30‏/03‏/2021

دوائر المعنى وخطاب الواقع


أ. م. د. سامي محمود إبراهيم

قسم الفلسفة / كلية الآداب/ جامعة الموصل/ العراق

في عالم مشحون بظواهر الظلم التي تمزق كبد العاقل كما يتمزق قلب المؤمن من دلالات الفسوق والتفريط في المقدسات على مذابح الشهوات، يستهلك الضمير، ويصبح العرى الفكري والأخلاقي سمة العصـر بامتياز.

تحول العالم إلى لعبة كونية خطيرة تحكمها القوانين السائلة ونهايات اللايقين. فأرضنا لم تعد صلبة كما كانت. وعلى حبل غسيل الأحلام، تُنشـر عقولنا المبتلة بالأوهام. تركنا التاريخ يكتب قصة الحاضـر، وما زلنا نعصـر بسنّ

قلمه في صميم العقل، حتى فاضت الكلمة. بقي المعنى هائماً يردد أخبار مدننا المستباحة، لانتهاء سيرك المحاصصة، وكراسي المتفرجين. بيع الضمير العالمي في العلن، وحين سـرق رغيف الجوع، أجمع الساسة على استباحة طينه، وجزموا بمصيره إلى سجون العذاب، وهم يسـرقون حتى حبة الشعير من تنور الحياة. لم تبق على أبوابهم سوى رفات أحلام خاوية، يرتقها الأطفال من القمامة. وها هي الأرض تفرش عناءها على منصة الزمن، تتقصـى خطى الضمائر، وتحمل الإنسان فينا أمانة. فحين رمى عقل الحداثة الغربية موقفه من الوجود، استيقظ (نيتشة) قائلاً:

أين الإله؟ أنا سأقول لكم ذلك! لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن كلنا قتلناه! لكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟ من أعطانا الإسفنجة لمحو كل هذا الأفق؟ ماذا فعلنا بفصلنا الأرض عن شمسها؟ إلى أين تقود حركاتها، حركاتنا؟ أبعيداً عن كل الشموس؟ ألم نندفع في منحدر لا قرار له؟ أما يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألسنا نتيه صوب عدمٍ لانهائي؟

لذلك تبدو العودة إلى مراجعة موقفنا من الفكر الفلسفي ضـرورة ملحة، لبحث جذور الأزمة الفكرية التي نعانيها.

ومعظم الرؤى والتصورات التي يتبناها خطابنا الفلسفي متطرفة، وغير مكتملة، بل ومثيرة للسخرية..

 لذلك بقيت إنسانيتنا مهدورة من قبل الطاغية المتسلط. وهذا كله تحركه الخلفية المعرفية للغرب، بأبعادها السلطوية كافة، وتغذيها النزعة الأمريكية العابرة للقارات. وهكذا نتيجة الشعور باليأس، يحاول الخطاب الفلسفي أن يخضع حياتنا للمصادفة، وينفي لدينا الشعور بالمسوؤلية، والوعي بالمستقبل. كل هذا أدى إلى انهيار المستقبل، ذلك البعد الإنساني المهم، وأصبحنا نحكم الظن والاحتمال.. وهذا ما يفسـر عداواتنا، وحروبنا الطائفية، وقلة وعينا، وحيلتنا، وهواننا على العالم.

هكذا تنتصـر الفلسفة الأمريكية، وآيديولوجياتها.. أما نحن، فبقينا نجتر نفايات الفكر الغربي، ونعمل على تسويق بضاعته التقنية، والتكنولوجية. ولو تم رفع هذه الوسائل، والتقنيات، لأنكرنا الزمن ذاته، ولثبت شـرعاً وعقلاً: أننا لا نستحق العيش فيه.

فمن دموع ضحايا القتل والتهجير، تغتسل الفلسفة، لتصلي صلاة الغائب على العقل الشـرقي.. من دماء الشهداء والمعذبين، ترسم أفكار العرب والمسلمين.. من حيرة المثقف الناظر في وجه السياسة البغيض، يُكتب مستقبل الأمة..

كما أن مستقبلنا الغائب اللاجيء إلى الغرب، مرجعيتنا فيه جحافل النازية، وخليفتها الفاشية. نتقمص على أسواره بشاعة الشوفينية، ووضاعة الليبرالية الصهيو أمريكية.. ونحن في وسط هذا التيار العنيف، نتنفس الألم، من بشاعة الكوارث التي سببتها أسطورة الفلسفات اللاعقلانية المدمرة.. فمن الصعب أن نعقل في حضارة الجنون الوحشـي المستعر، ونحن أمام المسـرح العالمي المخيف، نشاهد على خشبته الأحداث المرعبة؛ من تطرف، وقتل، وعنف، وإرهاب.. جماعات، وعصابات منظمة، وممولة لإثارة الفتن والمشاكل، شـركات احتكارية عابرة للقارات، شعوب مهددة بالإبادة والتهجير.

وهكذا تتبدد أوهامنا في قصة الفلسفة، حتى النظام الأخلاقي والروحي تزيحه فوضى اللاحتمية، فالكون عقلاني بنسبة ضئيلة جداً.

أمّا التقنية والتكنولوجيا المعاصـرة، والتي أفلتت من كل السلطات، بدأت تستهدف جينات الإنسان الحقيقي، تستهدف كل ما هو أخضـر وجميل.. وعلوم الذرة والأشعة والطاقة ستوجه مدافعها إلى الأرض، ليتم تقسيمها، وإبادتها، ومن ثم مسح رسالة الإنسان عليها.

وليس مستغرباً أن يكون الموت، الغدر، الاعتداء، الاغتصاب، التجبر، الظلم، شعار فلسفة الآخر. لكن المستغرب، والأغرب، وعينا المعطل بحقيقة هذا الواقع. نغنّي الحرية، وصدورنا تتشظى أنيناً من أعظم أنواع القهر والأسـر والعبودية. تنهشنا كلاب الإيديولوجيات المختلفة بأفكارها الهدامة المحظورة إنسانياً، والتي لا يمكن النيل منها، وكشف أسـرارها، وأبعادها، ومخططاتها، إلا عندما نحمل شعار (فلنتفكر)، بروح صادقة أمينة، تكتب بمداد (العقل) و(الإيمان).

إذن، نحن بحاجة إلى الفلسفة، روحياً ومادياً، لنتمكن من آليات النهوض، نستثمر الذات الإنسانية في الوجود، فنتوسع داخل فلك الحضارة.

وبذلك نتخلص من حتمية السقوط والانحدار، إلى حتمية النهوض في مسار الحياة العالمية. هذا التحول يتزامن مع رؤية فلسفية عالمية كونية، تمتلك بصـراً حاداً، يغوص في أعماق بئر الواقع، لينتشل سـر كينونتنا الغامض !

معنى هذا أن الإجابة التي تغري طموح الفلسفة، وكبرياءها، محجوبة عن محض التفكير الإنساني المجرد المحدود ذي الوسائل المحدودة. أليست هذه دعوة لأن يلزم الفيلسوف حدوده، وأن يعرف المسالك والفجاج التي يمكن أن تمثل سبحاً للعقل والتجربة، ويعمل من خلالها ليراكم الحقيقة. أم أن الخوف الأزلي، الذي لا ينفك يلازم الفلسفة من المحدود والمحسوس، سيجعل من الفيلسوف مستكبراً عن الحقيقة، التي يدعيها هدفاً، ومحبوباً أسمى.

إن الدين وأسـراره الروحية، والإنسان وعوالمه، والأخلاق والكون، هي محاور ثمينة يمكن أن تمثل موضوعاً يلبي طموح أو حاجة التفلسف لدى الإنسان الفيلسوف، وهو ما يجعل عقله دوماً منتبهاً؛ لأن السـر العجيب والجميل الذي يحسه الفيلسوف داخل الإنسان، والمحيط الطبيعي، والكوني، أثمن من أن يغفل عنه. فالبحث والتأمل في المحسوسات والمعنويات، وأسـرارها، هو ضـرب من المتعة، ومن تحمل المسؤولية، لا ينفك يعطى للإنسان من المعقولات ذات الدلالة والمغزى، ما يجعله يرى من الآيات في النفس والآفاق، حتى يتبين له الحق. فآيات النظر دالة على النفس والآفاق، وعلى قيومها سيد الإنسان، وخالقه - سبحانه وتعالى-.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق