بقلم: هاشم الفارس
دستورنا مطاط، وقوانيننا أكثر مطاطية، وما بين مواد الدستور وفقراته، التي تَجبُ جميع القوانين والتعليمات المتعارضة مع أي نص في الدستور الذي توافق عليه نسبة مقبولة من الشعب العراقي؛ وما بين واقع القوانين السارية المفعول والتعليمات والقرارات التي تتخذها الحكومة ويسير عليها البرلمان العراقي هوة كبيرة، وتخضع بعض الفقرات الدستورية التي يجب أن لا يعلى عليها إلى شد وجذب وضغوط في التفسير والتأويل والتنفيذ وتفاوت التقيد بها حسب متطلبات المرحلة وبنية العملية السياسية وخضوعها الى المساومات والصفقات ومبدأ تبادل المنفعة الفئوية!.
ويقودنا هذا المدخل الى فقرات عديدة من الدستور وقعت تحت طائل المساومة والتأخير والتلويح بها كورقة ضغط على الكتل السياسية المعارضة، بحيث بات الدستور على جلالة قدره في معظم دول العالم المتحضر (كالمشاور القانوني )..قد يستأنس برأيه! إن شئنا أخذنا به وإن شئنا أبينا!.. ولنسلط الضوء على قضية حساسة تشهدها الأوساط الشعبية وتتصدى لها معظم منظمات المجتمع المدني؛ وهي قضية الرواتب التقاعدية لنواب البرلمان العراقي، حيث من المعلوم أن كلمة (نائب) لا تدل على (وظيفة حكومية)، في القاموس الدستوري، بل هي أقرب مايكون الى (عقد تفويض)، أي إنابة شخص عن شخص أو عن مجموعة أشخاص بموجب قانون معين لقاء (خدمة) معينة تحدد مدتها بفترة زمنية محددة أو بانقضاء وإتمام المهمة التي أوكلت الى النائب ليؤديها، وفي القانون فإن مثل هذا العقد يخضع الى الحقوق والواجبات، فإن أخل الوكيل (النائب) بالواجب وبالمهمة الموكل بها انسحب ذلك على الحقوق التي ينالها من الطرف الآخر، لكن هذا الشرط غير موجود في توكيلنا إلى النواب الذين انتدبناهم للعمل والتفكير والتشريع نيابة عنا، ورغم ذلك فإن (نوابنا) يأخذون الرواتب الخيالية لقاء جلوسهم في البرلمان بأي صيغة كانت؛ سواء كان على وضع عام (أي الذي يتحدث ويناقش ) أو على وضع الصامت؛ أي الذي (لا يهش ولا ينش... وهم كثر) أو على وضع الاهتزار، بمعنى يهز رأسه تارة مؤيدا؛ ليعود ويهز رأسه معارضا تارة أخرى، وقد يكون الاهتزاز على نفس القضية! ولكن الخشية من وضع (الطيران) حيث يؤثر العديد من النواب على التنقل (طيراناً) بين عواصم الدنيا، ولا يحضر من جلسات مجلس النواب سوى الجلسة الافتتاحية، وجلسة إقرار (الامتيازات )، وربما الجلسة الاخيرة من الدورة التشريعية، وينالون لقاء جهدهم المضني هذا الكفاية المالية التي تغطي (موازنات) بعض الدول.
وإذا عدنا لأي قانون عراقي نجد مثل هذه الرواتب لا تخضع إلى سلم الرواتب المعمول به في العراق، بحيث يشمل أدنى درجة وظيفية في الهيكل الإداري العراقي إلى أعلى السلم للدرجة الأولى أو الدرجات الخاصة؛ ولم نجد ما يشير الى استحقاق النواب لرواتب تقاعدية، كون ذلك وببساطة يتعارض مع قانون التقاعد العام الذي يحدد ضوابط الإحالة على التقاعد؛ من حيث عدد سنوات الخدمة الفعلية، أو السن القانوني أثناء الخدمة العامة! وعند إجراء حساب بسيط لعدد النواب منذ تشكيل الجمعية الوطنية في عام 2003 والدورات اللاحقة للبرلمان العراقي، وإلى زمن غير محدد، ومجموع الرواتب التقاعدية التي سيتقاضونها (إذا لم تفلح المطالبات الشعبية والهيئات المجتمعية بإيقاف هذه الرواتب) فإننا سنحصل على رقم خيالي يفوق التصورات، وكل ذلك يدفع من الخزينة العامة التي كان من المفترض أن تسخر لخدمة الناس المعدمين والفقراء وترتقي بالبنى التحتية للبلد، وتساهم في إحداث نهضة عمرانية وزراعية وصناعية وتجارية واستثمارية هائلة.
ولكن هنالك العديد من النواب يتحاشى الخوض في هذا الموضوع خشية إثارته وزيادة الاهتمام الشعبي حوله؛ وهنالك من النواب من أبدى استعداده للتخلي عن هذا الراتب، لكن سرعان ما اتهمه زملاؤه باستغلال مثل هذه القضية لدواعٍ انتخابية، وستكشف الايام القادمة مدى فاعلية المنظمات المهنية والمجتمعية والمهتمين على مواقع التواصل الاجتماعي في تحقيق رغبة شعبية أقل ما يمكن وصفها أنها مشروعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق