01‏/07‏/2020

حديث عن تخريف الدين والتاريخ!..


د. سعد سعيد الديوه چي
(تخريف التاريخ) - إذا جازت العبارة - هو صبّه في قوالب خرافية، وهو أشدّ ضـرراً من التحريف (بالحاء)، لأنه يقوم على أسس من الجهل الفاضح. وهي عملية شائعة، وتتفاوت درجاتها حسب دوافعها، وأقسى درجات تخريف التاريخ، محاولة وضعه في أطر دينية وتاريخية خيالية لا أساس لها من الصحة، لأن العاطفة الدينية تجرّ إلى منزلقات عقائدية خطيرة.
وما يهمّنا في هذا الموضع، هو تنامي حالة العداء القائمة بين العرب واليهود، خصوصاً بعد احتلال فلسطين من قبل الصهاينة، وكثير منهم ليسوا يهوداً، مثل (بلفور)؛ صاحب الوعد المشؤوم الشهير، حيث يجب أن لا يكون ذلك دافعاً لإطلاق الخيال والخرافات بشأن هذا الصراع، والذي يسـيء لتاريخنا وديننا - في بعض جوانبه - أكثر ممّا يسـيء للآخر، خصوصاً عندما نجعل لهذه التخاريف صلة وهمية بالقرآن الكريم والحديث الشريف. مع العلم أن
العلاقة مع بني إسرائيل لا تقوم على أساس عدائي بحت، وكذلك مع كلّ الأديان، عملاً بالآية: {نَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(الحج). ولذلك فالعداء مع من يبدأ العداوة ويعتدي علينا، والله يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(البقرة).
ولذلك، فالعداء الحالي هو مع الصهيونية كعقيدة استعمارية تستند إلى أسس دينية مزيّفة، فالمسلم لا يعادي أحداً بسبب معتقده الديني مطلقاً.
في هذا الخضمّ، ظهر علينا الشيخ أحمد الكبيسي ليبشـّرنا بأن عودة فلسطين والقدس ستكون على يد قائد (عراقي)، كما كانت في المرّات الثلاث السابقة على أيدي قادة من العراق، ويختصر التاريخ بجمل خرافية لا أساس لها من الصحة. علماً أن أرض العراق لم تعرف بهذا الاسم إلا قبل الفتوحات الإسلامية بفترة وجيزة. وهي حالة ليست فريدة، وتنطبق على كثير من بلدان العالم، رغم أن القبائل العربية المهاجرة من شبه الجزيرة العربية قد سكنته منذ زمن طويل، هذا إذا استعملنا بدل كلمة عرب مصطلح (الأقوام الجزرية العربية)، أو الساميين، بالمصطلح الغربي، وهم الآراميون والبابليون والآشوريون والفينيقيون والعبرانيون ... إلخ. وعليه، فلا يمكن لأحد أن يتّهم العرب بأنهم معادون للسامية.
ويبتعد الشيخ تماماً عن بدايات (سورة الإسراء)، التي تتحدّث عن نكبة بني إسرائيل بعد فسادهم، وهي من الأمور التي لا يعلمها إلا الله.
ولا يحدّثنا الشيخ عن القادة العراقيين الذين حرّروا فلسطين، واستولوا على القدس، لأن ذلك تاريخ طويل ومعقّد، يمتد لثلاثين قرناً تقريباً، لم يكن فيه ما يسمّى بالعراقيين، ولم يكن الوضع على ما عليه الآن من الناحية الدينية والإثنية، وقد تغيّر ديموغرافياً عدّة مرّات.
وإذا ركّزنا على ما يسمّى بهيكل سليمان، الذي بناه سليمان (ع) في (أورشليم/ القدس) حوالي عام (940 ق.م)، فإن أوّل دمار له كان على يد الملك البابلي (نبوخذ نصـر)، عام (587 ق.م)، وهذا هو الهيكل الأوّل الذي كان قائماً أثناء السبي الثاني لبني إسرائيل في مملكة يهوذا، حيث سبقه السبي الأوّل لمملكة إسرائيل عام (721 ق.م)، على يد الملك الآشوري (سرجون الثاني). مع العلم أن البابليين والآشوريين كانوا على الديانة الوثنية، ولذلك كانت حرباً بين الوثنيين، وبين وبني إسرائيل، وهم على الديانة اليهودية.
بعد سقوط بابل على يد الفرس الأخمينيين، عام (537 ق.م)، سمحوا لليهود ببناء هيكل ثانٍ بدون إقامة دولة، وقد تمّ حرق هذا الهيكل، وتدنيسه، على يد القائد اليوناني (أنطيوخس الرابع – أبيفان)، عام (175 ق.م). وأعاد الكرّة القائد الروماني (كراسوس) عام (54 ق.م).
وفي عام (43 ق.م) سمح الحاكم الآدومي، من قبل الرومان، بإعادة بناء الهيكل، لاسترضاء اليهود، والذي يمكن اعتباره الهيكل الثالث، والذي تمّ تدميره بالكامل عام (132 ق.م)، وحُدّث موضعه، في زمن الإمبراطور الروماني (هادريان)، وأقام مستعمرة رومانية في (أورشليم)، بعد أن أجلى جميع اليهود عنها، وسمّاها (إيلياء).
وعليه، فهذا الاستعراض السـريع يبيّن لنا أن الهيكل قد تمّ تدميره عدّة مرّات، وأن (القدس/ أورشليم) قد تمّت استباحتها عدّة مرّات كذلك.
ولو انتقلنا إلى العصور الإسلامية، والتي يفصلها عن زمن (نبوخذ نصـر) أكثر من ألف عام، فإن فتح القدس تمّ في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سنة (16هـ - 637م)، ثمّ سقطت عام (1099م)، بيد الصليبيين، وأعاد فتحها صلاح الدين الأيوبي عام (583هـ - 1187م)، وهو مؤسّس الدولة الأيوبية في الشام ومصر واليمن وأجزاء من الجزيرة العربية، وقد ولد في تكريت، وتركها مع والده وعشيرته إلى بعلبك، وعمره سنتان على الأغلب، وهو من أصل كوردي، ولم يرجع للعراق، ولم يسكن فيه أبداً.
ويسترسل الشيخ في نوع من الكلام أشبه بالهذيان التاريخي، فيقول بأن كل ثروة العالم وعلمه في العراق، وأن (التوراة) تقول بأن العراق سيكون أعظم دولة، بدون الاستناد لأي جملة أو سفر من (التوراة).
ويدّعي الشيخ كذلك، في رواية عجيبة، بأن الله -جلّ جلاله- أخبر سيدنا إبراهيم، بواسطة جبرائيل (ع)، أن لا يدعو على أهل العراق، لأن خزائن ثروة الله فيه، ثم يقول: "العراق بلد الله"، ولا يستند لأي مصدر من القرآن الكريم، أو الحديث الشريف.
ويتساءل قائلاً: هل من الصدفة بأنه أوّل من خلقه (يقصد العراق)، وكأنما هو ليس جزءاً من الكرة الأرضية، وأوّل المدن التي خلقها الله هي أربيل ونينوى والكوفة، علماً أن الأخيرة بنيت في زمن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وأن (أور) الكلدانية كانت أيام إبراهيم (ع) بحوالي ألفي عام قبل الميلاد.
ويقول الشيخ: ولذلك سيكون العراق بلد العجائب، كما أخبر القرآن والتوراة والتلمود والإنجيل!!!.
وهذه الادّعاءات، بالنسبة لنا كمسلمين، فيها مساس بمصداقية القرآن الكريم، لأنه لا يحتوي على مثل هذه الادّعاءات، ولأنها صادرة من رجل كبير في السن يتكلّم باسم الدين والحديث والقرآن.
إنها دعوة لكل متابعي مثل هذه البرامج الخرافية باسم الدين والتاريخ، أن لا يغترّوا بكلّ من يدّعي معرفة هذه العلوم. وتبقى مسؤولية هؤلاء المتحدثين أعظم، وأكثر مساءلة أمام الله، إن هم عملوا على تضليل الناس على أساس أنهم مخلصين لمعتقداتهم المدعاة التي يزرعونها ويسقونها بماء الخرافات.



منشور في مجلة الحوار | العدد 171 – 172 | صيف 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق