30‏/03‏/2024

بين حديث رسول الله والسنّة النبوية

 أ. د. عبد الحميد عبد الله الهرامة

شكرت صاحب منشور بدأه بقول الشافعي رضي الله عنه: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله، فقولوا بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)".

    فقلت له: يظن بعض المعاصرين أن سنّة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحديث الآحاد شيء واحد، والواقع أن السنّة التي عاش أعمالها الإمام مالك، ثم تلميذه الشافعي، وتحدّثا عنها، هي أعمال النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأعمال الصحابة، والتابعين، وما صحّ من أقوالهم.

    ولذلك فضّل مالك، وشيخه ربيعة، عمل أهل المدينة على حديث الآحاد. يقول ربيعة - وهو من التابعين، ومن علماء المدينة -: "ألفٌ عن ألف، أحبُّ إليّ من واحد عن واحد". وورد عن وهب قوله: "لولا مالك بن أنس، والليث بن سعد، هلكت. كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) يعمل به".

    وحين ردّ الإمام مالك حديث سليك، الذي رواه في (الموطأ)، عن تحية المسجد والإمام يخطب، إنما رده لعدم العمل به في أول القرون المفضلة، حين كانت السنّة طرية يأخذها الناس عملياً عن آبائهم؛ ولذا ألّف الإمام ابن تيمية كتاباً بعنوان (صحة أقوال مذهب أهل المدينة)، قال فيه: "كان مذهب أهل المدينة أصحّ مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)".

    وحين بعُدت السنّة العملية، مال الناس إلى  أحاديث الآحاد، "والغريب أنهم يردّون بها السنن التي بني عليها مذهب صاحب المدينة. ومن هذه الأحاديث ما فيه علة في سنده، أو في متنه، أو في نسخه، أو تعارضه مع حديث آخر، أو سنّة صحيحة. وأنت يمكن أن تسمع عن حديث الآحاد صفة الضعيف والمكذوب والغريب والمنكر والحسن والصحيح، ولكنك لن تسمع: أن هذه سنّة ضعيفة لأنها من المتواتر أو المعمول به، عند المذاهب القريبة من حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحبه.

    ومع ذلك، فقد عاش أصحاب المذاهب الأربعة، الذين أقبلت عليهم الأمة بالرضا، في صفاء وأخوة، فكانوا هم الأمة، وهم الجماعة، برغم اختلافاتهم المقبولة في الفروع، حتى خرج علينا جيل من الناس يرى أن أحاديث الآحاد هي السنّة، وهي أدلتها المقبولة، فمن لم يعمل بها، ويخالف مذهبه من أجلها، فهو من غير أهل السنّة والجماعة، فصارت الجماعة أقل من فرقة من فرق الشيعة، بعد أن كانت أمّة، وكانت أغلبية متحابة، وصرنا نتّهم بعضنا بالتبديع، وربما التكفير، وصارت الأشعرية والماتريدية تهمة تصل إلى الضلال، أما الصوفية - على اختلاف فرقها - فهي في منتهى الضلال، بالرغم من أن فقهاء المذاهب الكبرى ما فتئوا ينتقدون ما لا يليق من أعمال بعض المتصوفة، ولكنهم لا يجعلونهم في سلّة واحدة.

    أقول ما قلتُ ليس تشهيراً بفرقة من الفرق، ولكن لنتدارك الأمر، فنحن المسلمين نتعرض لأسوأ انقسام شهدناه في حياة الأمة، وينبغي للعلماء أن يتداركوا الأمر قبل استفحاله بالمال الفاسد. ولا نستبعد أن يكون وراء هذا التحجيم لمذاهب السنّة مكيدة معادية للإسلام، تريد تفتيت أكبر كيان فيه، وهو كيان المذاهب السنية المعتبرة. والله من وراء القصد.

* رئيس مجمع اللغة العربية الليبي، وخبير سابق في منظمة الإيسيسكو، وأستاذ جامعي متخصص في الأدب العربي في الأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق