07‏/07‏/2021

غياب التدافع بين البرامج في العمل الإسلامي يفضي إلى الانشقاقات

محمد صادق أمين*

 تحدثت في مقال سابق تحت عنوان (معضلة التوريث وإشكالية تجديد الدماء الشابة في العمل الإسلامي)، عن بروز ظاهرة الجمود وعدم التجديد في وسائل العمل الإسلامي، وأدواته وهيكليته، لاعتقاد (أهل السابقة) بأنهم أصحاب الأولوية والأحقية في القيادة والريادة، دون من يليهم من أبناء الصف وأجياله الصاعدة، الأمر الذي أدى إلى حالة من الفصام، بين جيل قديم غير قادر على استيعاب المتغيرات والمحدثات، وجديد مكنته أدوات العصـر من تحقيق طفرات في الوعي والإدراك.

وخَلُصتُ إلى أن ذلك أفضى للتصادم بين القديم، الذي يأبى أن يُغير أو يتغيّر، والجديد الذي يأبى أن ينصاع أو

ينقاد أو يُذعن، فحصلت الردة الشبابية عن التفاعل مع الدوائر الحركية، ما أدخل الحركة الإسلامية مرحلة الشيخوخة والتنازع المفضي إلى الفشل.

التنازع بين الأجيال؛ اتخذ أشكالاً متعددة، وتمظهر بمظاهر مختلفة، أعلاها الانشقاق عن الحركة الأم، وتشكيل كيانات جديدة تترجم رؤى المنشقين وتصوراتهم الحداثية في فهم العمل للإسلام، وترجمة المشـروع الإسلامي إلى مخرجات على أرض الواقع.. وأدناها العزوف عن العمل، والانتقال من حالة الحركة والنشاط إلى حالة السكون وعدم الاكتراث.. وما بين هذا وذاك ثمة درجات متفاوتة من ردة الفعل، منها بروز ظاهرة التمرد، التي تكاد تكون من المحرمات في عرف العمل الإسلامي.

الانشقاق المُجرّم

من أعظم المقومات التي دعا إليها الإسلام في بنائه الأمة، مسألة وحدة الصف، وعدم حدوث التنازع والشقاق المفضي إلى انشقاق، وثمة نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدعو إلى الوحدة، وتحذر من الاختلاف، وتُجرّم الانشقاق، وقد اتخذ العمل الإسلامي من هذا المبدأ منهاجاً في عمله التنظيمي، يجرّم بموجبه الانشقاقات، وكل ما يفضي إليها أو يقرب منها أو يؤدي إلى مظهر من مظاهرها، بالقول أو العمل، وذهبت اللوائح إلى أبعد من ذلك، فجرّمت كل قول أو فعل أو رأي يمكن أن يفسـر على أنه دعوة للانشقاق، وتم بموجب ذلك مصادرة الرأي الآخر داخل الصف. 

الثبات في المناهج والوسائل والأدوات والشخوص، وعدم وجود طرائق تفضي إلى حوار حقيقي بين الأجيال، وغياب الآليات التي تؤدي إلى تغيير حقيقي في طرائق العمل، ولّدت حالة من التذمر والسخط من الأداء العام، ومخرجاته، التي تؤدي في كل مرة إلى شكل جديد من أشكال الفشل، فنتج عن ذلك كله حالة من الغليان في الصف، يمكن تشبيهها بحالة الغليان التي سبقت ثورات الربيع العربي.

احتكار (أهل السابقة) لتمثيل مصالح الدعوة، والاستئثار بأحقية تحديد ما هو أصلح لها، في الحاضـر والمستقبل، وتشكيل النظم الحاكمة للعمل، وما يرتبط بها من لوائح، لم يمنع من نشوء جيل من الشباب يحمل تصورات مغايرة، وأفكاراً مختلفة، وهو يرى في تصوراته ذات الأمر، فهي الأصلح والأقدر على التعامل مع المتغيرات، بدليل أن النتائج السابقة المجرّبة على مدار عقود أدت إلى ذات المخرجات المجمع على أنها غير مرضية.

وحين وجد جيل (التجديد) نفسه أمام أفق مسدود، وغياب آليات التدافع بين البرامج والرؤى والتصورات وطرائق التعامل مع الواقع، لم يجد أمامه من سبيل سوى دخول عش الدبابير، وإعلان الانشقاقات هنا وهناك، عبر تشكيل أحزاب تحمل ذات مضامين وتوجهات العمل الإسلامي، برؤى وتصورات جديدة، وطرائق عمل مبتكرة، تخرج على ما ألفته أجيال العمل الإسلامي، وبات في حكم الثوابت.

ويمكنني في هذه العجالة، أن اسوق تجربة الإسلاميين في تركيا نموذجاً لما أسلفت، متمثلة في تجربة نجم الدين أربكان، الذي يعد الأب المؤسس للعمل السياسي الإسلامي هناك، حيث أنشأ حزب (النظام الوطني) عام 1970، والذي لم يصمد سوى تسعة أشهر، فتم حلّه بقرار قضائي من المحكمة الدستورية، ليؤسس بعد ذلك حزب (السلامة الوطني) عام 1972، والذي تمكن بعد فوزه في انتخابات 1974 من المشاركة في حكومة ائتلافية مع (حزب الشعب الجمهوري)، الذي أسسه أتاتورك ليرعى المبادئ العلمانية.. وبعد انقلاب 1980 - وفي أعقاب خروجه من السجن- أسس أربكان عام 1983 حزب (الرفاه)، الذي تمكن عام 1996 من التحالف مع حزب (الطريق القويم)، وشكل حكومة ائتلافية مرة ثانية، قبل أن يصدر النائب العام لدى المحكمة العليا قراراً بحل الحزب عام 1997، ليؤسس في العام التالي حزب (الفضيلة)، الذي تعرض للحظر عام 2000، وفي عام 2003 أسس أربكان حزب (السعادة)، الذي لا يزال قائماً إلى اليوم، بعد رحيله.

اتخذ العمل الإسلامي في تركيا، منذ تأسيسه، ذات الوسائل المعمول بها في عموم العالم الإسلامي منذ أكثر من نصف قرن، والقائمة على مواجهة الواقع، وطرح الرؤية الإسلامية للتغيير جهاراً نهاراً، وإن أدى ذلك إلى التصادم مع النظم السياسية القائمة، أو النظم الاجتماعية التي ولّدتها تلك النظم على مدار قرن من الزمن.. الأمر الذي وضع الحركة الإسلامية في مواجهة النظام، لتتعرض إلى سلسة محن، أدت إلى إفراغ المشـروع الإسلامي من قوته ومرونته، وتغييب طاقاته وكفاءاته البشرية وراء السجون، وعزل رؤيته الإصلاحية للدولة القادرة على البناء والتنمية.

أدت المحن المتتابعة إلى تشكيل رؤية تجديدية لدى جيل من الشباب داخل الحركة الإسلامية التركية، لم يكن يرى في نهج الصدام مع الواقع جدوى، ويعتبر أن ترجمة مضامين العمل الإسلامي برؤية مختلفة قادرة على التعايش مع النظام السائد محلياً ودولياً، بهدف تمرير المشـروع الإسلامي إلى دائرة الفعل الحياتي، أمراً ممكناً، باستخدام قدر عالٍ من (البراغماتية)، التي يعتبرها (أهل السابقة) من ضروب النفاق ومراتبه.. هذه المقاربة رأت في تحويل المشـروع النهضوي الإسلامي فرصة لكي يرى العالم المشـروع على شكل مخرجات عملية لا تنظيرات ورقية.

الفصام التقليدي بين القديم والجديد –في تقديري-، وعدم وجود آليات التدافع بين البرامج، أدت إلى عدم استيعاب هذه الرؤية التي تبلورت لدى جيل الشباب داخل الحركة، فكانت النتيجة انشقاق (المجددين)، بقيادة رجب طيب اردوغان وعبدالله كول، وتأسيس حزب (العدالة والتنمية)، بعد حل حزب الفضيلة مباشرة في 22 يونيو 2001.

(العدالة والتنمية) - الذي أسس لمشـروع نهضة لا يزال يقوده في تركيا، خرج عن الإطار التقليدي في ممارسة العمل الإسلامي، القائم على إعلان الهوية والتعرض للمحن في مواجهة الواقع- يصنف نفسه كحزب ليبرالي يحرس مشـروع أتاتورك العلماني، غير معادٍ للغرب، يتبنى رأسمالية السوق، ويسعى إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وينفي في أدبياته أن يكون حزباً إسلامياً.

المحصلة؛ أن العوائق التي وضعها النظامان: المحلي والدولي في وجه المشـروع الإسلامي الرامي إلى نهضة الأمة وبناء الدولة، بات في وضع الحياد، وانشغلت كوارد العمل ببناء النظام عن مواجهة الدولة العميقة التي تفككت بعاملي الزمن والتدبير المحكم.

الخلاصة؛ لست بصدد الدعاية للأردوغانية بهذا العرض المنمق للتجربة التركية، بل أريد أن أثبت نظرية غياب آليات التدافع بين البرامج داخل الحركة الإسلامية، بسبب الثبات الذي يفرضه حراس الدعوة (أهل السابقة)، فطرائق العمل ثابتة، وتكتسب مناهجها والرؤى المنبثقة عنها صفة القداسة، التي لا تترك أمام الجديد أي متسع للتنافس أو الوجود، إلا من خلال الانشقاق المُجرّم، حيث لا يزال (حزب السعادة)، الذي أسسه أربكان، يتبنى تجريم التيار الشبابي الذي خرج عنه، ويبني فعله السياسي والميداني على أرض الواقع بناء على هذه الرؤية.

ومن هنا يمكن أن نفسـر السبب الذي يجعل من آلية الانتخابات في العمل الإسلامي مفرغة من محتواها، فالتطبيق العملي حولّها إلى ممارسة شكلية تقوم على تنافس الشخوص (أهل السابقة)، لا على أساس تنافس البرامج في مختلف مستويات العمل، فالناخب يصوت للشخص بناء على ثقافة تزكية أهل السابقة، والشخص يعيد ترجمة الموروث التقليدي إلى برامج جُربت مراراً على مدار مديات زمنية طويلة، دون أن تؤدي إلى مخرجات على أرض الواقع.

 

*كاتب وصحفي، عضو الشورى المركزي في حركة العدل والإحسان العراقية.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق