02‏/07‏/2022

التصوف السياسي (الحلولي) والطريق نحو الإلحاد

د. سعد سعيد الديوەجي
ينتشر الإلحاد يوماً بعد يوم كانتشار النار في الهشيم، خصوصاً في المجتمعات غير الإسلامية، وذلك لضعف عقائدها وتصوراتها عن معنى الخالق والمخلوق، وللغرور الذي أصاب البشر باعتقادهم أنهم أسياد الكون! وأما في الإسلام، فإن الباب أمام الإلحاد يكاد يكون موصداً، نظراً لوضوح النص القرآني بشأن التوحيد الذي لا يقبل التأويلات الفاسدة، مما أدى بالساعين إلى نشر الإلحاد بين المسلمين إلى سلوك طرق ملتوية؛ بدأوها بنشر أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود تحت غطاء ادعوا أنه من التصوف، وهو ادعاء باطل.
والحقيقة أن بذر عقيدة الإلحاد بين المسلمين كان هدفاً سياسياً من أهداف الحركة الباطنية - الإسماعيلية التي حاولت تقويض الفكر الإسلامي الواضح بكافة السبل، وهي في الأصل حركة شعوبية خالصة؛ أصلها كراهية العرب والمسلمين وتقويض ملكهم.
والباطنية الإسماعيلية بدورها هي الوليد اللاشرعي لحركات الغلو والزندقة - بعد أن فشلت مساعيها في مقارعة الفكر الإسلامي - التي حاولت إرجاع أديان فارس القديمة؛ كالمانوية والمزدكية والمجوسية، التي توجد قواسم مشتركة بينها؛ كتقديس النار، وثنوية النور والظلام، والإباحية، وصولاً إلى الإلحاد، والمشاعية.. وهو ما كانت عليه (المزدكية) خصوصاً.

وكان التأويل القسري الباطني للقرآن من أول الأبواب نحو غاية الإلحاد التي اتخذت وسائل عديدة.

والتأويل القسري يعتمد على مبدأ أن لكل ظاهر باطناً، وأن العمل بالباطن هو للخاصة، والعمل بالظاهر للعامة! علماً أن مصطلحي العامة والخاصة من المصطلحات الدخيلة على الفكر الإسلامي، فالإيمان بالله والتصديق به ليس من الأمور الخاصة، وهو يناسب البشر كافة، دون تمييز.

يقول ابن الجوزي عن الإسماعيلية بأنهم لما عجزوا عن صرف الناس عن القرآن والسنة، صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق زخرفوها؛ فمعنى (الغسل)، عندهم، تجديد العهد على من فعل ذلك! ومعنى (الزنا) إلقاء نطفة العلم الباطن في نفس لم يسبق معه عقد العهد! و(الصوم) الإمساك عن كشف السر... إلخ. وكانت هذه المفاهيم تتغير بتغير الزمان والمكان، وبالاعتماد على عقلية المخاطبين بهذا المنطق الأعوج، وكان للدعاة حق الاجتهاد بالتأويل، فإذا وجدوا قوماً يتبرمون من الزكاة، قالوا بأن الزكاة تعني بث العلوم لمن يتزكى لها! وأما الحج، فهو لقاء الإمام الإسماعيلي، وتمام الحج مشاهدة الإمام... إلخ.

ثم ادعوا ألوهية أئمتهم، كما قال ابن خلدون: وقالوا "إن كمال الإمام لا يكون لغيره، فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر، ليكون فيه ذلك الكمال".

وهذه التأويلات لم تكن اعتباطية، وكانت مرسومة بدقة وذكاء، وتصب في غاية عليا، هي تهيأة العقول لتقبل الأفكار الثنوية، ومن ثم تقبل الإلحاد بالله الواحد الأحد، وإن كان الإلحاد هنا لا يعني إنكار فكرة الخالق المتفرد، ولكن تقديمها بشكل لا يختلف عن الإنكار المباشر، ونسف فكرة (الله خالق كل شيء)، وهو المتفرد بكل شيء، وليس كمثله شيء من خلقه!

وعلى هذا النسق تم زرع الأفكار التي مهدت لانتشار الإلحاد، وهي أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، حيث يعني الحلول والاتحاد استغراق المخلوق بالخالق، أو حلول الروح وتنقلها بين أجساد مختلفة. وهي من الأفكار الواضحة في المجوسية والهندوسية والبوذية، والمبهمة في المسيحية؛ من خلال عقيدة التثليث، حيث يظهر الإله بشكل إنسان، والأخير هو ابن الإله الذي ضحى به من أجل البشر!

وأما وحدة الوجود، فهي ترسيخ لفكرة ألّا وجود في الحقيقة إلا للإله، وكل شيء ما عداه يعد مظهراً من مظاهره، وليس مخلوقاً من قبله، وكل ما في الوجود؛ من جماد وحيوان وإنسان ونبات، يشكل وجوداً مبهماً لشيء واحد.

وعليه، فالحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود، من أخطر ما أدخلته الباطنية والغلاة في سعيهم لتدمير فكرة الخالق والمخلوق، وإلغاء الفوارق بين الله – جل شأنه – كخالق، والإنسان كمخلوق، وحتى - في بعض الأحيان - إلى ما دون الإنسان، وخلط الخير بالشر، والكفر بالإيمان، كمفاهيم مختلفة لمظهر واحد، وبالتالي طمس قدرة الله المطلقة، ليصبح كائناً بصفات مبهمة، أو أن الله روح، والعالم جسم لهذه الروح!

وكان من أبرع من صاغ هذه الأفكار تحت ستار التصوف الحلولي (السياسي) هو الحلاج (ت 309 هجرية)، الذي ثبتت إسماعيليته، وانتماؤه للقرامطة، في كل الدراسات الجادة التي تناولت سيرته بعيداً عن العواطف.. فهو الذي قال بأن معنى (لا إله إلا الله) كلمة شغل بها العامة لئلا يختلطوا بأهل التوحيد. ثم زعم أنه من يوحد الله فقد أشـرك!.. وقد تناولنا الموضوع بالتفصيل في كتابنا المعنون (أسطورة الحلاج - قراءة في التصوف السياسي)، وقد اخترنا هذا المصطلح لكي لا يعتقد القارئ بأننا نهاجم التصوف ككل، وعن تعصب، وإنما لاقتران هذه الممارسات بغايات سياسية تحت غطاء عقائدي، كما ذكرنا آنفاً.

لقد كان الحلاج بارعاً في خلط المفاهيم، حيث قال: من فرق بين الكفر والإيمان، فقد كفر. ومن لم يفرق بين الكافر والمؤمن، فقد كفر. وأن الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم، وفي الحقيقة لا فرق بينهما!

ففي مسألة العقيدة يتهم بالكفر من يفرق بين الكفر والإيمان، وهي مسألة في غاية الإبهام والغموض. وفي مسألة التطبيق يبدو الأمر معكوساً تماماً، وكل ذلك يصب في بلبلة الأفكار والاقتراب بها نحو المبهمات، فتنمو أفكار الشك والريبة، ويكون المرء أقرب للإلحاد منه للإيمان .

إن خلاصة العقيدة في الإسلام تعني التسليم لله، والإيمان به إيماناً مطلقاً، وعدم تجاوز فكر المخلوق - أياً كان - على قدرة الخالق، الذي {ليس كمثله شيء}.. وأن أي ارتباط بالخالق بوشائج خارج العبادة والتفكير والتأمل والذكر، أمر يرفضه التوحيد الخالص، فالله تعالى قريب من كل عباده بشكل لا ندركه، وهذا من عظمته؛ قال تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، وهذه المسألة تنفي الاتحاد والحلول التي ادعاها أقطاب التصوف الحلولي، فالله قريب من كل عباده بطريقة لا ندركها، وهنا تبرز أفكار الحلول والاتحاد كأفكار سوداوية تحط من قدرة الخالق المطلقة، وتلغي انفرادية المخلوق وخصوصيته.. ولذلك فشلت حركة الحلاج، وما شابهها من حركات، داخل الوسط الإسلامي، رغم كل المحاولات لإحيائها.

لقد دخلت هذه الأفكار إلى المسيحية، فجعلت من ما يسمى بعلم اللاهوت مجرد تخبطات وأوهام تستند إليها المسيحية في معتقداتها، ولذلك يجب أن يتوقف مفكرونا عن استخدام هذا المصطلح المبهم، واستبداله بـ(علم الإلهيات)، وعدم ربطه بما يسمى بـ(الناسوت)، فهذه كلها مصطلحات دخيلة لا وجود لها في الفكر الإسلامي الأصيل .

وعلى هذا النسق، حاول الحلاج، والشلغماني، وذو النون المصري، ويحيى بن حبش السهروردي، ومن سار على نهجهم، جعل (التصوف الحلولي) ديناً منشقاً عن الإسلام، هدفه البعيد الإلحاد، ونسف الدين.. وعدّها الكثير من المفكرين والمتصوفة على أنها شطحات ليس إلا، وهي تفسيرات متهافتة وساذجة تركت جراحاً بليغة في الفكر الإسلامي، يرددها كثير من المسلمين إلى أيامنا هذه عن جهل بفكرة التوحيد الأصيلة.

فها هو جلال الدين الرومي (ت 1267 م) يسير في هذا الطريق، ويبرر أفعال الحلاج وأقواله، بقوله: "إن قلب الصوفي هو موضع إرادة الله"، وهو افتراض لا معنى له، يقترب من الشرك بالله أكثر من اقترابه من الإيمان والتسليم له، وفيه من العاطفة اللاواقعية الشيء الكثير، وربما نتج عن الطريقة التي أعدم فيها الحلاج، فكثيراً ما يكتسب الذين يصلبون تعاطفاً وسمعة لا يستحقونها لمجرّد العاطفة، ويستغل من يقف خلف أفكارهم الحدث لترسيخ مظلومية كاذبة .

يقول الحلاج :

لي حبيب حبه وسط الحشا        لو يشأ يمشي على خدي مشا
روحه روحي وروحي روحه        إن يشأ شئت، وإن شئت يشا

والكفر واضح في هذه الأفكار وضوح شمس الظهيرة، وهي ليست مجرد شطحات، حيث هذه الكلمة مطاطية. وقد جعل الرومي من الحلاج، ومن أقطاب الصوفية الحلولية، أشخاصاً معصومين، وهو تأثير واضح من تأثيرات لم يدرك كثير من المتصوفة المرامي الإسماعيلية الباطنية من وراء نشر الأفكار التي غطتها بغطاء التشيع لآل البيت.. فتأثر ابن عربي (ت 638 هجرية) واضح جداً بالحلاج، ولذلك ظهر علينا بفكرة الفاطمي المنتظر، الذي هو والسيف إخوان.. وذهب جلال الدين الرومي لأبعد من ذلك، عندما اعتبر نفسه مهدياً، واعتبر أن الله يظهر في (سيف علي)، مخلوطاً بأفكار الاتحاد والحلول، فيقول عن الله: "في كل نفس يظهر ذلك الصديق في ثوب جديد، فشيخاً تراه، وشاباً تراه أخرى، ذلك الجميل فتان القلوب، قد ظهر بصورة سيف في كف علي، وأصبح البتار في زمانه، لا بل هو الذي ظهر في صورة إنسان، وصاح أنا الحق"!

وحتى الإمام الغزالي (ت 505 هجرية)، ورغم تأليفه لكتاب (فضائح الباطنية)، الذي فند فيه كل مزاعم الإسماعيلية، إلا أنه لم ينتبه للدافع السياسي للحلاج، ومن سار على نهجه، واعتبر أفكاره شطحات. وكذلك الإمام عبدالقادر الكيلاني (ت 561 هجرية)، الذي قال: "لو عاصرت الحلاج، لأخذت بيده"، وكان على اعتقاد خاطئ كبير في هذا المجال.

وكما أشرنا فإن هذه الأفكار كانت مدسوسة على الفكر الإسلامي عن تعمد وقصد، وليست هي بشطحات صدرت عن حسن نية، وغايتها القصوى نسف التوحيد وبذر أفكار الإلحاد؛ من خلال تنظيمات تدّعي أنها إسلامية، والقضاء على الكيان الإسلامي ككل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق