07‏/07‏/2021

الخيرية في أمة الوسط

د. دحام إبراهيم الهسنياني

من أبرز خصائص الوسطية الإسلامية: الخيرية

 إِنَّ الوسطيَّةَ من خَصائصِ هذه الأُمَّة، وهي سببُ خَيْريَّتِها، ولا تزالُ الأُمَّةُ بخَيْرِ ما حافَظَتْ على هذه الخَاصيَّةِ التي تتميَّزُ بها: خاصية الوسطيَّةِ، التي تُمثِّلُ الاعتدالَ والاستقامةَ على صِـراطِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فإِذا خرَجتْ عن الوسَطِ إلى أحَدِ جانِبَيْه، ففرّطَتْ أو أَفْرَطَتْ، فقد هلَكت، فإِنَّ التَّطرُّف مَهْلَكة، التَّطرُّف لا يخْتَصُّ بالغُلُوِّ والإفْراط، وإٍنَّما الغُلُّوُ والإفْرَاطُ تطرُّف، والتَّقْصِيرُ والتَّفرِيطُ تَطرُّفٌ أيضاً، وكِلاَهُما مَهْلَكَةٌ للفَرْدِ والمُجْتَمع.

ويمكن الكلام على هذه الخصيصة بما يأتي:

 أبرز وجوه الخيرية لهذه الأمّة:

قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}([1]). وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهَ}([2]). وقد ذكرت أن من معاني الوسطيَّة الخيريَّة، قال الطبري: مقرّرًا خيريَّة هذه الأمَّة (أمَّة الوسط): "فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهَ}؟ وقد زعمت أن تأويل هذه الآية: أن هذه الأمَّة خير الأمم التي مضت، وإنَّما يقال: كنتم خير أمَّة لقوم كانوا خيارًا، فتغيّروا عمّا كانوا عليه؟! قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنَّما معناه أنتم خير أمَّة، كما قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} ([3])، وقد قال في موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} ([4])، فإدخال (كان) في مثل هذا، وإسقاطها، بمعنى واحد، لأنّ الكلام معروف معناه. ولو قال - أيضاً - في ذلك قائل: (كُنْتُمْ) بمعنى التَّمام، كان تأويله: خلقتم خير أمَّة، أو وجدتم خير أمَّة، كان معنى صحيحًا"([5]).

وفي تفسيره لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ([6]). قال: "وأمّا التّأويل، فإنَّه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم"([7]). وقال ابن كثير: "والوسط هنا: الخيار والأجود، كما يقال لقريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي خيرها"([8]).

وفي تفسيره لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، قال: "يعني خير النَّاس للنّاس، والمعنى: أنَّهم خير الأمم وأنفع النَّاس للنَّاس"([9]).

وممَّا سبق يتَّضح أن الخيريَّة ممَّا فسـر به معنى الوسطيَّة، التي ذكرها الله من خصائص هذه الأمَّة، فما هي هذه الخيريَّة التي نعرف بها وسطيَّة هذه الأمَّة؟

قال الطبري في تفسير آية الخيريَّة: "وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، إذ كنتم بهذه الشـّروط التي وصفهم - جلّ ثناؤه - بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمَّة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتُؤمنون بالله، أخرجوا للنَّاس في زمانكم"([10]).

قال محمد رشيد رضا: والحق أقول: "إنّ هذه الأمَّة ما فتئت خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، حتَّى تركت الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر. ثم قال: وقد بيَّن الفخر الرازي كون وصف الأمَّة هنا بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان، علّةً لكونها خير أمَّة أُخرجت للنّاس، فقال: واعلم أنَّ هذا الكلام مستأنف، والمقصود منه بيان علّة تلك الخيريَّة، كما تقول: زيد كريم، يطعم النَّاس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم. وتحقيق الكلام أنَّه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونًا بالوصف المناسب له، يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلاً بذلك الوصف. فهنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيريَّة لهذه الأمَّة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم، وهذه الطّاعات، أعني الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان، فوجب كون تلك الخيريَّة معلّلة بهذه العبادات"([11]).

وقال القاسمي: "ثم بيّن وجه الخيريَّة بما لم يحصل مجموعه لغيرهم، بقوله: {تَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهَ}([12])، فبهذه الصفات فضّلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}([13])، {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}([14]). قال أبو السّعود: "{وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}([15])، أي إيمانًا متعلّقًا بكلّ ما يجب أن يؤمن به؛ من رسول، وكتاب، وحساب، وجزاء، وإنّما لم يُصـرّح به تفصيلاً لظهور أنّه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنَّه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة"([16]).

 

 

 

وقد ورد عدد من الأحاديث التي تدلّ على خيريَّة هذه الأمَّة، منها:

روى الترمذي في تفسيره لهذه الآية، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّكم تتّمون سبعين أمَّة، أنتم خيرها وأكرمها على الله)([17]). وقال عليه الصلاة والسلام: (أُعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ فقال: نصـرتُ بالرّعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمدَ، وجعل التّراب لي طهورًا([18])، وجعلت أمّتي خير الأمم)([19]). فهذه الأحاديث مع آية آل عمران تبيّن خيريَّة هذه الأمَّة، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، وقد جمع المفسّـرون بين معنيي الخيريَّة والوسطيَّة، حتى جاء أحدهما تفسيرًا للآخر.

ولأهمّيَّة بيان معنى الخيريَّة، سأذكر أبرز أوجه هذه الخيريَّة، ليتَّضح لنا هذه الخاصية البارزة للوسطيَّة:

 

1- الإيمان بالله:

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله}([20])، فقرن الله – سبحانه - بين خيريَّة هذه الأمَّة والإيمان به، بل جعل الإيمان هو سبب الخيريَّة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فرع عن الإيمان، وأثر من آثاره. وهل يمكن أن نتصوّر خيريَّةً دون إيمان بالله تعالى؟ والإيمان بالله يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام، لأنَّ العلماء ذكروا أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهنا جاء ذكر الإيمان وحده، فهو يشمل الإيمان والإسلام([21]).

وعند التّأمل في معنى الإيمان، كما ورد في حديث جبريل المشهور، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه)([22]). نجد الشّمول والتكامل، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}([23]). فالإيمان بالله يشمل الأمور العقديَّة والعمليَّة، الظاهرة والباطنة، ما يتعلّق منها بعالم الغيب والشّهادة، ما كان منها في الدّنيا أو الآخرة.

والإيمان بالله أعمق دلالة وأثرًا ممّا قد يتصورّه كثير من النَّاس، فليس هو مجرّد التّصديق، كما فسـّره بعض المتكلّمين، ممّا أودى بكثير من النَّاس إلى اعتناق مبدأ الإرجاء، وهم لا يعلمون، وهم بهذا السّلوك والتّفسير فرّغوا الإيمان من معناه الحقيقي، ومدلوله الصّحيح. وإنّما هو علم واعتقاد وعمل، والإسلام من لوازم الإيمان، فمقتضـى الإيمان بالله وكتبه ورسله، يستلزم العمل بما أمر به الله في كتابه، وعلى لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم -. ولهذا، فإن شـرط الإيمان في تحقيق الخيريَّة، جاء مغنيًا عمّا يشمله من أركان الإيمان والإسلام. ولذلك، فإنَّنا قبل أن نحكم بخيريَّة جماعة أو فرد أو عمل، لا بدّ من التّحقّق في توافر شـرط الإيمان فيه، بمعناه الشّامل المتكامل، فقد قال تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}([24])، مع أنَّهم يدّعون الإيمان، ولكن العبرة بالحقائق لا بالدّعاوى.

وعند التّأمّل في قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}([25])، أجد أن فيه معنى الخير والإنشاء، فهو خبر عن حقيقة واقعة بإيمان هذه الأمَّة، حيث تميّزت عن غيرها في شمول هذا الإيمان واستمراره، ويكفي دليلاً عن شمول إيمانها، شهادتها لبعض رسل الله يوم القيامة بأنهم قد بلّغوا رسالة ربّهم إلى أقوامهم. فهذا الإيمان الموجود، والمتحقّق، أهَّلها لهذه الخيريَّة.

ثم فيه معنى الإنشاء والطلب، حيث جعل من لوازم الخيريَّة وجود هذا الإيمان، فكما أن هذا الإيمان موجود في هذه الأمَّة بجملتها، وبخاصّة القرون المفضّلة، فإنّ على من أراد من أفراد هذه الأمَّة أن يكون من خيارها، أن يُحقّق معنى الإيمان في نفسه، بمعناه الشّامل المتكامل.

فإذا تحقّق الإيمان تحقَّقت الخيريَّة، وإذا تحقَّقت الخيريَّة في صورتها الشـَّرعية، وجدنا الوسطيَّة في أسمى معانيها، مقرونة بأقوى أركانها ومبانيها([26]).

 

 

 

2- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:

من خصائص هذه الأمَّة العمليَّة: قيامها بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وهذه شهادة الله لها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}([27]). والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أوجبه الله على من قبلنا، ولكنهم فرَّطوا وضيَّعوا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسـَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}([28])، ونجد مصداق خيريَّة هذه الأمَّة لقيامها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أنَّه منذ بُعِثَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، إلى يومنا الحاضـر، وهذا الرّكن العظيم لم ينقطع، ولم يترك، كما فعل بنو إسـرائيل.

قال الأستاذ سيد قطب: "فهي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لا عن مجاملة، ولا عن محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}([29]). كلا، إنّما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البـشريَّة من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يُحدّد المعروف والمنكر"([30]).

إنَّ هذه الخيريَّة لها أسباب، ولها حقيقة، حقيقة لا بدّ أن توجد في الواقع، وأن ترى في الحياة، وليست مجرّد تصوّر ذهني، وفلسفة غائبة. وهذه الخيريَّة مسألة نسبيَّة بالنسبة للأمَّة، فقد ترتفع لتبلغ الذّروة، كما كانت الحال في جيل الصّحابة والقرون المفضّلة، وقد تنحسـر في مجموعات وأفراد، كما هي في القرون المتأخرة، وذلك تبعًا لوجود مقومات الخيريَّة وصيانتها([31]).

 

 

 

 

أقوال المفسرين في (الخيرية):

قال المفسـرون: قوله تعالى: {.. جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا}، أي عدولاً وخياراً، والوسط الخيار والعدل، والآية محتملة للأمرين([32]). قال ابن كثير: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يعني: "خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس"، كما قال في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا}، أي: "خياراً"([33]).

يقول العلامة جمال الدين القاسمي: "أي جعلناكم أمة خياراً لتكونوا شهداء على الناس، أي رقباء قُوَّاماً عليهم؛ بدعوتهم إلى الحق، وإرشادهم إلى الهدى، وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال، فتكون الآية نظير آية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَر وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}([34])، فإن الوسط بمعنى الخيار، وقد صـرح به في قوله {خير أمة}. وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية: لتكونوا شهداء لمحمد – صلى الله عليه وسلم- على الأمم: اليهود والنصارى والمجوس، أي شهداء على حقيقة رسالته، وذلك بالدعوة إليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو قطب الدعوة وروحها"([35]).

 

وخيرية هذه الأمة من وجوه عدة:

1.             أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وإيمانها بالله، كما في الآية الكريمة السابقة.

2.             كونها أكثر الأمم نفعًا للناس، كما فسـر أبو هريرة (رض) الآية الكريمة بقوله: (خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام)([36]).

3.             كونها أكثر الناس استجابة للأنبياء، قال – صلى الله عليه وسلم-: (أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدَّق نبي من الأنبياء ما صُدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد)([37]).

4.             كونها لا تجتمع على ضلالة، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم-: (سألت ربي أربعاً، فأعطاني ثلاثاً، ومنعني واحدة: سألته أن لا يجمع أمتي على ضلالة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها)([38]).

5.             كون كتابها خير الكتب السماوية، ونبيها أفضل الأنبياء، وتقديمها على الأمم في الحشـر، كما في الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة)([39]).

6.             ومما يدل على أفضلية هذه الأمة ما ثبت من احتلالها لنصف الجنة، وكونها أكثر أهل الجنة، كما قال – صلى الله عليه وسلم-: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ إن الجنة لا يدخلها إلا نَفْسٌ مسلمة، ما أنتم في الشـرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر)([40]). يعني والنصف الآخر من المؤمنين الآخرين.

7.             ومما يدل على خيرية هذه الأمة أيضاً، قوله – صلى الله عليه وسلم-: (أنتم تتمّون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله)([41]).

"فهم خيار وعدول، وأصحاب علم وعمل، لا يخلو زمان منهم لما في الحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضـرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)([42]). وما دام القرآن موجوداً فهم موجودون، لقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ([43])، فلولا أن أناساً موجودون بهذه المثابة ما بقي القرآن، ونزول البلاء ليس دليلاً على عدم وجود الخيار، فإن الأنبياء كانوا موجودين مع حصول الخسف والمسخ بأممهم، فليسوا أعظم من الأنبياء، ولما في الحديث (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)([44]).."([45]).

ومما يدل على خيرية هذه الأمة الوسط، أنها أمة ربانية؛ ربانية المصدر، وربانية الوجهة، فهي أمة أنشأها وحي الله تعالى، وتعهدتها تعاليمه وأحكامه، حتى اكتمل لها دينها، وتمت نعمة الله عليها، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسلام دِينا}([46])، ولم تنشأ بمجرد المصادفة، أو وجدت في إقليم واحد، أو انتسبت إلى عنصـر معين، كبعض الأمم، ولم تنشأ كذلك بإرادة فرد، أو إرادة طبقة، أو إرادة مجلس.. إنما أنشأها الله - جل جلاله - لتؤدي رسالتها في الوجود، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا}، فالله هو جاعل هذه الأمة، ومتخذها، وصانعها، لتقوم بدورها في الناس.. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}([47])، فالله تعالى هو الذي أخرجها، ولم يخرجها لتتقوقع على نفسها، وتعيش في حدودها، ولمنافعها المادية الخاصة، إنما أخرجها (للناس) كل الناس، بيضاً وسوداً، عرباً وعجماً، أغنياء وفقراء، فهي أمة ربانية مبعوثة للعالمين، كما أن كتابها أنزل ذكراً للعالمين، ونبيها أرسل رحمة للعالمين، وبعثة هذه الأمة بعثة رحمة ويسـر، لا بعثة قسوة وعسـر.. وقد خاطب الرسول أمته الوسط فقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسـرين)([48]). فالله تعالى هو الذي بعثها وأخرجها.

ولقد فقه الصحابة هذا المعنى، وأدركوا أنهم مبعوثون من الله تعالى لهداية أمم الأرض، وعبر عن ذلك أحدهم، وهو: ربعي بن عامر (رض) في مواجهة (رستم)، قائد الفرس، محدداً مهمة الأمة في عبارات بليغة موجزة: (إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)([49]).

فمن أراد الخيريَّة، فلا بدّ أن يقوم بهذا الرّكن العظيم، حتى تتحقّق له الخيريَّة التي جعلها الله من ميزات الأمَّة الإسلامية. والرسول – صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري: (من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)([50])، فهي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لا عن مجاملة، ولا عن محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله جل في علاه عن ذلك علوًّا كبيرًا- وليس توزيع الاختصاصات والكرامات، كما كان أهل الكتاب يقولون: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشـَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}([51])، كلا.. إنّما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشـريَّة من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يُحدّد المعروف والمنكر ([52]).

 فإذا تحقّق الإيمان، تحقَّقت الخيريَّة، وإذا تحقَّقت الخيريَّة في صورتها الشّـَرعية، وجدنا الوسطيَّة في أسمى معانيها، مقرونة بأقوى أركانها ومبانيها. وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (العلم أفضل من العمل، وخير الأعمال أوسطها، ودين الله - عز وجل - بين القاسي والغالي، والحسنة بين السيئتين، لا ينالها إلا بالله، وشـر السير الحقحقة)([53]).

وقد نجد ضعفًا في زمان من الأزمنة، أو مكان من الأمكنة، ولكنَّه لا يصبح حالة مستقرَّة، ولا تعدم الأمَّة آمرًا أو ناهيًا، ولو كانوا قلَّة قليلة، فالطائفة المنصورة موجودة إلى قيام السَّاعة، وهي طائفة ظاهرة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر..

ولقد ذكر الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في هذه الآية خبرًا وإنشاءً، فهو إخبار عن حقيقة واقعة ومستمرَّة، حيث إنَّ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مستمرّ في هذه الأمَّة إلى قيام الساعة، وهو كذلك (إنشاء)، فمن أراد الخيريَّة، فلا بدّ أن يقوم بهذا الرّكن العظيم، حتى تتحقّق له الخيريَّة التي جعلها الله من خصائص هذه الأمَّة.

 وممّا سبق، يتبيَّن لنا أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، من أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، له صور متعدّدة، وليس محصورًا بحالة أو صفة واحدة كالكلام مثلاً، بل قد يكون باليد أو اللسان أو العمل - كالقدوة مثلا ً.

فهي خير أمة في استقامتها وتقواها.

خير أمة في أدائها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتربوي.

خير أمة في خُلقها وتعاملها الفردي والجماعي.

خير أمة في تحقيق حرية الإنسان وكرامته وحقوقه.

خير أمة في أمنها واستقرارها وعدلها ومساواتها.

خير أمة في تراحمها ورحمتها فيما بينها وبين غيرها.

خير أمة في سيرها الحضاري والإنساني والفكري والثقافي.

خير أمة في التنافس في الخبرات والتدافع الحضاري.



([1]) سورة البقرة، الآية: 143.

(2) سورة آل عمران، الآية: 110.

([3]) سورة الأنفال، الآية: 26.

([4]) سورة الأعراف، الآية: 86.

([5]) جامع البيان في تأويل آي القرآن: 4/45.

([6]) سورة البقرة، الآية: 143.

([7]) جامع البيان في تأويل آي القرآن: 2/7.

([8]) تفسير القرآن العظيم: 1/190.

([9]) المصدر نفسه: 1/268.

([10]) جامع البيان في تأويل آي القرآن: 4/44.

([11]) تفسير المنار: 4/60.

(12) سورة آل عمران، الآية: 110.

(13) سورة المائدة، الآية: 79.

(14) سورة النساء، الآية: 105.

(15) سورة آل عمران، الآية: 110.

([16]) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: 1/436.

([17]) رواه الترمذي: 5/211 رقم (3001). وابن ماجة: 2/1433 رقم (4288) وأحمد: 5/5. والدارمي: 2/404 رقم (2760). قال الترمذي: هذا حديث حسن.

([18]) الطَّهور: ما يتطهر به الإنسان، والمراد أن المصلي له أن يتيمم بما على وجه الأرض ما لم يُنجَّس. (لسان العرب: 4/504، مادة: طهر).

([19]) رواه أحمد: 1/98، والبيهقي في الدلائل: 5/472. وابن أبى شيبة: 6/304، رقم (31647). وقال ابن كثير في تفسيره: (1/392): إسناده حسن.

(20) سورة آل عمران، الآية: 110.

([21]) الوسطية في ضوء القرآن الكريم، الدكتور ناصر بن سليمان العمر: 96.

([22]) سبق تخريجه: 183.

(23) سورة البقرة، الآية: 285.

(24) سورة آل عمران، الآية: 110.

(25) سورة آل عمران، الآية: 110.

([26]) الوسطية في ضوء القرآن الكريم: 3.

(27) سورة آل عمران، الآية: 110.

(28) سورة المائدة، الآية: 78ـ79.

(29) سورة المائدة، الآية: 18.

([30]) في ظلال القرآن: 4/447.

([31]) الوسطية في ضوء القرآن الكريم: 95.

(32) فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي: 1/300. وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة: 64.

(33) تفسير القرآن العظيم: 1/392.

(34) سورة آل عمران، الآية: 110.

(35) محاسن التأويل: 1/282-283.

(36) رواه البخاري: 4281، بَاب: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(.

(37) رواه مسلم: 1/188، رقم (196)، وابن حبان عن أنس، وابن أبى شيبة: 6/304، رقم (31651).

(38) رواه أحمد: 6/396، رقم (27267) حديث أبي بصـرة الغفاري، والطبراني: 2/280، رقم (2171).

(39) رواه أحمد: 2/243، رقم (7308)، والبخاري: 1/299، رقم (836)، بَاب فَرْضِ الْجُمُعَةِ، ومسلم: 2/586، رقم (855) بَاب هِدَايَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، والنسائي: 3/85، رقم (1367) باب إِيجَابُ الْجُمْعَةِ، وابن خزيمة: 3/109، رقم (1720)، والبيهقى: 3/170، رقم (5354).

(40) رواه البخاري: 5/2392، رقم (6163)، ومسلم: 1/200، رقم (221) وأحمد: 1/386، رقم (3661) والترمذي: 4/684 رقم (2547) وقال: حسن صحيح. وابن ماجة: 2/1432، رقم (4283)، والبيهقي: 3/180 رقم (5410).

(41) رواه ابن ماجة في الزهد (334)، والترمذي في التفسير (14 آل عمران: 11)، وقال: حديث حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(42) رواه أحمد: 5/278، ومسلم: 3/1523, رقم (1920)، بَاب قَوْلِهِ – صلى الله عليه وسلم-: (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ)، والترمذي: 4/504, وأبو داود: 4/98 رقم (4252)، رقم (2229) وقال: حسن صحيح. وابن ماجة: 2/1304 رقم: (3952) في المقدمة: باب اتباع سنة رسول الله، وأورده الهيثمي في المجمع: 7/288، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح،

(43) سورة الزمر، الآية: 23.

(44) رواه أحمد: 6/428، والبخاري (3346) في الأنبياء: باب قصة يأجوج ومأجوج، ومسلم (2880) في الفتن: باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، وعبد الرزاق (20749) عن معمر، وابن ماجة (3953) في الفتن: باب ما يكون في الفتن، وأخرجه الترمذي (2187) في الفتن: باب ما جاء في خروج يأجوج ومأجوج، والبيهقي في "السُّنن" 10/93، وابن أبي شيبة (19061).

(45) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين: 1/60.

(46) سورة المائدة، الآية: 3.

(47) سورة آل عمران، الآية: 110.

([48]) رواه البخاري: 5/2270، رقم (5777) بَاب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ، والترمذي: 1/275، رقم (147) بَاب مَا جَاءَ فِي الْبَوْلِ يُصِيبُ الأَرْضَ، وأبو داود: 1/103، رقم (380) بَاب الأَرْضِ يُصِيبُهَا الْبَوْلُ، والنسائي: 1/48، رقم (56) باب: تَرْكُ التَّوْقِيتِ فِي الْمَاءِ.

(49) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير: 7/39.

(50) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، حديث رقم 49.

(51) سورة المائدة، الآية: 18.

(52) في ظلال القرآن لسيد قطب: 4/447.

(53) رواه البيهقي في شعب الإيمان: 3/402، حديث رقم (3887)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق