07‏/07‏/2021

حديث حول انتحال القرآن من الكتاب المقدس

د. سعد الدیوه‌جی

     وبعد، فهذه المقالة ليست لإثارة الخلافات بين المسلمين واليهود والمسيحيين على وقع الاختلافات العقائدية، ولكنها دعوة لفهم أصول هذه الاختلافات على ضوء ما يقر به كلاً من القرآن والكتاب المقدس..

إن مسألة انتحال محمد – صلى الله عليه وسلم - للعقائد الإسلامية، وبعض القصص، يثيرها من لم يقرأوا الكتابين بإمعان، وتدفعهم عوامل إثارة الفتن والمشاكل لذلك.. وقد مهد لهذا الطريق كثير من المستشـرقين، أمثال: (مونتغمري واط) في كتابه (محمد: النبي ورجل الدولة)، و(مرجليوث)، وغيرهما.

فيقول (واط) بأن العقيدة الإسلامية ترى أن محمداً لم يكن قادراً على القراءة والكتابة، إلا أن هذا الرأي

مشكوك فيه لدى العلماء الغربيين المعاصـرين!.. بدون أن يشير إلى ماهيّة الكتب الدينية اليهودية والمسيحية التي كانت متوفرة باللغة العربية أيام البعثة في بيئتين مثل مكة والمدينة، لكي يتسنى للرسول (ص) قراءتها والأخذ منها!

ناهيك أن الكتب آنذاك لم تكن بشكلها الحالي، وكانت على رقائق من الجلود، ويصعب نقلها والتعامل معها بالطريقة المعتادة الآن. وفي سبيل الهروب من هذه المشكلة، فهو يقول بأن محمداً لم يقرأ الكتاب المقدس، ولكنه ربما استقى معلوماته شفاهاً!.. وهذا حديث طويل وعقيم وغير علمي، لأن تطابق بعض النصوص لا يعني انتحال الرواية، إذا كان الهدف مختلفاً بين روايتين أو أكثر.

فالقرآن الكريم هو الكتاب الذي يعتقد المسلمون بأنه كلام الله الذي أنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم - على مدى (23) عاماً في مكة والمدينة، وهنالك أسباب للنزول لكثير من الآيات القرآنية، ما يجعل مسألة الانتحال غير واردة على الإطلاق.

وأما الكتاب المقدس، فهو يتكون من قسمين هما: العهد القديم، أي الأسفار الخمسة الأولى، التي يعتقد اليهود أنها أنزلت على موسى (ع)، زائداً أسفار الأنبياء التي تغطي فترة تزيد على الألف سنة بعد موسى (ع).

وأما العهد الجديد، الذي يتكون من أربعة أناجيل بأسماء من كتبوها، ورسائل أخرى للقديس (بولص)، و(سفر الرؤيا)، ولا يوجد جامع لغوي قديم بين العهدين من اللغات السامية المحكيّة آنذاك، كالآرامية والسـريانية والعبرية، ناهيك أن كل الدراسات التاريخية العلمية الموثقة تشير إلى عدم وجود نصوص عربية لهما إلى ما بعد البعثة بعدة قرون، كما أشـرنا لذلك سابقاً.

إن أقرب نسخة للعهد القديم تعود إلى زمن الملك (بطليموس الثاني فيلادلفوس) (247-285 ق.م)، وهي التي تسمى بالترجمة السبعينية، وباللغة اليونانية، من العبرية والآرامية.

والعهد القديم يقدسه اليهود، ولا يعترفون بالعهد الجديد، لأنهم أصلاً ينكرون المسيح (ع).. بينما يعترف المسيحيون بالعهدين، ولكنهم لا يطبقون الشـرائع الموسوية!.. مما يجعل مسألة الانتحال المشتركة غاية في الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة. وكل الذي يقوله المسيحيون بشأن العهد القديم بأنه تصديق للبشارة بقدوم عيسـى المسيح (ع).. ومع ذلك سنحاول بحث بعض الجوانب التي تنقض مسألة الانتحال.

وهذا المقال ليس تعريضاً بالديانتين اليهودية والمسيحية، فهذه مسألة اعتقادية بحتة، على قاعدة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الكافرون)، ولكن ما دعانا للكتابة انتشار الأفلام والمقالات على صفحات الانترنيت، خصوصاً من أناس لم يقرأوا القرآن، ولا الكتاب المقدس، ولا يرومون إلا إثارة المشاكل والفتن، كما ذكرنا آنفاً، ويريدون أن يؤكدوا أن القرآن منتحل بالكامل من الكتاب المقدس، وذلك لورود بعض أسماء الأنبياء المشتركة التي تكلم عنها الكتاب المقدس، أو لوجود إشارات تشابه في بعض المعتقدات، خصوصاً في التوراة، ناسين أو متناسين أن القرآن لا ينكر الكتاب المقدس في الأصول، ولكن يختلف معه في بعض الأسس العقائدية التطبيقية، ولو كان منتحلاً، لكان مطابقاً بكل شيء للكتاب المقدس، ولا يعترض على أمور عقائدية أساسية.

ومن أهم هذه الاختلافات: الطقوس المتبعة في المعتقدات الإسلامية، كالصلاة والصوم والزكاة والحج، حيث لا يوجد ما يماثلها في اليهودية والمسيحية، إلا في التطابق الاسمي، ولا غير!

واليهودية، وأسفارها، تقوم على أساس فكرة (الشعب المختار)، التي لا يعترف بها القرآن، على أساس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات).. والله فضّل بني إسرائيل باختيارهم لحمل الرسالة، وهو تفضيل انقلب إلى تأنيب، كما تشير التوراة نفسها لذلك.. وكذلك، فإن الإله – في المعتقد اليهودي - رغم كونه واحداً، إلا أنه بصفات تقرب من الصفات البشـرية، ففي معرض كلام يعقوب (ع) في أحد المواقف يقول: "وكان الله واقفاً على السلم، 13،28، التكوين"، وأمثلة كثيرة تصب في هذا المجال.

أما المسيحية، فكل طوائفها تقوم على الإيمان بإله مثلث الأقانيم، بصفات لاهوتية وناسوتية، ويعتبرونها من الأسـرار، وتؤمن بأن المسيح (ع) صعد على الصليب بطبيعته الناسوتية، ليفتدي خطايا محبيه وآثامهم!.

أما في القرآن، فهذه الفكرة لا وجود لها، ومصير الإنسان مرهون بإيمانه وعمله وسعيه، فلا إيمان بدون عمل، ولا عمل بدون إيمان، والله هو الذي يزن أعمال العباد، ويحدد من هو الصالح من الطالح، ليجزيهم الله بما عملوا يوم القيامة.

وأما القيامة في العهد القديم، فهي ذات صبغة سياسية بحتة، عندما يرجع المسيح المنتظر من نسل داؤد (سفر حزقيال)، لينتقم من أعداء بني إسرائيل، ويبيدهم عن بكرة أبيهم، ثم ليعيشوا في أرضهم الموعودة التي تفيض عسلاً ولبناً إلى أبد الآبدين.. بينما اعتبرت المسيحية أن المسيح عيسـى (ع) هو الذي سينزل يوم القيامة، فهو المنتظر (رؤيا يوحنا)، ثم يأخذ أتباعه معه إلى السماء، بعد انتهاء الألفية السعيدة على الأرض، ويصاحب العودة انتقام رهيب من كل الأشـرار الذين لم يؤمنوا بالمسيح (ع)، أي أن الأمر يقترب من الصبغة السياسية للمسيح اليهودي.. وبذلك، فإن عودة المسيح (ع)، في المعتقد المسيحي، تنقض المعتقد اليهودي برجوع مسيح (ملك) من نسل داؤد (ع)!..

أما في القرآن، فلا توجد صبغة سياسية ليوم القيامة، ولا وجود لفكرة عودة منتظر موعود (مسيح)، ليعيد مملكة الرب، فمصير كل إنسان مرهون بعمله، ومعتقده، كما ذكرنا آنفاً.. وأما ما دخل في الأدبيات الإسلامية حول فكرة الانتظار وعودة المسيح، فلا وجود له في القرآن مطلقاً، والمسألة فيها اختلاف بين الفرق الإسلامية، وهي ليست من أساسيات المعتقد.

وأكثر ما يستند إليه من يدعون أن القرآن منتحل من الكتاب المقدس، هي قصص الأنبياء، رغم التناقض الكبير بين المحتوى في القرآن، عمّا هو في الكتاب المقدس، ولا نستطيع في هذه العجالة تغطية المسألة بشمولية واسعة، ولكننا سنأخذ بعض النماذج لذلك.

فمسألة الدعوة لعبادة الله، ونبذ الشـرك، تكاد تختفي وراء مقاصد أخرى للأنبياء في الكتاب المقدس، لتنحصـر في الوعد بأرض إسـرائيل، ومحاولة إرجاع بني إسرائيل إلى طريق الصواب.. وأما فكرة القيامة، فهي عندهم ضبابية إلى حد بعيد.

ففي سيرة نوح (ع)، تبدأ فكرة ترسيخ فكرة الأرض الموعودة، عندما يلعن نوح كنعان ابن حام (جد الكنعانيين سكان فلسطين الأصليين).. يقول العهد القديم: "وكان نوح أول فلاح غرس كرماً، وشـرب نوح من الخمر، فسكر وتعرى في خيمته"، (20-21، 9، التكوين).. ثم تتبع المسألة لعن نوح لكنعان ابن حام، الذي رآه عارياً، وهو لم يفعل ذلك عمداً، كما جاء في السياق، فيقول نوح بحقه: "ملعون كنعان، عبداً ذليلاً يكون لإخوته"، (24-25، 9، التكوين).. فالقرآن يتجاوز كل هذه التفاصيل العبثية.. ولا يعني ذكر الطوفان في الكتابين، بأن هذا منتحل من هذا، فالقرآن لم ينكر التوراة ككل، ولكنه لا يتفق معها في تجريم الأشخاص على أساس الفصل العنصـري، ولا في الحط من قدر الأنبياء.

وفي قصة إبراهيم (ع) لا يوجد أي ذكر لمحاربته للشـرك، بقدر دعوته لتأكيد مبدأ الأرض الموعودة لأحفاده من نسل إسحاق ويعقوب (إسـرائيل)، حتى أنه يستغل جمال زوجته للتخلص من المآزق عند ذهابه لمصـر، حيث يقول لها: "أعرف أنك امرأة جميلة المنظر، فإذا رآك المصـريون سيقولون: هذه امرأته، فيقتلوني ويبقون عليك. قولي إنك أختي، فيحسنون معاملتي بسببك، ويبقون على حياتي لأجلك"، (11-13، 12، التكوين)، وهو تبرير لا يرتفع إلى مستوى الأنبياء في الفضيلة والعفة!.. ولا يذكر القرآن شيئاً من ذلك مطلقاً، لعدم مصداقيته.

وفي موضع آخر، وعندما يطلب ملك الفلسطينيين سارة من إبراهيم (ع)، فيجاوبه إبراهيم (ع): "وبالحقيقة هي أختي؛ ابنه أبي لا ابنة أمي، فصارت امرأة لي"، (12، 20، التكوين)، أي أنه فعلاً متزوج من شقيقته من والده، وهو في القرآن خطيئة لا تغتفر.. وإبراهيم (ع) له منزلة عالية في القرآن، فهو خليل الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) النساء)، أي أن الله قد جعله نبياً، واصطفاه، واختاره بالكرامة، كما يخص الخليل خليله.

وفي قصة لوط (ع)، تدعي التوراة أنه زنى بابنتيه، لكي يخلف منهم أعداء بني إسرائيل من الموآبيين وبني عمون، فتقول الكبرى للصغرى: "تعالي نسقي أبانا خمراً، ونضاجعه، ونقيم من أبينا نسلاً"، (31، 19، التكوين).. وعلى هذا السياق تكتمل القصة، ويحدث ما خططا له.

وفي سيرة داؤد (ع)، جاء ما يلي: "وكان داؤد يغزو البلاد، فلا يبقي على رجل ولا امرأة، ويأخذ الغنم والبقر والحمير والجمال والثياب، ويرجع إلى لخيش" (مدينة فلسطينية)، (9، 27، صموئيل الأول).. ناهيك عن القصة المشهورة حول زناه بزوجة قائده (آوريا الحثي)، ثم يتزوجها لاحقاً، لتنجب له سليمان (ع).

بينما يذكره القرآن بأبهى صورة، في قوله تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}ص/ 17)، وقوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}الإسـراء/ 55).. فأين هذه المواقف، مما هو مذكور في التوراة عن سفكه للدماء، والسلب، والنهب؟!

وهناك المئات من هذه التفاصيل التي يرفضها القرآن تماماً، ولا يعيرها أيّ أهمية، ولو كان منتحلاً لحاول من انتحله ترضية اليهود، ومماشاتهم في هذه الأمور، بدل الاصطدام معهم في أمور لا يقرها مطلقاً، من خلال نظرته لعصمة الأنبياء وأخلاقهم الرفيعة.

أما موقف القرآن الكريم بالنسبة للإنجيل، فهو يعترف بإنجيل (بشارة) أنزلت على عيسـى (ع): {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسـَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}المائدة/46)، ولو كان التأثر بما كانت عليه بعض القبائل العربية وهم على الديانة المسيحية، لربما ذكر القرآن عناوين الأناجيل المعروفة بأسماء كتابها، كمتى ولوقا ومرقس ويوحنا، وأناجيل كثيرة غير معترف بها الآن.

وعيسـى (ع)، في القرآن، صاحب معجزات تختلف في معظمها عن المعجزات المذكورة في الأناجيل، وهي لا تحدث إلا بإذن الله.

ورغم المكانة السامية للمسيح (ع) في القرآن، وولادته بمعجزة، إلا أنه يبقى في القرآن بشـراً، يأكل ويشـرب، ويحيا ويموت: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}المائدة/75)، ولا يوجد هنالك أثر لجملة صفات إلهية وبشرية، ولا تلميحاً لذلك.

لقد ورد اسم المسيح (ع) في خمس عشـرة سورة، في ثلاث وتسعين آية، منها بلقبه (المسيح) أحد عشـر مرة، معظمها مقرونة بكونه (ابن مريم)، وذلك تأكيداً لصورته البشـرية، وأنه لم يمت على الصليب، ولا قام من بين الأموات، مما يدل على اختلاف الرواية القرآنية عن روايات الأناجيل، وأن القرآن لم يتأثر بما في الأناجيل من ناحية المبدأ والمعتقد.. لا من حيث كون المسيح (ع) موجوداً أم لا، ولا من حيث إنكار رسالته، كما يعتقد اليهود.

إننا لسنا في صدد إثارة خلافات من قبل أناس يطرحونها بوسائل الإعلام، وهم أصلاً من غير المختصين بالعلوم الدينية، ويعتمدون على قراءات سطحية للنصوص بدوافع مشبوهة لإثارة الفتن والمشاكل، وهي مشكلة ليست محلية، ولكنها ذات طابع دولي، وربما سياسي، يأخذ من المعتقدات الدينية وسيلة لتعميق المشاكل بين أبناء الوطن الواحد، والبشـرية جمعاء، بل نحن نؤمن برسالة القرآن ومقاصده، حيث يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران/64).

ونترك أمر الفصل للواحد القهار.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق