30‏/03‏/2021

تفسير العلامة سبحاني لأسماء الله الحسنى وصفاته العلى (الحلقة 8)

 د. عمر عبد العزيز

 تحدثنا في المقال السابق، المنشور في العدد (173-174) من مجلة (الحوار)، عن نظرية العلامة سبحاني حول أركان الإيمان الأساسية، فذكرنا منهجه في بيان المواضيع المتعلقة بمعرفة الله والإيمان به، ومعرفة الله بين الأدلة العقلية والمنهج القرآني في الاستدلال.

   في هذا العدد سنتحدث عن منهج العلامة سبحاني في الحديث عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، من خلال المحاور التالية:

أولاً/ أهمية البحث عن الأسماء الحسنى، وتصور سبحاني في ذلك:

   تحدث المفسـرون والمحدثون وعلماء الرقائق والسلوك، قديماً وحديثاً، عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، سواء من ناحية عدّها وسـردها، أو من ناحية معانيها ومدلولاتها، أو معنى الإلحاد فيها وإنكارها. وألّف فيها كبار العلماء والمحققين كتباً ورسائل قيّمة([1])، ذكروا فيها ما اتُّفِق عليه من الأسماء وما اختُلِفَ فيه، وكذلك ما يجوز أن يُسمّى به الله ويُدعى به، وما لا يجوز.

   وتأتي أهمية الحديث عن الأسماء الحسنى، من ناحية كونها متعلقة بإثبات صفات الله، ونفي التعطيل والإنكار، أو التشبيه والتمثيل، الأمر الذي وقعت فيه بعض الفرق. ولهذا، فإنني في هذا المبحث سأتناول أهم ما قاله المحقق سبحاني حول أسماء الله وصفاته، مقارناً بين ما قاله هو، وما قاله المحققون قبله، سواء من ناحية عدّها وسـردها، والمجمع عليها والمختلف فيها، أو من ناحية المفاهيم المستنبطة منها، أو ما يتعلق بموضوع التشبيه والتمثيل، أو التعطيل ونفي الصفات، وكذلك معنى الإلحاد في الأسماء، الذي ذكر في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}الأعراف/١٨٠، وغير ذلك مما يتعلق بالموضوع.

   تلمّس تجليّات الأسماء في المخلوقات:  

   يرى العلامة سبحاني أن الإيمان بالله وأسمائه وصفاته يلزم تلمّس تجلّيات كل اسم من أسماء الله في مخلوقاته، لا سيما في الإنسان ذاته، حيث إن الخلق والأمر لله، وإنه وحده الخالق لكل شيء. وفهم هذا التلازم بين الإيمان بالأسماء الإلهية، وبين حقيقة الكون وما فيه ـ بما فيه خليفة الله في أرضه ـ ضـروري للنجاة من الشقاء([2]). هذا ما عبّر عنه بديع الزمان سعيد النورسي بصيغة أخرى، لما قال: "الحياة التي هي أساس وجود الإنسان، تجّلٍ لاسم الله الحي المحيي، وهو أعجوبة الخلقة الربانية، إذ تجمع تجليات اسم الرحمن، الرزاق، الرحيم، الكريم، الحكيم، وأمثالها من الأسماء، وتجعل الحقائق الكثيرة والمشاهدة، كالرزق والحكمة والعناية والرحمة، تابعة لها([3]). وقال: "وهكذا الإنسان، وهو أرقى معجزة من معجزات قدرته وألطفها، حيث خلقه الباري مظهراً لجميع تجليات أسمائه الحسنى"([4]).

   أما الأستاذ سبحاني، فقال - في اختصاره لتهذيب المدارج -: "أسماء الله ـ تعالى ـ أسماء مشتقة، لها معانٍ وصفيّة، كسائر الأسماء المشتقة. ثم إنها موصوفة بكونها حُسنى، وحسنها من دلالتها على أوصاف الكمال، ولولا ذلك لما كانت حسنى، ولا كانت أسماء مشتقة. ولو لم تكن موضوعة لمسمّاها باعتبار معان قامت به، كالأعلام المحضة والجوامد، لكانت كلها لا فرق بين مدلولاتها، وهذا باطل بيّن البطلان"([5]). وقال في موقع آخر: "لكون الصفات جميعها حسنى، سُمّيت الأسماء الدالة عليها بالحسنى، كل اسم له ـ سبحانه ـ حسن، ومجموعة الأسماء حسنى"([6]). وقال: "ولو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات، لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها، فلم يقل: يسمع، ويرى، ويعلم.. فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة، استحال ثبوت حكمها، ونفي معاني أسمائه، من أعظم الإلحاد فيها"([7]). ويقول: "إن الاسم من أسمائه - تعالى - كما يدل على الذات والصفة المشتقة هو منها بالمطابقة، يدلّ دلالتين أخريين بالتضمن والالتزام، فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك يدل على الذات المجردة عن الصفة، ويدل على غير تلك الصفة من الصفات بالالتزام. فإن اسم (السميع) - مثلاً - يدل على مجموع ذات الرب، وصفة سمعه، بالمطابقة، وعلى كل منها بالتضمن، وعلى صفة الحياة بالالتزام، وكذلك سائر أسمائه. ولكن الناس متفاوتون في معرفة اللزوم وعدمه، ومن هنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام. فإن من يعلم أن الفعل الاختياري لازم للحياة، وأن السمع والبصـر لازمان للحياة الكاملة، وأن سائر أوصاف الكمال من لوازم الحياة الكاملة، يثبت من أسماء الرب وأفعاله ما ينكره من لا يعلم ذلك، وكذلك سائر صفاته"([8]).

   هذا ما قاله بإجمال، أما حديثه عن الأسماء الحسنى وعدّها، ومدلولاتها، وما يترتب على فهمها، وما لا بدّ أن يتخذه المؤمن من المواقف تجاهها، وتأثيراتها على السلوك، والمنهجية المفضلة لتناولها، بصورة عامة، فهذا ما سأحاول عرضه في المحاور التالية، بإذن الله.

   ثانياً/ الأسماء الحسنى في الكتاب والسنة:

   لم تذكر لفظة (الأسماء الحسنى) في القرآن الكريم إلا في أربعة مواقع، هي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (الأعراف١٨٠،وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}(الإسراء١١٠،)، وقوله: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}(طه/٨)، وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ...}(الحشـر/٢٤). هذا بلفظ (الأسماء الحسنى)، أما حول ذكر الأسماء، في القرآن، فهناك محاولات عديدة، قديماً وحديثاً، لسـردها وعدّها واستخراجها من آيات القرآن. فلقد ذكر العسقلاني في (فتح الباري شـرح صحيح البخاري)، نماذج من محاولة العلماء قبله لتتبع أسماء الله الحسنى في القرآن الكريم، وأشار إلى أنه تتبّع بنفسه ما بقي من الأسماء، مما ورد في القرآن بصيغة الاسم، مما لم يذكر في الروايات([9]). وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال: هي في القرآن. ثم ذكر كل اسم ورد في السور واحداً واحداً من الفاتحة إلى سورة الناس([10]).

   وهناك محاولات عديدة أخرى من قبل كبار المحدثين والمفسـرين، كالبيهقي، وابن العربي الأصولي، والترمذي، وغيرهم، ذكرت في كتب التفسير والحديث([11]). وذكر بعض المحققين من المعاصـرين أنه ورد في كتاب الله واحد وثمانون اسماً فقط. وفي الحديث الصحيح ثمانية عشـر اسماً فقط([12])، لكي ينطبق مع العدد الشهير (التسعة والتسعين). ولكن العلامة سبحاني استخرج في القرآن الكريم حوالي (113) اسماً، بين ما ورد بصيغة الاسم مباشرة، أو ما ورد بصيغ أخرى فعلية عديدة، وذلك مع ما تكرّر منها بصيغة الفاعل، أو صيغة المبالغة، أو على أوزان مختلفة، ولكن من مصدر صـرفي واحد، كالغافر والغفار، والحسيب وأسـرع الحاسبين، والعالي والعّلي والأعلى والمتعال، والحافظ والحفيظ، وغير ذلك([13]).

   أما ما ورد في الأحاديث من الأسماء الحسنى وتحديدها، ففيه نقاش طويل، سواء بسبب ما حصل من جانب ضعف وقوة الروايات، أو مما يفهم منه أنه اسم للذات الإلهية، أو صفة لذاته سبحانه. فأصح حديث حول أسماء الله، هو الذي رواه الشيخان بسندهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه-، ونصه: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)([14]). هذا الحديث رواه – أيضاً – الترمذي([15]) عن طريق الوليد بن مسلم، وسـرد فيه الأسماء التسعة والتسعين. ولكن أكد كثير من العلماء أن ذكر الأسماء الحسنى في الحديث مدرج لا مرفوع، ولهذا لم يخرّج الشيخان الحديث الذي رواه الترمذي، لأن الوليد تفرّد به. قال الحافظ العسقلاني في الفتح: "اختلف العلماء في سـرد الأسماء، هل هو مرفوع، أو مدرج في الخبر من بعض الرواة؟ فمشى كثير منهم على الأول، واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيراً من هذه الأسماء كذلك. وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج، لخلوّ أكثر الروايات عنه"([16]). وقال بحق الحديث الذي فيه سـرد الأسماء: "ليس له إسناد صحيح. وقال ابن عطية: في سـرد الأسماء نظر، فإن بعضها ليس في القرآن ولا في الحديث الصحيح، ولم يتواتر الحديث من أصله، وإن خرج في الصحيح، ولكنه تواتر عن أبي هريرة. كذا قال، ولم يتواتر عن أبي هريرة أيضاً، بل غاية أمره أن يكون مشهوراً"([17]).

أما حول عدّ الأسماء وإحصائها، وهل هي تنحصـر في العدد التسعة والتسعين، أم هي أكثر من ذلك، قال النووي في شـرحه للحديث: "اتفق العلماء على أن الحديث ليس فيه حصـر لأسمائه سبحانه. فليس معناه: أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بهذه الأسماء"([18])، ونسب الحافظ العسقلاني هذا القول إلى الجمهور، وقال: يدل على عدم الحصـر أن أكثرها صفات، وصفات الله لا تتناهى"([19]).

   قلت: إن نسبة القول بعدم الحصـر إلى الجمهور ـ الذي قال به الحافظ ـ أدق مماّ ذهب إليه النووي لمّا قال بالاتفاق فيه، فإن كثيراً من علماء الظاهرية قالوا بأن الأسماء محصورة، فقال ابن حزم بالحرف: "لا يحّل لأحد أن يسمّي الله بغير ما سمّى به نفسه، ولا أن يصفه بغير ما أخبر به عن نفسه، وأن له تعالى تسعة وتسعين اسماً، من زاد شيئاً من عند نفسه، فقد ألحد في أسمائه([20]). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي، الذي رواه الوليد بن مسلم، وحفّاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد عن شيوخه من أهل الحديث([21]). وأكد الصنعاني ذلك قائلاً: "اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سـردها إدراج من بعض الرواة([22]). ومما يؤكد عدم الحصـر استئثار الله ببعض الأسماء له، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن مسعود، والذي أخرجه أحمد في مسنده بروايتين([23])، وصحّحه ابن حبان([24])، وهو مشهور بحديث الكرْب، وفيه: أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك.."، فالحديث يدل على انفراد الله بعلم العدد الكلي لأسمائه. وأكد الشوكاني على أن الأحاديث التي جاءت في إحصاء الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصحّ منها شيء أصلاً([25]).

   أما الأستاذ سبحاني، فيرى أنه لا بدّ لتحديد الأسماء الحسنى، من الاعتماد على استقرائها في القرآن الكريم بداية، ثم البحث عما بقي منها في الأحاديث المتواترة ـ فقط ـ، لأن غيرها يفيد الظن، وهذا مما لا يليق بعظمة الأسماء الحسنى، ولأن أكثر العلماء متفقون على أنه لا يمكن بناء المسائل الأصولية - لا سيما المسائل الفكرية الأساسية التي تتعلق بتصوّر الإنسان تجاه ربّه - على الأحاديث التي تفيد الظن، وإن كانت صحيحة.. وأكد على أنه، بناءً على ذلك، لا يمكن الاعتماد على الحديث الذي رواه الترمذي، وذكر فيه الأسماء التسعة والتسعين، لكون الحديث لم يصل إلى درجة الصحة، فضلاً عن أن يكون متواتراً"([26]).

   ثالثاً/ معنى إحصاء الأسماء الحسنى، والإلحاد فيها:

   أثارت لفظة الإحصاء في الحديث (من أحصاها دخل الجنة) جدلاً وسيعاً بين العلماء، لذا لجأ الكثير منهم إلى إيجاد معنى يناسب حجم الأجر الذي يحصل عليه المحصـي لأسماء الله. فذكر الحافظ - بعد قول البخاري بأن من أحصاها، بمعنى: من حفظها - عن الإمام الخطابي([27]): أن "الإحصاء في مثل هذا يحتمل وجوهاً، أحدها: أن يعدّها حتى يستوفيها. ثانيها: الإطاقة، كقوله تعالى: {..عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ ...}(المزمل/20)، والمعنى: من أطاق القيام بحق الأسماء. وثالثها: الإحاطة"، ثم قال: "قال الأصيلي([28]): الإحصاء للأسماء العمل بها، لا عدّها وحفظها، لأن ذلك قد يقع للكافر والمنافق([29]). ولقد أشار القرآن إلى أن هناك قوماً من المشـركين يلحدون في أسمائه، ولذلك أمر الله عباده بالدعاء بأسمائه، وترك الذين يلحدون فيها، فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه}ِ(الأعراف/١٨٠). ولكن ماذا يعنى الإلحاد في أسماء الله؟ قال الراغب: "اللّحد حفرة مائلة عن الوسط. ويقال: ألحد فلان، مال عن الحق.. والإلحاد في أسمائه على وجهين: أحدهما: أن يوصف بما لا يصح وصفه به. والثاني: أن يتأول أوصافه على ما لا يليق به"([30]). وقال الفيروزآبادي: "أصل الإلحاد: العدول عن القصد، والجور عنه، والإعراض"([31])، و"أصل اللحد ما حُفِر في عرض القبر. وأَلْحَد في الحرم: إذا ترك القصد، ومال إلى الظلم. ومنه قوله تعالى: مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(الحج/ 25"( [32]).

   هذا، ولقد كان من دأب المشـركين العدول بأسماء الله عما هي عليه، فذكر المفسـرون أنهم سمّوا (اللات) اشتقاقاً من (الله)، وسموا صنما آخر بـ(العزىّ)، اشتقاقاً من العزيز([33])، وسمّوا (مناة) من المناّن([34]). وقيل: "الإلحاد في أسماء الله يكون بالزيادة فيها، والنقصان منها، كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمّون فيها الباري بغير أسمائه، ويذكرونه بما لم يذكره من أفعاله، مما لا يليق به - سبحانه -"([35])، قال الشوكاني: "الإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه: إما بالتغيير، كما فعله المشـركون. أو بالزيادة عليها، بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها. أو بالنقصان منها، بأن يدعوه ببعضها دون بعض"([36]). ولقد ذكر بعض المفسـرين معاني أخرى للإلحاد في الأسماء، منها: التكذيب، والمضاهاة، والإشـراك. ذكرها الشوكاني في تفسير الآية"([37]).

 أما العلامة سبحاني، فيؤكد على أن نفي معاني أسمائه سبحانه من أعظم الإلحاد فيها([38])، ومن المدلول اللغوي لمشتقات (الحسنى)، و(الدعاء بها)، و(عدم الإلحاد فيها)، الواردة في الآيات المذكورة المتعلقة بأسماء الله الحسنى في القرآن الكريم، نفهم أن كل اسم من أسمائه تعالى يقتضي معنىً حسناً، ونعتاً شريفاً، لذا طلب الله سبحانه من عباده أن يدعوه بتلك الأسماء، بأن يعرفوه حق المعرفة من خلالها، فلا يمكن معرفة الله كاملة إلا من خلال أسمائه الحسنى، وصفاته العُلى. وكذلك أمرهم أن يذروا من يلحدون في أسمائه، فضلاً عن أن يلحدوا فيها، سواء في ذلك العدول عن الفهم القصد في معانيها، والميل عنها إلى ما لا تقتضيه، أو الإعراض عن مدلولاتها، أو الزيادة فيها بما لم يأذن الله ولا رسوله به، أو النقصان فيها بترك بعض ما ذكر منها، أو تكذيبها، أو الوقوع فيما وقع فيه بعض الفرق من التحريف والتأويل الباطل، أو التشبيه والتمثيل غير اللائق بالذات الإلهية، أو التعطيل لها ونفيها. وكل هذا مما ينفي عن الأسماء نعت (الحسنى)، الذي وصف به سبحانه أسماءه في أربعة مواقع من كتابه - كما أسلفنا - كما وصف بها رسوله الكريم -صلى الله عليه وبارك - تبعاً لكتاب الله في أحاديثه الشريفة.

 

رابعاً/ نقد الشهيد سبحاني للمتكلمين في موضوع الأسماء والصفات:

  انتقد سبحاني بشدة آراء كثير من علماء الكلام في موضوع الصفات والأسماء الحسنى، سواء من ناحية منهجية دراستها، وابتعادهم عن الهدى القرآني في ذلك، أو من ناحية عدّها وشـرحها، والحكمة من تأكيد الله سبحانه ورسوله عليها، أو تصنيفها إلى صفات ثبوتية، وأخرى سلبية. ولقد انتقدهم في البداية في حصـر الحديث عن الأسماء والصفات في عدد محدود، حيث لم يذكروا من الصفات إلا سبعة، هي: الحياة، والإرادة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصـر، والكلام، وذلك بتأثير من الفلسفة والفلاسفة. وذكر أن العبودية لا تتحقق إلا بالالتزام بجميع الأسماء. ثم انتقدهم بأنهم رغم ذلك لم يعالجوا في تناولهم لتلك الصفات ما هو لازم، فجاء حديثهم عن الصفات الإلهية حديثاً فلسفياً جامداً، لا ينفع المؤمن، في فهم أو عمل، فقالوا في كلامه سبحانه - مثلاً -: هل هو قديم أو حديث؟ وهل هو نفسـي أو لا؟. وقالوا في علمه تعالى: هل هو حضوري أو حصولي؟ وهل له علم بالجزئيات، أو بالكليات فقط؟ أمور لا يُجنى منها إلا ما حصل أيام العباسيين من الجدل العقيم، الذي ولّد نزاعات حادة، أودت باعتقال إمام كبير كأحمد بن حنبل، بل إلى استشهاد بعض من لم يستسلموا لضغوط الخلفاء، كالإمام البويطي([39])، الذي توفي في السجن بسبب التعذيب الذي تعرّض له([40]).

   وبعيداً عن الفلاسفة وأقوالهم، والمتكلمين وآرائهم في الصفات الإلهية، اختار الشهيد سبحاني منهجية فريدة، استلهمها من القرآن الكريم، سواء من جانب تقسيم الأسماء والصفات من الأساس، أو من جانب ما تتطلبه معرفة الأسماء والصفات، أو الموقف اللازم اتخاذه حيالها.. وهذا ما سأتناوله في الفقرة التالية.

   خامساً/ منهجية الشهيد سبحاني في تناوله لموضوع أسماء الله الحسنى، وصفاته:

اعتمد سبحاني - في سلسلة دروس مخصّصة - منهجية خاصة به - كما أشرت آنفاً - في دراسته لموضوع أسماء الله الحسنى، وصفاته، تتلخص في خطوات، هي:

1- بدأ بذكر مقدمة، مفادها التذكير بأن الهدف من خلق الإنسان هو العبودية، التي تتحقق بتزكية نفسه وإعمار الأرض، كما أكد على ذلك القرآن الكريم في عديد من آياته. ثم ذكر أن الإنسان مكوّن من مجموعة من الاستعدادات المستعدة للنموّ والزكاء، تماما كالبذرة والحبة التي تكمن فيها جميع الخصوصيات والاستعدادات الخاصة بعنصـرها. وبما أن الله حق حكيم، أراد أن تتم تلك العملية - عملية نمو الاستعدادات في الإنسان - كما يريد هو، إلى درجة الرشد والكمال اللائق بالجنس البشـري. ثم أكد على أنه لا يمكن أن يصبح الإنسان عبداً حقيقياً لله تعالى إلا أن يعرفه حق المعرفة، وأكد على أنه لا يمكن أن يتم ذلك إلا بمعرفته من خلال أسمائه الحسنى وصفاته. إذاً، الخطوة الأولى في طريق العبودية، هي معرفة صفات الله التي هي مدلول أسمائه الحسنى، فالرحمة - مثلاً - مدلول لصفة الرحمن والرحيم وأرحم الراحمين، والمُلك - مثلاً - مدلول لصفة المالك الملك، وكذا جميع صفاته.

2- ثم باشـر الشهيد بإبداء الرأي الأرجح في عدّ الأسماء، فانتقد في البداية - كما أشـرت سالفاً - منهج المتكلمين، في تعاملهم مع الموضوع بأسلوب فلسفي جامد، لا روح فيه ولا هدف. ثم عرض منهجاً قرآنياً بديلاً، فقال: "التقسيم الذي نعتمده في موضوع الأسماء والصفات مبني على الهدى القرآني، ويختلف عما اصطلح عليه المتكلمون. وإنني أرجح رأي القائلين بأن الأسماء الحسنى غير محصورة، حيث هناك رأيان آخران، رأي يرى أن الأسماء توقيفية، أي لا يمكن أن يُستعمل اسم لله، سوى ما ورد عن طريق الوحي بأنه اسم له سبحانه، أو ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وبارك -. ورأي يرى أنها غير توقيفية، ويمكن أن نضع من كل معنى مناسب لله تعالى اسماً. أما الرأي الأول، فهو الرأي الوسط بينهما، مع إضافة أراها، وهي: أن الأسماء محصورة ـ كأسماء ـ في القرآن من جانب، وغير محصورة من جانب استخراجها من الأفعال الواردة في القرآن. فننظر في القرآن، فإن ورد فعل منسوب إلى الله، فلا مانع من استعمال اسم مشتق من ذلك الفعل، بصيغة اسم فاعل، أو صيغة من صيغ المبالغة. فمثلا: وردت كلمات (يُرِدْ) و(يريد) و(أراد)، فيمكن لنا أن نشتق منها اسم (المريد). وكذلك لا مانع أن نشتق اسم (الفاعل) لله، لكون كلمات (يفعل) و(فعل) و(فعّال) وردت في آيات قرآنية، منسوبة إلى الله تعالى". الأمر الأهم والأساس في هذا، هو فهم مدلولات الأسماء الحسنى، التي هي الصفات، لا الكلمة واللفظة بحروفها فقط.

3- وفي خطوة ثالثة، وضع الشهيد سبحاني منهجية تصنيف الأسماء وفق استقراء قرآني دقيق. فقال: "لا بدّ - قبل أن نصنّف الأسماء - أن نطرح قاعدة وفق الهداية القرآنية، فأقول: علاقة الله بخلقه من جانبين: جانب الخلق، وجانب الأمر ـ حيث حصـر الله ملكيّة كليهما في ذاته، وذلك في قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}(الأعراف: ٥٤وجانب الخلق معروف، حيث خلق الله الأرض والسماوات وما بينهما. أما الأمر، فنوعان: أمر تسخيري، يتعلق بالمخلوقات التي لا تملك قوتي (العلم) و(الإرادة)، وأمر تشـريعي، أو ابتلائي، يختص الإنس والجن، لكونهما يمتلكان القوتين المذكورتين.

   بناء على ذلك، يتعلق قسم من أسماء الله وصفاته بالخلق، وقسم آخر منها يتعلق بالأمر، وهذا القسم الثاني يتفرع منه فرعان: فرع من الأسماء يدل على (صفات الرحمة والإكرام)، التي تتعلق بجلب الخير، ودفع الشـر. وفرع يدل على (صفات الملك والجلال)، التي تتعلق بمحاسبة العباد، وجزائهم. ويمكن أن نستعمل قسمتين أخريين، وهما: الأسماء المتعلقة بالربوبية، وهي المشتقة من صفات الرحمة. والأسماء المتعلقة بالألوهية، وهي المشتقة من الصفات المتعلقة بالعبادة والاستعانة".

4- ثم أكد سبحاني على أنه لا بدّ من فهم معاني الأسماء والصفات، واستخراج مدلولاتها اللغوية، من خلال القرآن نفسه، وبالاستعانة بأمهات مصادر اللغة العربية، لا المصادر الهزيلة التي لا تفرق بين المترادفات في العربية.

5- ثم ذكر - بتفصيل - أن على المؤمن أن يعرف الله حق معرفته، من خلال مدلول تلك الأسماء والصفات، بعيداً عن سفسطة الفلاسفة، وجدل بعض المتكلمين.

6- وفي المرحلة الأخيرة، استعرض الموقف اللازم للمؤمن تجاه كل اسم، مشدّداً على ضرورة ظهور الآثار التي لا بدّ أن تتركها الأسماء الحسنى في تصوّر المسلم وسلوكه، ومن ثم قيامه بواجب العبودية تجاه مقام الربوبية والألوهية. فأشار إلى أنه لا بدّ لتحديد الموقف تجاه كل اسم، وفق ما قلنا بأن الإنسان عبد مأمور، وهذا يقتضـي أن يشمل أ - مجال المعرفة والفهم. ب - مجال الآثار والنتائج النفسية المترتبة على الفهم. ج - مجال الموقف العملي في واقع الحياة. وهذا التفاعل يتحقق فيما يتعلق بالأسماء المرتبطة بالربوبية.

   وهكذا، مهّد الشهيد لمناقشة موضوع الأسماء والصفات، وفي ثلاث عشـرة ساعة يستعرضها واحداً واحداً في القرآن الكريم، وما تواتر في الصحيح من الأحاديث، يذكر كل اسم، أو كل صفة، يمكن أن يشتق منها اسم، ثم يذكر معناه اللغوي، ومدلوله، بتفصيل، ثم يذكر الأثر الذي لا بدّ أن يتركه، ثم الموقف الإيماني اللازم تجاهه([41]).

   وإلى مقال قادم حول حقيقة التوحيد وآثاره، والشـرك وأنواعه.



([1]) من أقدم وأشهر المؤلفات القديمة حول الأسماء الحسنى: تفسير الأسماء الحسنى للإمام الزجاج (311هـ/923م). وشأن الدعاء، للإمام الخطابي (ت: 388هـ/998م). والأسماء والصفات، للبيهقي (ت: 458هـ/ 1092م)، والأمد الأقصى، لأبي بكر ابن العربي (ت:543هـ/1084م). والأسنى في شرح الأسماء الحسنى، للإمام القرطبي. ولوامع البينات شـرح أسماء الله تعالى والصفات، للإمام فخر الدين الرازي.. وهناك موسوعات ودراسات معاصـرة قيمة حول الموضوع ذاته، أشهرها: موسوعة الأسماء الحسنى، للدكتور الشـرباصي، والمنهاج الأسمى، للدكتور رزين الدين شحاته، وشرح الأسماء الحسنى، للدكتور محمد بكر إسمعيل، وشـرح الأسماء الحسنى، للشيخ كشك، وشـرح أسماء الله، للدكتور عمر الأشقر، وشـرح الأسماء في ضوء الكتاب والسنة، لسعيد القحطاني، وفقه الأسماء، لعبد الرزاق البدر، والنهج الأسمى، لمحمد محمود النجدين، وأسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، للدكتور محمود عبدالرزاق، وكتب أخرى عديدة.. 

[2] أشار إلى ذلك في سياقات عدّة من دروسه الخاصة بموضوع الأسماء الحسنى، المكونة من (13) ساعة.

[3] النورسي، بديع الزمان، سعيد، اللمعات، ص: 557.

[4] النورسي، سعيد، الكلمات، ص: 349.

[5] قال القرطبي: "حُسْن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشـرع، لإطلاقها، والنص عليها. وانضاف إلى ذلك أنها تقتضي معان حساناً شريفة"، ينظر: القرطبي، الجامع الأحكام القرآن، 10/343.

[6] ناصر سبحاني، دروس حول الأسماء الحسنى، الدرس الأول، 1985م.

[7] ناصر سبحاني، تلخيص التهذيب، ص: 13.

[8] المصدر السابق، 13.

[9] ينظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 3/2806.

[10] الشوكاني، فتح القدير، 514.

[11] ينظر مثلا: تفسير الطبري 6/133، وتفسير القرطبي 4/328، وفتح الباري للعسقلاني 3/2804، وشرح النووي على صحيح مسلم، س: (1585) وغيرها.

[12] قال بذلك الشيخ ابن عثيمين.ينظر موقع: www.ahlalhdeeth.com، والأسماء التي وردت في الحديث - حسب رأيه- هي: الجميل، الجواد، الحكم، الحي، الرب، الرفيق، السبّوح، السيد، الشافي، الطيب، القابض، الباسط، المقدم، المؤخر، المحسن، المعطي، المنان، الوتر.

[13] خص الشهيد سبحاني (13) درساً علمياً لشـرح ودراسة الأسماء الحسنى، بطريقة علمية فريدة، سألقي الضوء عليها لاحقاً.

[14] أبو عبدالله، محمد بن اسمعيل، البخاري، الجامع الصحيح، الرياض، دار السلام للنشر، 1417هـ/ 1997م)، كتاب التوحيد، (97)، باب إن لله مائة اسم (12)، حديث (7392)، ص: 1549. وتكرر الحديث برقم: (2736). وكذلك: أبو الحسين، مسلم بن الحجاج النيشابوري، (361هـ/ 971م)، الجامع الصحيح، كتاب الذكر والدعاء (48)، باب في أسماء الله (2)، حديث (2677).

[15] في كتاب الدعوات (49)، باب (83)، ولقد قال الترمذي بعد نقل الحديث: "هذا حديث غريب".

[16] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 3/ 2804.

[17] المصدر نفسه، 3/ 2804.

[18] أبو زكريا، يحيى بن شرف الدين، النووي (-676هـ/1277م)، المنهاج في شرح صحيح مسلم، الرياض، بيت الأفكار الدولية، د.ت، ص: 1585.

[19] العسقلاني، الفتح، 3/2806.

[20] ابن حزم الأندلسي (ت: 456هـ/ 1063م)، المحلّى في شرح المجلّى، تحقيق: حسان عبد المناف، عماّن، بيت الأفكار الدولية، د.ت، ص: 58.

[21] ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، 1/217.

[22] الصنعاني، سبل السلام، 4/108.

[23] في مسند عبدالله بن مسعود برقم: 3712 و4318، ص: 296 و338.

[24] في كتاب الرقائق (7)، باب (9)، حديث: 972، ص: 366.

[25] ينظر: الشوكاني، فتح القدير، ص: 514.

[26] ناصر سبحاني، الدرس الأول من سلسلة دروس حول الأسماء الحسنى، 1985م.

[27] هو: أبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم البستي، ولد سنة بضع عشرة وثلاث مائة، صاحب التصانيف العديدة، منها: (شرح السنن) و(شرح الأسماء الحسنى). وصفه الذهبي بالإمام العلامة، الحافظ، اللغوي، توفي عام 88هـ/706م. ينظر للتفاصيل: سير أعلام النبلاء، 1/ 1564.

[28] هو أبو محمد، عبدالله بن إبراهيم الأصيلي، تفقّه بقرطبة، وأصبح شيخ المالكية، قال الدارقطني عنه: لم أَرَ مثله. ينظر لسيرته: الذهبي، سير أعلام النبلاء، 2/2330.

[29] ابن الحجر العسقلاني، فتح الباري، 3/ 7393.

[30] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص: 737.

[31] الفيروز آبادي، قاموس المحيط، مادة (لحد).

[32] أبو عبد الرحمن الفراهيدي، كتاب العين، 868.

[33] ينظر على سبيل المثال: تفسير الطبري، 6/133، والقرطبي 4/328.

[34] الشوكاني، فتح القدير، 514.

[35] ابن العربي، أحكام القرآن، 2/ 816.

[36] الشوكاني، فتح القدير، 514.

[37] المصدر نفسه، ص: 515.

[38] ناصر سبحاني، تلخيص التهذيب، ص: 13.

[39] هو: أبو يعقوب، يوسف، بن يحيى المصـري البويطي، صاحب الإمام الشافعي، قال عنه الذهبي: الإمام العلامة، سيد الفقهاء، الذي فاق الأقران، وكان إماماً في العلم، وقدوة في العمل، زاهداً، ربانياً، متهجداً، دائم الذكر والعكوف على الفقه. مات في قيده مسجوناً بالعراق عام (231هـ/845م). ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، (3/4287).

[40] ناصر سبحاني، الدرس الأول من سلسلة دروسه المخصصة للأسماء الحسنى.

[41] راجع: ناصر سبحاني، دروس حول الأسماء الحسنى، 1985م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق