة العدو، كما في الحديث الصحيح (أمرَني رسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أن أتعلَّمَ لَهُ كتابِ يَهودَ، قالَ إنِّي واللَّهِ ما آمَنُ يَهودَ علَى كتابي. قالَ : فما مرَّ بي نِصفُ شَهْرٍ حتَّى تعلَّمتُهُ لَهُ. قالَ: فلمَّا تَعلَّمتُهُ كانَ إذا كتبَ إلى يَهودَ كتبتُ إليهِم، وإذا كتَبوا إليهِ قرأتُ لَهُ كتابَهُم).

وقبل بلوغه سن الثلاثين، يجعل معاذ بن جبل مفتياً وقاضياً وإماماً مبعوثاً إلى (اليمن).

 

فائدة:

تحويل هذا المفهوم القرآني إلى لغة العصـر، يستدعي أن يكون من أهم عوامل رشد قيادة العمل الإسلامي، قدرتها على الإحاطة بما في الصف من موارد بشـرية، وتوظيفها توظيفاً صحيحاً باتجاه ما يخدم الأهداف العامة ويحقق مصالح العمل، عبر امتلاكها قاعدة بيانات حركية تفصيلية بالموارد البشـرية، توفر سهولة الوصول إلى الطاقات والمواهب والخبرات والكفاءات، وتسخيرها للوصول إلى الأهداف، بعيداً عن الحسابات غير الموضوعية التي تستخدم في وضع الأفراد في مواطن التكليف.

 

الدرس الثاني: التنظيم المُحكم:

لم يستهن العبد الصالح بحماسة موسى، واندفاعه، والهمة التي أظهرها في سبيل المتابعة، رغم إدراكه المآلات، إلا أنه استجاب للطلب المقدم استجابة مشـروطة؛ {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}؛ لتبدأ الرحلة ومعها تتجسد أعظم صور العلاقة التنظيمية بين طرفين، في التاريخ، فيها من الإحكام والرقي ما لو تحقق في أي تنظيم؛ بغض النظر عن صلاح منهجه أو فساده، فسيحوز التمكين لا محالة.

الرابطة التنظيمية تقوم على ركنين أساسيين؛ الأول الثقة المطلقة من التابع (الأفراد) بالمتبوع (القيادة)، ثقة لا تخالطها الشكوك ولا الشبهات ولا الريب. ومنها يولد الركن الثاني: الانقياد الواعي والمدرك لتبعات الطاعة والتزاماتها الأخلاقية والتنظيمية.

موسى منح ثقته المطلقة بالعبد الصالح؛ بناء على تزكية الوحي، والقائد كان في أقصـى درجات الحرص على الإبقاء على هذه الثقة عند سقفها العالي، كي لا تختل فيحصل الانتكاس لا محالة، فكانت المتابعة على شـرطها.

وعند أول موقف، ومع انطلاق الرحلة، يقع التجاوز الأول من التابع لشـروط المتبوع: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}.. فهل تداري القيادة الراشدة، أو تحابي، أو تتغافل عن التجاوزات التنظيمية للحفاظ على ارتباط المنتظمين؟.

اختار المتبوع التنبيه الملائم للخطأ الأول، الذي يحرك في وجدان التابع القواعد التربوية المُحكمة، التي تربى عليها على مدار أعوام بمدرسة الوحي: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، فكانت النتيجة أن آتت التربية الصحيحة أكلها، فلم تتكلف القيادة الكثير من العناء في رد المتبوع إلى جادة الانقياد الصحيحة: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، إنه الاعتراف الفوري بالخطأ، والاعتذار دون تردد.

وحين غلبت طبيعة النفس البشرية التابع، ووقع في الخطأ الثاني، لم تكرر القيادة التنبيه بذات الوتيرة التي كانت عند الخطأ الأول، بل زادت حدة التنبيه تبعاً لتكرار الخطأ: {قَالَ أَلَمْ أَقُل .. لَّكَ .. إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}، وبمقتضى القاعدة البلاغية؛ فإن زيادة المبنى تفيد زيادة بالمعنى، فكانت زيادة (لك) في الثانية، تدل على زيادة بشدة التنبيه ولفت النظر إلى تكرار خرق القواعد التنظيمية، لتتجسد مرة ثانية التربية السامية بسلوك المتربي في أبهى وأجمل تجلياتها، فكما رفعت القيادة من سقف التنبيه شدةً وحدةً، رفع التابع سقف الاعتراف بالخطأ، وزاد عليه إقرار عقوبة ذاتية عند التكرار الثالث: {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا}.

 التنظيم المُحكم لا تعاني فيه القيادة الشدائد والمحن وهي تتجه صوب فرض العقوبات التنظيمية الضامنة لسلامة المسار، بل إن الصف المتشبع بقواعد التربية السليمة هو الذي يتكفل بإقرار المحاسبة الذاتية، قبل أن تبادر إليها القيادة.

هذه العلاقة التنظيمية الربانية، القائمة على قواعد مُحكمة بين الطرفين، هي التي تدفع القيادة إلى اتخاذ الموقف الملائم؛ حدة وصـرامة، في الزمان والمكان والحال الذي يصلح مسار العمل، فما أن وقع الخطأ الثالث حتى انتقل المتبوع من مرحلة التنبيهات إلى مرحلة القرارات الحاسمة: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ...}.

 

فائدة:

لا يمكن للقيادة الراشدة أن تتراخى في ضبط التنظيم ضبطاً مُحكماً تحت أي ذريعة كانت، أو  انسياقاً وراء أي تأويل يبيح الاسترخاء.. فالتراخي مضافاً له عامل التراكم الزمني يفضيان إلى التفكك لا محالة، أو ذهاب الريح في أحسن الأحوال، وقد يبرر بعضنا التهاون التنظيمي بعلة الإبقاء على العدد، والحفاظ على المنتظمين، وعدم الرمي بهم في محك الفتنة، وهذا هو ما يؤدي إلى ذهاب الريح، فما فائدة الأعداد الكثيرة، إذا كانت غثاء كغثاء السيل؟

وهكذا كان العبد الصالح صارماً عند وقوع المخالفة الثالثة، فكان قرار المفارقة حاسماً قطاعاً غير قابل للاستئناف، دون مدارسة أثر القرار في نفس المتبوع، فالتنظيم الرباني يبلغ من الإحكام قدراً تثق معه القيادة في أفرادها حال تعريضهم لامتحانات المنشط والمكره.

وفي سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، نجد هذا التجلي في قصة تخلف أبا ذر الغفاري عن الركب السائر إلى تبوك، كما رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن مسعود قال: (لما سار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى تبوك جعل لا يزال يتخلف الرجل، فيقولون يا رسول الله: تخلف فلان، فيقول: دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه...).

فرغم المكانة التي لأبي ذر في نفس رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إلا أنه حين أبلغ بتخلفه عن الركب، لم يرسل له وحدة إسعاف عاجلة، على اعتبار أنه من الصفوة المقربة من القيادة، بل جعله في دائرة الامتحان والاختبار، ليظهر  معدنه الأصيل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا..}، والدليل: سـروره (صلى الله عليه وسلم) بالتحاق الرجل بالركب، ففي تكملة الحديث: (ونزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق، فقال (صلى الله عليه وسلم): كن أبا ذر...)، وهذا دليل على عظم مكانة الرجل في نفس النبي، التي لم تمنعه أن يتركه للامتحان؛ الضمانة الوحيدة لتحقيق الصف الرباني محكم الرباط التنظيمي.

 

فائدة:

حين يحدث اختلال في إحكام العلاقة التنظيمية في صف ما، لا يمكن إلقاء اللوم على الصف غير المنقاد أو المطيع لقيادته طاعة مثالية ربانية مُحكمة، على ما جرت عليه العادة عند التلاوم.. فمثل هذه الظاهرة تتحمل مسؤوليتها القيادة من وجهين؛ الأول: أنّ تهلهلَ الصف دليل على أنها لم تكن مؤهلة لتربيته على القواعد الربانية التي ترقى به لمستوى موسى - صلوات الله عليه - في تعامله كتابع مع قيادته التي ارتضاها لنفسه ابتداء، لوجود اختلال في واحدة من مراحل العملية التكوينية، أو في كل مراحلها على الجملة.

الوجه الثاني؛ أن ولاء موسى لم يكن ليكون على هذا المستوى من السمو والرقي، لولا الثقة العميقة المُطلقة التي أولاها للعبد الصالح.. فالقيادة التي لا تظفر بالولاء المطلق من الأتباع، هي في أمسّ الحاجة لمراجعة شاملة للذات، والوقوف على ما فيها من أخطاء وهنات واختلالات.

الدرس الثالث: الشفافية وتوفير المعلومات:

لم يكتف العبد الصالح بإنهاء الارتباط مع موسى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ..}، فعلى الأخير؛ الذي تابع الأول بناءً على توجيه الوحي، أن يفوّض إلى الثقة المطلقة جُملة الأفعال، غير المأولة زماناً ومكاناً، التي صدرت من قيادته، لينتهي المشهد تأدباً من التابع الواثق بقيادته، واعتماداً من القيادة على ما تشربه التابع من القيم التربوية الربانية العميقة.

فالقيادة الربانية الحكيمة، تدرك طبائع النفس البشـرية وما جُبلت عليه من مُخلاتٍ بالكمالات المثالية، فتأخذ ذلك بنظر الاعتبار، وتقدم للصف دفقاً من المعلومات تبرر به أفعالها وأقوالها وقراراتها، ليكون الصف على دراية وإحاطة بالملابسات والتداعيات والمآلات التي بنت عليها الموقف واتخذت بموجبها القرارات.. {.. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}، ليكون الفراق بين الجانبين وقد أخذ كل منهما غايته، وحقق مراده، دون أن تترك عملية الارتباط الحركي أي أثر في نفس التابع تجاه قيادته يمكن أن يخل بعنصر الثقة، أو تهمة توجهها القيادة للصف حال عدم صبر الأفراد على قراراتها غير المسببة في زمانها ومكانها.

وفي سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، نجد نماذج لهذا المثال الحركي، ففي (الحديبية) رأت القيادة النبوية الراشدة أن صلحاً مع المشركين سيحقق للدعوة مصالح جمة، مع أن في بنود الصلح شروطاً مُجحفة؛ أملتها قريش على القيادة، لذلك عمَّ الصف كآبة وحزن شديدين، لسببين:

الأول:‏ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان قد أخبرهم؛ أنا سنأتي البيت فنطوف به.. وبمقتضـى الصلح: رجوع بلا طواف.

‏الثاني:‏ أن خطاب القيادة؛ على مدار أعوام العمل السـري، ثم التمكين: أننا على الحق، وان الله ناصر دينه، وما لم يتحقق ذلك، فإن من يقضي نحبه في الطريق ماض إلى الجنة.. إذاً، لا يوجد مبرر لأن نعطي الدنية في ديننا، فإما أن ينجز الله وعده فننتصـر، أو نموت فنظفر بالجنة!

ولنا أن نتصور أن أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) هلكت يومها، إذ عصت أمر نبيها بسبب عدم رضاها على بنود الصلح، وعدم وجود مبررات من القيادة مقنعة!

 يعكس قتامة هذه الصورة، وكآبتها، وثقلها في نفوس أصحاب النبي، حديث البخاري الطويل عن الصلح، يقول:

 (..فَلَمَّا فَرَغَ مِن قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، قالَ: فَوَاللَّهِ ما قَامَ منهمْ رَجُلٌ حتَّى قالَ ذلكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ..) ارتدت أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) عن بكرة أبيها إذ عصت أمر نبيها؛ لولا أن تدارك الله الأمة برحمته بمشورة أم المؤمنين أم سلمة!

ولعل (الفاروق)، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يقدم التأدب مع القيادة على الاعتراض على أمر ظاهره مضيعة للدعوة؛ وهو حال الغالبية المعترضة في ذاك الزمان، كان أحد وأظهر من عكس انفعال الصف واعتراضه الشديد على أمر القيادة، وفي حديث البخاري:

فَقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: فأتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلتُ: (..ألَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قالَ: بَلَى، قُلتُ: ألَسْنَا علَى الحَقِّ وعَدُوُّنَا علَى البَاطِلِ؟ قالَ: بَلَى، قُلتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إذًا؟ قالَ: إنِّي رَسولُ اللَّهِ، ولَسْتُ أعْصِيهِ، وهو نَاصِرِي، قُلتُ: أوَليسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أنَّا سَنَأْتي البَيْتَ فَنَطُوفُ بهِ؟ قالَ: بَلَى، فأخْبَرْتُكَ أنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟ قالَ: قُلتُ: لَا، قالَ: فإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ به، قالَ: فأتَيْتُ أبَا بَكْرٍ فَقُلتُ: يا أبَا بَكْرٍ، أليسَ هذا نَبِيَّ الله حَقًّا؟ قالَ: بَلَى، قُلتُ: ألَسْنَا علَى الحَقِّ وعَدُوُّنَا علَى البَاطِلِ؟ قالَ: بَلَى، قُلتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إذًا؟ قالَ: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرَسولُ الله (صلى الله عليه وسلم)، وليسَ يَعْصِـي رَبَّهُ، وهو نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بغَرْزِهِ؛ فَوَالله إنَّه علَى الحَقِّ..).

لاحظ معي حدّة ألفاظ عمر مع نبيه؛ وهكذا يجب أن يحتد أحدنا على مصالح الدعوة، لا أن تكون غيرتنا على فوات مصالحنا الشخصية أعظم وأكبر، ولا أن نحابي ونتملق كي نرضي زيداً وعمراً؛ رجاءَ نفع يُجلب أو ضـر يُدفع، وهو لعمري الشـرك الذي عمت به البلوى، وتأخر بسببه النصر.

 

فائدة:

بعد حربين عالميتين أحرقتا الأخضـر واليابس، أدركت المجتمعات الغربية أن أس البلاء وأصله ومنبعه، يكمن في قائد متسلط يجمع بين يديه الصلاحيات، ويجثم على صدر الأمة دهوراً، يقضي في مصائرها، ويتحكم بمقدراتها؛ برأيه ورأي الدولة العميقة التي تحيط به وتنصـره؛ من أفراد ومؤسسات وهيئات صنعها على عينه! فعمل عقلاؤها وحكماؤها ومخلصوها على أن لا يتكرر ظهور القائد الضرورة، عبر تقنين الحياة بقوانين تقوم على الشفافية وتدفق المعلومات، تجعل مصلحة الأمة فوق مصالح الأفراد والأحزاب والجمعيات… إلخ، فلم يظهر فيهم لا (موسليني) جديد، ولا (هتلر)، ولا (فرانسيسكو فرانكو)، ولا (تيتو)… والقائمة تطول.

 فالشفافية وتدفق المعلومات هي الأساس والركن الركين الذي يجعل الجماعات الإنسانية تَحكُم وتتحكم في مصائرها ومقدراتها، وهو أساس سبق إليه الإسلام وحياً من رب السماء، تشهد عليه عشـرات النصوص، لكن عالمنا الإسلامي لا يزال يرفل بحكم (الحجّاج)، الذي لم يمت قط، فهو كطائر الفينيق كلما احترق خلّف وراءه رماده، ومنه ينبعث على شكل طغاة في الدول، وبغاة في الجماعات، فينبعث من جديد فيكون حاكماً فينا مسيطراً على مصائرنا، فنخسر النصر المتأتي من الأسباب، أو المأمول من توفيق الله.

 

 

قاعدة مهمة:

حيثما وجد التكتم، وغابت الشفافية، ابحث عن الخطايا التنظيمية، التي لا ينفع معها إلا إخفاء المعلومة.. كما ورد في حديث مسلم قوله (صلى الله عليه وسلم): (..والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).

حين ينفد صبر القواعد، وتتوسع دائرة الترك وعصيان القيادة، لا بد من مراجعة آليات التواصل مع الصف، وليتهم صناع القرار أنفسهم قبل المسارعة بمهاجمة الأتباع.

 

* صحفي وكاتب - عضو مجلس شورى حركة العدل والإحسان - العراق.

هناك 4 تعليقات:

  1. بارك الله فيكم معاني رائعة واستنباطات مهمة

    ردحذف
  2. عاشت ايدك

    ردحذف
  3. عاشت ايدك

    ردحذف
  4. جزاكم ربي خيرا استاذي الفاضل

    ردحذف