02‏/07‏/2022

هل يجري الرِّبا في الأوراق النقديّة؟

شوان زنكنة

ماجستير اقتصاد إسلامي

نَعم؛ يَجْرِي الرِّبا في الأوراقِ النَّقديّةِ.. ولكن ليس بالعِلَلِ التي ساقَها فُقهاءُ المَذاهبِ الأربَعةِ. فَقدْ ذكرَ الشّارِعُ أصنافًا ستّةً من الأموالِ، واعتبرَها أموالًا رِبويّةً، يَحرُمُ في بُيوعِها الفَضْلُ والنّسيئَةُ. وقاسَ الفُقهاءُ عليها الأموالَ، بعدَ أنْ أَشارُوا إلى عِللٍ اِستنبطُوها من ظاهرِ الرواياتِ المَأْثورَةِ، فاخْتلفُوا فيها اختِلافًا شديدًا، لأن هذه الرواياتِ لم تَنُصَّ على العِللِ صَراحَةً. وذكرَ (ابنُ رُشدٍ) الجَدّ، بهذا الخصوصِ، ما يَلي: "وهذه العِللُ أُخِذَتْ عن طريقِ النّظرِ والاجتهادِ، إذ لم يَنُصّ النّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) على العِلَّةِ في ذلكَ، ولا نَبَّهَ عليها، ولذلك اُختُلِفَ فيهَا، فهي مَظْنونَةٌ غيرُ مَعلومَةٍ، ولا مَقطوعَةٍ بها؛ والحُكْمُ بها - عندَ من

رآها عِلَّةً بِنظَرِهِ واجتهادهِ - معلومٌ مقطوعٌ عليه". (محمد بن رشد القرطبي، الْمُقَدِّماتُ الْمُمَهِّداتُ، ط1، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1988م، ج2، 34).

فَعِلَّةُ القِياسِ، عندَ فُقهاءِ المَذهبِ الحَنفيّ، والحَنبليِّ، هي الوَزنُ، أو الكَيلُ، فكلُّ مَوزونٍ أو مَكيلٍ هو مالٌ رِبويٌّ عندَهم. فقدْ وردَ في (الاختيار لتعليل المختار) ما يلي: "وعِلَّتُه (أي عِلّةُ الرِّبا) عندنا الكيلُ أو الوزنُ مع الجِنسٍ، فإذا وُجِدا، حَرُمَ التَّفاضُلُ والنَّسَاءُ". (عبد الله بن مودود الموصلي، الاختيار لتعليل المختار، إسطنبول: مكتبة باموك، 206). والأوراقُ النقديةُ ليستْ مَوزونَةً، ولا مَكيلَةً، فلا يَجْري فِيها الرِّبَا عندَهم.

وعِلَّةُ القياسِ، عند فُقهاءِ المذهبِ الشّافعيِّ، هي: جَوهَرُ الثمنيةِ الغالِبَةِ، وهو القولُ المشهورُ في المَذهبِ. وهي علَّةٌ قاصِـرَةٌ على الذَّهبِ والفضَّةِ فقط، ولا تَتعَدَّاهما إلى غيرِهما.. فقدْ وردَ في (المجموع) ما يَلي: "فأمّا الذَّهبُ والفِضَّةُ، فالعلَّةُ عندَ الشّافِعيِّ فيهما كونُهما جنسُ الأثمانِ غالِبًا، وهذه علَّةٌ قاصِـرةٌ عليهما لا تتَعدَّاهما، إذ لا تُوجَدُ في غيرِهما". (محي الدين بن شرف النووي، المجموع شرح المهذب، جدة: مكتبة الإرشاد، طبعة كاملة،ج9، 490).

ولم يَترُكْ فُقهاءُ المَذهبِ مَفهومَ الثّمنيةِ مُطلَقاً، بل قَيَّدُوهُ بالغالِبيّةِ، كي يَشمَلَ المفهومُ كلَّ أنواعِ الذهبِ والفضةِ؛ المَسكوكِ والمَصوغِ والتِّبْرِ، وللاِحترازِ من الفُلوسِ، إذا راجَتْ رَواجَ النّقودِ. فَقدْ قالَ النَّوَويُّ في (الرَّوضةِ) ما يَلي: "وأمّا الذّهبُ والفضّةُ، فقِيلَ: يَثبتُ الرِّبا فيهما لِعَينِهما، لا لِعِلَّةٍ. وقالَ الجُمهورُ: العلّةُ فيهما صَلاحِيّةُ الثّمنيّةِ الغالِبَةِ، وإنْ شئْتَ قلْتَ :جَوهريّةُ الأثمانِ غالِبًا. والعِبارَتان تَشمَلان التِّبْرَ، والْمَضـروبَ، والحُلٍيَّ، والأوانيَ، منهما. وفي تَعدِّي الحُكمِ إلى الفُلوسِ، إذا راجَتْ، وَجهٌ، والصحيحُ: أنه لا رِبا فيها؛ لانتِفاءِ الثّمنيةِ الغالِبَةِ، ولا يَتعدّى إلى غيرِ الفُلوسِ؛ من الحديدِ والنّحاسِ والرّصاصِ، وغيرِها، قطعاً". (يحيى بن شرف النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، ط3، بيروت: المكتب الإسلامي، 1991م، ج3، 397).

واضِحٌ أنَّ صِفةَ الثمَنيّةِ الغالِبَةِ، قاصِـرَةٌ على الذهبِ والفضةِ، ولا تتعدَّاهما إلى غيرِهما، عند مُعظمِ فقهاءِ الشافعيةِ. وما مُحاوَلاتُ البعضِ، ممَّن كَتبوا في هذا المجالِ، لِجعلِ هذه الصّفة مطلقةً، ومتعديةً، لِيَشمَلَ الفلوسَ، اِستنادًا إلى ما وردَ في الفَتاوى لابنِ حَجر، إلّا شُذوذٌ عن المذهبِ. فقد كتبَ محمد سعيد المجاهد، في بحثٍ له بهذا الخُصوصِ، ما يَلي: "ومعَ ذلك، فقد نَصَّ ابنُ حجر؛ مُفتي الشافعيةِ الأول، على أنَّ الفلوسَ إذا رَاجتْ، ثبتَ لها أَحْكامُ النُّقودِ. قالَ في الفَتاوى: ومِن ثَمَّ لو رَاجَتِ الفلوسُ رَواجَ النُّقودِ، ثبتَ لها أَحْكامُها". (محمد سعيد المجاهد، علة الربا في النقدين عند الشافعية، بحث، مجلة التجديد، م20،ع39، 2016م، الجامعة الإسلامية ماليزيا،110).

وعليهِ.. فإذا كانت علَّةُ الثّمنيّةِ الغالِبةُ لا تَتعدَّى إلى الفُلوسِ المُستخدَمةِ في ذلك الوقتِ، عند فُقهاءِ الشّافعيةِ، فكيفَ يُمكِنُ تَصوُّرُ تعدِّيها إلى الأوراقِ النقديةِ اليوم؟

وعلَّةُ القياسِ عندَ فُقهاءِ المَذهبِ المَالِكيِّ، هي نفسُها التي عندَ فقهاءِ الشافعيةِ: الثّمنيّةُ الغالِبَةُ. فقد ذكرَ الحبيبُ بنُ طاهر ما يَلي: "علَّةُ الرِّبا في العَينِ (الذهب والفضة)، كونُها رؤوسًا للأثمانِ، وقِيَمًا للمُتلَفاتِ، إما بغَلبةِ الثمنيّةِ، أو بمُطلقِ الثّمنيّةِ. ويَنْبَنِي على ذلكَ حُكْمُ الفلوسِ النحاسِ، فإذا قلنا: مُطلقُ الثمنيةِ، فيَلحقَ بذلكَ ما كان ثمنًا؛ كالفلوسِ، والجُلودِ المَطبوعَةِ، إذا تُعُومِلَ بها؛ وإذا قلنا: أنها الثمنيّةُ في الغالبِ، فتخرجَ الفلوسُ وغيرُها. ومعنى الثمنيةُ كونُها رؤوسًا للأثمانِ، وقِيَمًا للمُتلَفاتِ.

وهذهِ علَّةٌ قاصِـرةٌ على الذهبِ والفضةِ، غيرُ مُتعدِّيةٍ إلى غيرِهما من المَعادنِ. والدليلُ: أنّ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) نَصَّ على الذهبِ والفضةِ، ولم يَنُصَّ على ما سِواهُما؛ فدَلَّ ذلك على أَنّهما مُختَصَّانِ بالحُكمِ؛ لأنه لا يُوجدُ لهما مشارِكٌ في وَضعِهما الأخصِّ". (الحبيب بن طاهر، الفقه المالكي وأدلته، ط1، بيروت: مؤسسة المعارف، 2009م، ج5، 69). ولأنَّ علّةَ الثمنيةِ قاصِـرةٌ على الذهب والفضة، لا تَتعدَّاهما إلى الفلوسِ، فإنَّها حتمًا لا تتَعدَّاهما إلى الأوراقِ النقديّةِ أيضاً.

هذا، باختصارٍ شديدٍ، سـَردٌ واضحٌ لأقوالِ فُقهاءِ المَذاهبِ الأربَعةِ، في عِلَّةِ رِبَويّةِ النَّقدَين؛ الذّهبِ والفضّةِ، من دونِ الدّخولِ في تَفاصيلِ استِنباطَاتِهم، ومُناقشةِ أقوالِهم. وهي كلُّها، وإن كانت صالحةً إلى حدٍّ مَا لتلك الأوضاعِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ في ذلك العهدِ، إلّا أنَّها لا تَصلُحُ أنْ تُساقَّ كعلِّةٍ لرِبويّةِ الأوراقِ النقديةِ المستخدَمةِ حاليًّا، لأنها ليستْ ممَّا يُكالُ ويُوزنُ، ولا تَتَّصفُ بصِفةِ ثمنيةِ الذهبِ والفضةِ القاصِرَةِ..

 فإذن، كيفَ يُمكنُ تَصوُّرُ رِبويةِ الأوراقِ النقديةِ، في ظلِّ قُصورِ العِللِ المُساقَةِ من قِبَلِ الفقهاءِ بهذا الخصوصِ؟

للإجابةِ عن هذا السؤالِ، يَجبُ إمعانُ النظرِ في حديثِ الأصنافِ السِّتّةِ، المأثورِ عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، واستنباطُ العِللِ منه على وَفْقِ الأوضاعِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ الحاليّة، وتطوُّراتِها.

فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ". (مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، ط1، طبعة عبدالباقي، (القاهرة: دار الحديث، 1991)، ج3، 1211).

نصَّتِ الروايةُ المأثورةُ على ستَّةِ أصنافٍ من الأموالِ، يَحْرُم فيها الفضلُ والنّسيئَةُ (النَّسَاءُ أو النَّسِيءُ)، من دون النَّصِّ على علَّةِ الرِّبويةِ، مما جعلَ الفقهاءَ ينظرونَ في صِفاتِها لتحديدِ علَّةِ رِبويَّتِها، والقياسِ عليها، فاجتَهدوا وأدُّوا ما عليهم على وَفقِ الأنشطةِ الاقتصاديةِ في عصـرهم. ولكنَّ هذه العِللِ المُسْتَنبَطةِ قَصَـرَتْ عن التجاوبِ مع المُتطلَّباتِ والمُستجدَّاتِ المُعاصِـرَةِ، فَوجبَ النَّظرُ من جديدِ إلى النَّصِّ المأثورِ، واِستنباطِ ما يُمكنُ اعتبارُه علَّةً ظاهرةً مُنضَبطةً مُتعدِّيةً، تَحملُ مظنّةَ الحكمِ، وتَتناسبُ مع الحِكمةِ المَقصودَةِ منه.

وبإلقاءِ نظرةٍ مُمْعِنَةٍ في الأصنافِ الستّةِ الواردَةِ في الروايةِ المأثورَةِ، يُمكنُ، وبسهولةٍ فائِقةٍ، ملاحظةُ جملةِ صفاتٍ مشترَكةٍ في كلِّ هذه الأصنافِ الستّةِ مُجتمعَةً، وهي كالآتي:

1- تَمْتازُ هذه الأصنافُ الستةُ عن غيرها، بأنّها أموالٌ تمَسُّ عَصَبَ الحياةِ في ذلك الوقت، ويقومُ المعاشُ عليها، ولا يُمكنُ إدامةُ الحياةِ بدونها. وبالتالي، فهي أموالٌ تَحملُ قِيمةً استراتِيجيّةً في حياةِ الفقراءِ والأغنياءِ على السّواءِ، ولا تخُلوا البيوتُ منها.

2- تَمْتازُ بأنها أموالُ سوقٍ وتجارةٍ، فمُعظمُ المُعاملاتِ الاقتصاديةِ كانت تَدورُ حول هذه الأصنافِ الستَّةِ، ومُعظمُ النُّصوصِ من الكتابِ والسنةِ وَردَت فيها، ومعظمُ المُنازَعات حدثتْ في تَعامُلاتِها .

3- تَمْتازُ بتَأَثّرِها السـريعِ بعواملِ العَرضِ والطَّلبِ في السُّوقِ، وبتَعرُّضِها للاحتكارِ والاكتنازِ بشدةٍ، فخَصَّها الشارعُ بأحكامٍ لم يَخَصَّ غيرَها بها، وذلك لتحقيقِ التوازنِ والعدالةِ والتَّساوي في عقودِها.

4- تجتمعُ الأوصافُ أعلاهُ في وصفٍ واحدٍ ظاهرٍ مُنضَبِطٍ مُتَعدٍّ مُناسِبٍ للحُكمِ، يُمكنُ أن يكونَ مَظنَّةَ الحكمِ، وعلَّةَ الرِّبويةِ، في جملةِ هذه الأصنافِ الستَّةِ مُجتمعَةً، هذا الوصفُ هو: (القِيمَةُ الاستِراتِيجيّةُ)، فكلُّ صِنفٍ من هذه الأصنافِ الستّةِ هو مَالٌ ذو قِيمةٍ استراتيجيّةٍ في حياة الإنسان في ذلك الوقتِ، قصدَ الشارِعِ إبرازَها، والإشارةَ إليها، كي تكونَ علَّةً تُقاسُ الأموالُ بها على الأصنافِ الستَّةِ إلى يوم القيامةِ.. فكلُّ مالٍ - أيًّا كان - يلعبُ دورًا استراتيجيًّا للشعوبِ، في أيّ بلدٍ كانَ، هو مالٌ رِبويٌّ، لأنَّه يَتَّصفُ بنفسِ الصفةِ الاستراتيجيةِ للأصنافِ الستةِ.

وعلى هذا الأساسِ، فكلُّ الأموالِ، والسِّلعِ، والأسهمِ، والسَّنداتِ، المُتداوَلةِ في الأسواقِ والبورصاتِ العالميةِ والمحليةِ، هي أموالٌ رِبويّةٌ، فهي لم تدخلْ هذه البورصات إلّا لأنها أموالُ سوقٍ، يحكمُها قانونُ العَرضِ والطّلبِ، وأنها مُعرَّضةٌ للاحتكارِ والاكتنازِ، وأنها تتعلّقُ بالأمنِ الاقتصاديِّ للشعوبِ، فتَطلَّبَ ضبطَ التعاملِ فيها من خلالِ تنظيمِ تَسويقِها، وفرضِ الرّقابةِ القانونيةِ عليها.. وبالتالي، فالنفطُ، والغازُ، والسّكرُ، والمعادنُ الاستراتيجية، والشاي، والبُنُّ، وغيرُها، ممّا يتمَّ تدَاولُها في البورصاتِ، هي أموالٌ رِبويةٌ، بِغَضِّ النظرِ عن ثَمنِيَّتِها، أو الوُحداتِ القياسيّةِ المستخدمَةِ في بُيوعِها، وهي أموالٌ يَحرُمُ في بُيوعِها الفضلُ والنَّسيئَةُ.. وتَأتي الأوراقُ النقديةُ على رأسِ هذه الأموالِ الاستراتيجيةِ، في حُرمَةِ رِبا الفَضْلِ والنّسيئَةِ في بُيوعِها، بِغَضِّ النّظرِ عن ثَمنيَّتِها، التي تشوَّهتْ بسببِ تَغيُّرِ أقيامِها وتَعرُّضِها للتَّضخُّمِ، وبِغَضِّ النّظرِ عن تَغطِيتِها بالذّهبِ أو عدمِه، فإن غطاءَ الذهبِ قد تمَّ نَسْفُه بصَدمةِ نيكسون سنة 1971م .

 وعليه.. فالأَورَاقُ النَّقدِيةُ أَمْوالٌ رِبوِيّةٌ، بعلَّةِ (القِيمةِ الاستراتيجيةِ)، التي تَشْترِكُ فيها مَعَ الأصنافِ الرِّبَويّةِ الستَّةِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق