د. أكرم فتاح سليم
أستاذ جامعة دهوك
يعتبر موضوع أبدية العالم مسألة فلسفية قديمة ومتجددة، وعادة ما يستخدم منكرو البعث والحساب والجزاء هذه المسألة، ويرددون بأن العالم أبدي لا نهاية له. ومعنى كلمة (الأبد) هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل، كما أن (الأزل) استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، والسـرمدي ما لا أول له ولا آخر.
واذا نظرنا الى موقف فلاسفة المسلمين عموماً، نراه قائماً على الربط بين فكرة الأزلية وفكرة الأبدية. فكل ما له
انقضاء ونهاية له مبدأ. إذ إن صحة فناء العالم، بعد وجوده، يعد فرعاً من الحدوث. فمن قال إن العالم حادث، فقد قال بجواز فنائه. بمعنى أن العدم قبل الوجود، كالعدم بعده، لا تمايز بينهما، ولا اختلاف فيهما. يرتبط هذا الموضوع بالعديد من المشكلات
الكلامية، ومن بينها مشكلة حدوث العالم، وقدمه. كما يتضح ذلك في ردّ الغزالي على
الفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة)، وتكفيره إياهم للقول بقدم العالم.
فقبل الحديث عن الأبدية، لا بد
أن نتحدث عن الأزلية والأبدية معاً؛ لأنهما قضيتان متلازمتان تقريباً، إذا بحثت
الأولى بحثت الثانية بشكل متماثل، وكل من تحدث في مسألة الأبدية، جعلها فرعاً
للمسألة الأولى، أي الأزلية؛ لأن الحجج والأدلة نفسها جارية فيها. قال الغزالي:
"ليعلم أن هذه المسألة فرع الأولى، فإن العالم عندهم، أي الفلاسفة، كما هو
أزلي لا بداية لوجوده، فهو أبدي لا نهاية لآخره، ولا يتصور فناؤه". فالعالم
عندهم معلول، وعلته أزلية أبدية، فكان المعلول مع العلة، ويذكرون أنه إذا لم تتغير
العلة لم يتغير المعلول، وعليه بنوا منع الحدوث.(1) ويرون من الفعل مما
لا نهاية له، فليس عندهم مبدأ ولا منتهى، ولذلك ليس يصدق على شيء منه أنه قد انقضى،
ولا أنه قد دخل في الوجود، ولا في الزمان الماضي؛ لأن كل ما انقضى فقد ابتدأ، وما لم
يبتدأ فلا ينقضي(2).
والأصح أن نقول إن الفعل يشمل
الزمان مع الحركة، والزمان مقدار الحركة، فهما ليس أزليين، بل لهما بداية ونهاية.
فهذا يعني أن الفعل، أي فعل، له بداية ونهاية، ويشمل جزءاً من أجزائه، فإذا كان
جزء من أجزاء الفعل له بداية ونهاية، فالأجزاء الأخرى ينطبق عليها نفس الكلام.
فإذا كانت الفلاسفة استدلوا على منع الحدوث،
بالقول بأن العالم معلول لعلّة أزلية أبدية، أي أن المعلول مع العلة ضـرورة، وإذا
لم تتغير العلة لم يتغير المعلول، فهم سلكوا هذا المسلك بالنسبة لأبدية العالم
(3).
ولـ (إخوان الصفا) رؤية غريبة في هذا الموضوع،
فهم لا يعتقدون بأبدية العالم (4)، إذ
إن العالم إنسان كبير، وموت الإنسان مفارقة نفسه جسده، وبعد المفارقة يضمحل الجسد،
ولا تبقى صورة الإنسان. وموت العالم هو مفارقة النفس الكلية له، فحينما تفارقه،
تبطل حركات الأفلاك، وإذا هي بطلت بطل العالم، وتلك هي القيامة الكبرى. والنفس
الكلية لها جانبان، جانب أعلى يتصل بالعقل الفعَّال، ومنه يتلقى الفيض، وجانب أدنى
متصل بالهيولي، تفيض عليها الصور والأشكال. والنفس الكلية عندما تنتهي من إلقاء
هذه الصور والأشكال، تترك الجسم وتتخلى عنه وتتجه بكليتها نحو العقل الفعَّال،
فإذا هي تركت الجسم المطلق، يبقى هو من غير مدبِّر ومحرِّك، فيسكن الفلك عن
الدوران، والكواكب عن السير (5). ويحتجون
لذلك بدليل من خمس مقدمات، و هي: -
1. الفاعل المختار،
هو الذي يقدر على الفعل وتركه متى شاء، فهذه مقدمة موجبة صادقة، حسب الإصطلاح
المنطقي، ويبدو أن هذه المقدمة عبارة عن شـرح معنى الاختيار.
2. كل فاعل حكيم
مختار، فله في فعله غرض، وهذه موجبة كليّة صادقة، وهي شـرح لمعنى الحكيم.
3. الغرض هو عناية
سابقة في علم الصانع قبل إظهار صنعته، من أجل أن يفعل ما يفعله، فإذا بلغ إلى غرضه
قطع الفعل وأمسك عن العمل، وهذه مقدمة لتحديد معنى الغرض.
4. كل حكيم صانع إذا
علم علماً يقينياً أنه لا يبلغ إلى غرضه في فعله، فإنه لا يعمل شيئاً فلا يطلبه،
وهذه مقدمة كلية موجبة صادقة.
5. محرِّك الأفلاك
والكواكب فاعل مختار حكيم قادر، وهذه مقدمة موجبة، فينتج من هذه المقدمات، أن العالم سيخرب يوماً.(6)
قد تعرض الفلاسفة والعلماء منذ زمن طويل إلى
طبيعة الزمن، فهو كالنهر الجاري الذي يسير تياره بصفة منتظمة، من منبعه إلى مصبه،
وهذا يعني أن للزمن بداية ونهاية، فإذا كانت له بداية فمن أين جاءت؟ وإذا كانت له نهاية،
فهذا يعني أنه سيأتي زمن لن يكون فيه زمن، ولكن العقل لا يستطيع أن يتقبل هذا
القول، فمن الصعب أن نتصور مثلاً أن لحظة قد ظهرت بدون لحظة سابقة، أو أن تكون
هناك لحظة قادمة بدون لحظة تتبعها(7).
والأصح أن أبسط مثال يمكن أن
نقدمه هنا عن علاقة الحركة بالمكان وبالزمان، هي وسائل المواصلات، فلو فرضنا أن
سيارة تتحرك بسرعة 70 كم في الساعة من أربيل(8) إلى زاخو(9)
دون توقف، وبسرعة منتظمة، فإنك تستطيع أن تعتمد على الزمن لتحدد مكانها، أو أن
تعتمد على المكان لتحدد الزمن، فنقول إنه بعد ساعة ستمر بمدينة عقرة(10)،
وبعد ساعة أخرى ستمر بمدينة دهوك(11). فحركة الأرض حول محورها، ثم حول الشمس،
هي التي تعطينا إحساساً بمرور الزمن، ولولا هذه الحركة، ما عرفنا شيئاً اسمه الزمن.
ذلك أن قياسات الزمن ليست في حقيقة الأمر إلا أماكن محددة في الفضاء، فالضحى أو
الظهيرة أو الغروب، ليست إلا زوايا محددة بيننا وبين الشمس، أي أن الأرض تتحرك في
المكان ليكون الزمان(12).
واعتبر العلماء قبل مجيئ (أينشتاين)(13)
أن الزمن مطلق، شيء ثابت لا يتغير، كما أنه مستقل بذاته، ويسـري سـرياناً منتظماً،
ولا أحد يستطيع أن يقول إن الزمن يبطئ أو يسرع أو يتوقف. وعندما جاء (أينشتاين)،
ودرس الموضوع دراسة فيها تأمل وأصالة، بيّن أن الزمن شيء نسبي، وأن المتناقضات
التي وقعنا فيها من قبل، وعند مناقشة موضوع السـرعة والحركة في الكون، كانت منبثقة
من خطأ؛ ولأننا اعتبرنا الزمن شيئاً ثابتاً لا يتغير، ولكنه في الواقع متغير
ونسبي، وأنه يعتمد على الحركة، ويتغير تبعاً للحركة، أي لا بد أن يقيس كل من في
الكون زمنه في الإطار الذي يتحرك فيه، حتى لا يقع في متناقضات كثيرة، ويرجعها إلى
عدم تناسق قوانين الكون، رغم أن القوانين الكونية واحدة في كل أرجاء السماوات،
ولكنها قد تبدو لنا غير متناسقة، نتيجة قصور قدراتنا في هذا الكون العظيم(14).
ويؤكد ابن سينا الارتباط التام بين الزمان وبين
الحركة، فيؤكد أنه: "لا يتصور الزمان إلا مع الحركة، ومتى لم يحسّ بحركة، لم
يحسّ بزمان، مثلما قيل في قصة أصحاب الكهف". ويذكر أيضاً: "أن الزمان
ليس محدثاً حدوثاً زمانياً، بل حدوث إبداع، لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة، بل
بالذات، ولو كان له مبدأ زماني، لكان حدوثه بعد ما لم يكن، أي بعد زمان متقدم،
وكان بعداً لقبل غير موجود معه، فكان بعد قبل وقبل بعد، وكان له قبل غير ذات
الموجود عند وجوده، وكل ما كان كذلك، فليس هو أول قبل، وكل ما ليس أول قبل، فليس
مبدأ للزمان كله. فالزمان مبدع، أي يتقدمه باريه فقط"(15). والمكان
ليس هيولي الشيئ ولا صورته، وليس هو الخلاء، إذ لا يوجد خلاء، والمكان شيء فيه
الجسم، فإما أن يكون ذلك على سبيل التداخل، وإما أن يكون على سبيل الإحاطة. ويبحث ابن
سينا في الخلاء لإبطاله، إذ لو كان الخلاء موجوداً، لكان فيه أبعاد، وفي كل جهة،
وكان يحتمل الفصل في الجهات كالجسم. ولو كان الخلاء موجوداً، لما كان يختص فيه
الجسم المحيط إلا بجهة تعين، فيجب أن يكون لهذا المحيط جهة. ولو كان خلاء لكان له
حيز من الخلاء مخصوصاً، ووراءه أحياز أخرى خارجة عن حيزه، لا يتحدد بها حيزه، ولا
تتحدد هي لحيزه. ويستمر ابن سينا في بيان أنواع التناقض التي تنجم عن افتراض وجود
الخلاء، وينتهي من ذلك إلى إبطاله(16). أمّا
الأدلّة العلمية على بطلان أبدية المادة، فهي كثيرة. منها:
ما قاله (جون كليفلاند كوتران)، عالم الكيمياء والرياضيات: "تدلنا
الكيمياء على أن بعض المواد على سبيل الزوال والفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء
بسرعة كبيرة، والآخر بسرعة ضئيلة. وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية". فالنتيجة:
لا دليل على أن المادة أزلية وأبدية، والأدلة العقلية والعلمية الحديثة، تدل على
أن المادةَ ليست بأبدية، بل لها بداية ونهاية، وبهذا تسقط دعوى أبدية المادة والعالم.
ويوم البعث والحساب والجزاء آتٍ لا محالة، والشـرير سيأخذ جزاءه بعذاب في جهنم،
والصالح يأخذ جزاءة بالنعيم في الجنة. فالذين يثيرون موضوع أبدية العالم ينكرون
خالق الكون - والعياذ بالله -، وكذلك يوم القيامة؛ يوم الجزاء والميزان.
الهوامش
(1) موقف الغزالي من
الفلاسفة، إشراف: دكتور السيد رزق الحجر، إعداد الطالب: موسى بن محمد بن هجاد
الزهــراني، إشراف: دكتور السيد رزق الحجر، رسالة ماجستير، 2003-2004م، قسم
الفلسفة الإسلامية، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ص16.
(2) المادية والمثالية في
فلسفة ابن رشد، دكتور محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، ص63- 64.
(3) النـزعة العقلية في
فلسفة ابن رشد، دكتور عاطف العراقي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1984م،
ص182-183.
(4) إخوان الصفاء: جماعة سـرية
ظهرت بالبصـرة، في النصف الثاني من القرن العاشـر الميلادي، اجتمعت على النصح
والطهر من الدنس، وضعت لنفسها مذهباً، أرادت به أن تظهر الشـريعة بوساطة الفلسفة
من الاجتهـادات التي علقت بها، معتقدة أن الكمال إنما يتألف من امتزاج الفلسفة
اليونانية بالشـريعة الإسلامية. (الموسوعة الفلسفية، دكـتور فيصل عباس، مركز الشـرق
الأوسط الثقافي للطباعة والنشـر والترجمة والتوزيع، الطبعة الأولى، 1432 هـ =
2011م، ج14، ص66).
(5) إخوان الصفاء فلسفتهم
وغايتهم، دكتور فؤاد معصوم، ص229-230.
(6) نفس المصدر السابق،
ص230-231.
(7) الإنسان والنسبية
والكون، دكتور عبد المحسن صالح، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشـر، 1970م،
ص74.
(8) أربيل: قلعة حصينة
ومدينة كبيرة، عاصمة إقليم كوردستان العراق، قام بعمارتها، الأمير مظفر الدين. تقع
محافظة أربيل في وسط كوردستان، تبلغ مساحة المحافظة 13165كم2، وعدد سكانها يقدر
بحوالي 1532081 نسمة، وتتألف محافظة أربيل من عدة أقضية: أربيل، بنصلاوة، جومان،
ميركسور، خبات، كويسنجق، راوندوز، سوران، شقلاوة. (ياقوت بن عبد الله الحموي، معجم
البلدان، ج1، ص140). وكذلك: http://www.cosit.gov.iq/ar/، الجهاز المركزي للاحصاء.
(9) زاخو: مدينة في أقصى
شمال كوردستان الجنوبية، قرب حدود تركيا، على أحد روافد دجلة، لها مناخ لطيف في
الصيف، وبارد في الشتاء، حولها جبال، وقممها مغطاه بالثلوج، وفيها بساتين وأشجار كثيرة،
ومياه وافرة، يجري الخابور وسط المدينة، وهي مركز قضاء بمحافظة دهوك. (المنجد في الأعلام، لويس معلوف، ص276).
(10) عقرة: قلعة حصينة في
جبال الموصل، أهلها أكراد، وهي شرقي الموصل، تعرف بعقر الحميدية، تقع شـرق مدينة
دهوك، مركز قضاء عقرة بمحافظة دهوك. (ياقوت بن عبد الله الحموي، معجم البلدان، ج4،
ص136).
(11) دهوك: مركز محافظة
دهوك، شمال غرب كوردستان الجنوبية، اشتهرت بجمالها، وبجبالها الشاهقة، وبساتينها.
في عام 200هـ=916م، كانت دهوك مركزاً لإمارة (داسن سفلى)، بعد أن تأسست إمارة
الشيخان، قضى عليها الأمير حسن بك بن سيف الدين بك، أول أمير بهدينان، سنة 891هـ=1486م.
تبلغ مساحتها 10715كم2، أما عدد سكانها فيقدر بحوالي 1072324 نسمة. ولمحافظة دهوك
سبعة أقضية: دهوك، زاخو، عقرة، شيخان، سميل، بردرش، عمادية. (بشير سعيد عبد
الرحمن، بهدينان وعشائرها-دراسة تاريخية، مطبعة خاني-إقليم كوردستان العراق-دهوك،
الطبعة الأولى، 1427هـ،2006م، ص144). وكذلك: http://www.cosit.gov.iq/ar/، الجهاز المركزي للاحصاء.
(12) الإنسان والنسبية
والكون، دكتور عبد المحسن صالح، ص76، مصدر سابق.
(13) أينشتاين (ألبرت):
(1879- 1955م)، فيزيائي أمريكي، ألماني الأصل، وضع نظرية (النسبية)، وحاز على جائزة
نوبل 1921م. (المنجد في الأعلام، لويس معلوف، ص96، مصدر سابق).
(14) الإنسان والنسبية
والكون، دكتور عبد المحسن صالح، ص77-78، مصدر سابق.
(15) موسوعة الفلسفة، دكتور
عبد الرحمن بدوي، ذوي القربى، الطبعة الأولى، تاريخ الطبع 1427هـ، ج1، ص54.
( 16) نفس المصدر السابق، ج1،
ص55.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق