شيروان الشميراني
في مسلسل (القراصنة)، الذي يتحدّث عن بدايات
التكوين الأوروبي والملكيات والدول، خاصة في النرويج والدول الاسكندنافية، كانت
(لاغيرثا)، زوجة الملك القرصاني في (كاتيجات)، تعتبر ملكة ومحاربة من الدرجة
الأولى، وحدث أن أعجب الملك الزوج بأميرة التقى بها صدفة على جانب أحد الوديان،
فأعجب بها، وأنجبت منه أربعة أبناء، في
حين أن (لاغيرثا) كان لها منه ابن واحد. لم تتحمّل (لاغيرثا) سرقة زوجها.. فقرّرت
ترك الملك، والذهاب مع ابنها إلى مكان قصي.. بعد سنوات طوال، كوّنت جيشاً من مملكة
زوجها الجديد، وعقب وفاة الملك الزوج، عادت مغيرة على (كاتيجات). لم تحارب زوجة
الملك التي حلّت محلّها، بل سلّمت السيف،
وطلبت منها أن لا تقتلها، لأن أبناءها
الذين كانوا في حرب مع إنكلترا حينها لن يقدموا على الانتقام منها وقتلها، لكن
(لاغيرثا) لم تتمكّن من تجاوز ما سمّته سرقة زوجها، فرمت الثانية أم الأمراء
الأربعة بسهم من الخلف أردتها قتيلة، لكن النتيجة كانت تشـريدها ووصولها إلى لحظات
الجنون في مرحلة من حياتها، فضلاً عن آلاف من القتلى ذهبوا ضحية لحظة انتقامها..
في التاريخ الحديث، لو نظرنا إلى العراق -
وهو أنموذج حيّ أمامنا - وفي مسألة التعامل مع من قيل إنهم أنصار النظام السابق،
بعد سقوط العراق بيد القوات الأمريكية عام 2003.. استحوذت فكرة الانتقام، ليس فقط
ممّن كانوا من مكوّنات النظام السابق، بل تجاوز الأمر إلى التشفي وإرواء حقد دفين،
والإطاحة المعنوية والجسدية بكل من أبدى رأياً مخالفاً للسلطة الجديدة، إلى حدّ
التصفية المذهبية، فيما يشبه الانتقام من التاريخ ممّن كانوا يحسبون على النظام
السابق؛ فكل من كان اسمه عثمان يقتل، لأن عثمان بن عفان فعل كذا وكذا.. وكذلك
الأمر من الطرف المقابل، حدثت تصفيات جسدية لكل من ينتمي إلى المذهب المخالف.
قانون المساءلة والعدالة الذي أسيئ توظيفه، سبّب شرخاً اجتماعياً كبيراً - وما زال
- في العراق، ولم يستقرّ البلد منذ ذلك الوقت، مع مرور حوالي عقدين من الزمن، كانت
كافية لأن يصل العراق إلى مصاف الدول المتقدّمة، بما يمتلك من ثروات بشرية وطبيعية.
والثأر -
المرادف لكلمة الانتقام -، كان هو السياسة التي تعامل من خلالها رئيس الحكومة
الأسبق مع احتجاجات المناطق الوسطى، عام 2012، عندما كانت التظاهرات احتجاجية
بالدرجة الأساس، وانطلاقاً من الشعور بالحيف بدرجة ثانية، مع كل ما كان يصدر منها
من تخرّصات الخطباء.. لكنّ الاعتماد على الثأر، وتعاطي مؤسّسات الدولة معها على
هذا الأساس، كان منافياً للروح الإنسانية المسؤولة. والنتيجة: هذا الخراب، وتكوين
بيئة مناسبة لتغذية فكر التطرّف في ثوب (تنظيم الدولة = داعش)..
قضية
الانتقام، ونبذ التسامح، والتعاطي الإيجابي مع الأحدث والأحوال، آثارها مدمّرة، لا
تتوقف عند مستوى واحد.. ولا نقصد هنا التغاضي عن الجرائم والاعتداءات، خاصة إن كانت
فيها حقوق شخصية، لأنها حقوق لا يتجاوز عنها حتى في محكمة الله - عز وجل - في
الآخرة، بل نقصد المسألة في إطارها العام، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- بعد فتح مكة، حيث ابتغى البعض إذلال قريش، لكن الرسول منعهم، وأصدر عفواً عامّاً
عن الجميع، وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. وكان في وسع الرسول، القائد
المنتصـر، أن يجعل العزاء في كلّ بيتٍ من بيوت مكّة، لكنّه لم يفعل.. لأنّه كان
بصدد بناء دولة ومجتمع مستقرّين، أمّا الانتقام من التاريخ، فلا يقول به الكبار،
بل هو عمل الصغار، ممّن يرون نصـرهم في قتل مناوئيهم أو إذلالهم..
وبما أننا بدأنا المقال بقصة من
التاريخ الأوروبي القديم، فإن أحد أبناء الأميرة المقتولـة، ممّن طرد (لاغيرثا)
الملكة من ممكلتها فيما بعد، وصار ملكاً، جنّ جنونه وظلّت فكرة قتل قاتلة والدته
تطارده حتّى أتت على ملكه هو الآخر، ودفعت به إلى الهروب طريداً متنكّراً إلى
(كييف)، التي كانت جزءاً من الأراضي الروسية في ذلك الوقت.. وتلك هي عبرة التاريخ!
منشور في مجلة الحوار | العدد 171 – 172 | صيف 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق