02‏/07‏/2022

تأملات قرآنية

د. سيروان أحمد قادر - كركوك

  قال تعالى: (إن الَّذِينَ قَالُوا ربنا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)([1]).

‏ذكر اللّه – سبحانه تعالى – في هذه الآية المباركة طائفة من المؤمنين متصفين بصفات مميزة، وهي الجمع بين توحيد الله – عز وجل –، الذي هو خلاصة العلم، وبين شـريعته المطهرة.. بمعنى الذين أقروا بربهم، وشهدوا له بالوحدانية، والتزموا طاعته، وداوموا على ذلك، واستقاموا مدة حياتهم في الدنيا على الشريعة (الدين)، وهو منتهى العمل([2]).

الاستقامة: "هي سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة،

ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها؛ الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك"([3]).

نستنتج من التعريف بأن الاستقامة تعني استقامة القلب، لأن القلب محل التوحيد، ولهذا سئل سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة، فقال: أن لا تشـرك بالله شيئاً([4]).

ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى الالتزام بهذه الصفة، أي (الاستقامة)، ولا سيما بعد تخلي البعض منا عن ثوابت الاستقامة، ونحتاج إلى تجديدها في نفوسنا، ومتابعتها وتخليصها من زيغها وتهاونها وتساهلها، فمن أراد الكرامة وسلامة قلبه، فعليه بالاستقامة، يقول                     ابن رجب - رحمه الله -: "متى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القَلْبَ هو مَلِكُ الأعضاء، و هي جنوده، فإذا استقام المَلِك، استقامت جنوده ورعاياه. وأعظم ما يراعى استقامته، بعد القلب، من الجوارح: اللسان، فإنه ترجمان القلب، والمعبِّر عنه"([5]).

الاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنِّيَّات، فالاستقامة فيها وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله.

قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة([6]).

واعلم أن هذه الآية: {إن الَّذِينَ قَالُوا ربنا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا} تدل على أن الثبات، والجمع بين الإيمان والعمل الصالح، مطلب إلهي، سوف يؤدي إلى النجاة والبشارة والأمان من ألّا نخاف الذي أمامنا، ولا نحزن على ما خلفنا، عليكم بالسمع والطاعة لأوامر الله - عزوجل - وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، كي تنالوا بشارة الأمان مِنْ قِبَلِ ملائكة الرَّحمن، عِنْدَ المَوْتِ، ثُمَّ في القَبْرِ، ثُمَّ بَعْدَ البَعْثِ([7]).

 وجاء في الحديث الذي رواه (أبو أيوب الأنصاري)أن رجُلاً جاء إلى النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، فقال: (دُلَّني على عملٍ أعمَلُهُ يُدْنيني مِنَ الجنَّةِ، ويُباعِدُني مِنَ النَّارِ. قال: تعبُدُ اللهَ لا تُشـرِكُ به شيئًا، وتُقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤْتي الزكاةَ، وتَصِلُ ذَا رحِمَكَ. فلمَّا أَدْبَرَ، قال رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): إنْ تمسَّكَ بما أُمِرَ به، دخَلَ الجنَّةَ)([8]).

إذن، فالطاعة كما قال الإمام ابن قيم - رحمه الله - حصن الله الأعظم، الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أماناً، ومن عصاه انقلبت مآمنه مخاوفَ([9]).

فعلينا أن نطيع اللّه – تعالى – ونطيع رسوله (صلى الله عليه وسلم) كي ننجو من مخاوف الدنيا والآخرة، ولا نعصـي الله في شيء، لأن الذنوب والمعاصي سبب لكل المصائب والبلايا، وسبب لسوء الخاتمة، أعاذنا الله منها.

 قال تعالى: {ومَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}([10]).

إِنَّ اللّه أَعْلَمنا أنَّ ما يُصيبنا من مصيبة في الدنيا؛ في الأموال والأنفس والأهل، فهو عقوبة منه لنا بما اكتسبنا من الآثام([11]).

رُؤِيَت عَلى كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةٌ، فَقِيلَ: بِمَ هَذا ؟ فَقالَ: بِما كَسَبَتْ يَدايَ([12]).

فالآيَةُ داعِيَةٌ لِكُلِّ أحَدٍ إلى المُبادَرَةِ عِنْدَ وُقُوعِ المُصِيبَةِ إلى مُحاسَبَةِ النَّفْسِ، لِيَعْرِفَ مِن أيْنَ جاءَ تَقْصِيرُهُ، فَيُبادِرُ إلى التَّوْبَةِ عَنْهُ، والإقْبالِ عَلى اللهِ، لِيُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنَ الهَلَكَةِ([13]).

قال العباس بن عبد المطلب: (اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة)([14]).

فإذا أردنا الخلاص من المصائب والبلايا، فعلينا بالتوبة والندم على ما اقترفنا من الذنوب والمعاصي، قبل فوات الأوان، ولكن بشـروطه وضوابطه.

 نسأل الله الثبات والسداد والزيادة، ونعوذ به من النكوص بعد الاستقامة، وأن يوفقنا لطاعته، ويحفظنا من شؤم الذنوب والمعاصي، وأن يوقظنا من غفلتنا، إنه على كل شيء قدير..

 سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.



[1] - سورة الأحقاف/ الآية 13.

[2] - تفسير روح المعاني للآلوسي: 25/79. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي: ص921. فتح البيان في مقاصد القرآن، للقنوجي:13/20، بتصـرف.

[3] - جامع العلوم و الحكم لابن رجب:ص471 ، الحديث الحادي والعشرون.

[4] - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية:2/103.

[5] - جامع العلوم و الحكم لابن رجب:ص471 الحديث الحادي والعشرون.

[6] - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية:2/106.

[7] - النكت والعيون، تفسير الماوردي: 5/275 بتصـرف.

[8] - صحيح مسلم بشرح الإمام النووي: 2/29 رقم الحديث 13، كتاب الإيمان، باب الإيمان الذي يدخل به الجنة، وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة.

[9] - الجواب الكافي، لابن قيم الجوزية:ص158.

[10] - سورة الشورى، الآية30.

[11]- الهداية إلى بلوغ النهاية، للإمام مكي بن أبي طالب: ص6596.

[12] - تفسير البحر المحيط، لأبي حيان:  7/496.

[13] - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي: 17/315.

[14] - المجالسة وجواهرالعلم / لأبي بكر محمد الدينوري القاضي المالكي: 3/102 رقم 727.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق