د. مصطفى عطية جمعة
الكويت
لا يمكن النظر إلى أزمة اللغة العربية في جوانب حياتنا
المعاصـرة، بعيداً عن المأزق النهضوي الذي تعيشه الأمة. فلكي نشخص المشكلة
ونعالجها بمنظور شامل، علينا تخطي أعراضها، والغوص في ثناياها، وخلفياتها الفكرية
والحضارية والثقافية. أملاً في ترك المعالجات الجزئية، التي تلقي باللوم على جهة
ما، أو تحصـر العلاج في جانب واحد، غير ناظرة إلى جوانب أخرى؛ هي معاول هادمة.
العربية والواقع الحضاري:
من الثابت
حضارياً، أن اللغة – أياً كانت – تعلو برفعة الأمة، وتنخفض بانحدارها. وقد كانت
العربية اللغة الأولى
عالمياً في العصر الوسيط، عندما كانت الحضارة الإسلامية في
أوج مجدها، وبها كُتِبت علومها وصيغت مصطلحاتها، وتشكلت فنون الخط العربي ولوحاته
البديعة من خطها. فمن أراد تعلّم علوم حضارتنا، فلا مناص أمامه من إجادته للعربية،
ومعرفة ثقافتها، وهو ما دفع الأوروبيين لتعلم العربية.
لقد تمددت رقعة الحضارة الإسلامية جغرافياً،
وانضوت عشرات الشعوب تحت لوائها، وكان التطور الأكبر على الصعيد اللغوي ببسط
العربية نفوذها الروحي، لكونها لغة القرآن ولسان نبيه (صلى الله عليه وسلم)،
فسيطرت العربية طوعاً على العديد من اللغات في البلدان الإسلامية، وبعضها ذات
حضارات راسخة، فكُتِبت هذه اللغات بالحرف العربي. كما غزت المفردات العربية
قاموسها، بنسب متراوحة ما بين ( 40 – 60 ) بالمئة، ومن أبرز هذه اللغات: الفارسية،
التركية، الأردو، لغة الملايو، ولغة الهاوزا بنيجيريا، والسواحلية في القرن
الإفريقي([1]).
لقد تم هذا
بمرونة وتدرج، ضمن التأثير الحضاري والثقافي الذي قام به المسلمون على هذه الشعوب
التي دخلت الإسلام أفواجاً، وتشربت ثقافته ولغته. فلا عجب أن تتخلى شعوب ذات تراث
حضاري ضخم عن لغتها، وتتكلم العربية، ومن أبرزها: شعوب مصـر والشام والعراق، وبلاد
المغرب العربي، لتقدّم نموذجاً رائعاً على تفاعل الإسلام حضارياً وثقافياً، بعيداً
عن القهر الذي مارسه الاستعمار الأوروبي عندما غزت أساطيله وجيوشه بلدان المسلمين،
وارتكبوا المذابح، ونهبوا الثروات، وسعوا قسـراً إلى تغيير الديانة واللغة
والثقافة، فواجهتهم الشعوب بالإسلام المتجذر في ثقافتها ولغتها.
والمغرب
العربي مثال حاضـر، عندما فرض الاستعمار لغته الفرنسية على شعوبها بشكل مباشـر من
السلطة المستعمِرة، أو ما قام به (مصطفى أتاتورك)، عندما ألغى كل ما هو عربي في
الآذان والتعليم، وألزم الأتراك بكتابة التركية بالحرف اللاتيني. وتبعه في ذلك
دكتاتور الصومال (محمد سياد بري)، الذي ألزم الصوماليين بالحرف اللاتيني – بدلاً
من العربي- في كتابة اللغة الصومالية (السواحلية)([2]).
ورغم تحرر
دول العالم العربي من الاستعمار عسكرياً، إلا أننا ما زلنا نعيش في المأزق
الحضاري، المتمثل في افتقاد البوصلة والهوية، ووجود نخبة علمية وثقافية تمثل
ذيولاً للاستعمار الغربي، تلك النخبة التي تسيطر بشكل كبير على صناع القرار
والإعلام، وتتوحد مع السلطة، وتبث الفكر الغربي على أصعدة مختلفة.
فقد توحدت
الشعوب العربية من أجل الاستقلال، ولكن لم تنتبه إلى أن هيكلية الحكم التي أوجدها
الاستعمار ظلت كما هي، ومثّلت الأساس في التحديث، فكانت هناك نخب حاكمة، ورثت
المشـروع الاستعماري، وكثير منها تعلّم في بلاد الاستعمار، وآمن بثقافته، واستمر
على سياساته([3])،
وهي منظومة تعكس الرؤية والثقافة الاستعمارية بكل استعلائها وتغريبها للثقافة
العربية.
ومن هنا، فإن
ضعف اللغة العربية؛ نطقاً واستخداماً وثقافة وإبداعاً، أساسه الحالة الحضارية التي
تعيشها الأمة، وغياب المرجعية الفكرية التي تؤطر نهضتها.
والواقع
اللغوي المعيش الآن دال على ذلك، ويكفي ما نراه من إفراط في العامية على مستوى
الإعلام والفنون، وفي قاعات التعليم، بل وصل الحال إلى الإبداعات الشعرية
والسردية، ويكفي أن تستمع أو تمسك بديوان شعر عامي في أي بلد عربي، فلن تستطيع فهم
التراكيب والألفاظ، نتيجة كتابة المنطوق على الألسنة، فالقاف -مثلاً - تكتب
بالهمزة في مصـر، أو بالجيم في اليمن، أو الشين في الخليج.. إلخ.
وتعاظمت
الدعوات بتبني كتابة العامية، ونعتها بأنها لغة وليست لهجة، بحجة أنها تحمل
الثقافة الشعبية والفولكلور. واشتدت الهجمة التغريبية أكثر، لنجد موضة كتابة
العربية بأحرف لاتينية (الفرانكو)، وسادت في أوساط النخبة والشباب معاً، مع انتشار
التعليم الأجنبي، وانحصار تعليم العربية في مادتها المقررة مع التربية الإسلامية.
أما سائر العلوم، فتُدّرس باللغات الأجنبية، بل إن المدارس ثنائية اللغة تتباهى
بإحضارها معلمين أجانب، يمتلكون اللغة الأجنبية الأم. وعادت النظرة الدونية إلى
معلمي العربية، وتعاظمت كراهية النحو، ونبذ عيون الشعر العربي بدعوى وعورة الفهم،
مفضلين الأغنيات العامية، أو الشعر باللهجات الدارجة.
إنه واقع
مأزوم، يعبر عن حالة استلاب حضاري تعيشها الأمة، فأدّت لمخرجات شديدة الضعف، نراها
جلية في كلام النخبة وأخطائها في الفصحى. ومن الطرائف في هذا الأمر، ما يذكره
د.عبد الله الأشعل، عن تجربة عملية، بأن العديد من وزراء الخارجية العرب يتذمرون
وهم يتدربون على الخطابة بالفصحى، ناهيك عن عجزهم عن صياغة خطاب أو رسالة خالية من
الأخطاء الإملائية والنحوية.
اللغة العربية والمناهج التربوية:
من المهم
المناقشة الهادئة لعلاقة اللغة العربية بالمناهج التربوية المطبقة في مراحل
التعليم في مختلف الدول العربية. وبداية، لا بد من الإقرار أن جلّ المناهج
التربوية مأخوذ من المنظومة الغربية، التي اتبعنا قواعدها وفلسفتها في مدارسنا،
دون النظر إلى مرجعياتها الفكرية التغريبية.
وللأمانة،
فإن واقع تعليم العربية في العصـر الحديث تراوح بين تيارات عديدة:
الأول: تيار يعلّم
وفق الطرق التعليمية وكتبها المتوارثة منذ قرون، والتي صيغت متناسبة مع عصـرها،
ولكنها غير مناسبة للقاموس اللغوي في عصـرنا؛ مما يسبب عسـراً على الطالب. خاصة
أنها تتبع الطريقة القياسية الهادفة إلى حفظ متن القاعدة النحوية أو البلاغية دون
قياس مدى فهم الطالب لها، وقدرته على توظيفها نطقاً وكتابة. فهل من المنطق تكرار
أمثلة (زيد وعمرو) وما ذكره النحويون من استشهادات شعرية في كتبهم القديمة، دون
النظر إلى مدى تقبل الطلاب لهذا المثل، واستيعابهم لمضمونه؟! وهل من المفيد تعليم
اختلافات النحاة في مرحلة ما قبل الجامعة؟
والتيار
الثاني: يمثل التحديث المنهجي لتعليم العربية، والذي اعتمد على الطرق
الاستقرائية والاستنتاجية في استنباط القواعد والبلاغة، مع تقديم أمثلة قريبة من
القاموس اللغوي للطالب، وتعزيز مهاراته بالتدريبات التطبيقية. وتمثله سلسلة كتب
(النحو الواضح، والبلاغة الواضحة) للشاعر الكبير علي الجارم، والتربوي القدير
مصطفى أمين. وهي سلسلة لا تزال تحظى بمكانة كبيرة بين معلمي العربية، بل أصبحت مراجع
موثوقة لمناهج العربية. ويوازي هذا التيار أيضا: كتب منهجية رصينة في تعليم
النصوص: الشعر والنثر، بشكل جذاب؛ تأخذ عيون التراث العربي، وتقدمه مشـروحاً
مبسطاً للطلاب، مع التعريف بحركة الإبداع المعاصرة ومبدعيها.
وقد انتشر
هذا التيار بشكل واضح، بدءاً من منتصف القرن العشـرين، وإلى عهد قريب، وتم إعداد
مناهج العربية في ضوئه، وتأسست عليه مناهج تربوية حديثة مثل منهج (الوحدات) الذي
يقدم العربية في وحدات متكاملة ذات محاور مضمونية، فتدور الوحدة حول مضمون فكري
يشمل النصوص الأدبية والقرائية([4]).
وإن كان يؤخذ
عليه أنه يدعّم الانفصالية بين مواد العربية، بمعنى دراسة النحو منفصلاً عن
البلاغة، عن النصوص، مع تركيز المعلمين على التلقين والحفظ، دون الاهتمام بالتدريب
الشفاهي والكتابي والأنشطة الفعّالة
للطلاب. كما ظلت طرق التقويم منحصـرة في الأسئلة المقالية، وتغييب التقويم في مستوياته
المختلفة، وظل المعلمون يؤدون بطرائق تقليدية، تتمحور حول الشرح النظري المرسل
والمسهب. وتكمن المشكلة الكبرى، في عدم ربط المادة العلمية بتنمية مهارات الطلاب
المنطوقة والمكتوبة والمبدعة، فالطالب يتعلم ليجتاز الاختبار وليس لإجادة العربية.
التيار الثالث:
وهو الذي انتشر خلال العقدين الأخيرين، معتمداً على استيراد المناهج التربوية التي
شهدت ثورة كبرى على مستوى مهارات أداء المعلم، والارتقاء بأنشطة الطلاب ومواهبهم
الإبداعية، وتحقيق المتعة في التعليم([5]). وقد تأسس هذا
المفهوم على منهجين: منهج المهارات، الذي ارتكز على أهمية تعليم اللغة بوصفها
مهارات متكاملة (شفاهية، كتابية، سماعية، ذهنية، وجدانية)، وتحقيق التكامل اللغوي
في تعليم اللغة، فتتم دراسة النص من زوايا عديدة: الفهم، النحو، البلاغة، الهجاء.
والمنهج الثاني هو منهج الكفايات، وقد كثر اللغط حوله في الآونة الأخيرة، وهو
الجيل الثاني لمنهج المهارات، ويستهدف امتلاك الطالب لكفايات لغوية تؤهله لتوظيفها
في المستقبل، مع ربط الطلاب بالحياة، من خلال أنشطة ومشروعات، تنمي مواهبهم،
وتستثمرها خارج جدران المدرسة.
وتكمن المشكلة
في هذه المناهج، في عدم الوعي الكافي بها من قبل المعلمين ميدانياً، والتعامل معها
بوصفها بضاعة مستوردة من نظم تعليمية أجنبية، وتحتاج لإمكانات وإعدادات خاصة
للطلاب تختلف عما هو قائم لدينا.
ولكنها بلا شك
تساهم في تطوير الأداء الصفي للمعلمين، وتدربهم على تقديم أنشطة نوعية للطلاب،
تنمي مواهبهم، وتصقل قدراتهم. إلا أن اللغط دائر حول القناعة السائدة بأهمية إلغاء
التلقين، ففهمه البعض خطأ على أنه إلغاء الحفظ للنصوص، علماً بأن المقصود به تعميق
التدريب للطالب على المهارات اللغوية، وإلا فإن الحفظ أداة للتعلم لا يمكن
الاستغناء عنها، ولكن لا بد أن يسبق الحفظَ الفهمُ؛ ولا بد أن يصاحب الحفظَ
والفهمَ التدريبُ اللغوي الشفاهي والكتابي.
كما أن البعض
فهم قضية امتلاء المقررات الدراسية بالمادة العلمية على أنها حشو زائد، وهذا خطأ،
فتعليم اللغات يرتكز على تقديم أكبر كم من النصوص للطالب، لإثراء حصيلته اللغوية،
وتقديم المعرفة في نصوص إبداعية جاذبة وثرية. أيضاً، من المهم الوعي بأن التقويم
لا ينحصـر في الاختبارات الكتابية فقط، وإنما لا بد من اختبار قدرات الطالب
شفاهياً، ومناقشته بشكل مباشـر، على نحو ما نجد في الجامعات العالمية، بتقديم
اختبارات متعددة للطالب: تقيس مدى فهمه وإتقانه للمهارات اللغوية، فيستطيع التحدث
بالفصحى، والتعبير الإبداعي بها، بجانب الوقوف على مستواه في فروع المادة وفنونها
من خلال الاختبارات التحريرية.
العربية والجامعات:
تعاني
الجامعات العربية من ازدواجية لغوية غاية في الغرابة، تتمثل في تعليم العلوم التطبيقية
(الطب، الهندسة، العلوم، ...) باللغات الأجنبية، خاصة باللغة الإنجليزية، في قاعات
الدرس، وفي الكتب والمراجع؛ مما يحدث انفصاماً في ثقافة الطالب، الذي تعلّم
بالعربية طوال عمره، ثم يتفاجأ باللغة الأجنبية في المرحلة الجامعية.
إن الحجج
المساقة في هذا الصدد تردد أن تعلّم الطالب باللغات الأجنبية، والإنكليزية
تحديداً، يساعده على متابعة الجديد في مجال تخصصه، على المستوى العالمي. وتلك حجة
مردود عليها بعشـرات الأبحاث التربوية، فالتعليم في جميع الأمم المتحضـرة - وحتى
النامية- يتم بلغة الدولة الرسمية، على نحو ما نجد في اليابان وألمانيا وفرنسا
ورومانيا وتركيا. كما أن واقع التعليم اللغوي في جامعاتنا مشوه، فالتعليم في
جامعاتنا العربية لا يتم باللغة الأجنبية على نحو ما هو مستهدف، وإنما هو خليط من
العربية والعامية والمصطلحات الأجنبية، وهذه حقيقة أكَّدتْها دراسات ميدانية، منها
دِراسة إحصائيَّة تُبيِّن أنَّ 93% مِن أعضاء هيئة التدريس بإحدى كليَّات الهندسة
في (جامعة الملك سعود) يَستخدِمون مزيجًا مِن العربية والإنجليزية أثناء
مُحاضَراتهم، فيما يستخدم 6% اللغة الإنجليزية وحدها، ولم يُعلِّم بالعربية سوى 1%
مِن أعضاء هيئة التدريس، فتعاني المخرجات الطلابية من التشوه اللغوي، فلم تتعمق
لغتها الأم في مجال تخصصها، ولم تتقن العلم بلغته الأجنبية. كما تشير البحوث إلى
أن الطلاب المبعوثين يمكنهم مواصلة تعليمهم العالي باللغة الأجنبية، بعد أن يتقنوا
علوم تخصصهم بالعربية؛ بصعوبات محدودة، وبنسبة تصل إلى 70 بالمئة، وترد بذلك على
مزاعم المتمسكين بالتعليم الأجنبي([6]).
إن الهدف من
التعليم الجامعي الحفاظ على الهوية واللغة الوطنية، وإتقان الطالب لتخصصه العلمي،
وهذا يتحقق من خلال تلقيه العلم بلغته الأم أولاً، ثم تنمية لغته الأجنبية بمواد
ومسارات أخرى مساندة أو مصاحبة في دراسته، تعينه على تنمية ذاته العلمية.
وختاماً،
لن تنهض لغتنا، إلا بالعودة إلى هويتنا الحضارية، التي تعني ربط اللغة العربية
بمصادر المعرفة والثقافة الأساسية، ألا وهي القرآن الكريم، ونصوص السنة النبوية
المطهرة، وتقديم نصوص شعرية جذابة له، وتقديم بيئة لغوية متكاملة، تتيح للطالب
توظيف ما اكتسبه من مهارات النحو والبلاغة والثروة اللغوية، وهذا يتطلب معلماً
واعياً مدرَّباً؛ ومناهج نابعة من ذاتنا الحضارية وثقافتنا العربية، مع الاستفادة
من التجارب التربوية العالمية، مع مراعاة احتياجات طلابنا.
وبعبارة
موجزة: لا بد من النظر إلى الواقع اللغوي المعيش في بلادنا، من أجل صياغة سياسة
لغوية متكاملة، تشمل التعليم الجامعي وما قبله، يؤازرها إعلام وفنون مرئية، تعلي
من الفصحى فخراً واعتزازاً، واستخداماً وأداءً، وتعبيراً وإبداعاً.
[1]) أطلس الحضارة الإسلامية،
د.إسماعيل راجي الفاروقي، د. لوس لمياء الفاروقي، مكتبة العبيكان، الرياض، 1998م،
ص58 .
[4]) عبداللطيف فؤاد إبراهيم، المناهج: أسسها، تنظيماتها، وتقويم أثرها،
مكتبة مصر ، القاهرة: 1987م، منهج الوحدات.
[5]) طرق تميم المناهج الدراسية في ضوء متطلبات التفكير الإبداعي،
إدارة البحوث والتطوير التربوي، وزارة التربية، الكويت، ص28 ، 29 .
[6]) اللغة العربية والتعليم العالي،
غالب الزامل، شبكة الألوكة، http://www.alukah.net/literature_language/0/40750/
منشور في مجلة الحوار | العدد 171 – 172 | صيف 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق