د. سامي محمود إبراهيم
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب - جامعة الموصل
يبدو أن الإنسان منذ أن انفصل عن الطبيعة،
وشعر بذلك الانفصال، راح يعمل بشتّى الوسائل للعودة إلى صدر الأمّ، والتناغم مع
حركة العالم. لقد خلق كوناً صغيراً أزرق اللون، لا يمتّ بصلة إلى الكون الأرضي
الكبير. ولقد جعله هذا الانفصال النسبي، دائم الحنين إلى الجنّة الضائعة؛ الجنّة
التي اغترب عنها بصنعه أدوات ووسائل أبعدته عنها، فصار يتّصل بها بالأدوات، بعد أن
كان يحيا فيها، ويتحسّسها بحواسّه.. بعد
أن كان قريباً من الشمس والقمر.
لقد ألف جسده الحنين
لوقع قطرات المطر طوال آلاف السنين الماضية، وكانت له مع الليل، ونجومه، حكايات
وأساطير، وكانت له أفراح وأمنيات، ثم ها هو ذا ينفصل عن أسرار الليل بالنور
الاصطناعي، وينفصل عن العالم الواقعي بالعالم الافتراضي. لقد انتقل من عالم الحوار
والانسجام والتناغم، إلى عالم الرفض والتوجّس والوهم، إلى عالم
صنعه عقله، فتكاثفت
فيه الظلال الموحيه بغربة الحياة، والتوحّد في عالم الذات، وهدر الآخر.
وها هي الأرض تفرش
عنائها على منصّة الزمن، تتقصّى خطى الضمائر، وتحمل الإنسان فينا أمانة. فأرضنا لم
تعد صلبة كما كانت. تشابه البقر علينا. وعلى حبل غسيل الأحلام، تنشر عقولنا
المبتلّة بالأوهام.
فحين رمى القدر حرف
الكاف إلى الكون، استيقظ النون من ضلع الأرض، وكان طيناً بهيئة إنسان، يسرج الشمس
وجوداً، ويغادر الأرض على صهوة الأمل، يحمل أفراحاً لا تعدّ، وقليل منها إنْ تحقّق
يفرش العالم ورداً وقيا، ويصبح رغم أنف الظلم حيّا.. لننر شموع الحرية والعدل
والسلام في ضمير الإنسانية المتعب.. من الممكن أن نراجع سنين التيه المرعبة، وننسى
أثرنا المعكوس تحت الوصاية، سنين طويلة.
وكم في العالم من
أشياء، وهمها أجمل من حقيقتها، كالأنا الغارقة في الضمير المستتر، الذي لا يقبل
حوار العقل، ولا الإيمان.
نعم، الاختلاف معضلة
وإشكالية، كانت - ولا تزال - ترافق البشـر في مشروع بناء الحضارة الإنسانية،
فالكثير من المشاكل والخلافات والأزمات والحروب كان أحد أسبابها عدم وجود ثقافة
الحوار وقبول الرأي الآخر.
ورغم أن عملية
الإثراء الثقافي، والعلمي، ومقياس تطوّر المجتمعات والشعوب، تقوم على ثقافة اختلاف
الرأي، إلا أن انغلاق العقول جعل من الاختلاف خلافاً أضعف المجتمع.
ديننا الإسلامي عمل
بهذه الثقافة، فالإسلام له دور كبير في تعزيزها ، وهذا بيّن في قوله تعالى:
{وشاورهم في الأمر}، في إشارة إلى أهمّيّة احترام الرأي، والاختلاف، للتوصّل إلى
حقيقة المشروع الإنساني في الأرض.
إذاً، السؤال هو:
لماذا لا نملك هذه الثقافة؟ ولماذا لا نهتمّ بها؟
في الحقيقة هناك
سببان: الأوّل الموروث الاجتماعي السلبي، مثل بعض العادات والتقاليد العصبية
العشائرية البدوية. والثاني: عدم وجود توجيه وإرشاد ينمّي هذه الثقافة في العملية
التربوية، وكذا التعليمية، كما لا يتمّ توجيه وسائل الإعلام لنشـر هذه الثقافة،
وتعزيزها، من خلال البرامج والطروحات، واستيراد أفكار وتجارب تفعيل هذه الثقافة من
الدول الأخرى، إضافة إلى تقديم الندوات والمؤتمرات وورش التوعية والحلقات
الحوارية، وإعطاء الفرصة للآخر، وتعليمه كيفيّة السيطرة على انفعالاته، ليتغلّب
على الموروث الاجتماعي السلبي. فتنمية هذه الثقافة يحتاج إلى عمل يستمرّ سنوات،
ويرافق الأجيال في كل مستوى من دراستهم، وحياتهم، بل حتّى على مستوى وجودهم
.
من هنا تبدأ مرحلة
التغيير، حيث تنتشـر ثقافة احترام الرأي، والاختلاف، من العائلة والمدرسة، إلى
أعلى الهرم.. عندها إذا شعر المواطن بأن الحكومة تدعم هذه الثقافة، يزداد إيمانه،
وعمله، بها، ليحلّ التسامح والترابط بين مكوّنات المجتمع
من ناحية أخرى، نجد أن الانطلاق نحو الخروج
من أزماتنا، وبناء البديل الحضاري العالمي، وتدعيمه، يكمن في فهم الحالة الراهنة
للإنسانية جمعاء؛ بحيث ندرس مآسيها، وأزماتها، التي تزداد كثافة وظلاماً عبر
الزمن. وهذا الذي أدّى إلى تقاطعات وخلافات خطيرة، سرعان ما تحوّلت إلى صراعات
فكرية مذهبية وطائفية دينية، بين حملة الأديان المختلفة، وانقسامات داخل الذين
يدينون بالدين الواحد، وانشطارات داخل الفرق والطوائف .
ولذلك، صار واجباً
على المفكرين والباحثين والعلماء، من المسلمين وغيرهم، الاهتمام بموضوع التعايش
والتقارب؛ نظراً لتعلّق الموضوع بحياة الناس، وتعاملاتهم في شتّى جوانب الحياة؛
ونظراً لكثرة الشبهات المثارة حول الموضوع، نتيجة للظرفية الخاصّة، والحرجة، التي
تمرّ بها المجتمعات العربية، والغربية، على حدّ سواء. وهذا بدوره يستوجب التأكيد
على أن الأصل الشرعي في العلاقات الإنسانية السلم لا الحرب، والرفق لا العنف،
واللين لا الشدّة، والرقّة لا الغلظة، لأنّ الإسلام دين ينبعث عن مفهوم إلهي
كونيّ، كما قال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: "إنَّ اللهَ بَعَثَ
مُحَمَّداً داعِياً، وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِياً"، أي إن نبيّ الرحمة بعث
مبشراً وهادياً وميسّرا،ً وداعياً إلى الله على أسس وقيم ثابتة وجامعة، كالإحسان
والتسامح والحريّة والمساواة، بل إن الإسلام احتضن كلّ القيم الإنسانية العليا،
التي تنظّم المجتمع الإنساني على أساس التعاون والتضامن والسلم والأمان والمحبّة
والاستقرار، وضبط هذا السلوك الإنساني بكلّ ما يكفل كرامة الإنسان، وينمّي وشائج
الاتّصال بين الجميع، والرسول محمد -عليه الصلاة والسلام- عمل على اقتلاع جذور
التعصّب، وسدّ كل منافذها، حينما قال: "لَيْسَ مِنّا مَنْ دَعا إِلى عَصَبِيَّةٍ،
وَلَيْسَ مِنّا مَنْ قَاتَلَ عَلى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنّا مَنْ ماتَ عَلى
عَصَبِيَّةٍ" ، وحرّم حميّة الجاهلية، فقال: "دَعُوها، فإِنَّهَا
مُنْتِنَة". فلا شدّة، ولا عسـر، ولا تعصّب، ولا بغض، ولا حقد، بل الرحمة
واليسـر والسماحة والعطف والمحبّة والتعايش.
لهذا، ليس التعايش
أمراً صعباً، إذا ما تصـرّفنا بمنطق العقل والدين، ونظرنا إلى إنسانيّتنا، وزرعنا
الحبّ في نفوسنا، عندها سنجد مجالاً واسعاً للعيش والتعايش بسلام.
في المقابل، ومع ما
تقدّم ذكره، تسعى الآليّة الثقافية الغربية، المسيّسة، والمؤدلجة، إلى تخريب وإزاحة
قيم الآخر، بتضخيم سلبياته ونواقصه عمداً، ومنها إقصاء الدين، ورموزه، وقيمه،
ومعانيه، من الحياة.
إن الفوقيّة،
والتمركز، والسعي إلى إقصاء ثقافة الآخر، والسخرية من جنسه، أو لونه، أو دينه، لا
ينبغي أن تدفع المسلمين إلى سلوك مماثل تجاه الثقافات والأديان والشعوب الأخرى. لا
ينبغي، ولا يصحّ الوقوع في فخّ التمركز وإلغاء الآخر، كما لا يكون بالمطابقة
والتماثل مع الغرب، ومسايرته بالتفكير والشعور والعيش.. وإنّما بممارسة الاختلاف
من موقع الحوار والتواصل، وإظهار القدوة الحسنة، التي تنتج في حياة المسلم سلوكاً
وحركة في الحياة، راقية مثمرة، ومشاركة في صنع الحضارة الإنسانية.
ثم إن أيّ كلام عن
التعايش وحوار الحضارات، لا يمكن أن يتمّ، أو يتحقّق، في هذه الأجواء الثقافية
والسياسية السلبية، المليئة بأمراض الأنا، والاستكبار، والتعالي. إذ ليس من شعار
برّاق، مغرٍ، تطلقه السياسة الغربية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا عناوين
لمشاريع سياسية لا تنتمي إلى ما تدّعي.
في المقابل، نجد أن
الاختلاف العرقين وفق الرؤية الإسلامية الإنسانية، هو اختلاف في إطار الأمّة
الواحدة، يحتّم احترام الآخر كما هو، على الصورة التي خلقه الله عليها. ذلك أن احترام
الآخر كما هو، لوناً ولساناً، وعقيدة ومذهباً، بل وفكراً، يشكّل قاعدة من قواعد
السلوك الديني في الإسلام، فكان من طبيعة رحمة الله تعالى اختلاف الشرائع والمناهج
والألسن والألوان وطرائق التفكير، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ
فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}المائدة، 48 . وقوله تعالى: {ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة
واحدة، ولا يزالون مختلفين}هود، 118 . كما ركّز القرآن على مبدأ السلام، نجد ذلك
بيّناً في قوله تعالى: " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً"؛
ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، فقال تعالى:
"ادخلوا في السلم كافة" في هذه الآية أمر بالسلام العالمي
.
إلى هذا الحدّ نجد
أن الحوار سنّة إلهية، وفطرة إنسانية، لكن عدم استنفاد الوسع في حلّ المشكلات
بالحوار، واللجوء قبل ذلك إلى القوّة والتعصّب، كما حدث - ولا يزال يحدث - في هذا
العالم المليء بالصراع، الخاوي من ثقافة الحوار والتسامح، في كثير من صراعاته
وخلافاته المتزايدة، خاصّة مع تعقّد المصالح، وتشابكها، وزيادة القوّة الفتّاكة في
أيدي النّاس، وهي أخطار تهدّد البشرية جمعاء.
وهكذا، قام المنهج
الحواريّ في القرآن الكريم على فرضية أن الأصل في الوجود الإنساني هو الحوار
والتعايش، كما أن الأصل في الحوار هو الاختلاف، فلا يمكن الكلام إلا بوجود طرفين
يشكّلان حالة الاختلاف والتضادّ، قد يكونا فردين، أو فريقين، أو قومين، أو أمّتين.
وهذا ما أكّد عليه،
فيما بعد، أساطين الفلسفة التداولية المعاصـرة، حيث قرّروا أن الحجاج الفلسفي
التداولي هو فعالية استدلالية خطابية، مبناها على عرض رأي، أو الاعتراض عليه،
وغرضه إقناع الغير بصواب الرأي المعروض، أو بيان بطلان الرأي المعترض عليه. الأمر
الذي يجعل الحجاج الفلسفي التداولي بناء مثنوياً تقابلياً يتواجه فيه عارض ومعترض،
إذ يتوجه فيه كل منهما بآليات إقناعية خاصة، وحقوق وواجبات محددة؛ هذه المقابلة المثنوية
من شأنها تغيير تصديقات أو اعتقادات المتقابلين. لهذا تعتبر الفلسفة التداولية من
أكثر الفلسفات تمسّكاً بمقتضيات العقلانية الصحيحة، لما تحقّقه من شروط وضوابط
ومعايير، لاعتمادها على آليات معلولة للمجال التداوليّ، وخاضعة لمحكّ النظر
الاجتماعي. فالمناظرة الحوارية تساعد على فهم وتصوّر الواقع الاجتماعي، الذي يقرّ
بالمبادرة الفردية، وبالنزعة الجماعية، وتطالب بإشراك جميع أفراد المجتمع في البحث
عن حلول للمشاكل والأوضاع المختلفة، وتقبّل وتشجيع عمليات التنقيح والتغيير.
ولا شك أننا نحن
المسلمين أحوج ما نكون اليوم إلى دراسة هذا النوع من الفلسفات، كاستثمار عقلاني
يفعّل الحوار الداخلي بين مكوّنات الإنسان ذاته، والحوار الخارجي مع العالم المحيط
بنا، خاصّة في إطار ظروف التقهقر الحضاري الراهن.
منشور في مجلة الحوار | العدد 171 – 172 | صيف 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق