08‏/01‏/2023

نظريات المواجهة.. كيفية التعامل مع الحاكم الجائر (من كنوز قلائد الجمان شـرح اللؤلؤ والمرجان) (الحلقة الثالثة)

فكرة وإعداد وشرح: صالح شيخو الهسنياني

في الحلقتين الأولى والثانية تطرقنا إلى النظريات الآتية:                                 
1. نظرية هجر الظالمين.
2. النظرية العندية.
3. نظرية النصح (النظرية النصحية).
4. نظرية السمع والطاعة.   
5. نظرية التقديس.
6. نظرية الاعتراف. 

7. نظرية الدعاء والاستسلام (نظرية الحسن البصري).

وفي هذا العدد سنتطرق إلى نظريتين أُخريين؛ كالآتي:

8. نظرية الطاعة المطلقة:  

تقول النظرية: إن من دينه الاستبداد، وطبعه الفتك بالخصوم والأعوان، ومنازعة الله تعالى في كبره وعلوه، ولا يقبل إلَّا الاستئثار بالقوة، وبالمال، وبالتشريع، والتنفيذ، والقضاء([1]). فلا يتصور أن يجمع حوله العقلاء وأصحاب المشاريع، ولن يؤمن على بابه إلَّا كل مستبد مأجور.. فكيف تكون الطاعة في المعروف لمن طبيعته لا تقبل إلَّا الطاعة المطلقة؟!

قال الشيخ محمد الغزالي: "أول خصائص الحكم الفردي: كبرياء الحاكم وتعاليه. وليس الكبر عقدة الصنعة التي تجعل شابًا طائشًا يسير في الطريق متبختراً تعجبه نفسه وتزدهيه ملابسه، أو التي تجعل الموظف في ديوانه يجحد حق العمل الذي استأجرته الدولة لإتمامه، فيتشاغل عنه ويتغطرس على الجمهور المحتاج إليه!! إن هذه رذائل حقّاً، وسواء دفع إليها النقص المركب، أو الغرور اللاحق، فهي جرائم محدودة الأثر إلى جانب سورات الكبر التي تجيش في نفس صاحب السلطة العامة، فتحمله من مكانه حيث يعيش مع الناس على ظهر الأرض، إلى سماء يتخيلها وينظر إلى الناس من عليائها، فإذا هو يرى العمالقة أقزاماً، ومن دونهم هباء، ويحسب الخير الذي يعيش الناس فيه فيض السحاب الهامي من يده المباركة. ولذلك تسمعه يقول ما قال الخديوي توفيق للقائد أحمد عرابي، عندما طالبه باسم الأمة أن يمنح الشعب دستوراً: هل أنتم إلَّا عبيد إحساناتنا؟! إن الكبر في هذه الحالات لا يزال يتضخم حتى يتحول إلى جبروت!! وتلك حالات معهودة في أمراض النفوس، ولذلك جاء في الحديث عن الله عز وجل: (الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ)([2]).. ألا ما أكثر الذين نازعوا الله هذه الصفات من حكام الشرق البائس!!

 والكبر كالشرك؛ يبدأ عوجًا في تصرف صغير، فلا تكون له فداحة الكفر بالله، ولا يزال ينمو حتى يتحول بطراً على كل حق، وغمطًا لكل فرد، وعندئذ يكون الكبر والكفر قرينين"([3]).

وقال الكواكبي: "ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس، وهو كالحيوان المملوك العنان، يُقاد حيث يُراد، ويعيش كالريش، يهبُّ حيث يهبُّ الريح، لا نظام ولا إرادة؟ وما هي الإرادة؟ هي أمُّ الأخلاق، هي ما قيل فيها تعظيماً لشأنها: لو جازت عبادة غير الله، لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات، في تعريفه بأنّه متحرك بالإرادة. فالأسير، إذن، دون الحيوان، لأنّه يتحرّك بإرادة غيره، لا بإرادة نفسه. ولهذا قال الفقهاء: لا نيّة للرقيق في كثير من أحواله، إنما هو تابع لنيّة مولاه. وقد يُعذر الأسير على فساد أخلاقه؛ لأنَّه فاقد الخيار، غير مؤاخذ عقلاً وشرعاً"([4])

بين الطاعة والغلو:

 إن جعل الحاكم في مرتبة من مراتب العلو والتمايز عن الناس، فلا يجوز للفرد أن يقف في وجه الدولة التي يمثلها الحاكم، لأنها كماله النهائي.. إن هذا التعظيم لشأن الحاكم، ومنع نقده، أو المساس بجنابه، وتهديد كل من مس جنابه في السراء أو الضراء، أو حتى بالقلب، لهو خطأ كبير، وخطر عظيم على توحيد العبد([5])

من صور رفع مقام الحاكم الجائر:

هناك صور وأشكال عديدة من رفع المقام، منها([6])

1. اعتبار الطاعن منافقاً، ولو كان الطعن في حاكم فاسد. فيسقطون نصاً يروى عن أبي الدرداء: (أَوَّل نِفَاقِ الْمَرْءِ طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ)([7])، على الحكام، دون قيد أو شرط!

2. اعتبار غيبة السلطان أشد بدعة من النيل من أهل البدع. ويستدلون على ذلك بقول عن زائدة بن قدامة([8])، قال: قلت لمنصور بن المعتمر([9]): (إِذَا كُنْتُ صَائِمًا، أَنَالُ مِنَ السُّلْطَانِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: إِذَا كُنْتُ صَائِمًا أَنَالُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ)([10]).

3. اعتبار سب الإمام، ولو كان جائراً ظالماً، مانعاً للخير. مستدلين بما جاء عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال: (مَا سَبَّ قَوْمٌ أَمِيرَهُمْ، إِلَّا حُرِمُوا خَيْرَهُ)([11]).

4. اعتبار الطعن في الأمير طعناً في أمر الله. والدليل: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: (الْأَمِيرُ مَنْ أَمَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ طَعَنَ فِي الْأَمِيرِ فَإِنَّمَا يَطْعَنُ فِي أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)([12]).

5. اعتبار الطعن في الحاكم مسقطاً للعدالة. والدليل أثر عن معروف الكرخي، قال: (من لعن إمامه، حرم عدله)([13]).

6. اعتبار الاستخفاف بالحاكم، ولو كان مستبداً غاصباً، من أسباب ذهاب الدنيا. والدليل إسقاط الأثر الوارد عن عبد الله بن المبارك([14])، قال: (من استخف بالعلماء، ذهبت آخرته. ومن استخف بالأمراء، ذهبت دنياه. ومن استخف بالإخوان، ذهبت مروءته)([15])

9- نظرية الصبر، وتجميد شروط الإمامة (نظرية الحسن بن علي):

 تقول النظرية: (على الأفراد، أو الجماعة، أو الجماعات، أو الأحزاب المعارضة، التضحية ببعض حقوقهم، والصبر على ظلم الحاكم الجائر، إن لم يقدروا على إزالته؛ درءاً للفتنة وشق عصا المسلمين، ومنعاً من اختراق النسيج السياسي، وخلخلة النظام الاجتماعي، فعليهم الصبر؛ ولكن هذا لا يمنع من الإنكار باللسان وبالقلب).

نقل الآجري تحت باب: في السمع والطاعة لمن ولي أمر المسلمين، والصبر عليهم، وإن جاروا، وترك الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة، عن الحسن بن علي بن أبي طالب، أنه أتاه جماعة أيام يزيد بن المهلب([16])، فأمرهم أن يلزموا بيوتهم، ويغلقوا عليهم أبوابهم، ثم قال: (وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ إِذَا ابْتُلُوا مِنْ قِبَلِ سُلْطَانِهِمْ صَبَرُوا، مَا لَبِثُوا أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى السَّيْفِ فَيُوكَلُوا إِلَيْهِ، وَوَاللَّهِ مَا جَاءُوا بِيَوْمِ خَيْرٍ قَطُّ)، ثُمَّ تَلَا: {وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ}(الأعراف: 137)([17]).

وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر: "ونقل ابن التين عن الداوودي، قال: الذي عليه العلماء في أمراء الْجَوْر، أنه إن قُدِر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وَجَب، وإلَّا فالواجب الصبر. وعن بعضهم: لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، فإن أَحدث جورًا بعد أن كان عدلًا، فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح: المنع، إلَّا أن يكفر، فيجب الخروج عليه"([18]).

وقال أيضاً: "وأما من خرج عن طاعة إمام جائر، أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله، فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله، بقدر طاقته"([19]).

 وقال أيضًا، في ترجمة أحد هؤلاء الذين كانوا يرون السّيف: " كان يرى الخروج بالسّيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسَّلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك، لما رأوه أفضى إلى أشدّ منه، ففي وقعة الحرّة، ووقعة ابن الأشعث، وغيرها، عظة لمن تدبر"([20])

وقال ابن تيمية، عقب الحديث عن ما حدث من فتن وقعت باجتهاد من بعض أهل العلم والصلاح، كخروج الحسين بن علي، وفتنة خروج أهل المدينة، ووقعة الحرّة، وفتنة ابن الأشعث، قال: "ولهذا استقر مذهب أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم"([21]).

وقال الدسوقي: "من اشتدت وطأته بالتغلب، وجبت طاعته. ولا يراعى في هذا شروط الإمامة؛ إذ المدار على درء المفاسد، وارتكاب أخف الضررين"([22]).

وجاء في شرح القسطلاني على البخاري، فيما يتصل بطريق انعقاد الإمامة بالقهر والتغلب، ما نصه: "...وباستيلاء متغلب على الإمامة، ولو غير أهل لها؛ كصبيٍ وامرأةٍ، بأن قهر الناس بشوكته، وجنده، وذلك لينتظم شمل المسلمين"([23]).

وجاء فيه أيضاً: "نعم، لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة، وجبت طاعته، إخمادًا للفتنة، ما لم يأمر بمعصية"([24]).

زلازل السقوط:

قال الشيخ الغزالي: "والواقع أن الزلازل التي تتبع إسقاط الحكومات قسراً بعيدة المدى. ومن ثم لم يرض الإسلام أن يشهر السيف في وجه حاكم، إلَّا أمام ضرورات ملجئة. أبانها هو، ولم يترك بيانها لتقدير أحد. بل إنه حبب إلى المؤمن التضحية ببعض حقوقه الخاصة، إشاعة للاستقرار في أنحاء البلاد، وإغلاقاً لمنافذ الفتن"([25]).

وقال الصلابي: "أسهمت حركة ابن الأشعث، بنهايتها بتلك الصورة، في إقناع كثير ممن كان يرى استخدام القوة، وحمل السيف، لتغيير الجور والظلم الواقع من الولاة، بعدم جدواها"([26]).

وقال السيد نوح: "بل حتى الكفر البواح لا يكون معه خروج، إلَّا إذا أمنت الفتنة، وتوفرت القدرات والإمكانات، وهذا لا يمنع أن ننكر عليهم باللسان وبالقلب"([27]).

 



[1]- قال الشيخ الغزالي: "في تعاليم الإسلام وفاء بحاجات الأمة كلها، وضمان مطمئن لما تشتهي، وفوق ما تشتهي، من حريات وحقوق. إنما بطشت مخالب الاستبداد ببلادنا، وصبغت وجوهنا بالسواد، لأن الإسلام خولف عن تعمد وإصرار، طرحت أرضاً البدهيات الأولى من تعاليمه، وقام في بلاد الإسلام حكام تسري في دمائهم جراثيم الإلحاد والفسوق والمنكرات، فخرجوا سافرين عن أخلاقه وحدوده. ومع ذلك فقد فرضوا أنفسهم على الإسلام إلى يوم الناس هذا.. ولو أن الإسلام ظفر يوماً بحريته، وأمكنته الأقدار أن ينتصف لنفسه، لكان جمهور هؤلاء الحكام بين مشنوق ومسجون". محمد الغزالي، الإسلام والاستبداد السياسي، دار نهضة مصر، ط1، (ص33).

[2]- سنن أبي داود: (4/59؛ رقم: 4090)، حكم الألباني: صحيح.

[3]- الإسلام والاستبداد السياسي، دار نهضة مصر، ط1، (ص35-36).

[4]- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: (ص99-100)، المطبعة العصرية – حلب.

[5]- تفكيك الاستبداد: (ص177).

[6]- تفكيك الاستبداد: (ص177-179).

[7]- شعب الإيمان: (12/29؛ رقم: 8959).

[8]- أبو الصلت الكوفي (ت: 162هـ/779م): زائدة بن قدامة الثقفي. كان ثقةً مأموناً حافظاً متقناً، صاحب سنة وجماعة، كان لا يعد السماع حتى يسمعه ثلاث مرار، وكان لا يحدث أحداً حتى يشهد عنده عدل أنه من أهل السنة. مات في أرض الروم غازياً. إكمال التهذيب: (5/28؛ رقم: 1631)؛ تهذيب التهذيب: (3/306؛ رقم: 571).

[9]- ستأتي ترجمته وموقفه من بني العباس بعد قليل.

[10]- حلية الأولياء للأصفهاني: (5/41).

[11]- أبو عمرو الداني، السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها: (2/405؛ رقم: 146)، دار العاصمة - الرياض، ط1، 1416هـ/).

[12]- السنن الواردة في الفتن: (2/403؛ رقم: 144).

[13]- سير أعلام النبلاء: (8/67).

[14]- ابن المبارَك (118 - 181هـ / 736 - 797م): عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظليّ بالولاء، التميمي، المروزي، أبو عبد الرحمن: الحَافظ، شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، المجاهد، التاجر، إمام عصره في الآفاق، وأولاهم بذلك علماً وزهداً، صاحب التصانيف والرحلات. أفنى عمره في الأسفار؛ حاجاً ومجاهداً وتاجراً. وجمع الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء. كان من سكان خراسان، ومات بـ(هيت) (على الفرات) منصرفاً من غزو الروم. سير أعلام النبلاء: (7/356؛ رقم: 1283)؛ إكمال التهذيب: (8/153؛ رقم: 3156)؛ أعلام الزركلي: (4/115).

[15]- سير أعلام النبلاء: (7/383).

[16]- يزيد بن المُهَلَّب (35 - 102 هـ / 673 - 720 م): يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو خالد: أمير، من القادة الشجعان الأجواد. ولي خراسان بعد وفاة أبيه (سنة 83 هـ)، فمكث نحواً من ست سنين، وعزله عبد الملك بن مروان، برأي الحجاج (أمير العراقين في ذلك العهد)، وكان الحجاج يخشى بأسه، فلما تم عزله حبسه، فهرب يزيد إلى الشام. ولما أفضت الخلافة إلى سليمان بن عبد الملك، ولاه العراق ثم خراسان، فعاد إليها، وافتتح جرجان وطبرستان. ثم نقل إلى إمارة البصرة، فأقام فيها إلى أن استخلف عمر بن عبد العزيز، فعزله، وطلبه، فجيء به إلى الشام، فحبسه بحلب. ولما توفي عمر، وثب غلمان يزيد، فأخرجوه من السجن. وسار إلى البصرة، فدخلها وغلب عليها (سنة 101ه/720م)، وفي خلافة يزيد بن عبد الملك، دعا لنفسه الخلافة، ولقّب بالقحطاني، ثم نشبت حروب بينه وبين أمير العراقين: مسلمة بن عبد الملك، انتهت بمقتل يزيد. أعلام الزركلي: (8/189). ينظر تاريخ الخميس: (2/318).

[17]- الشريعة للآجري: (1/373؛ رقم: 62).

[18]- فتح الباري: (13/8).

[19]- فتح الباري: (12/301).

[20]- تهذيب التهذيب: (2/250).

[21]- منهاج السنة: (4/529، 530، 531).

[22]- حاشية الدسوقي: (4/298).

[23]- إرشاد الساري: (18/219).

[24]- إرشاد الساري/ (18/220).

[25]- الفساد السياسي: (ص67).

[26]- الدولة الأموية: (ص655).

[27]- آفات على الطريق: (ص38)، آفة الاستعجال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق