08‏/01‏/2023

الطاعات وأثرها في الصلح والإصلاح (2)

د. دحام إبراهيم الهسنياني

كوردستان العراق - دهوك

ثالثاً: الصيام وتأثيره في الإصلاح

لعبادة الصوم آثار في تهذيب الأخلاق وحمل النفس على المكارم، وله عمله الأساس في تربية الإرادة الإنسانية، والضمير الحي اليقظ، الذي يتعامل على أساس من رقابة الله تعالى له واطلاعه عليه.

يقول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}([1]).

يقول ابن كثير: "يقول سبحانه مخاطباً المؤمنين من هذه الأمة، وآمراً لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشـراب والوقاع، بنيّة خالصة لله تعالى، لما فيه من زكاة النفوس، وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة"([2]).

وقد علل فرضيته ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهي أن يعد الصائم نفسه لتقوى الله، بترك الشهوات المباحة امتثالاً لأمره سبحانه، واحتسابًا للأجر عنده، ليكون المؤمن من المتقين لله، الممتثلين لأوامره، المجتنبين لنواهيه ومحارمه([3]).

والتقوى هنا جماع مكارم الأخلاق، وفعل الخيرات، وترك المنكرات، ومن ثم تكون سبباً في إضعاف الشـر، وتحجيم أمر النزاع والخصومات.

ففي الصوم تقوية للإرادة، وتربية على الصبر، فالصائم يجوع وأمامه شهيّ الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعف وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك إلاّ ربه، ولا سلطان إلاّ ضميره، ولا يسنده إلاّ إرادته القوية الواعية، يتكرر ذلك نحو خمس عشـرة ساعة أو أكثر في كل يوم، وتسعة وعشـرين يوماً أو ثلاثين في كل عام، فأي مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية، وتعليم الصبر الجميل، كمدرسة الصيام التي يفتحها الإسلام إجبارياً للمسلمين في رمضان، وتطوعاً في غير رمضان؟!

لقد كتب عالم نفساني ألماني بحثاً عن تقوية الإرادة، أثبت فيه أن أعظم وسيلة لذلك هي الصوم. أما الإسلام فقد سبق علماء النفس، كما سبق من قبل أطباء الجسم، وحسبك أن تسمع نداء الرسول (صلى الله عليه وسلم) للشباب: (يا معشـر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فانه أغض للبصـر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)([4]).

ولأن رمضان يعلّم الصبر، نسبه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليه، فقال: (صومُ شهْرِ الصبر، وثلاثةِ أيامٍ من كل شهر، يُذهبن وَحَرَ الصدر)([5])، وروي عنه في حديث آخر: (لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم، والصوم نصف الصبر)([6]).

وقال صاحب (تفسير المنار) في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: "هذا تعليل لكتابة الصيام، ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله، بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة، امتثالاً لأمره، واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة، والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسـر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات، والمصالح، والاصطبار عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال(صلى الله عليه وسلم): (الصيام نصف الصبر)..)([7]).

وقال سيد قطب في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: "وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب، من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس بالبال. والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أداتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم، هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام"([8]).

والصوم ضبط للنفس، وتعوّد على جميل الأخلاق، فعن أَبي هريرة أَنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) َقالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ، وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أو شَاتَمَهُ فَلْيَقُل: إني صائم، إني صائم. وَالَّذِي نفسـي بيده لخلوف فم الصّائم أَطيب عند اللهِ من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أَجلِي، الصيَام لي، وَأَنا أَجزي بِهِ، والحسنة بعَشـر أَمثَالهَا)([9]).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب ولا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني امرؤٌ صائم)([10]).

وفي هذا الشاهد النبوي ذكرت لنا السنّة مزيتين من مزايا الصيام، يؤدي كل منهما إلى سدّ باب النزاع:

الأولى: تهذيب الأقوال أثناء الصيام، وفي ذلك يقول الإمام النووي: واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصاً به، بل كل أحد مثله في أصل النهي عن ذلك، لكن الصائم آكد"([11]).

فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه (فلا يَرفث) أَي الصّائم، والمراد بالرفث هنا الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء أو مطلقاً، ويحتمل أَن يكون لما هو أَعم منها. (وَلا يجهَل) أَي لا يفعَل شيئاً من أَفعال أَهل الجهل؛ كالصيَاح، والسفه، ونحو ذلك. ولسعيد بن منصور، من طريق سهَيل بن أَبي صالح، عن أَبيه: (فلا يَرفث، وَلا يُجَادِل)، قال القرطبي: "لا يفهَم من هذا أَن غير الصوم يباح فيه ما ذكرَ، وإنما المراد أَن المنع من ذلك يتأكد بالصوم".

يقول الإمام النووي: الحديث فيه نهي الصَّائم عن الرفث، وهو السّخف، وفاحش الكلام. والجهل قريب من الرفث، وهوَ خلاف الحكمة، وخلاف الصَّوَاب، من القول وَالفعل. وقوله (صلى الله عليه وسلم): (فَإِنْ اِمْرُؤٌ شَاتَمَهُ أو قَاتَلَهُ)، معناه: شتمه متعرّضاً لمشاتمته، وَمعنى قاتله: نازعه، ودافعه.

وَقَوْله (صلى الله عليه وسلم): (فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. إِنِّي صَائِمٌ) هَكَذَا هُوَ مَرَّتَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: يَقُولهُ بِلِسَانِهِ جَهْرًا يَسْمَعهُ الشَّاتِم وَالْمُقَاتِل فَيَنْزَجِر غَالِبًا. وَقِيلَ: لا يَقُولهُ بِلِسَانِهِ، بَلْ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، لِيَمْنَعَهَا مِنْ مُشَاتَمَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ وَمُقَابَلَتِهِ، وَيَحْرِصُ صَوْمَهُ عَنْ الْمُكَدِّرَات، وَلَوْ جَمَعَ بَيْن الأَمْرَيْنِ كَانَ حَسَنًا.

وَاعلم أَن نهيَ الصّائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليسَ مختصاً به، بل كل أَحد مثله في أَصل النهي عن ذلك، لكن الصائم آكد. والله أعلم([12]).

فالجوع يقتل نوازع الشـر في الإنسان، فيكون الصوم سبباً في تهذيب أقواله وأفعاله، ومن ثم يكون الصيام سبباً من أسباب سد باب النزاعات والخصومات بين الناس.

الثاني: أن الصائم يسهل عليه أن يقول لمن نازعه أو خاصمه: إني صائم، إني صائم.. وَفائدة قوله: (إِنِّي صَائِم) أَنَّهُ يُمْكِن أَنْ يَكُفّ عَنْهُ بِذَلِكَ، فإن أَصرّ دفعه بالأخف فالأخف، كالصائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله: (قاتله) شاتمه، فالمراد من الحَديث أَنه لا يعامله بمثل عَمَله، بَل يقتصـر على قوله إني صائم إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ، يَقُولُهُ مَرَّةً بِقَلْبِهِ، ويقصد بها كَفَّ لِسَانِهِ عَنْ خَصْمِهِ، ومرة بِلِسَانِهِ، ليكَفَّ خَصْمِهِ عَنْهُ"([13]).

وفي رواية أخرى عَن أَبي هريرة قالَ أَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) َقالَ: (إِذا أصبَحَ أَحَدكم يوماً صَائماً، فلا يرفث وَلا يجهل، فإِن امرؤ شاتمَه أو قاتله فليَقل إِني صَائم إِني صائم)([14]).

عَن أَبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)([15]).

وفي رواية: (مَنْ لَمْ يَدَعْ الْخَنَا وَالْكَذِب)([16]).

فهذه النصوص توضح لنا مدى اهتمام الإسلام بتهذيب النفس المؤمنة، وتخليصها من أدرانها، خلال قيامها بالشعائر التعبدية، ومن ثم توجيه السلوك ضمن هذه القيم.

والمراد بقول الزور: الكذب، والجهل: السّفه، والعمل بِهِ: أَي بمقتضاه.

        (فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) قَالَ اِبْن بَطَّال: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْمَرَ بِأَنْ يَدَعَ صِيَامَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّحْذِير مِنْ قَوْلِ الزُّورِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ. وأَما قوله: (فَلَيْسَ للهِ حَاجَة) فلا مفهومَ له، فإنَ اللهَ لا يحتاج إلى شيء وإِنمَا معناه فليسَ للهِ إِرَادَةٌ فِي صِيَامِهِ، فَوَضَعَ الْحَاجَةَ مَوْضِعَ الإِرَادَةِ.

وقال ابن العرَبي: مقتضـى هذا الحديث أَنَّ من فعَلَ ما ذُكرَ لا يثاب على صيامه، ومعناه أَنَّ ثواب الصيَام لا يقوم في الموَازنة بإثم الزور، وما ذكرَ معه. وقال البيضاوي: "ليس المقصود من شـرعيَة الصّوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسـر الشّهوَات وتطويعِ النَّفس الأَمَّارة لِلنّفس المطمئنة، فإِذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إِليه نظر القبول. فقوله: (ليس للهِ حاجة) مجاز عن عدم القبول، فنفى السبب، وأَراد المسبب، والله أَعلم"([17]).

هذا يعني أنني لكوني صائماً، لا يليق بي أن يطيش صوابي، ويهرف لساني، ويعلو صوتي، ويقبع كلامي، بل إن الصيام يحبس النفس البشـرية عن الاسترسال مع الجهالة، أو الانطلاق مع شهوات الفرج والبطن. وهذا من أعظم وسائل تهذيب النفس، وتحسين الأخلاق، فالصوم وقاية من المفاسد، وحفظ من اللفظ، والرفث، والخبائث.

والصوم، كما نعلم، موسم روحي، يتشبه الإنسان فيه بعالم الملائكة، ويتجرد لعبادة ربه، فيحظى بإقباله وغفرانه، وينعم بثوابه ورضوانه، ومقتضـى ذلك أن يكون الصائم خيّراً في كل شيء، ويفيض خيره في كل جانب، وتكون كل حركاته وسكناته مطابقة لمنهج الله تعالى فيما أمر وفيما نهى.

وإذا كان من منهج الإسلام وتوجيهاته في الصوم أن يدع الصائم طعامه وشـرابه لله، ويتلقى في الصوم دروساً عملية في الصبر وتحمل المشاق وقوة الإرادة، بينما يدع أجهزته وغدده الهضمية تستريح من عنائها الطويل، وإذا كانت حكمة الصوم هي التهذيب والتأديب والتربية، فإنه لا صوم لمن يدع الطعام والشـراب ولا يدع الزور والفحش والسباب، ولا صوم لمن لا يهتم بأمر المسلمين، ولا يحس بإحساس ضعفائهم وفقرائهم، فالصوم شعور موحد قوي لجميع المسلمين بوحدة الأمة التي تجمع بينهم هذه الفريضة شهراً كل عام.

إن الصوم إمساك عن الشهوات، وتغلب عليها. ومن أخطر هذه الشهوات حب المال، ولما كان المال حجر الزاوية في إقامة التضامن بين المسلمين، كان الصوم فرصة ذهبية للانتصار على شهوة حب المال، والتغلب على غريزة البخل والشح، وبذلك يبذل هذا المال في مصالح المسلمين.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الطاعة في رمضان أفضل منها في غيره، وأكثر أجراً عند الله تعالى، وعلمنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أجود من الريح المرسلة في رمضان، علمنا أن الإنفاق والبذل والعطاء، وهي قوام التضامن، أثر من آثار الصوم، ونتيجة من نتائج أدائه الأداء الصحيح.

يقول ابن القيم: "المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسـر الجوعُ والظمأ من حدتها وسورتها، ويُذكّرها بما للأكباد الجائعة من المساكين. وتضيق مجاري الشيطان من العبد، بتضييق مجاري الطعام والشـراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضـرها في معاشها ومعادها، ويُسكّن كل عضو منها، وكل قوةٍ، عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين"([18]).

وإذا أمعنّا النظر في فريضة الصوم، وفي نظام أدائها، وفي وقتها، لتجلى لنا - بوضوح - مظاهر النظام في هذه الفريضة، "فالله سبحانه لم يفترض الصيام على المسلمين جميعاً إلا في شهر واحد بعينه، ليصوموه جميعا لا متفرقين، وفي ذلك - أيضاً - كثير من المنافع، فإذا جاء شهر رمضان أظل المجتمع الإسلامي كله جو من الطهارة والنظافة والإيمان وخشية الله وطاعة أحكامه ودماثة الأخلاق وحسن الأعمال، وكسدَ سوقُ المنكرات، وعمّ انتشار الخيرات والحسنات، وبدأ الصالحون من عباد الله يتعاونون فيما بينهم على أعمال البر والإحسان، وبدأ يعتري الأشـرار الخجل من اقتراف المنكرات، ونشأت في الأغنياء عاطفة المساعدة لإخوانهم الفقراء والمساكين، وبدأوا ينفقون أموالهم في سبيل الله، وأصبح المسلمون جميعاً في حالة متماثلة. وكل ذلك يكوّن فيهم الشعور العام بأنهم جميعاً جماعة واحدة، وتلك وسيلة ناجعة لتنشأ فيهم عاطفة التحاب والإخاء والمواساة والتعاون والوحدة([19]).

وقد استنبط بعض العلماء من النداء القرآني: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}، وغيره، أن القرآن بذلك يأخذ المؤمنين جميعاً بمسؤولية تضامنية في إقامة تلك الأحكام، والنزول على مقتضاها؛ في عبادتهم، ومعاملاتهم، وراء مسؤوليتهم الشخصية الفردية، وبتلك المسؤولية التضامنية يسأل المؤمن فيما يختص بهذه الأحكام عن نفسه، ويسأل عن أهله وذويه وسائر إخوانه المؤمنين، ولا يرفع عن المؤمن مسؤولياتها إلا إذا قام، فيما يختص بنفسه، فصام وصلى وحج وابتعد عما حرم الله، وفيما يختص بغيره، فأمر ودعا، وحذر ونهى، وقد كان هذا من مظاهر النظام التي بنى الإسلام على أساس منها شـرائعه وأحكامه. وليس من ريب في أن النداء بالإيمان أولاً، هو أساس الخير ومنبع الفضيلة، وفي ذكر التقوى آخراً: وهي روح الإيمان، وسـر الفلاح، إرشاد قوي، ودلالة واضحة على أن الصوم المطلوب ليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشـراب، وإنما هو الإمساك عن كل ما ينافي الإيمان، ولا يتفق وفضيلة التقوى والمراقبة.

وإذن، فالذي يتجه إلى غير الله سبحانه بالقصد والرجاء، لا صوم له. والذي يفكر في الخطايا، ويشتغل بتدبير الفتن والمكائد، ويحارب الله ورسوله، في جماعة المؤمنين، لا صوم له. والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض لجمع الموحدين، والعمل على تفريقهم، وإضعاف سلطانهم، لا صوم له. والذي يجامل الظالمين، ويجاهل السفهاء، ويعاون المفسدين، لا صوم له. والذي يسقط مصالح المسلمين العامة، ويستعين بمال الله على مصالحه الشخصية، ورغباته وشهواته، لا صوم له. من يمد يده، أو لسانه، أو جارحة من جوارحه، بالإيذاء لعباد الله، أو إلى انتهاك حرمات الله، لا صوم له. فالصائم ملاك في صورة إنسان؛ لا يكذب، ولا يرتاب، ولا يسـيء، ولا يدبر في اغتيال أو سوء، ولا يخادع، ولا يأكل أموال الناس بالباطل. هذا هو معنى الصوم الذي يجمع صورته؛ وهي الإمساك عن المفطرات، ومعناه؛ وهو تقوية روح الإيمان بالمراقبة. وبهذا يجمع الصائم بصومه بين تخلية نفسه، وتطهيرها من المدنسات، وتحليتها وتزكيتها بالطيبات([20]).

لعله بهذا قد تجلى لنا ما للصوم من نظام بديع في حياة المسلمين، وهذه كلها آثار واضحة على عظمة هذا الدين، وسعة رحمة الله بعباده، حتى جعلهم متحابين متناصرين، وذلك لما للصوم من آثار في إقامة التضامن وتعزيزه بين المسلمين، وتحقيق التكافل والتراحم بينهم، حتى أنه - كما بدا لنا - لا يتحقق معنى الصوم؛ شكلاً وجوهراً، إلا بإقامة هذه الأخوة، وتحقيقها ذلك التكافل بين المسلمين.

كما أن الصيام ينمي في المسلم، أو المسلمة، أعظم أخلاق الإسلام، وهو الحياء. لما روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم): (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)([21]). والصيام من العبادات الخاصة التي لا يطلع عليها إلاّ الله تعالى، فبوسع أي إنسان أن يخلو بنفسه فيفعل ما يشاء، فهو يشعر بالجوع وبين يديه شهي الطعام، ويشعر بالعطش وبين يديه أعذب الماء، ولكن المسلم يمنعه من ذلك ما يملك في ضميره من الوازع الديني، وشعوره بمراقبة الله عليه، فيستحي من الله حق الحياء، فإذا ما صار الحياء له خلقاً، فلن يأتي إلاّ بكل خير.

وذكر لي الأخ القاضي إبراهيم علي الهسنياني، في تجربته في المحاكم: أن نسبة الجرائم والنزاعات والخصومات تقل كثيراً عند حلول شهر رمضان، الذي يعد شهراً مباركاً ومقدساً عند المسلمين، وذلك لما يشعر به الصائم بروحانية الشهر الفضيل، والتفرغ للعبادة، واحترام الشهر، حتى من قبل ضعيفي النفوس.. فشهر رمضان الفضيل شهر الأخلاق العالية، وشهر الرحمة والغفران.

وبذلك يظهر أثر الصوم في القضاء على النزاعات والخصومات، ومن هنا يحسن بالذي يقوم بالإصلاح بين المتخاصمين أن يجتهد في أن يجعل الحديث فيه أثناء صيام مفروض، أو غير مفروض، بأن يطلب من المتخاصمين الدخول في الصيام، لأنه بالجوع تقل نوازع الشـر في الإنسان، ويقوى فيه دافع الخير، ولذلك يحسن في مجالس الصلح أن تكون متلبسة بعبادة الصوم.

 

رابعاً: الحج وتأثيره في الإصلاح

الحج مدرسة تربوية كبرى للنفس البشـرية، لضبط شهواتها، وكبح جنوحها، وإطلاق كوامن الخير فيها... فالحج توبة، وتجديد للنفس المسلمة، وتعويد لها على الطاعة، وتذكير بالساعة، وسبيل إلى التقوى.

ففي هذا السفر للحج تدريب على ركوب المشقات، ومفارقة الأهل والوطن، والتضحية بالراحة والدعة في الحياة الرتيبة بين الآل والصحاب، وفي ذلك تربية للمسلم على احتمال الشدائد، والصبر على المكاره، ومواجهة الحياة كما فطرها الله بأزهارها وأشواكها، بشهدها وصابها، بحرّها وقرّها. فهو يلتقي مع الصوم في إعداد المسلم للجهاد.

وحياة الحاج أشبه بحياة (الكشّاف) في بساطتها وخشونتها، حياة تنقل وارتحال، واعتماد على النفس، وبعدٍ عن الترف والتكلف والتعقيد، الذي يناسب حياة الخيام في منى وعرفات.

وقد تجلت هذه الحكمة حين جعل الله الحج دائراً مع السنة القمرية، فأشهر الحج المعلومات تبدأ بشهر شوال، وتنتهي بذي الحجة، وهي أشهر - كما نعلم - تأتي أحياناً في وقدة الصيف، وأحياناً في زمهرير الشتاء، ليكون المسلم على استعداد لتحمل كل الأجواء، والاصطبار على كل ألوان الصعوبات([22]).

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "لما كان الحج سفراً طويلاً، في غالب الأحيان، وقد قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، وانتقال من حال إلى حال، ويكثر فيه الاختلاط، وتطول الزمالة، وتتنوع المعاملات، كان ذلك مثاراً لكثير من المحظورات والمغريات والمناقشات، وكثيراً ما تثور النفس، ويضيق الصدر، وينفذ الصبر، فيلجأ الحاج إلى ما يتحاشى عنه في الوطن والإقامة، والأحوال العادية، ويتورط في بعض المعاصي والأخلاق القبيحة، وما ينافي روح الحج ومقاصده، فجاء النهي عن ذلك بصفة خاصة في الحج، لأن الحج مظنة قوية له، فقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}([23]).

يقول الحافظ ابن كثير: "والمراد من الجدال هنا قولان: القول الأول: لا مجادلة في وقت الحج في مَنَاسِكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ أَتَمَّ بَيَانٍ، وَوَضَّحَهُ أَكْمَلَ إِيضَاحٍ، فالجدال: قَطْعُ التَّنَازُعِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِدَالِ هَا هُنَا الْمُخَاصَمَةُ"([24]).

وقد أسبغت هذه التشـريعات، وهذه الأحكام التي تتصل بالقلب والجوارح، والقصد والعمل، والزمان والمكان، على الحج، لباساً من القدس والطهر، والتورع والتقشف، والمراقبة لله، والحسبة للنفس، والجهاد، لا يشاركه فيها ما يماثله، أو يدخل في موضوعه، في الديانات الأخرى، وطوائف الأمم، وكانت لها آثار عميقة في النفس والأخلاق والحياة ([25]).

وعلى هذا، فالنهي هنا: النهي عن الجدال الذي يؤدي إلى النزاعات والخصومات، وهذا من الجدال المذموم، والمحرّم شـرعاً، لما فيه من العداوة والبغضاء. أما إذا كان الجدال بالحسنى، فهو من الجدال الجائز، لقوله تعالى: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}([26]).

من هنا قال تعالى في هذه الآية: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}([27]).

يقول الإمام الزمخشري: "في هذه الآية حث على الخير، عقيب النهي عن الشـر، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ والتقوى، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة. أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم، حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه. وينصـره قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، أي: اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح، فإنّ خير الزاد اتقاؤها"([28]).

يقول الإمام القرطبي: "في هذه الآية تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجدال"([29]).

إن الحج شحنة روحية كبيرة، يتزود بها المسلم، فتملأ جوانحه خشية وتقى لله، وعزماً على طاعته، وندماً على معصيته، وتغذّي فيه عاطفة الحب لله، ولرسول الله، ولمن عزروه ونصـروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وتوقظ فيه مشاعر الأخوة لأبناء دينه في كل مكان، وتوقد في صدره شعلة الحماسة لدينه، والغيرة على حرماته.

إن الأرض المقدسة، وما لها من ذكريات، وشعائر الحج، وما لها من أثر في النفس، وقوة الجماعة، وما لها من إيحاء في الفكر والسلوك.. كل هذا يترك أثره واضحاً في أعماق المسلم، فيعود من رحلته أصفى قلباً، وأطهر مسلكاً، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عوداً أمام مغريات الشـر. وكلما كان حجّه مبروراً خالصاً لله، كان أثره في حياته المستقبلة يقيناً لا ريب فيه، فإن هذه الشحنة الروحية العاطفية، تهز كيانه المعنوي هزاً، بل تنشئه خلقاً آخر، وتعيده كأنما هو مولود جديد يستقبل الحياة وكله طهر ونقاء.

وعلى ذلك، فالمراد بالجدال المذموم هنا، ما كان باعثاً على إثارة روح العداوة والبغضاء بين الناس، سواء وقع ذلك في مناسك الحج، أم وقع بين الناس.. والنهي عن الجدال بالباطل معلوم في كل الأحوال، وإنما كان في الحج آكد، وذلك لما فيه من النفرة، وإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، الأمر الذي لا يتناسب مع أداء فريضة الحج. ومن هنا قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)([30]).

وفي أحكام الحج ما يساعد على إحكام هذه السيطرة على كل الجوارح والمشاعر القوية في النفس البشـرية، بما فرضه الله تعالى، أو نبيّه (صلى الله عليه وسلم)، من عقوبات مالية على من تجاوز شيئاً من محظورات الإحرام، أو واجبات الحج.

هذه العقوبات تضبط - بقوة - كثيراً من الذين قد لا يقدرون على جوارحهم وتصـرفاتهم إلاّ بإدراك عاقبة أفعالهم، وأنهم سيدفعون على كل تصـرف خارج عن دائرة المناسك والمشاعر ما يرهق كاهلهم. ولا يعقل أن يتعمد أحد فعل شيء من ذلك مع تذرعه بقدرته على ذبح الفداء، بل إن المسلم يمتثل لذلك قربة إلى الله تعالى، وحبّاً في شعائر الله، ورغبة في محو زلاته وغفران ذنوبه. لكن لا شك أن النفس البشـرية تحتاج إلى العقوبات الوقائية والرادعة، إذا خالفت ما أمرت به.

والحق أن هذا الانضباط الكامل في نظرات العين، وكلمات اللسان، وحركات اليد، وخطرات القلب، ورغبات الفرج، يفضـي إلى تزكية الأخلاق، لأن هذه منافذ مكارم الأخلاق وسفاسفها، فإن تدرّب بين الحين والآخر على ضبطها، انطلقت كوامن الخير فيه، وتفجّرت ينابيع البر في كل تصـرفاته، وإلاّ فكم من ذوي رغبات سامية انحدر بهم انفلات زمام التحكم في جوارحهم وشهواتهم.

إن الحج؛ بمناسكه وأركانه وأعماله كلها، تمرين وتمثيل للإطاعة المطلقة، وامتثال للأمر المجرد، وسعي وراء الأمر، وتلبية وإجابة للطلب. ومقتضـى هذا أن الحاج يتجرّد لله تعالى من كل ما سواه، ويخلص له الروح والجسد والعمل من كل ما عداه، فلا يجده ربه إلا حيث أمره. ومن هنا نتوقع أن يعود الحاج بعد أداء الحج كيوم ولدته أمّه، يبدأ الحياة الإسلامية الصافية، ويطبق مبادئ الشـريعة الفاضلة، ويكون عضوا صالحاً في الأمة التي جعلها الله خير أمّة أخرجت للناس، أخاً للمسلمين؛ رحيماً بهم، متضامناً معهم، مهتماً بشؤونهم، يواسي محرومهم، ويعاون عاجزهم، يقوي ضعيفهم، ويشد أزر قويّهم.

يقول الإمام المودودي: "من منافع الحج أن مكة المكرمة قد جعلت مركزاً للمسلمين، تهوى إليها نفوسهم من جميع نواحي الأرض، على اختلاف سلالاتهم وأوطانهم، فيشعرون أنهم أخوة فيما بينهم، وأنهم لا يؤلفون بمجموعهم إلا أمة واحدة، فكأن الحج هو عبادة الله تعالى، في جانب، ومؤتمر عالمي سنوي، يفد إليه المسلمون من جميع نواحي الأرض وأقطارها، من الجانب الآخر، فهو أكبر وسيلة، وأنجح طريقة لتربية الأخوة الإسلامية العالمية، على الاتحاد والمحبة والتعاون"([31]).

إن مظاهر النظام في الحج واضحة؛ فمنها أنها المؤتمر الإسلامي الكبير الذي ينعقد في الحج، يتدارس المسلمون فيه قضاياهم، وينظرون فيه الشؤون الاقتصادية للشعوب والأقاليم الإسلامية، ويكون ذلك بتأسيس منظمة إسلامية اقتصادية مهمتها تنظيم التبادل الاقتصادي، وسد حاجات الشعوب الإسلامية بعضها من بعض، حتى لا يكون للمستعمر أثر في اتخاذ هذا الجانب سبيلاً لاستنزاف ثروة البلاد الإسلامية، وتثبيت أقدامه فيها، ثم الحيلولة بيننا وبين الحصول على ما يحفظ كياننا، ويرفع مستوانا([32]).

وفوق هذا النفع الدنيوي، هناك في هذا المؤتمر نفع أخوي، حيث تتنزل رحمات الله تعالى على هؤلاء المؤتمرين، فيعودون بخير عميم. وقد تحدث العلماء في ذلك، فقال الإمام الغزالي: "فإذا اجتمعت هممهم، وتجردت للضـراعة والابتهال قلوبهم، وارتفعت إلى الله أيديهم، وامتدت إليه أعناقهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم، مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة، فلا تظن أنه يخيّب أملهم، ويضيّع سعيهم، ويدخر عنهم رحمة تغمرهم"([33]).

إن الحج ليس سبيلاً إلى الأخوة والرحمة فحسب، بل إنه طريق إلى الوحدة الشاملة، والأمة الواحدة، التي تزول فيها الجنسيات، وتذوب فيها القوميات. يقول المودودي: أصبح البيت الحرام مركزاً للهداية والإرشاد، والإشعاع الروحي، والغذاء العاطفي، تقام حوله المناسك، وتغذى به العاطفة، وتشعل به مجامر القلوب، وتشحن به بطاريتها الفارغة، وتتلقى منه الرسالة الدينية، ويجتمع حوله العالم الإسلامي كل عام؛ يؤدي خراجه من الطاعة، وضريبته من الحب والانقياد، ويثبت تمسكه بهذا الحبل المتين، ولجوءه إلى هذا الركن الركين، ويطوف حوله أعظم العلماء والعقلاء والزعماء والعظماء والملوك والأمراء والأغنياء والفقراء، في ولهٍ وهيام، وفقه وحكمة، يثبتون أنهم مجتمعون على تفرّق، متوحدون على تعدّد، متركزون على انتشار، أغنياء على الفقر، أقوياء على الضعف، ينتشـرون في العالم، ويسعون في أرزاقهم ومصالحهم، ويتنسبون إلى أمم وسلالات، ويختلفون في الحضارات والثقافة، ويلتقون على نقطة واحدة، وحول نقطة واحدة، وحياتهم كلها طواف وسعي، ونسك وعبادة، وإيمان وعقيدة، ومقاماتهم كلها منى وعرفات، وأسفار ووقفات، وإنما هم في رحلة دائمة، وتقدم مستمر، وتعارف متكرر، حتى يقضوا نحبهم، ويلقوا ربهم. وقال الدهلوي: "وكما أن الدولة تحتاج إلى عرضة بعد كل مدة، ليتميز الناصح من الغاش، والمنقاد من المتمرد، ليرتفع الصيت، وتعلو الكلمة، ويتعارف أهلها فيما بينهم، فكذلك الملة تحتاج إلى حج، ليتميز المؤمن من المنافق، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجاً، وليرى بعضهم بعضاً، فيستفيد كل واحد ما ليس عنده، إذ الرغائب إنما تكتسب بالمصاحبة والترائي... ومنها تحقيق العرضة، فإن لكل دولة أو ملة اجتماعاً يتوارده الأقاصي والأداني، ليعرف فيه بعضهم بعضاً، ويستفيدوا أحكام الملة، ويعظموا شعائرها، والحج عرضة المسلمين، وظهور شوكتهم، واجتماع جنودهم، وتنويه ملتهم"([34]).

الحج إذن نظام في جلب الرحمات، ونظام في إظهار القوة، ونظام في التنافس في العبادة، ونظام في إقامة الملة وإعلاء الدين، ونظام في المعرفة والتعليم، ونظام في تمييز الخبيث من الطيب. وهذا كله فوق ما فيه من التضامن المادي، الذي يستتبع الأخوة التي بناها، والوحدة التي أنشأها، والمؤتمر الكبير الذي يقيمه كل عام لدراسة أحوال المسلمين.

وفي الحج نرى معنى الوحدة جلياً كالشمس: وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول. لا إقليمية، ولا عنصـرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، إنما هم جميعاً مسلمون، برب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتابٍ واحد يقرأون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون. فأي وحدة، وأي نظام أعمق من هذه، وأبعد غوراً؟

ومن المبادئ التي سبق الإسلام بالدعوة إليها: السلام. والحج طريقة فذة لتدريب المسلم على السلام، وإشـرابه روح السلام، فهو رحلة سلام الى أرض سلام، في زمن سلام.

هذه هي أركان الإسلام، وقد بنيت على النظام، وهذا يوحي إلى أن المسلم أن يكون في أمره على نظام، لأن النظام يوفر المجهود، ويضاعف الثمرة، بينما تذهب الفوضى بالجهود، وتقضي على الثمرات.

إن الله أقام كونه على النظام، وجاء القرآن بالنظام، وبنيت قواعد الإسلام على النظام، فيجب أن نكون أمّة النظام..

ولقد أدرك أهمية هذه الفريضة في جمع كلمة المسلمين كثير من غير المسلمين، بل من الحاقدين على هذا الدين، فقال الكاتب الألماني (باول شمتز) عن اجتماع المسلمين في موسم الحج:

"إن اتجاه المسلمين نحو (مكة) (وطن الإسلام) عامل من أهم العوامل في تقوية وحدة الاتجاه الداخلي بين المسلمين، وأسلوب يضفي على جميع نظم الحياة في المجتمع الإسلامي طابع الوحدة، وصفة التماسك. يتوجه المسلمون كل سنة نحو مكة، فتتحد خطاهم نحو هدف واحد، وأفكارهم – وإن كان ذلك غير ممكن – إلى غاية واحدة. وهناك في مكة تبسط حالة العالم الإسلامي، ويتصاعد منها أنين الأفكار المكلومة، ممزوجاً بوحدة الشعور بضـرورة الكفاح سوياً، والسير معاً على طريق النضال، ويتعمق هذا الشعور في نفس الحجاج، ويحملونه معهم عائدين إلى الأقاليم البعيدة المكلومة في العالم الإسلامي"([35]).

كما يساهم الحج، مع العبادات الأخرى، في تخلق المسلم بالكرم والجود، فهو يبذل مالاً كثيراً ابتغاء مرضاة الله، وينفق دون تبرّم في الفداء، إنْ سها أو تجاوز في شيء من واجبات الحج أو محظورات الإحرام، ويسوق الهدي، ويذبح وجوباً؛ متمتعاً أو قارناً، أو تطوعاً إنْ كان مفرداً: ليطعم القانع والمعتر، الصديق والرفيق في السفر، بل إن من المندوبات في الحج أن يكثر الإنسان زاده، ليعطر رفقاءه في الحج، ويتعود كثرة البذل.

وقد بيّن الأستاذ سعيد حوى أن من آداب الحج التوسع في الزاد، وطيب النفس بالبذل والإنفاق، من غير تقتير، ولا إسـراف.. وكثرة البذل لا إسـراف فيه.. قال ابن عمر - رضي الله عنهما-: من كرم الرجل طيب زاده في سفره.. وقيل: إن الحج المبرور يعني طيب الكلام، وإطعام الطعام. وكل ذلك من الأعمال الأخلاقية التي كان لعبادة الحج تأثير كبير في تثبيتها([36]) .



([1]) سورة البقرة، الآية: 216.

([2]) تفسير ابن كثير: 1/313.

([3]) تفسير آيات الأحكام للصابوني: 1/192.

([4]) رواه البخاري (1905) في الصوم: باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، ومسلم (1400) في النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مونة.

([5]) رواه الإمام أحمد: 5/363، رقم (23120)، وابن أبي شيبة: 7/348، رقم (36635) ما ذكر في كتب النبِي ﷺ وبعوثه، والبيهقي في شعب الإيمان: 3/392، رقم (3858) باب صوم ثلاثة أيام من كل شهر..

([6]) رواه ابن ماجة: 1/555، رقم (1745) بَاب فِي الصَّوْمِ زَكَاةُ الْجَسَدِ، والبيهقي في شعب الإيمان: 3/292، رقم (3577).

([7]) تفسير المنار: 2/145.

([8]) في ظلال القرآن: 2/168.

([9]) رواه البخاري في الصوم باب فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام (1151)، وغيرهما.

([10]) رواه البخاري (1904) في الصوم. باب: "هل يقول إني صائم، إذا شتم؟ " ومسلم برقم (1151) في الصيام، باب: "فضل الصيام.

([11]) شـرح النووي على صحيح مسلم: 8/29.

(12) شـرح صحيح مسلم: 8/29.

(13)فتح الباري: 4/596.

(14)رواه مسلم في الصيام، باب حفظ اللسان للصائم (1151).

([15]) رواه أحمد (8529)، والبخاري في الأدب باب قول الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(6057)، وابن ماجة في الصيام (1679).

([16]) رواه الطبراني في معجمه الصغير: 1/287 رقم (472) باب من اسمه سعيد.

([17]) فتح الباري: 4/140.

([18]) زاد المعاد: 1/152.

([19]) مبادئ الإسلام: 104.

([20]) الإسلام عقيدة وشريعة، الشيخ محمود شلتوت: 127.

([21]) رواه الإمام مالك (1743)، وابن ماجة: (4171) بَاب الحَيَاءِ.

([22]) العبادة في الإسلام: 288.

([23]) سورة البقرة، الآية: 197.

([24]) تفسير القرآن العظيم: 1/245.

([25]) الأركان الأربعة للأستاذ أبي الحسن الندوي: 258-259.

([26]) سورة العنكبوت، الآية: 46.

([27]) سورة البقرة، الآية: 197.

([28]) الكشاف: 1/347.

([29]) الجامع لأحكام القرآن: 2/411.

([30]) رواه البخاري (1521)، في الحج: باب فضل الحج المبرور، ومسلم (1350) في الحج: باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة.

([31]) مبادئ الإسلام: 23.

([32]) الإسلام عقيدة وشـريعة: 134.

([33]) إحياء علوم الدين: 1/243.

([34]) حجة الله البالغة: 59

([35]) الإسلام قوة الغد العالمية، باول شمتز: 80.

([36]) انظر: المستخلص في تزكية الأنفس، للأستاذ سعيد حوى: 66، والآثار التربوية للعبادات: 68-69.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق