30‏/03‏/2021

قصة واقعية/ مَوْدا المنكودة

 

قصة وترجمة: عبد الخالق البرزنجي

  ان الوقت يقترب من أصيل فصل صيفٍ لاهب، وهو جالسٌ أمام عربانته منتظراً زبوناً يأتي إليه لشراء بعض الفواكه والخضروات.. بغتة سمع ضوضاءً وجلبة هائلتين، ثم رأى أصحاب العربانات يهربون أمامه مذعورين ويرددون:

-           أيها الإخوة، ها هو ذا قادمُ.. ها هو ذا قادمٌ..

حين شاهد من بعيد بعض حاملي التواثي وهم يقتحمون صفوف الباعة، ويُقلِّبون الفواكه والخُضر من على سطح العربانات فوق أديم الأرض رأساً على عقب.. كان (هيَمن) متحوطاً من ذلك، وحمل بسـرعة ميزانه وأوزان الكيلوات الحديدية بين يديه وحضنه، وأوصل نفسه إلى مقدم باب بيته، دون الحصول على أي

رأسمال في ذلك اليوم. توقف قليلاً، وحار في أمره، ثم تمتم مع نفسه قائلاً:

-           إلهي الكريم، ما قيمة هذه الحياة، وهم لا يدعوننا وشأننا نمارس التكسب اليومي؟! اليوم حصـراً لم أتمكن حتى من شـراء عُلبة حليب لرضيعي! وغداً أو بعد غد ماذا بصدد ابنتي إن رزقنا الله بها؟

     على غفلة فتحت زوجته الباب، وولج هو إلى البيت.

     سألته زوجته:

-           لماذا أنت مرتبك هكذا يا حبيبي؟

-           خشية من حاملي التواثي تركتُ عربانتي، وبالكاد تمكنتُ من إنقاذ هذا الميزان ووسائل البيع من بين أيديهم.

 تأثر الاثنان بالموقف الظالم، وأجهشا معاً في البكاء.

     عقب خفوت الوضع المتوتر فيما بينهما قالت (جنار) لبعلها:

-           لا تحزن كثيراً يا حبيبي، فالله سبحانه وتعالى هو أكبر من السلطان محمود.. أقول: لِمَ لا نرحل إلى خارج البلاد، كما فعل جيراننا؟

     بعيون دامعة أجابها هيمن قائلاً:

-           كيف لنا أن نغادر تراب أجدادنا، وهنالك نموت غرباء؟

قالت له جنار:

-           يقيناً إن بقينا هنا، إما نلجأ للاستجداء، أو نموت جوعاً!

فكَّر هيمن قليلاً، ثم عانق زوجته، وأجهشا معاً في بكاء مُر كرة أخرى.

أخيراً اتفقا، وقرّرا المغادرة.. هكذا، وعلى مضض، شـرعا ببيع أثاث البيت بأسعار زهيدة جداً، واقترضا مبلغاً آخر من المال لاستدامة السفر.

أخيراً، وعُقب مرور شهر من مخاطر الطرق، وفي ظل ظروف صعبة، زاد من صعوبتها أن جنار كانت حاملاً.. وطأت أقدامهم أرض(المانيا)، واستقروا في أحد معسكرات اللجوء.

 في أعقاب بقائهم عدة أشهرٍ في بلاد الغربة، رزقهما الله ببنت جميلة، وأسمياها (مودا)، وقد عقدا عليها أملاً كبيراً، لا سيما عند بلوغ عمرها السنتين.

ولكن إصابة هذه الأسـرة، وغالبية العوائل الكورد الأخريات، باليأس في الحصول على الإقامة، علاوة على الفوضـى العارمة لأحوال معسكر طالبي اللجوء، دفعتهم ونظرائهم من عوائل أخرى، للتفكير في مغادرة هذا البلد صوب بلد آخر.

     قبل المغادرة انتابهم القلق والتردد، لم يهدأ بالهم، بل ارتبكوا كثيراً، وشُحِبت طلعاتهم إزاء الظروف السيئة التي كانوا يعيشون فيها، لكأن القسمة مكتوبة على جباههم بأن مأساةً ما حقيقية تنتظرهم لا محالة، إن عاجلاً أم آجلاً. لهذا السبب تريثوا لبضعة أيام، وجرى تبادل الآراء والتشاور فيما بينهم.. فعبارات: هل نغادر أم لا؟ هل نغادر هذه البلاد أم لا؟ متى نُغادر؟ كانت تتردد صداها في آذانهم دوماً.

     في ليلة ليلاء غادروا تلك البلاد، كان الركاب جالسين متكاتفين داخل السيارة التي أقلتهم صامتين صمت الأخرس، قطعوا طرق الغابات الملتوية والشائكة، لم يك يتناهى إلى الأسماع سوى حفيف الأشجار، وخرير المياه، ونقيق الضفادع، الطقس كان مخيفاً، وأرغمهم على التزام الصمت المطبق. كان الولد نائماً في حضن هيمن، بينما البنت كانت نائمة في حضن والدتها جنار. وعلى خلفية الإنهاك الذي استبد بها مالت برأسها قليلاً فوق كتف هيمن لتأخذ قسطاً من الراحة.

        على حين غرة، وقبل اجتيازهم الحدود صوب بلد آخر، انطلقت زخات إطلاقات نارية نحو سيارتهم، وتسببت في إيقاف السيارة، وإثارة الجلبة والضوضاء داخلها. نزل ركاب السيارة واحداً تلو الآخر، دبَّتْ الفوضى بينهم بسبب الفزع الذي أصابهم. حينما نظروا إلى محيطهم، وإذا بهم يرون رجال الشرطة حولهم، وقد نوروا المكان بالبلاجكتورات وأضوية سياراتهم.

     في هذه الأثناء أجال هيمن ناظريه وراء زوجته جنار، لمحها وهي واقفة هنالك والدماء تنزف من جسدها، فيما كانت رقبة ابنتهما متدلية في حضن والدتها. من هول المشهد صرخ بأعلى عقيرته، وتوجه صوب جنار قائلاً لها:

-           ماذا بكِ يا حبيبتي، وما هذه الدماء التي تنزل على جسدكِ؟

رمقتْ جنار الى ابنتها مندهشة. ثم زعقت بأعلى صوتها قائلة:

-           أيها الناس ابنتي.. أيها الناس ابنتي..!

سحب هيمن ابنته من حضن زوجته، وإذا به يرى خرطوشة أصابت رأسها، والدماء تنزف فوق صدغيها، وعلى مرأى رجال الشرطة والناس رفع ابنتهما إلى السماء قائلاً:

-           يا إلهي، لِمَ نحن الكورد المظلومين نُصاب بهذه الأهوال حتى في بلاد الغربة؟!

     حين رأى رجال الشرطة هذا المشهد المُفجع ل(الرضيعة) أُصيبوا بالصدمة،على إثرها جثوا على ركباتهم، وأنزلوا قبعاتهم من فوق رؤوسهم إجلالاً لها، وقد أجهشوا في بكاءٍ مُرّ، جنباً إلى جنب الناس المتجمهرين هناك.

     أخيراً، وعِبر مراسم حكومية لائقة، تم مواراة (مَوْدا) الثرى من قبل والديها، وجمع كبير من المواطنين البلجيكيين، واللاجئين الكورد هناك، في مقبرة المغتربين. ومن هناك زارتها ملائكة الرحمن، ونَقلْنَ روحها الطاهرة إلى جوار ربها.

                                                        نهاية سنة 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق