30‏/03‏/2021

الأدب وقضايا الفكر والإيديولوجيا

 د. مصطفى عطية جمعة

  السؤال المحوري الذي ننطلق منه في هذا المقال: كيف يكون دور الأدب العربي في مواجهة الغلو والانحراف الفكري؟ والإجابة عن هذا السؤال تقودنا - بداية - إلى مناقشة علاقة الأدب بالمرجعيات الفكرية (الإيديولوجيات).. فالإيديولوجية هي: نظام أو منظومة منهجية للأفكار، التي ترتبط عادة بالسياسة أو المجتمع أو سلوك جماعة معينة، تدعو إلى تفسير العالم، وإلى تغييره، في آن، وتكون موضع اعتناق أو إيمان ضمني أو عام من قبل الفرد، لأنها تتألف من معتقدات وقيم يتبناها الوجدان. وهي - عادة – مترابطة، وتنتقل من وعي إلى وعي، عن طريق الرموز الاجتماعية، بطريقة مبسطة

وفعالة. أيضاً هي ترتبط بالسلوكيات والأفعال التي يقوم بها الفرد والجماعة، بل إن هذه الممارسات تعكس - بشكل مباشر - الأفكار التي يؤمن بها الفرد([1]). وهي بذلك تنطبق على الدين، وعلى الفلسفات، والمرجعيات، المختلفة، التي تنبثق منها تصورات ومفاهيم وأبعاد رؤية الإنسان للحياة، والعلوم الإنسانية، وغيرها.

   أما عن علاقة الفنون / الآداب بالإيديولوجيا، فهي علاقة مباشرة، فلا يوجد إنسان بلا إيديولوجيا، أو مرجعيات فكرية أو دينية أو فلسفية، فكل إنسان له تحيّزاته الخاصة، ورؤاه وقناعاته، التي يتخذها في الحياة والمواقف والممارسات.

    ويتميز الأديب بمقدرته على بناء عناصـر الواقع المادي بهدف إبراز عناصر فيه، أو نقده، أو الحلم بعالم جديد. وهو ما يميز الأدب - بأشكاله المختلفة - عن الإيديولوجيا، بأفكارها المجردة. فالإيديولوجيا تظهر في اللغة التي يستخدمها الأديب في إبداعاته، بل إن كل وسيط جمالي يشكل لغة قائمة بذاتها، ولها دلالتها الرمزية، وسياقاتها الاجتماعية([2]). وكي نعرف الإيديولوجيا في الأدب، علينا دراسة الأشكال الإبداعية التي عبرت عنها على مستوى البنية واللغة والجماليات، وليست الأفكار المجردة فقط. فالعلاقة بين الأدب والإيديولوجيا تظهر في القضايا والموضوعات الكبرى التي يطرحها العمل الأدبي، وتتجلى في الأسلوب والإيقاع والصورة النوعية والشكل، مما يقتضـي منا فهم خصوصية الحقل الجمالي، واختلافه في قدراته التعبيرية المتنوعة([3])، والتي تستلزم تأويلاً وتفسيرًا للرموز والعلامات الخاصة به، كي يعي الدارس كيف انعكست الإيديولوجيا على الأدب، وكيف صاغ الأديب فكره إبداعياً.

     في ضوء ذلك، نؤكد على أهمية المرجعية الفكرية للأديب، فأي إنسان له قناعاته المنعكسة في آرائه ومواقفه، وهو ما ينطبق بالضـرورة على الأديب.  يأتي هذا رداً على من يقول: "إننا في عصـر سقوط الإيديولوجيات الكبرى؛ مثل الماركسية والوجودية، وإن على الأديب أن يتحرر من الإيديولوجيات وفرضياتها وقناعاتها، لينطلق فيصوغ وجدانه وإبداعه بكل شفافية وتحرر". وهذا تصور مغلوط، فسقوط الإيديولوجيات الكبرى في العالم ناتج عن فشلها في تحقيق السعادة للبشـرية، وفساد أنظمتها السياسية، وجمود أفكارها، وتحجر قناعات معتنقيها، الذين امتلكوا تفسيراً واحداً للعالم وأحداثه وقضاياه، ألزموا به أنفسهم، مثلما فرضوه قسـراً على المبدعين في بلادهم. ولنا في الكتلة الشيوعية (الاتحاد السوفيتي، وحلف وارسو) نموذجاً، حيث تم فرض إيديولوجية بعينها على المبدعين، لا يستطيعون فكاكاً منها، وإلا طالهم سيف الرقابة، ولحقتهم عصا الأمن، فعلى الأديب الماركسي الملتزم أن يتبنى الواقعية الاشتراكية في نظرته للعالم، وأن يعلن عن (حتمية الحل الاشتراكي)، وكأن لا خلاص إلا بالاشتراكية، ولا سبيل غيرها، بينما الأديب نفسه الذي يعيش في مجتمعه الاشتراكي يرى النفاق والفساد والاستبداد أمام عينيه كل يوم، من قبل قادة الحزب الشيوعي ومتنفذيه، أي أنه يصوغ الكذب صدقاً، ويجعل الإبداع زيفاً.

    لقد نسـي هؤلاء أن كل أديب لديه تصوراته وقناعاته، التي ينظر بها للعالم، وهي مزيج من معتقداته الموروثة، وقيمه الأخلاقية، وفكره السياسي، وتحيزاته الخاصة. فلا يوجد أديب يكتب في المطلق، وبدون قضايا وأسس وقيم، وإلا كانت كتابته أقرب إلى العبث، فالمجتمعات الإنسانية كانت - وستظل - تمتلك مرجعياتها الفكرية والأخلاقية التي تحكم حياة البشر فيها، وتجعلهم يتفقون على أفعال مشتركة.

   وفي منظومة الثقافة العربية الإسلامية، تكون المرجعية الفكرية المترسخة في وعي الأديب وهو يصوغها في إبداعاته، هي الإسلام: الدين، والعقيدة، والفكر، والحضارة، والتنوع، والتسامح، وقبول الآخر، ودعم الحريات والحقوق.. إلخ. وهذا نابع من المفهوم الوسطي للإسلام، الذي يؤكد على التوسط في كل الأمور والرؤى والأفعال، دون إفراط أو تفريط، وأن الدين مبني على السماحة واليسـر([4]).

   وهذا ما يجب التأكيد عليه، فإذا كان للأديب الوعي والعمق المعرفيان بثقافته العربية الإسلامية وقيمها وأخلاقها، ستكون رؤيته أكثر رحابة وهو يبدع، لأنه مدرك أن الفكر المتطرف والسلوك العنيف كليهما خارجان عن النسق الثقافي للإسلام ومجتمعاته، مثلما هما لا يمتان بصلة إلى المنظومة الحضارية الإسلامية. وبهذا، لن يسقط فيما سقط فيه الآخرون، عندما رأوا أن كل ملتزم دينياً هو متطرف بالسليقة، وإرهابي محتمل بالتراتبية، وكأن النموذج المثالي لديهم هو الشخص الغارق في مشكلات ذاته العاطفية والنفسية والمادية والاجتماعية، دون أيّ مساحة لوجود الدين في فكره أو سلوكياته، فإذا تعرض لأزمة عنيفة، فهو إما معاقر للخمر، أو غارق في نزعة صوفية، تنأى به عن الناس والحياة، ليعيش في غربة اختيارية.

إن المشكلة التي سقط فيها كثير من الأدباء الذين تبنوا المذهبيات الفكرية الغربية، أنهم لم يفهموا حقيقة الإسلام، وشموليته الفكرية، ومنظومته المعرفية، التي أنتجت حضارة أبدعت في شتى العلوم والفنون والآداب. لقد تعامل هؤلاء مع الإسلام من المنظور الغربي الكنسـي العلماني، الذي يحصـر الإسلام في مفهوم كهنوتي لا يتجاوز المسجد في شعائره، ويعدّون التراث أوراقاً صفراء، علينا التخلص منها، أو حفظها دون إحيائها، وفي أحسن الأحوال مناقشتها وحصـرها في الكتب.

    أيضاً، من الأخطاء الفجة التي يقع فيها الكتّاب العلمانيون، عندما يتعاملون مع قضية التطرف الديني، أنهم يضعون أنفسهم مجتهدين في العلوم الشـرعية جنباً إلى جنب مع علماء الشـرع، بل إنهم يحتقرون الموروث الشـرعي كله، ويجعلون كتاباتهم هي السبيل الوحيد للتقدم؛ مما يزيد من النزعة العدائية ضدهم، لأنهم لا يواجهون التطرف، وإنما يخلطون الأوراق والمفاهيم ليهاجموا الإسلام ذاته، مما يثير حفيظة كل من هو غيور على الإسلام، ويشعل التطرف المضاد.

   والأمر الأشد خطراً، أنهم يضعون الفن في مواجهة التطرف الديني، بمعنى أن المتطرف غير متذوق للفنون والآداب والموسيقى والغناء، لأن الإسلام - ببساطة - يحرّم الفنون، ويكبت الحريات. وهذه النظرة ناتجة عن الفهم السقيم والجهل العليل بالفقه الإسلامي، ولو ضغط أحدهم على أزرار حاسوبه الشخصـي ليعرف موقف الإسلام من الفنون، لوجد ما يشفي غليله، ولكنه تحيّزهم الأعمى، وقناعاتهم المسبقة، التي تستريح على مفاهيم باطلة، تجمدت عقولهم عليها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك سلسلة أفلام (يوسف شاهين)، التي عالجت ظاهرة التطرف من منظور علماني مستفز، كما في فيلمه (المصير) (1997)، حيث أظهر شخصية العالم الجليل (ابن رشد) بأنه عاشق للغناء والموسيقى، ويواجه زمرة  المتشددين في عهده بالرقص والطرب، وأن ابنته متيمة بحبيب، وزوجته تراقص الرجال، ومعلوم أن ابن رشد عالم وفقيه ومجدد، بجانب كونه فيلسوفاً عظيماً، فهل هذه سلوكيات فقيه؟

    إن مواجهة التطرف والغلو والانحراف الفكري، في المنظور الأدبي والفني، يتأتى من تكوين ثقافة إسلامية عربية أصيلة من قبل المبدع ذاته، وتبنيه لقضايا الأمة النهضوية والحضارية، ووعيه التام بأن للأدب دوراً كبيراً في موكب الحضارة الإسلامية، ومن ثم النظر إلى الواقع المعيش، وأبرز القضايا الملحة، خاصة في المجال الفكري، ومن ثم يقوم الأديب بتقديم تمثيل راق للإسلام: بصورة راقية للإسلام الحضاري والثقافي والفكري، تنتصـر لكل ما هو خير وإنساني، وتركّز الضوء على الجوانب المشـرقة والمستنيرة من الحضارة الإسلامية، وما أكثرها، وتتوقف عند الشخصيات العظيمة المؤثرة، فتعرض أعمالها ومواقفها.



[1] ) الفن والإيديولوجيا ، د. رمضان بسطاويسي ، مجلة الفكر المعاصر ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، العدد السادس ، إبريل / يونيو 2017م ، ص165 ، 166 .

[2] ) السابق ، ص168 .

[3] ) السابق ، ص172 .

[4] ) انظر في مفاهيم الوسطية وتأصيلها الشرعي :  الغلو في الدين ، م س ، ص25 – 45

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق