26‏/12‏/2011

الأقباط في مصر ما بين أحداث الفتنة وتاريخ الوجود


تقرير/ مراسلة الحوار - القاهرة

 تحولت ساحة ماسبيرو مساء يوم  التاسع  من أكتوبر الماضي  الذي عرف بيوم "الاحد الدامي" إلى ميدان للاشتباكات والمواجهات العنيفة بين قوات الشرطة والجيش المصري من جهة؛ والأقباط المتظاهرين من جهة أخرى، والتي أسفرت عن 25 قتيلا، وأصيب المئات من الشرطة والجيش والمتظاهرين، وأسفرت الأحداث التي اندلعت عن إحراق وإتلاف سيارات ومركبات الشرطة والجيش.....


وجاءت هذه الأحداث المؤسفة والمؤلمة بعد تنظيم الأقباط لمظاهرة ومسيرة من شارع شبرا في اتجاه ماسبيرو احتجاجا على أحداث كنيسة "الماريناب" بأدفو، مطالبين بإقالة محافظ أسوان ومدير الأمن، وإعادة بناء كنيسة الماريناب، وقد تطورت الأحداث بسرعة بين الجيش والأقباط ما أدى إلى اشتعال فتيل الأزمة بينهم وتسبب ذلك باشتباكات دامية.
 ومع كثرة الروايات وتعددها واختلافها تظل الحقيقة تائهة بين اتهام الأقباط للشرطة والجيش بأنهم الذين بدئوا إطلاق الأعيرة النارية عليهم، وبين اتهام القوات الأمنية للأقباط بأنهم الذين بادروا بالهجوم علي قوات الجيش والشرطة؛ فبدأت القصة عندما كان هناك تجمهر لمئات الأقباط أمام ماسبيرو منذ الساعة الخامسة عصراً قادمين من شارع شبرا بقيادة الأنبا "فلوباتير جميل" والدكتور "نجيب جبرائيل" بعد أن قامت قوات الشرطة العسكرية والأمن المركزي بعمل جدار بشري أمني حولهم، وكانت العلاقة ودية وطيبة بين المعتصمين والقوات الأمنية منذ الساعة الخامسة والنصف وحتى الساعة السابعة تقريباً لدرجة أن جنود الشرطة العسكرية كانوا يتبادلون الأطعمة وزجاجات المياه مع المعتصمين، وظلت العلاقة على هذا الحال إلي أن تم إطلاق أعيرة نارية على جنود الشرطة العسكرية بدون أي مقدمات لتصيب بعضاً منهم، ثم بدأ المتظاهرون قذف القوات بالطوب والحجارة والزجاجات الحارقة، ومن هنا اشتعلت أحداث ماسبيرو وتحولت إلي معركة شوارع بين المعتصمين الأقباط والأمن وهذا أدى إلى إصابة عدد من قوات الشرطة العسكرية والكثير من الأقباط، ولم يعلم أحد من شهود العيان مصدر إطلاق النار على الشرطة العسكرية، فقيل إنها صادرة من الأقباط المعتصمين، وقيل أيضاً إنها جاءت من أعلى جسر 6 أكتوبر .. كما قيل إن مصدرها الشوارع القريبة من مبني ماسبيرو، وترددت أنباء قوية خلال الأحداث أن شخصاً من الحزب الوطني المنحل سيقوم بإرسال بلطجية لإحداث الوقيعة بين الأقباط والقوات الأمنية؛ وقامت القوات الأمنية بإطلاق الأعيرة النارية في الهواء لتفريق المتظاهرين، ما أدي إلي غضب الأقباط المعتصمين الذين ظنوا أن الشرطة العسكرية تريد قتلهم، ولذلك قام بعض شباب الأقباط بالهجوم علي مدرعة واستطاعوا حرقها وحرق باصين وسيارة جيب تابعة للقوات المسلحة، ولم تنجح العربات المدرعة التي حاولت تفريق المتظاهرين بإنهاء الموقف لأنها دهست بعضاً منهم ما أشعل الغضب أكثر وصعد عدد من القوات التابعة للشرطة العسكرية أعلى جسر 6 أكتوبر لمطاردة بعض الأقباط الغاضبين، فيما استمرت معركة أخري بين الأمن وبين المتظاهرين أسفل الجسر وتحديداً بميدان عبدالمنعم رياض تم استخدام الحجارة فيها من قبل الأقباط بينما استخدمت القوات الأمنية القنابل المسيلة للدموع.
وتحول المشهد من حرب حجارة بين القوات الأمنية والأقباط المعتصمين إلي معركة أخرى بالسنج والمطاوي والأعيرة النارية التي ظهرت فجأة مع المحتجين؛ وهاجموا بها الأمن مع استخدام زجاجات المولوتوف الحارقة وبدئوا أيضاً بتكسير إشارات المرور بميدان عبدالمنعم رياض، وسيارات المارة بمنطقة الكورنيش أثناء المعركة.
 وجاء في المؤتمر الصحفي  الذي عقده المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحميله المسؤولية لشخصيات بعضها معروف ومشهور مسئوليتين الاولى عن أحداث ماسبيرو، والثانية عن محاولات ارتكاب أحداث ووقائع إجرامية ومحاولة استغلالها سعيا لطلب تدخل خارجي في شئون مصر.. وأكد المجلس العسكري على وجود أدلة على هذه الاتهامات؛ إلا أنه رفض الإفصاح عنها الآن وتركها للتحقيقات القانونية علي أن يتم إعلانها وبكل وضوح بعد ثبوت إدانة تلك الشخصيات.
 وتضمن المؤتمر عددا كبيرا من مشاهد الفيديو التي كشفت التحريض على العنف من جانب عدد من رجال الدين المسيحي لحشد الأقباط في مسيرة ضخمة، والتحريض على العنف، وتهديدات بقتل مسئولين؛ وأعمال الهجوم الوحشي وغير الآدمي علي عدد من أفراد الشرطة العسكرية الذين كانوا لا يحملون أسلحة أو ذخائر.
وحرصًا علي مصلحة البلد وفي محاولة لتهدئة الأزمة في مصر عقد الاجتماع الطارئ لمجلس "بيت العائلة" المصري لمناقشة سبل توحيد النسيج الاجتماعي المصري وتفادى سلبيات أحداث ماسبيرو، والعمل من أجل تحقيق مفاهيم المواطنة والتعاون المشترك بين الأزهر والكنيسة، من أجل بناء مصر الحديثة، عقد الاجتماع برئاسة فضيلة الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر ورئيس المجلس، وممثلين عن الأزهر، ومستشار البابا شنودة الثالث، وممثلين عن مختلف الكنائس المصرية، وبعض المفكرين والمثقفين.
 وتم إصدار بيان رسمي في نهاية الاجتماع بتقنين وضع الكنائس التي لم تحصل على تصاريح، وإعادة فتح الكنائس المغلقة التي لها تصريح وترخيص مسبق، وبالتوجه لترخيص الكنائس غير المرخص لها بعد توفيق أوضاعها للحصول علي الترخيص اللازم لعملها، وأوصي بإصدار قانون مواز لبناء الكنائس بمشاركة كل الطوائف المسيحية وتشديد عقوبة التمييز، وسرعة إصدار قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين.
الأقباط في تاريخ مصر الحديث
هذا الأحداث حفزتنا لمعرفة المزيد عن هذه الأقلية المصرية وما هو وضعها في مصر منذ العهد الملكي ثم الجمهوري، ففتحنا هذا الملف:
عمل محمد علي باشا عقب توليه الحكم في مصر مطلع القرن التاسع عشر على إنشاء دولة حديثة تحاكي النموذج الأوروبي، وذلك بالاستفادة من البعثات العلمية التي أرسلها إلى فرنسا للوقوف على معالم التجربة الفرنسية في مجال تحديث مؤسسات الدولة فقد كانت قفزة هامة في بناء الدولة المصرية، وكان لها أثر في تحديث المجتمعات العربية بشكل عام، وقد انعكست آثارها على أوضاع الأقباط في مصر، فمع بداية نشأة الدولة باعتبارها كيانا سياسيا نشأت أيضا فكرة المواطنة وأدى نشوء المواطنة المصرية إلى تغير نوعي في أوضاع الأقباط؛ وبهذا المعنى شكل عهد محمد علي انعطافا في تعامل الدولة والمجتمع مع أوضاعهم، وذلك من خلال مساواة الأقباط ببقية المواطنين في الحقوق والواجبات.
 لقد أزال محمد علي غالبية المظاهر التي كانت تؤكد على تمييز الأقباط وتمايزهم، وأبرزها قيد الزي الذي كان مفروضا عليهم في العصور السابقة، وألغى القيود التي كانت تفرض عليهم بشأن الطقوس والشعائر وممارسة طقوسهم الدينية بحرية تامة، وأفسح المجال للموافقة على طلبات بناء الكنائس وإصلاحها ومساعدتهم في ذلك من خزينة الدولة، والجدير بالذكر أن محمد علي كان أول حاكم مسلم منح الموظفين الأقباط رتبة "البكوية" واتخذ مستشارين منهم.
وفي عهد سعيد باشا، اقترب التعامل مع الأقباط خطوات أخرى من مفهوم وممارسة "المواطنة"، وذلك من خلال إلغاء الجزية المفروضة عليهم منذ فتح مصر في منتصف القرن السابع؛ وقد فسح ذلك المجال لفرض الخدمة العسكرية عليهم، وهذا من أهم مؤشرات التخلص من الذمة والذمية، ودخل الأقباط لأول مرة في سلك القضاء والجيش، فبحسب المفهوم الفرنسي للخدمة العسكرية الإلزامية في ذلك الوقت، فإن هذا الإجراء له دلالات متعلقة بـ"المواطنة"، خاصة وأن الثورة الفرنسية طالبت بتعميم الخدمة العسكرية بعد أن كانت حكراً على طبقة اجتماعية ومن ميزات فروسية الأرستقراطية، وفي إطار سياسة الانفتاح تجاه الأقباط، عين سعيد باشا الأول مصريا مسيحيا حاكما على السودان.
وشهدت أوضاع الأقباط في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1878) تحسنا ملحوظاً من خلال الزيادة العددية والارتقاء العمودي في سلم وظائف الدولة، حيث حصل بعضهم على رتبة "الباشوية" كما دعم الخديوي إسماعيل التعليم الديني "القبطي" مادياً في إطار المدارس المشتركة مع المسلمين وترسخ مفهوم وممارسة مواطنة الأقباط في الدولة المصرية حتى بلغا خلال العقدين الأول والثاني من القرن العشرين حد تولي أثنين من الأقباط رئاسة الوزراء وهما بطرس غالي باشا (1908-1910) ويوسف وهبة باشا (1919-1920).
وجرى العرف منذ عام 1883 على تعيين قبطي واحد في كل وزارة، ثم ارتفع عددهم إلى أثنين لأول مرة عام 1924 عندما شكل سعد زغلول وزارته.
وبالمحصلة، يرى العديد من الباحثين أن طبيعة النظام الاقتصادي الذي كان قائما في العهد الخديوي والمعتمد على الفئات البرجوازية والإقطاعية، أفسح المجال للنخب القبطية للتعاطي بإيجابية مع النظام السياسي، إلى حد جعل بعضهم يصف العهد الخديوي بالعصر الذهبي للأقباط في تاريخ مصر الحديث، وذلك لازدياد مشاركتهم السياسية، التي توجت في حكومات عهد الملك فاروق بتبوء أقباط منصب الوزارة 12 مرة  وهو الرقم الأكبر في عهد أي حاكم في تاريخ مصر الحديث.
الاقباط في العهد الجمهوري
جاء بعد ذلك العهد الجديد للمصرين وهو العهد الجمهوري بعد ثورة يوليو 1952 حيث تعرضت أوضاع الأقباط في عهد جمال عبد الناصر لتناقضات عديدة، فالأقباط نظروا إلى الثورة وإجراءاتها كما نظرت باقي الفئات بإيجابية؛ خاصة إلى ما يتعلّق بالتأميم وقانون الإصلاح الزراعي، في حين أن النخبة الاقتصادية القبطية (الليبرالية)، والتي انتعشت في العهد الخديوي، تأثرت سلبا بهذه الإجراءات واختلفت طريقة تعاطيها سياسيا مع نظام ما بعد الثورة.
ثم جاء عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي بدأت بعهده مشكلة التمييز ضد الأقباط حين أعلن أنه "رئيس مسلم لدولة مسلمة" فقد عمد أنور السادات في بداية عهده إلى التخلص من التيار الناصري واليساري، من خلال استخدام التيار الديني "الأصولي" وتشجيعه، وقد أدى ذلك إلى انتشار الخطاب الديني الإسلامي بشكل غير مسبوق الأمر الذي أثر سلبا في أقباط مصر، وبرز ذلك عندما تم إضافة "الإسلام دين الدولة، والشريعة مصدر رئيس للتشريع" إلى المادة الثانية من دستور عام 1971، لتصبح بعدها "الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع" بحسب تعديل عام 1980 فازدادت الهوة بين الأقباط والدولة خاصة بعد وضع "الشروط العشرة" لبناء الكنائس وترميمها وقد ترافق ذلك مع حالة الغربة التي عاشها الأقباط في سبعينات القرن المنصرم، نتيجة محاولة التيار الديني "المتحالف مع السادات" طرح مسائل فقهية تتعلق بوضعهم القانوني ضمن الدولة والمجتمع المصري على أساس مفهوم "أهل الذمة"، الذي عاد إلى التداول بعد غياب طويل، وقد تم استبعاد الاقباط من القوائم الانتخابية للحزب الوطني بحجة عدم قدرتهم على الفوز، كما استبعد طرح مشاكلهم الاجتماعية وهمومهم الحياتية في برامج الأحزاب السياسية الأخرى
وفي عهد مبارك تباينت تقييمات المواطنين المصريين الأقباط لأوضاعهم وفق اتجاهين رئيسين:
الاتجاه الأول: ينظر بإيجابية إلى سياسة مبارك في التعاطي معهم، من خلال إجراء مقارنة مع الماضي (السادات) وكانوا يعتبرون مبارك هو حاميهم وحارسهم الأكبر ويدلل على ذلك بالمرونة والسماح لهم بإجراءات بناء الكنائس واعتبار عيد الميلاد المسيحي عطلة رسمية للدولة، وتدخل القيادات العليا لحل بعض مشاكلهم وإجراءات أخرى.
والاتجاه الثاني: يعتبر أن الشارع المصري أصبح أكثر تشدداً وأن الدولة لجأت إلى محاربة التيار "الأصولي" أو المهادنة معه بشكل جعلها تغفل الأقباط وقضاياهم، إلا في بعض المسائل المتعلقة بالمرافق وفي بعض القضايا الاجتماعية أيضا، ومن خلال استقراء واقع المواطنين الأقباط في مصر، يمكن ملاحظة انفتاح بسيط من الدولة في عهد مبارك، دون إحداث قطيعة مع الممارسات الإلغائية في عهد السادات إذ ظلت المشاركة السياسية تقتصر على بعض النواب المعينين أو الوزراء في وزارات غير سيادية فعلى سبيل المثال وليس الحصر، اقتصر تمثيل الوزراء من أصل قبطي في الحكومة الأخيرة قبيل بدء الثورة الشعبية على أثنين فقط، هما يوسف بطرس غالي في وزارة المالية وماجد جورج في وزارة البيئة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق