د. دحام إبراهيم محمد الهسنياني
وأخيراً
هوى النجم الساطع، وترجل فارس المنابر.. وانتقل الملا مصطفى الريكاني إلى جوار ربه
الكريم.
أخيرا
فقدت كوردستان العراق خطيباً من خطبائها، وشيخاً من شيوخها، وعلماً من أعلامها.
مات ملا مصطفى الريكاني وهو يدعو إلى الله تعالى حتى آخر يوم من حياته.
لذلك رأيت من حقه علينا، ومن باب الوفاء لهذه الشخصية الكريمة، أن أكتب شيئاً عن سيرته
المباركة، ومسيرته العلمية، وجهوده الدعوية.. آملاً التوفيق من الله تعالى.الملا مصطفى حسن محمد ياسين الريكاني، ولد في قرية
(بيدة) في ناحية ريكان، قضاء العمادية سنة 1946، من
عائلة فلاحية بسيطة، مثل غالبية عوائل عشيرة ريكان، وكانت قرية (بيدة) منطقة نائية
بعيدة عن المدن.
نشأ
في قرية بيدة نشأة إسلامية صالحة، وختم القرآن فيها عند الملا محمود ميرتي خان..
ولحبه الشديد للتعلم
والدراسة جعله دائماَ يبحث عن طريقة للبدء بالدراسة والتعلم.
يقول الملا مصطفى رحمه الله في مذكراته: "كانت
الحياة صعبة في أربعينيات القرن الماضي في تلك القرى، بسبب عدم وجود الاحتياجات
الأولية؛ كالطرق والمدارس والمستشفيات، وكانت نسبة الأمية في ذلك الوقت 98%،
وغالبية الأطفال كانوا محرومين من التعليم والدراسة. لذا، فإن معظم الناس كانوا
يشتغلون بتربية المواشي والزراعة، بسبب انعدام وجود الطرق والمواصلات، وكنا نعاني
صعوبة الوصول الى قرية (هورة) للبدء بالدراسة، حيث كانت هناك مدرسة.. وكان أخونا
الأكبر المرحوم (محمد) يشتغل عاملاً في بساتين قرية (سندور)، فتوجهت إلى بيت أخي
(محمد) في خريف سنة (1957م)، وبدأت بالتعليم على يد الشيخ (أبو بكر كويى) في مسجد
القرية، حيث درست المبادئ الدينية الأولية، واستمريت فيها حتى نهاية الصيف من تلك
السنة، ثم رجعت إلى قرية بيده"([1]).
لكن حبّه الشديد للعلم والتعلم جعله يقرر في خريف العام
التالي مغادرة قريته ومحل ولادته بشكل نهائي، والانتقال إلى قرية (سندور)، ليدرس
فيها وقتاً أطول مقارنة بعالم القرية، ثم انتقل إلى مدينة دهوك.
انتقل ملا مصطفى إلى دهوك سنة 1957، في زمن عبد الكريم قاسم، وبدأ ب
التعلم لوقت قصير في مدينة دهوك مع طلبة العلم في مسجد المفتي على يد الشيخ (عبدالكريم كويى)، وبسبب انتقال شيخه إلى قرية (بَروشكي)، فإن الملا ظل مع شيخه عاماً في قرية (بَروشكى) يتعلم منه.
بعد إتمام سنته هناك، عاد الملا مصطفى إلى مدينة دهوك،
وبدأ بالتعلم على يد الشيخ (الملا صلاح بابوخكي) لمدة بضعة أشهر في مسجد
(الريكانيين)([2]).
ودرس على علماء دهوك العلوم الشـرعية بكل لهفة وشوق.
ويشير الملا مصطفى في مذكراته إلى تلك المسيرة العلمية والسعادة الغامرة عندما بدأ
بتعليمه في جامع دهوك الكبير، وأصبح أحد طلبة الشيخ الكبير والعالم المفتي الملا
محمد عبد الخالق العقري، حيث كان الجامع الكبير في دهوك يعد أحد أفضل الأماكن
المتواجدة في ذلك الوقت للتعلم والتدريس، وظل ملازماً للملا محمد العقري إحدى عشـرة
سنة، إلى أن توفي رحمه الله في 27/6/1969.
وممن درس عليهم أيضاً الملا عبد الهادي عبد الوهاب
المفتي في دهوك. واستمر الملا في التنقل في مساجد دهوك للتعلم حتى أنهى المرحلة
الثانوية سنة (1970)([3]).
ودخل المعهد الإسلامي في دهوك سنة 1963، وكانت الدراسة
في المعهد آنذاك من الصف الأول الابتدائي إلى الصف الثاني عشر، ثم تغير الوضع
فأصبح كالآتي:
صار المعهد الإسلامي بمثابة الثانوية، أي من الصف الأول
المتوسط إلى الصف الثامن الجديد، وتخرج من الصف الثامن الجديد - المعادل للسادس
الإعدادي في مدارس التربية - في السنة الدراسية 1970- 1971([4]).
وكان يحضـر دروس الشيخ مصطفى البنجويني، والشيخ ذنون
البدراني، والشيخ حسن أحمد السليفاني، والشيخ بشير الصقال، والشيخ محمد ياسين
السنجاري، في السبعينات من القرن الماضي في مدينة الموصل. وتربطه علاقة وثيقة مع
كثير من شخصيات الموصل، مثل الحاج طه حسن السنجاري، والأستاذ غانم حمودات،
والدكتور إدريس داود، والشيخ إبراهيم النعمة، والدكتور عبد الله الرحو، والأستاذ
إدريس الكلاك..
بعد
هذه المرحلة بدأ بالتفكير في المراحل المقبلة من التعلم، وكان أفضل الخيارات
المتاحة في ذلك الوقت هو التوجه نحو مدينة بغداد، ليصبح طالباً في جامعة (الإمام
الأعظم).
التحق بالدراسة الجامعية سنة: 1971- 1972 في كلية الإمام
الأعظم في بغداد، في قسم (الشـريعة الإسلامية واللغة العربية)، وتخرج منها في سنة
1975- 1976، حيث كانت الدراسة في ذاك الوقت (5) خمس سنوات.
يقول الملا - رحمه الله - في مذكراته : "إن شخصين
قد ساعداه وقدما له الدعم المعنوي ليلتحق بالجامعة:
الشخص الأول هو الشيخ (مصطفى البينجويني)، حيث قال لي:
اذهب إلى بغداد، وتحمل مصاعب خمس سنوات في الكلية، لن تندم مدى العمر.
والشخص الثاني هو الأستاذ (غانم حمودات)، حيث كتب رسالة
إلى الشيخ (إبراهيم النعمة)، الذي كان آنذاك طالباً في جامعة الإمام الأعظم، بأن
يساعد حامل الرسالة حال وصوله إلى بغداد.
وعندما وصلنا إلى بغداد، وقدمنا للجامعة وثائقنا، بدأنا
بامتحانات القبول، وبالنتيجة تم قبولي والحمد لله في الجامعة مع اثنين من أصحابي،
وهما (الملا مهدي) و(ملا محمد رشيد)..."([5]).
وكان ممن درّسه في هذه الكلية من الأساتذة: الدكتور عبد
الله الجبوري، والدكتور صبحي جميل الخياط، والدكتور محمد رمضان عبد الله الكركوكي،
والدكتور أحمد عبيد الكبيسي، والدكتور هاشم جميل عبد الله القيسي، والدكتور أحمد
ناجي القيـسي، والشيخ عبد اللطيف البرزنجي. ومن الأساتذة المصريين: الشيخ عبد
الرحمن محمود، والدكتور عبد الفتاح بركة، والدكتور عبد المنعم الشافعي، والدكتور
سيد ندا الأزهري.
وفي سنة 1972 كلفته عمادة الكلية بإلقاء دروس الوعظ والإرشاد
في (جامع الإمام الأعظم)، وبعد إلقاء أربعة محاضرات، وجدوه جديراً بإلقاء خطب
الجمعة أيضاً، وذلك بما كان يملك من فصاحة اللسان، وسلامة
مخارج الحروف، مع مراعاة حسن الإلقاء؛ قوةً ولينًا، فلم يكن إلقاء خطبه على وتيرة
واحدة، حتى لا يمل السامع. فكلفته
عمادة الكلية بالقيام بواجب الخطابة في (جامع الصويرة الكبير)، التابع لمحافظة
واسط، والتي تبعد عن بغداد حوالي (75) كم، وظل يقوم بهذا الواجب لمدة سنة واحدة
تقريباً، ثم تم نقله إلى بغداد في (جامع العشـرة المبشـرة)، في (حي العامل)، وظل
يخطب في هذا الجامع إلى حين تخرجه من الكلية في 1976، وانتقاله بعدها إلى مدينة
دهوك([6]).
وخلال هذه السنوات، بالإضافة
إلى دراسته الجامعية، وإلقاء الخطب والمحاضرات في المساجد، كان للملا مصطفى نشاط دعوي آخر، وهو إلقاء الوعظ
والإرشاد الديني في الإذاعة الكوردية في (الصالحية) ببغداد، مع الشيخ عبد الحميد
الأتروشي، والأستاذ أبو زيد السندي، والشيخ عمر مولود الديبكي، واستمر في الوعظ في
الإذاعة قرابة أربعة سنوات، حيث خدم الفكر الديني باللغة
الكوردية على أتم ما يكون.
وكان يحضـر مجالس ودروس الشيخ محمود غريب كل يوم إثنين
في (جامع البنية) في بغداد، خلال السنوات 1973-1975([7]).
كما كان يحضـر دروس الشيخ عبد
الرحمن محمود المصري، والشيخ نمر الخطيب، في (جامع الضباط)، في بغداد الجديدة.
وتزوج الملا مصطفى سنة 1975، وعنده أربعة أبناء وخمس
بنات، رباهم على تعاليم الإسلام والأخلاق الحسنة وحب العلم والمعرفة، وتخرج جميعهم
من الكليات، وزوجته هي بنت العالم الكبير الشيخ طاهر محمد الشوشي - رحمه الله -.
وبعد تخرجه من كلية الإمام الأعظم سنة 1976، تم تعيينه مدرساً
في وزارة التربية كمدرس للتربية الإسلامية واللغة العربية، وكان أول تعيينه مدرساً
في (المعهد الإسلامي) بدهوك، وباشـر بوظيفته في: 23-9-1976([8]).
وبالإضافة إلى وظيفة التدريس، كان الملا مصطفى يباشر
مهنة الخطابة في مساجد دهوك، كلما سنحت له الفرصة، وأول خطبة خطبها سنة 1977 في
(جامع المفتي) في دهوك، وخطب خمسة خطب متتالية، ثم خطب في (جامع آزادي) (= البكر
سابقاً) لمدة شهرين، ثم جعله الأوقاف خطيب احتياط، وكل ذلك حسبة لله تعالى([9]).
وفي سنة 1978 حج بيت الله الحرام، وكان مرشداً لقافلته،
بالوعظ والإرشاد والنصيحة.
ثم خطب في (جامع الحاج المصطفى)، على الشارع العام في
دهوك، لمدّة عشـر سنوات إلى سنة 1987، حيث منع من إلقاء الخطب من قبل أمانة
الأوقاف في أربيل، بسبب كثرة تواجد الشباب حوله في أيام الجمعة، وازدحام الناس على
المسجد.
علاوة على نشاطه المذكور كان يحاضر في الثانوية
المسائية، ويواصل الليل بالنهار من أجل أن يعيش أولاده بكل رفاهية وهناء، وفعلاً أنعم
الله عليه، وتمكن جلهم من الحصول على شهادات عليا.
زاره في تلك الفترة الأستاذ غانم حمودات، والأستاذ إدريس
الكلاك، والملا عيسـى الخركي، وسأله الأستاذ غانم عن سبب منعه من إلقاء الخطب،
فقال الملا مصطفى: إن رجال الأمن البعثيين اتهموني بتهمتين، الأولى: أني لا أدعو
لصدام فوق المنبر، والثاني: كثرة تواجد الشباب ومزاحمتهم على الجامع.
فقال الأستاذ غانم: إن إلقائك للخطب ضروري في هذا الوقت،
ثم ابتسم وقال: ممكن تقول: اللهم وفقه لما فيه صلاح العباد والبلاد، دون ذكر اسمه،
حتى تعود إلى الخطابة وتنفع الناس، فالمسلمون بحاجة ماسة اليوم إلى خطيب مثلك.
فقال الملا مصطفى: أنا أقسمت أن لا أدعو له بأي شكل من
الأشكال، وأنا كوردي إذا قال لا لا، فضحك الأستاذ غانم وقال: فيها الخير إن شاء
الله([10]).
الملا مصطفى الخطيب البارع
يعد الملا مصطفى الخطيب الناجح والمؤثر في كوردستان
العراق، فهو فارس المنابر، ومرشد الحائر، بخطبِه المدبَّجة تستنيرُ البصائر، وتنشـر
الهدايات والبشائر، فيبتعِدُ الناس عن الصغائر والكبائر.
الملا مصطفى؛ بخطبه ومواعظه، ودعوته وإرشاده، هو نوعٌ
فريد من الدعاة، والعلماء الثقات، فقد ساهم بحظٍّ وافر في بناء المجتمع الصالح في كوردستان،
وتغيير القناعات والعادات الغريبة، وتعديل السلوكيات والأخلاق السيئة، وصناعة
القدوات والدعاة والخطباء والوعاظ.
ولقد كان للملا مصطفى هذا النجاح الكبير في أداء
الخطابة، والإقبال المكثف لحضور الخطب والمواعظ.. بسبب ما كان له من ثقافة واسعة،
واطِّلاعٌ واسع مُدهِش، ما أهّله أن يُقنِع الطبيب والمهندس والعالم، وغيرهم من
فئات المجتمع المختلفة، الذين يحضـُرونَ خُطَبه كل جمعة.
وأنا أشهد أن الملا مصطفى كان يحترم جمهورَه، ويتواصل
معهم، ويستفيد مِن ملاحظاتهم واقتراحاتهم، فكان له من العيون ممَّن يحضـرون عنده،
فيُفِيدونه بما هو كائنٌ، وبما ينبغي أن يكون؛ من خلال آرائهم التي يستفيد منها في
بناءِ ذاته، وتطوير قدراته.. وكم من مرة حضـرت عنده أستمع إلى خطبته،
وبعد السلام عليه، يقول بكل تواضع: إذا عندك ملاحظة على الخطبة ذكرني بها.
وكان من أخلاقه العالية أنه لا يدَّعِي الكمال في خطبه،
فهو بشـرٌ، والبشـر يُخطئون، لكنه يجتهد قدر استطاعته، فهو مَرِنٌ بالدرجة التي
تجعله يتكيَّف مع وضعيتِه ومنطقته واحتياجاتهم واهتماماتهم.
أحبَّه
شباب كوردستان، لأنه المؤثر الذي يتخذ الإخلاص مطية، تصل به إلى دربه ومبتغاه،
ويحزم متاعه برباط الخوف من قيوم السماوات والأرض، وهو المؤثر الذي يمتلك من
الألفاظ أعذبها وأشوقها وأقربها إلى القلوب والشعور، يأسرك بكلماته التي هي واحة
المتعبين، وأنس السامرين، ودليل الحائرين، يربطهم بالمسجد ربط الطائر بعشه
وأفراخه.
كما
أن ثقافته، وذكاؤه، جعله يتفنن في تركيب الجمل والكلمات المناسبة والمشفرة لإيصال
فكرته، دون أن يعطي لزمة لجلاوزة النظام السابق، الذين كانوا يتربصون به للإيقاع
به([11]).
وكان
الناس، والشباب خاصة، يرون الملا مصطفى واقعياً بكلامه في خطبه ومواعظه، ويمتاز
بالقدرة على تحليل المواقف، وتركيب الفكرة وتنسيقها، والإيقاع بها في رشد زمانها
وطيب مكانها، إذا حدَّث الناس عن الجنة، كأنما بجناحيه فيها يطير، وحول أنهارها
يسير، وبين يدي حُورها يميل، وإذا حدَّثهم عن النار، كأنه في بركانها يصطلي، كلامه
عنها يفتت الأكباد، ويذهل الألباب، ويقطع الآمال([12]).
كان الملا مصطفى في خطبه ومواعظه، يجمَعُ بين التأصيل
الشـرعيِّ، والتنزيل الواقعي، والتسهيل اللُّغَوي، فتراه يُوظِّف الآيات والأحاديث
والآثار، وينتفع بالشِّعر والقصص والأخبار، في معالجة المشكلات الواقعيَّة، بلغة
واضحة نقيَّة، تارة باللغة العربية الفصحى، وتارة باللغة الكوردية البهدينية
الفصيحة.
كان
مثالاً للمسلم الملتزم الأبي، الذي لم تهزه العواصف والتغيرات التي مرّ بها
المجتمع الكوردي بعد انتفاضة آذار، ولم يستسلم للاستمالات المغرية والمناصب والرتب
العالية، وقد رفض مراراً الانخراط في البرلمان، رغم المحفزات المغرية التي كانت
تقدم لأعضائه، كل ذلك من أجل أن تظل سمعته طيبة، كما يريده دينه([13]).
لقد
كان الملا مصطفى شجاعًا في قول الحق، ولا يخشـى في الله لومة لائم، مع التحلي
بالحكمة وحسن التقدير للموقف، بعيدًا عن التهور والاندفاع غير المحسوب، وكثيراً ما
كان يستشهد بآثار الصالحين وحكمهم، لقد
كان يتمثل بالإمام الشافعي - رضي الله عنه - وهو يقول
:
أنا
إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا!
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا! ([14])
وقد
نجح الملا مصطفى نجاحاً باهراً في خطبه ومواعظه، وأصبح له القبول في بهدينان
كوردستان العراق، وسبب ذلك أن الناس ينظرون إلى سلوك الخطيب، ويدققون النظر فيه،
فإذا رأوا تتطابق أفعاله مع أقواله أحبوه واستمعوا إليه وأخذوا بكلامه، فالتزام
الخطيب بأحكام الإسلام بوجه عام، وتطبيق ما يدعو إليه في خطبه، يجعل لكلامه قبولاً
عند المستمعين. أما مخالفة القول للعمل، لدى قسم من الخطباء، فيجعل أكثر المستمعين
لهم لا يثقون بهم ولا بتوجيهاتهم، وذلك لقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾([15]).
وقد كانت للملا مصطفى الريكاني – رحمه الله - همة عالية، وإرادة ماضية، ونفس راضية، وفعالية رائعة، فهو في محافظة دهوك؛ بخطبه ومواعظه، ينبوع متدفق من الخير والعطاء؛ لأنه يحب ويعطي عن أريحية ورضا، سيّما وأن الشفقة على الخلق إحدى سماته وصفاته، يرى المنكر فلا يسكت عليه، بل يصوغه في قالب خطابي تربوي مؤثر، يوقظ الوسنان، ويروي الظمآن، ويؤنس الرجفان، ويقود العميان إلى دروب الحق وميادين المعرفة والبيان.
لذلك،
بسبب هذه الخطب الحماسية، تغيرت نبرة كثير من خطباء دهوك، وأحسنوا خطبهم، فكان
الملا مصطفى فارس المنابر، وشيخ الخطباء، وقد أحدث تغييراً وانقلاباً فكرياً في
أسلوب الخطابة؛ من الروتين القديم إلى ما يتشوقه الناس، فكان الملا مصطفى يشعر
بأنه صاحب رسالة يؤديها، ويقصد من خلالها وجه الله تعالى، حتى ولو كانت تلك وظيفته
التي يقتات منها، وذلك لأن صاحب الرسالة يستفرغ كل طاقته في محاولة توصيلها للناس
دون كلل ولا ملل.
وفهم
الناس، والخطباء خاصة، أن الخطابة فن، ولذا ينبغي لمن يتصدى لها، أن يكون ذا
موهبة، يثقلها بالعلوم والمعارف المختلفة، ذات الصلة الوثيقة بعلم الخطابة، فسعة
الاطلاع خير معين للخطيب في أداء خطبته بقوة وتأثير.
وبعد انتفاضة 1991، هاجر مع أهالي دهوك مهاجراً إلى
تركيا، وذلك بصحبة أخواله، وعانى ما عانى هناك من المشقة والعناء والشدة، كون
أولاده لم يبلغوا الحلم بعد، ولكنه تجاوزها بكل صبر واحتمال وثبات، وبعد شهرين رجع
إلى ناحية (كاني ماصي)، ثم عاد إلى مسكنه في مدينة دهوك، بعد أن تحررت كوردستان من
النظام السابق.
وفي سنة 1992 كلف، من قبل مديرية الأوقاف في دهوك،
للقيام بواجب الخطابة والإمامة في مسجد (جامع الإمام حمزة)، في حي العسكري في
دهوك، وظل إماماً وخطيباً في هذا الجامع حتى يوم 22-6-2012 بسبب ترميم الجامع، لكن
اسمه ارتبط بالجامع، رغم اسمه المعلن لدى الأوقاف، وظل الجامع يعرف بــ(جامع ملا
مصطفى)، وما زال هذا الأثر باقياً ليومنا هذا، رغم تغيير اسمه ثانية إلى (جامع
شهيدان)([16]).
وكان للملا مصطفى نشاطات في الجامع، بالإضافة إلى
الخطابة والإمامة:
أ. حلقات الدروس في مختلف العلوم الشرعية واللغوية.
ب. إلقاء محاضرة للنساء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وذلك
من 1992 وحتى إلغائها في سنة 2001م.
جـ. الاستمرار في إلقاء الوعظ العام في كل أسبوع([17]).
ثم واصل الخطابة في جامع (سيد محمد ورميلي)، في (حي مالطة)
في دهوك، وواصل الخطبة فيه إلى أن مرض مرضه الأخير.
كان
الشيخ مصطفى - رحمه الله - يُحسِّن الحَسَن، ويُقبّح القبيح، ويرى معروفًا مطبوعًا
أو مصنوعًا فلا ينسى أن يذكِّر به، وأن يشـي بصاحبه، دعوة للخير وزيادة في البر،
ولا تؤثر فيه الأحداث، بل هو الذي يؤثر فيها، ويحولها إلى إشراقة من الفأل الحسن،
والثقة المبتغاة، فلا يزيده القهر إلا إرادة صلبة قوية، لا تتفتت أو تلين، ولا
يزيده الظلم إلا عفوًا وعزّا، ولا تزيده المكاره إلا مضاءً وعزماً.
فتراه
يستلهم الحَدَث ليربي به تلك الجموع الغفيرة التي قدمت إليه، وانساقت له، ورغبت
فيه، فلا يمكن أن يمر حدث عليه دون حسّ تربوي مؤثر، أو موعظة بليغة، أو ربط جيد
بالآخرة، أو استنفار وبعث بالأمل بامتداد أنفاس الحياة، والتهوين من أمر الدنيا.
الجانب
الاجتماعي والإنساني
كان ملا مصطفى يحب الزيارات ومخالطة الناس والتعارف،
وكان يرى أن المسلم لا يمكن أن يعيش وحده منعزلاً عن المجتمع، مفرداً لا يختلط
بغيره؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، ويتعين على المسلم أن يكون إيجابياً في هذه
الحياة، وعنصـراً مؤثراً، لما ورد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قوله في
الحديث الشـريف: (الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ
عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى
أَذَاهُمْ)([18])، فالمسلم الذي يبحث عن
السعادة، عندما يختلط بالناس، ويصبر على أذاهم، ويقدم الخير لهم، هو خير من الذي لا يكون كذلك.
إن الملا مصطفى وثيق
الصلة بجمهوره، ومستمعيه، فهو يُحدِثَ تقاربًا بينه وبينهم، فيعود مرضاهم، ويسأل
عن غائبهم، ويشارك في وضع الحلول لمشكلاتهم، لأن الخطيب كلما اقترب من المدعوين،
ووقف بجانبهم في أزماتهم، كان ذلك أدعى إلى التفافهم حوله.
والملا مصطفى اجتماعي الطبع، فكان يزور أصدقائه
باستمرار، وعلى الدوام، مثل الملا زاهد الدهوكي، والملا عيسى، وملا إسلام
الريكاني، والشيخ عبد الحميد... و..و..و.. ولهم برنامج زيارات، حيث يقومون كل
أسبوع بزيارة لإحدى شخصيات دهوك أو وجهائها.
وكلما
سنحت له الفرصة يؤكد لهم أن الخطابة هي فن مشافهة الجماهير، والتأثير عليهم، وخطبة
الجمعة كانت - ولا تزال - لها أثر كبير، إذا أُدِّيت على الوجه الصحيح. ويبين لهم
أن الخطيب لا بد أن يكون على قناعة تامة بما يدعو إليه، حتى يكون قادرًا على
الإقناع والتأثير، فالإيمان بقضية ما يجعل صاحبها يدافع عنها بكل ما يملك([19]).
وكان
– رحمه الله – يغشـى مجلسه الكرماء، والصلحاء والبسطاء، فيعمر الحديث بالفكر
والذِّكر، فتحل بركة السماء في الزمان والمكان، وله في القلوب مكانة، ولدى النفوس
منزلة؛ لأنه عنصر من عناصر الخير والنماء، وهو من يدرك آلام أمته وآمالها، فيخفف
الآلام، ويمسح الجراح، ويهون الداء، وينفث في الآمال، لينتشـي ويرتقي بها نحو آفاق
رحبة عالية، ويدرك عظمة الأمانة، وقدر المسؤولية، وتبعة العطاء.
لذلك،
من يحضـر خطبه يرى أنه يختار موضوع الخطبة من واقع الحياة التي يحياها الناس،
ومناقشة المشكلات الاجتماعية المتعددة، ومحاولة طرح الحلول لها، لأن الموضوعات
السلبية التي لا تعالج أمراض المجتمع وعلله المختلفة، تكون الاستفادة منها قليلة.
وأحيل على التقاعد سنة 2016 كمدرس على ملاك مديرية تربية
دهوك، لكنه ظل مواظباً على إلقاء خطبه، حسبة لله تعالى([20]).
كان الملا مصطفى - رحمه الله تعالى - يرى أن العبادة لا
تقتصر على العبادات التي يقوم بها الإنسان، ولحظات المناسك القصيرة للصلاة والصيام
والزكاة والحج، بل إن العبادة تشمل كل نشاط الحياة، بما في ذلك التعليم والتدريس
والدعوة والخطابة والإرشاد.. لذلك خدم أكثر من أربعين سنة في التربية والدعوة والإرشاد
والتعليم والتدريس.. وبقي إلى آخر حياته يخطب خطبة الجمعة.
وعامَّة مواضيع الشيخ مصطفى التي يتناوَلُها في خُطَبه،
تُعالج ما يهمُّ قضايا الأمَّة في ذلك الوقت، وتلتَمِس لها الدَّواء الشافي،
وتُرشد إلى الطريق المستقيم، فهي ليست مواضيعَ من نَسْج الخيال، أو بعيدةً عن واقع
الأُمَّة والمنال؛ ولهذا فهي تُحرِّك الهِمَم، وتوقظ العزائم، بما يَسُوقه الشَّيخ
من وقائِعَ وأحداث، وبما يُناسب مقتضـى الحال، ويُلائم الظَّرْف، وهو لذلك يتفرَّس
في وجوه الحاضرين، فإنْ رأى فُتورًا في الإصغاء، وضعفًا في الانتباهِ والإقبال،
لجَأ إلى المُثيرات – وكل ذلك طبعاً باللغة الكوردية، واللهجة الدهوكية الجميلة -،
ومنها:
القصص الواردة في القرآن والسُّنة، والآثار الواردة عن
الزهاد والصالحين، وهو كثيرٌ في خُطَب الشيخ، حيث يقوم بتصوير المعاني بأشياء
محسوسةٍ، لتقريب المعنى إلى الأذهان، ومنها خبَرٌ فيه فائدة، أو حدَث مهم، ثم
يربطه بمعاني القرآن والسُّنن الكونيَّة، ومنها اختيارُ حادثة تكون محورَ الخُطبة،
ثم يخرج بعد ذلك بحلٍّ لما وقع للمسلمين من بلاءٍ وضيق، كلُّ ذلك مع التفاعل
الصَّادق، والرغبة المُفعَمة بالحبِّ والشفَقة.
الشيخ
مصطفى إشراقة أمل، وفأل حسن، وهو روضة ندية نضيرة، تغشاها رياحينها، وتزقزق حولها
عصافيرها، ويشم عبيرها القاصي والداني من أبناء كوردستان. وهو المؤثر الذي يسأل
نفسه عندما يقوم بإعداد مادته: ما الذي أريده من عرض هذا الموضوع دون غيره،
والغاية من سرد هذه القضية، وما هي الوسيلة المثلى لبسطها وعرضها؟.
وبمعنى
آخر يسأل نفسه: هل أريد معالجة فكرة جديدة؟ أم تثبيت مبدأ أصيل؟ أم محاربة عادة
مقيتة دميمة، أو صفة مرذولة؟
فهو
يرى نفسه لا يقل أهمية عن المقاتل في صدر الجيش، يذود عن أمته بروحه؛ لأنه يحمي
عقائدها من الدخن والدخل.
وكانت له مُؤهِّلات لُغَوية وشرعية، وعقلية ونفسية
واجتماعية، جعلت له المهابة، وأكسبته الاحترام والتقدير من قبل جمهوره، في محافظة
دهوك خاصة.
كان للخطيب البارع الملا مصطفى صفاتٌ ومواصفات؛ منها
الأخلاقية؛ كالصدق والأمانة، والحياء والعفو، والبشاشة وطلاقة الوجه، ومنها المِهْنيَّة؛
كالالتزام والجدية، والاتزان الانفعالي والحكمة والموضوعية.
لذلك كان - رحمه الله تعالى - إنسانٌ له هيبةٌ خاصة،
فكلما ارتقى المنبر اشرأبَّتِ الأعناق، وارتعَدَتِ الفرائص، وخرستِ الألسن،
وانفتحت مغاليق القلوب لتستقبل أنوار الهداية الربَّانية، وتترُك خطبتُه أثرًا في
نفوس المصلِّين، طال أو قصـر، وذلك بسبب إخلاصه ونيته، وجمال عرضه وبلاغته، وبجهده
وحماسته!
توفي في يوم الأربعاء: 6 شعبان 1443هـ، الموافق 9 آذار
2022م، بعد مرض قصير برأ منه واستجمع قواه، لكن الله قدر له أن يكون الكورونا
سبباً في منيته.
دفن المرحوم في (مقبرة شاخكي)، في دهوك، بجوار أستاذه
(ملا محمد العقري)، في أكبر موكب تشييع، رغم هطول المطر بغزارة وشدة البرد([21]). رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، اللهم
وتقبله في عبادك المخلصين، وأجزه خير ما تجزي به الأئمة
الصادقين، واحشـره مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
وحسن أولئك رفيقاً، وأجرنا في مصيبتنا فيه، واخلفنا فيه خيراً، ولا حول ولا قوة
إلاّ بالله.
جزاك الله خيرا فعلا شيخ لا يعوض ولكن هذه هي مسيرة الحياة ولا نقول إلا ما يرضي ربنا انا لله وانا اليه راجعون
ردحذفتغمده االه بواسع الرحمات واسكنه فسيح جناته
ردحذففعلا سيره ومسيره رحمه الله وبارك الله فيكم
ردحذفجزاه الله عنا خير جزاء
ردحذفالله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا
ردحذف