د. دحام إبراهيم الهسنياني
من أهداف الداعين إلى الإسلام والعاملين له: الاتحاد والألفة،
واجتماع القلوب، والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة، وكل ما يمزق الجماعة
أو يفرق الكلمة، من العداوة الظاهرة، أو البغضاء الباطنة، ويؤدي إلى فساد ذات
البين، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعاً. فلا يوجد دين دعا إلى الأخوة، التي
تتجسد في الإتحاد والتضامن، والتساند والتآلف، والتعاون والتكاتف، وحذر من التفرق
والاختلاف والتعادي، مثل الإسلام؛ في قرآنه وسنته.
وأخبرنا الله – سبحانه - بأن المسلمين إذا لم يتوحدوا فسوف يضعفوا وتضيع قوتهم: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ
إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}([1]).فهذه الآية الكريمة تبين أحد الأسباب
الرئيسية التي جعلت المسلمين محرومين من القوة اللازمة في العالم اليوم: وهي عدم
الانضواء تحت لواء الوحدة.. فلو أن جميع المسلمين توحدوا؛ لمكّنهم الله – سبحانه -
من تحقيق النجاح في كثير من المجالات، مثل تحقيق النهضة في البلاد الإسلامية،
وتحقيق الإعمار والإنشاء، ومد يد العون والمساعدة للمظلومين من المسلمين، والنضال
الفكري المطلوب لحمايتهم والدفاع عنهم، وتبليغ الأخلاق الإسلامية، والتبشير بها،
في كافة أنحاء العالم، على أحسن وجه، وتسجيل عدد من النجاحات النافعة للإنسانية
كافة، في المجالات العلمية والصناعية والثقافية. وبعبارة الإمام بديع الزمان سعيد
النورسي فإن أكبر خطر على العالم الإسلامي هو: "الجهل والفقر والاختلاف،
ويمكن الانتصار على هذه الأخطار الثلاثة بواسطة الصناعة والمعرفة والوحدة"([2]).
صدى دعوة النورسي:
دعوة الإمام النورسي إلى الوحدة والاتحاد لقيتْ من النجاح
والتجاوب ما جعلها تتخطى الحواجزَ الضخمة، والسدودَ المنيعة، فقد مستْ شغاف
القلوب، وحرَّكتِ المشاعر، وترددتْ أصداؤها في الخافقين، وسار ذِكرُها العاطر في
المشارق والمغارب، فإذا الأمة الإسلامية تصحو على حقيقة وجودها، التي كانت الدعاوى
الزائفة تحاول حجْبها، وإذا بها تدرك أنها قد جانبتْ رسالتها، أو كادت، في حقب
مضتْ، وقد آن لها أن تعود لتؤدي دورها، وتقوم بواجبها.
كبرى المشاريع التي دعا إليها الإمام
النورسي لتوحيد المسلمين
أولاً: الاتحاد الإسلامي:
في بداية الصحوة الإسلامية في العصـر الحديث، وظهور بوادر
البعث والنهضة الفكرية في العالم الإسلامي، كانت قضية الاختلاف هذه محل عناية عند
المصلحين ورجالات الفكر الإسلامي المعاصـر، لأنهم أدركوا أنها من معوقات الفكر
الإسلامي.
ومع بداية القرن العشرين الميلادي
تنبه الإمام بديع الزمان النورسي - رحمه الله - لهذه المسألة، فوقف عندها ناظراً
متأملاً فاحصاً، على عادته - رحمه الله - في تأملاته ونظراته العميقة في حقائق
الأشياء، وهو من الذين كانوا يدعون إلى الوحدة والائتلاف، والبعد عن التفرق
والاختلاف، وتناول فكرة الوحدة والاتحاد الإسلامي بصورة واضحة في كثير من مؤلفاته،
ووقف عليها طويلاً. وقد اهتم بغاية وحدة المسلمين، واتحادهم، إلى درجة فائقة من
الأهمية، حتى بيّن في مقالته المكتوبة تحت عنوان (صدى الحقيقة)، المؤرخة بـ(27
مارت 1909)، هذا الفكر الآتي بعينه: "لا رياء في الفرض، وأكبر فريضة في هذا
العصـر هي الاتحاد الإسلامي".
وقد صـرّح، في أكثر من موضع وبأسلوب صـريح،
إنّ من أهم غايات ومقاصد رسائل النور العمل على توحيد كلمة المؤمنين، ولمّ شملهم،
لخدمة هدف واحد، مؤدّاه خدمة الإيمان نفسه، وطريقُهُ التأسيس العملي للوحدة الشعورية
بين المؤمنين أنفسهم؛ فلا يصح أن يبقى المؤمنون مشتتين في أهدافهم وجهودهم. يقول
رحمه الله: "الاتفاق مع أهل الحق هو أحد وسائل التوفيق الإلهي، وأحد منابع
العزة الإسلامية"([3]).
فالاتحاد يقوّي الضعفاء، ويزيد
الأقوياء قوّة على قوتهم، فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات
المتفرقة والمتناثرة ضعيفة بتناثرها، وإن بلغت الملايين، ولكنها في الجدار قوة لا
يسهل تحطيمها، لأنها باتحادها مع اللبنات الأخرى، في تماسك نظام، أصبحت قوة، أيُّ
قوة. ويرى الإمام النورسي -رحمه الله- بأن النزاعات والاشتباكات العرقية،
والألسنية، عاملان أساسيان في تشتيت شمل الأمة الإسلامية، لا على النطاق العالمي
فحسب، بل وحتى على المستوى الوطني. وإن اتحاد الأمة على أساس الإسلام، هو الدواء
الذي يصفه النورسي لداء التفرقة. يقول - رحمه الله-: "لقد آن أوان الاتحاد
الإسلامي، وهو على وشك أن يتحقق، وعليه ينبغي أن تصـرفوا النظر عن تقصيراتكم
الشخصية، وليتجاوز كل عن الآخر"([4]).
والحقيقة أن الدولة العثمانية كانت
أمل جميع مسلمي العالم. وقد كان بديع الزمان سعيد النورسي يشعر بهذا الوضع، ككثير
من المثقفين المسلمين في تلك المرحلة. وعندما حوكم في ديوان الحرب بعد حادثة 31
آذار، يذكر في مدافعته أسماء الشخصيات التي قبلها سلفاً في موضوع وحدة الإسلام،
ويقول:
"لقد بايعت السلطان سليم، وقبلت
فكره في (الاتحاد الإسلامي)، لان ذلك الفكر هو الذي أيقظ الولايات الشـرقية، فهم
قد بايعوه على ذلك. فالشـرقيون الآن هم أولئك لم يتغيروا. فأسلافي في هذه المسألة
هم: الشيخ جمال الدين الأفغاني، ومفتي الديار المصـرية الشيخ محمد عبده. ومن
العلماء الأعلام علي سعاوي، والعالم تحسين، والشاعر نامق كمال، الذي دعا إلى (الاتحاد
الإسلامي)، والسلطان سليم، الذي قال: "إن مغبة الاختلاف والتفرقة يقلقاني حتى
في قبري، فسلاحنا في دفع صولة الأعداء إنما هو الاتحاد، إن لم تتحد الأمة فإنّي
أتحرّق أسى". ويقول: "أوجب الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد الإسلام (الوحدة
الإسلامية)"([5]).
ليس غريبًا أن تكون الجامعة الإسلامية هي
أمنية كل مسلم؛ بل إن الغرابة تكمن في أن تكون هذه الجامعةُ لم تخرج إلى حيز
الوجود في هذا العصـر، وأن يستعاض عنها بأسماء وشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع؛
بل إنها شعارات شتَّتَتِ الجمع، وقطعت الأواصـر بانعزالها وإقليميتها الضيقة،
وقوميتها التي تشعر الآخرين بانفصالها وانطوائها على نفسها.
والجامعة الإسلامية يدعو لها الدين، وتفرضها
الأخوةُ الإسلامية والروابط الدينية، وفيها قوة هائلة لستمائة مليون نسمة ينضوون
تحت لواء التوحيد، ويتعاونون لما فيه كرامتُهم وعزتهم، وتجمعهم جامعةٌ يلتقون
فيها، ويتفاهمون في إطارها، ويكمل بعضهم بعضًا في كل النواحي، سواء أكانت اقتصادية،
أم ثقافية، أم سياسية، أم عسكرية، في رقعة فسيحة من الأرض.
وإذا كانت الجامعة الإسلامية يفرضها الدين،
فإن الحاجة ملحَّة تدعو إليها؛ لتتبوأ الأمة مكانًا لائقًا، ولترفع رأسها شامخًا
لا يعرف الخضوع والذلَّ إلا لله رب العالمين، إله الكون، ومدبر الخليقة. وهذا ما
كان يدعو إليه الإمام بديع الزمان النورسي - رحمه الله-.
ويقول الإمام النورسي، مبيّناً مبادئ الاتحاد
الإسلامي: "الاتحاد الإسلامي مجلس نوراني ممتد من الشـرق إلى الغرب، ومن
الجنوب إلى الشمال. وقد دخلنا ذلك المجمع بالإيمان، الذي هو يميننا وعهدنا بالميثاق
الأزلي، فنحن أهل توحيد مأمورون بالاتحاد"([6]).
ثانياً: إنشاء جامعة الزهراء:
اهتم
النورسي بمتابعة أحوال العالم الإسلامي، من خلال الاطلاع على ما ينشـر في الصحف
اليومية، والمطبوعات الأخرى.
وأثناء
إقامته في (وان) قرأ خبراً مثيراً، نقلته إحدى الصحف المحلية عن خطاب لوزير
المستعمرات البريطانية (وليم غلادستون)([7])، في
مجلس العموم البريطاني، حيث كان يخاطب النواب وبيده نسخة من القرآن الكريم قائلاً:
"ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، فلا مناص لنا من أن
نزيله من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به"([8]).
هزّ هذا
الخبر كيان النورسي هزاً عنيفاً، وأدرك بذكائه واطلاعه أن العالم الإسلامي يتعرض
لهجوم غربي جديد، يستهدف إخضاع المسلمين، وتقويض عقيدتهم؛ وهذا ما جعله يقرر تسخير
حياته لإظهار إعجاز القرآن الكريم، وربط المسلمين بتعاليمه، ووعد قائلاً: "لأبرهنن
للعالم أن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها"([9]).
ولإنجاز
وعده، فكر في إنشاء جامعة إسلامية في كوردستان، تحت اسم (مدرسة الزهراء)([10])،
تكون مركزاً لخدمة القرآن الكريم، على غرار (الجامع الأزهر) بمصـر، وفق نظام حديث،
تجمع في التدريس بين العلوم القرآنية والعلوم الحديثة، حتى تخرّج شباباً مثقفاً
ثقافة أصيلة، مستوعباً لما استجد من العلوم، فيسهم حينئذ في نشر حقائق الإسلام،
والدفاع عنها..
ومن أجل
تحقيق هذا المشـروع، شد النورسي الرحال إلى (استانبول)، وهو لم يتجاوز بعد الثالثة
والعشـرين من عمره، ومكث هناك سنة ونصف سنة، محاولاً إقناع المسؤولين بمشـروعه،
غير أنه لم يفلح في مسعاه؛ فرجع إلى (وان)([11]).
وفي سنة
(1907م) - أي بعد إحدى عشـرة سنة - عاد إلى (استانبول)، وأقام في (خان الشكرجي)([12])،
في منطقة (فاتح)، حيث كان ملتقى كثير من المفكرين والأدباء، أمثال الشاعر المشهور:
(محمد عاكف)([13])،
فعرض عليهم فكرته، فاستحسنوها، ودارت بينهم مناقشات علمية متنوعة، برهنت على نبوغه
وتفوقه.
وأثناء
إقامته في هذا الخان، علّق لوحة على باب غرفته، كتب عليها: (هنا تُحل كل معضلة،
ويجاب عن كل سؤال، من دون توجيه سؤال لأحد)، فأثار هذا الإعلان فضول الناس،
ويشـرح انتعاش
فكرة مدرسة الزهراء عنده، في رسالة أرسلها إلى (جلال بايار)، و(عدنان مندريس)،
بيّن فيها أضـرار العنصـرية، وفوائد الأخوة الإسلامية، على الشكل التالي:
"قبل خمس
وستين سنة أردت الذهاب إلى الجامع الأزهر، باعتباره مدرسة العالم الإسلامي، لأنهل
فيه العلوم. ولكن لم يُكتب لي نصيب فيه، فهداني الله إلى فكرة، وهي: إن الجامع
الأزهر مدرسة عامة في قارة أفريقيا، فمن الضروري إنشاء جامعة في آسيا على غراره،
بل أوسع منه، بنسبة سعة آسيا على أفريقيا. وذلك لئلا تفسد العنصـرية الأقوام في
البلدان العربية، والهند، وإيران، والقفقاس، وتركستان، وكوردستان، وذلك لأجل إنماء
الروح الإسلامية، التي هي القومية الحقيقية الصائبة السامية الشاملة، فتنال شـرف
الامتثال بالدستور القرآني: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وكذلك
لتتصافح العلوم النابعة من الفلسفة مع الدين، وتتصالح الحضارة الأوروبية مع حقائق
السلام مصالحة تامة، ولتتفق المدارس الحديثة وتتعاون مع المدارس الشـرعية في
الأناضول"([15]).
والخلاصة:
إن الإسلام لو تجسّم لكان قصـراً مشيداً نورانياً، ينوّر الأرض ويبهجها. فأحد
منازله مدرسة حديثة، وإحدى حجراته مدرسة دينية، وإحدى زواياه تكية، ورواقه مجمع
الكل، ومجلس الشورى، يكمل البعض نقص الآخر([16]).
"لذا
بذلتُ جهدي كله لتأسيس هذه الجامعة في مركز الولايات الشـرقية، التي هي وسط بين
الهند والبلاد العربية وإيران والقفقاس وتركستان وكوردستان، وسمّيتها: (مدرسة
الزهراء). فهي مدرسة حديثة، ومدرسة شـرعية، في الوقت نفسه. فمثلما بذلت جهدي في
سبيل إنشاء هذه الجامعة، بذلته في سبيل نشـر رسائل النور... "([17]).
الأسباب الموجبة لتأسيس مدرسة الزهراء:
1.
تدني العلوم في
المدارس الدينية:
إن كثيراً
جداً من الناس يمضي بميل السيادة، والآمرية، والتفوق على الآخرين، فيجعل العلم
المشوّق المرشد الناصح اللطيف، وسيلة قسـر وإكراه لاستبداده وتفوقه، فبدلاً من أن
يخدم العلم يستخدمه. وعلى هذا، فقد دخلت الوظائف بيد من ليسوا لها أهلاً، ولا سيما
الوظائف في المدارس الدينية، فآلت إلى الاندراس نتيجة هذا الأمر.
والعلاج الوحيد لهذا: تنظيم المدرسين، الذين هم في حكم العاملين في دائرة واحدة،
في دوائر كثيرة، كما هو الحال في الجامعة، كلٌ في مجال اختصاصه، ليذهب كل واحدٍ
بسوق إنسانيته، وبتوجهه نحو حقّه، ينفّذ قاعدة تقسيم الأعمال بميله الفطري،
امتثالاً للأمر المعنوي للحكمة الأزلية([18]).
2.
إصلاح الولايات الشـرقية،
وتطوير المنطقة الكوردية:
يقول
الإمام النورسي: "كنت ألمس الوضع الرديء لما كان يعيشه أهالي الولايات الشـرقية،
فأدركت أن سعادتنا الدنيوية ستحصل - من جهة - بالعلوم الحديثة الحاضـرة، وأن أحد
الروافد غير الآسنة لتلك العلوم سيكون العلماء، والمنبع الآخر سيكون حتماً المدارس
الدينية، كي يأنس علماء الدين بالعلوم الحديثة.
وحيث إن زمام الأمر في تلك البقاع، التي أغلبيتها الساحقة اُميون، بيد علماء
الدين، فهذا الشعور هو الذي دفعني إلى المجيء إلى (استانبول)، ظناً مني أن نلقى
السعادة في دار السعادة في ذلك الوقت"([19]).
فقدم إلى
السلطان عبد الحميد العريضة الآتية، لضـرورة إنشاء مدرسة الزهراء في الولايات الشـرقية: "على الرغم من أن الحكومة على علم بأحوال
أهالي كوردستان، الذين يمثلون عنصـراً مهماً في الأمة العثمانية، فاني أرجو السماح
لي بتقديم بعض المطاليب الخاصة بالخدمة العلمية السامية.
إن في
هذا العالم، عالم الرقي والحضارة، ينظر بعين الشكر والتقدير إلى أوامر الحكومة
بإنشاء مدارس في قصبات كوردستان وقراها، أسوة بالأخوة الآخرين، وبجنب ما تنجزه من
خدمات في مرافق أخرى. إلاّ أن مدى الاستفادة من هذه المدارس ينحصـر في الذين
يعرفون اللغة التركية، بينما يحرم الأكراد من العلوم والمعارف، لعدم معرفتهم
باللغة التركية، ولعدم معرفة معلميهم باللغة المحلية، لذا لا يجدون أمامهم سوى
الانخراط في المدارس الدينية طريقاً للمعرفة، مما يسبب شماتة الغرب لتفشـي الجهل،
وحدوث الاضطرابات، وانتشار الشبهات والأوهام فيما بينهم. وهذا ما يدعو أهل الغيرة
والحمية إلى التأمل، حيث الأكراد قد ظلوا في أماكنهم، بينما استفاد من هم أوطأ
منهم من كل جهة، منذ القدم، من توقفهم هذا.
فهذه
النقاط الثلاث تقض مضجع أهل البصيرة، لأنها تمهّد لضـربة عنيفة توجّه إلى الأكراد
في المستقبل. وعلاج هذا النقص هو قيام الحكومة بفتح ثلاث
مدارس نموذجية للتعليم، في مواقع مختلفة من كوردستان.
إحداها:
في (بيت الشباب)، التي هي
مركز عشائر الأرتوشي.
ثانيتها: وسط (موتقان)، و(بلقان)، و(ساسون).
ثالثتها:
في
(وان)، التي تمثل وسط (حيدران) و(سبكان).
وتدرس في
هذه المدارس العلوم الدينية مع العلوم الحديثة الضـرورية، وليكن في كل مدرسة خمسون
طالباً - في الأقل - تتكفل الحكومة بمعاشهم.
ومن
الأسباب المهمة لحياة كوردستان - المادية والمعنوية - مستقبلاً، هو إحياء بعض
المدارس. ويتم بإرساء أسس المعارف في هذه المنطقة، فتتقرر وحدة الأمة عليها،
وتسلّم قوتها العظيمة - التي تضيع نتيجة الاختلافات الداخلية - إلى الحكومة، لتوجيهها
لمقاومة الأعداء في الخارج. وبهذا يتيسر لأهل المنطقة السبيل لإظهار
جوهر فطرتهم، واستعدادهم لتقبل المدنية، واستحقاقهم العدل"([20]).
3.
المؤامرة الخبيثة
على القرآن:
قبل خمسة
وستين عاماً أخبرني والٍ من الولاة أنه قرأ في الصحف بأن وزير المستعمرات
البريطاني خطب، وبيده نسخة من المصحف الشريف، قائلاً: إننا لا نستطيع أن نحكم
المسلمين ما دام هذا الكتاب بيدهم، فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود، أو نقطع
صلة المسلمين به.
وهكذا دأبت
المنظمات المفسدة الرهيبة على تحقيق هاتين الخطتين: إسقاط شأن القرآن الكريم من
أعين الناس، وفصلهم عنه. فسعوا في هذا المضمار، سعياً حثيثاً، للإضـرار بهذه الأمة
المنكوبة البريئة المضحية.
وقد قررتُ قبل
خمس وستين سنة أن أجابه هذه المؤامرات الخطرة، مستمداً القوّة من القرآن العظيم،
فألهمني قلبي طريقاً قصيراً إلى الحقيقة، وإنشاء جامعة ضخمة. فمنذئذ نسعى لإنقاذ
آخرتنا.
وإحدى ثمراتها
- أيضاً - إنقاذ حياتنا الدنيوية من الاستبداد المطلق، والنجاة من مهالك الضلالة.
4.
دفعاً للنعرات
القومية، وإقراراً للسلام في المنطقة:
لقد ظهرت أضـرار النعرة القومية، والعنصـرية،
في عهد الأمويين، كما فرّقت الناس شـرّ فرقة في بداية عهد الحرية وإعلان الدستور،
حيث تأسست النوادي والتكتلات، كما استغلت إثارة النعرة القومية مجدداً للتفريق بين
الأخوة العرب النجباء، وبين الأتراك المجاهدين، فعّم الاضطراب، وسُلبت راحة الناس.
علماً أن الإضـرار بالناس بأعمال سلبية، هو
فطرة القومية والعنصـرية، التي فطروا عليها. والأتراك مسلمون في أنحاء العالم كافة،
فقوميتهم مزجت بالإسلام، لا يمكن فصلهم عنه. فالتركي يعني المسلم. حتى أن غير
المسلم منهم لا يكون تركياً. وكذلك العرب، فإن قوميتهم مزجت بالإسلام أيضاً،
وينبغي هكذا. فقوميتهم الحقيقية هي الإسلام، وهو حسبهم. ألا إن العنصرية، ودعوى
القومية، خطر عظيم([21]).
وقد أجاب (سعيد القديم) الذين اعترضوا من
النواب بالآتي:
لنفرض فرضاً محالاً أنكم لستم بحاجة إلى ذلك،
ولكن ظهور أكثر الأنبياء في (آسيا)، والشـرق، وظهور أكثر الحكماء والفلاسفة في
الغرب، يدل على أن الذي يدفع آسيا إلى الرقي الحقيقي هو الشعور الديني أكثر من
العلوم والفلسفة. فإن لم تأخذوا بهذا القانون الفطري، وأهملتم الأعراف الإسلامية،
بحجة التغرّب، وأسستم الدولة على الإلحاد، فأنتم مضطرون أيضاً إلى الانحياز إلى
الإسلام - لصالح الوطن والأمة - إقراراً للسلام في الولايات الشـرقية الواقعة بين
أربع دول كبرى([22]).
5.
وفاة المدارس
الدينية:
إنه بوفاة (مدرسة خورخور)، التي هي تحت قلعة
(وان) الصلدة، والتي هي مدرسة ابتدائية لمدرسة الزهراء، وغلق المدارس الشـرعية في
الأناضول كافة، الدال على وفاتها، توفت جميع المدارس، وكأن (قلعة وان)
صارت شاهداً لقبرها العظيم. فيا أيها المقبلون بعد ثلاثمائة سنة، ازرعوا على قمة
هذه القلعة زهرة مدرسة نورية([23]).
ثالثاً: إنشاء مجلس تشاوري علمي، لإحياء الاجتهاد الجماعي في العصـر الحاضـر:
نتيجة لكثرة الحوادث والنوازل المستجدة، وحاجة المجتمعات الإسلامية إلى إيجاد أجوبة شـرعية
لها، نشأت فكرة إحياء الاجتهاد الجماعي، وذلك عن طريق إنشاء مجامع فقهية تضم نخبة
من فقهاء العصـر في مختلف البلاد الإسلامية، للنظر في الحوادث والمستجدات، وإعطاء الحلول المناسبة لها في
ضوء الشريعة.
وقد دعا عدد من علماء القرن الرابع عشـر الهجري إلى تشكيل مجامع
ومجالس لممارسة الاجتهاد
الجماعي.
ومن أوائل العلماء المنادين بذلك بديع الزمان سعيد النورسي، الذي
عايش فترة انهيار الدولة العثمانية، فقد دعا إلى ضرورة إنشاء
مجلس شورى للاجتهاد، يتحاور فيه أهل
العلم للوصول إلى الحكم المراد لله.
قال بديع الزمان النورسي: "نجد
أن المشيخة قد أُوْدِعَت إلى اجتهاد شخص واحد، في وقت
تعقدت فيه العلاقات، وتشابكت، حتى في أدق الأمور، فضلاً عن الفوضى الرهيبة في الآراء
الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الأفكار، وتدني الأخلاق المريع، الناشئ من تسرّب المدنية الزائفة فينا،
وبينما كانت الأمور بسيطة، والتسليم للعلماء وتقليدهم جارياً، كانت المشيخة مودعة إلى مجلس
شورى -ولو بصورة غير
منتظمة- ويتركب من شخصيات مرموقة. أما الآن، وقد تعقدت الأمور، ولم
تعد بسيطة، وارتخى عنان تقليد العلماء، واتّباعهم... أقول: كيف يا ترى يكون بمقدور شخص
واحد القيام بكل الأعباء؟ لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصاً واحداً، ومفتيه ربما
شخص واحد أيضاً، يصحح رأيه ويصوبه، فالزمان الآن زمان الجماعة، والحاكم شخص معنوي ينبثق
من روح الجماعة، فمجالس الشورى تملك تلك الشخصية، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم، ينبغي أن
يكون متجانساً معه، أي ينبغي أن يكون شخصاً معنوياً نابعاً من مجلس شورى عالٍ.."([24]).
إن هذه الدعوة
الكريمة من الإمام النورسي، إلى إنشاء مجلس تشاوري علمي للاجتهاد، تعتبر مبادرة
فريدة في ذلك الوقت، يتم فيه التشاور بين أهل العلم والكفاءة والخبرة، حيث كان
المسلمون بحاجة إلى مؤسسة اجتهادية جماعية، تضم جميع ممثلي دول الإسلام وشعوبه،
تتدارس أحداث المسلمين ومشاكلهم، وتتلمس لها الحلول والقرارات. يقول رحمه الله: "إن
كل من يجد في نفسه كفاءة واستعداداً للاجتهاد يمكن أن يجتهد، ولكنه لا يكون بهذا
الاجتهاد موضع عمل، إلاّ عندما يقترن بتصديق نوع من إجماع الجمهور"([25])، فهذا المجلس غرضه قطع دابر الشذوذ
في الآراء، والعمل بما يتفق مع رأي جمهور الأمة، وجعل ما يصدر عنه له من القوة ما
يصح جعله ملزماً.
وهذا المجلس
يمكن أن تتنوع هيئاته، وأشخاصه، بحسب العلوم، ففي مجال التفسير – مثلاً - يقول
الإمام سعيد النورسي: "أريد تشكيل مجلس شورى علمي، منتخب من العلماء المحققين،
كل منهم متخصص في علم، ليقوموا بتفسير عظيم، ويجمعوا المحاسن المتفرقة في التفاسير
ويهذبوها. وهذا الأمر مشروط بأن تكون الشورى مهيمنة في كل شيء، والأفكار العامة
مراقبة، وحجية الإجماع حجة عليه"([26]). ذلك أن التشاور في الأمر يفتح
مغاليقه، ويتيح النظر إليه من مختلف زواياه، بمقتضى اختلاف اهتمامات الأفراد،
واختلاف مداركهم وثقافتهم، وبهذا يكون الحكم على الأمر مبنيّاً على تصوّر شامل،
ودراسة مستوعبة. فالإنسان بالشورى يضيف إلى عقله عقول الآخرين، وإلى علمه علوم
الآخرين.
والمسلمون اليوم
بأمسّ الحاجة إلى تجديد هذه الدعوة الكريمة، وهم أشد ما يكونون حاجة إلى الوحدة؛
سياسياً وفكرياً وتشـريعياً، خاصة وأن هذا المجلس سيكون أوسع وأشمل وأكثر اختصاصاً
من هذه المجالس والمجامع الموجودة في العالم الإسلامي، والتي تعتبر بدورها طريقاً
ورافداً لهذا المجلس، للحد من الخلاف
وهذه شذرات من خطابات النورسي في
تأصيل الوحدة:
"فيا أهل الحق! ويا أهل الشـريعة
والحقيقة والطريقة! ويا من تنشدون الحق لأجل الحق! اسعوا في دفع هذا المرض الرهيب،
مرض الاختلاف، بتأدبكم بالأدب الفرقاني العظيم، ألا وهو: {وَإِذَا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}([27])، فاعفوا عن هفوات إخوانكم، واصفحوا
عن تقصيراتهم، وغضوا أبصاركم عن عيوب بعضكم البعض الآخر، ودعوا المناقشات الداخلية
جانباً. فالأعداء الخارجيون يغيرون عليكم من كل صوب، واجعلوا إنقاذ أهل الحق من
السقوط والذلة من أهم واجباتكم الأخروية، وأولاها بالاهتمام، وامتثلوا بما تأمركم
به مئات الآيات الكريمة، والأحاديث الشـريفة، من التآخي والتحابب والتعاون،
واستمسكوا بكل مشاعركم بعرى الاتفاق والوفاق مع إخوانكم في الدين، ونهج الحق
المبين، بأشد مما يستمسك به الدنيويون الغافلون، واحذروا دائماً من الوقوع في شباك
الاختلاف"([28]).
"نحن على أمل عظيم برحمة الله أنه
بعد مرور أربعين أو خمسين عاماً تتحدون فيما بينكم - كما اتحدت الجماهير الأمريكية
- وتتبوءون مكانتكم السامية، وتوفّقون - بإذن الله - إلى إنقاذ السيادة الإسلامية
المأسورة، وتقيمونها كالسابق، في نصف الكرة الأرضية، بل في معظمها، فإن لم تقم
القيامة فجأة، فسيرى الجيل المقبل هذا الأمل"([29]).
"لا تثر الاختلاف لأجل الأحق،
بعد وجدانك الحق"([30])، إذ "أحيانا يضيع الحق لدى
التنقيب عن الأحق، فإن كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق، يكون الحقُ أحقَّ
من الأحق"([31]).
إذ يحق: "لكل مسلم أن يقول في مسلكه
ومذهبه: أن هذا (حق) ولا أتعرض لما عداه. فإن يك جميلاً، فمذهبي أجمل. بينما لا
يحق له القول في مذهبه: إن هذا هو الحق، وما عداه باطل. وما عندي هو الحسن فحسب،
وغيره قبيح وخطأ! إن ضيق الذهن وانحصاره على شيء، ينشأ من حب النفس، ثم يكون داءً،
ومنه ينجم النزاع"([32]).
إن أفكار النورسي في الشورى الجماعية،
والاجتهاد، جديرة بالتقدير. وصيغة الاجتهاد الجماعي، المتمثلة بالمجامع الفقهية
اليوم، هي صورة عملية للاجتهاد عن طريق الشورى. ولا شك أن القيود التي وضعها على
الاجتهاد الفردي لا زالت قائمة إلى اليوم.
([7]) وليم غلادستون (1809
- 1898م): زعيم حزب الأحرار في انجلترا، تقلد مناصب وزارية متعددة، تعمق في
الدراسات الدينية، وله عدة مؤلفات).(انظر: الموسوعة العربية الميسرة: 635 ـ 636).
([13]) محمد عاكف (1873 ـ
1936م): من أبلغ شعراء الترك، أصبح عضواً في دار الحكمة الإسلامية، جمع بين
الثقافة العلمية واللغوية والدينية. اشتهر بديوانه، ونشيد الاستقلال. (انظر:
المرجع السابق: 26).
دعوة بديع الزمان سعيد النورسي إلى الوحدة الإسلامية/ماعدد المجلة؟ مع الصفحة
ردحذف