02‏/07‏/2022

الصراع المسيحي - الإسلامي في الهند من خلال كتابي ميزان الحق.. وإظهار الحق

أ. د. فرست مرعي

كانت مستعمرة الهند جزءًا من شبه القارة الهندية التي كانت خاضعة لسلطة القوى الاستعمارية الأوروبية خلال عصر الاكتشاف، جرت ممارسة القوة الأوروبية عن طريق الغزو والتجارة على حد سواء، وخاصة في التوابل. أدى البحث عن ثروة وازدهار الهند إلى استعمار الأمريكيتين من قبل (كريستوفر كولومبوس)، في عام 1492م. وبعد بضع سنوات فقط، قرب نهاية القرن الخامس عشر، أصبح البحار البرتغالي (فاسكو دا غاما) أول أوروبي يعيد الروابط التجارية المباشرة مع الهند منذ العصر الروماني، من خلال كونه أول من وصل إليها من خلال تطويق أفريقيا في حوالي (1497- 1499م)، بعد وصوله إلى (كاليكوت) - والتي كانت في ذلك الوقت واحدة من الموانئ التجارية الرئيسية في العالم الشرقي - حاصلاً على إذن للتجارة في المدينة من الزعيم الهندي (ساموتهيري راجا).

 وكان القادمون الهولنديون مع قاعدتهم الرئيسية في جزيرة (سيلان)، الذين توقف توسعهم في الهند بعد هزيمتهم في معركة (كولاشيل)، خلال حرب (ترافانكور) الهولندية، من قبل (مملكة ترافانكور).

جلبت المنافسات التجارية بين القوى الأوروبية البحرية، قوى أوروبية أخرى إلى الهند. ففي أوائل القرن السابع عشـر أنشأت كل من الجمهورية الهولندية وإنكلترا وفرنسا والدانمارك والنرويج مراكز تجارية في الهند، ومع تفكك الإمبراطورية المغولية في أوائل القرن الثامن عشر، ثم مع ضعف إمبراطورية ماراثا، بعد معركة بانيبات الثالثة، كانت العديد من الولايات الهندية الضعيفة، وغير المستقرة نسبيًا، التي ظهرت من قبل الحكام الهنود التابعين، مكشوفةً بشكل متزايد للتلاعب بها من قبل الأوروبيين.

 في أواخر القرن الثامن عشر، ناضلت بريطانيا العظمى، وفرنسا، من أجل الهيمنة جزئياً؛ من خلال الحكام الهنود بالوكالة، وأيضاً عن طريق التدخل العسكري المباشر، حيث كان من المفترض أن تقوم بتهميش النفوذ الفرنسـي، بهزيمة الحاكم الهندي القوي (تيبو سلطان)، في عام 1799م، وأعقب ذلك توسع سريع في القوة البريطانية من خلال الجزء الأكبر من شبه القارة الهندية. وفي أوائل القرن التاسع عشر، وبحلول منتصف القرن، كان البريطانيون قد اكتسبوا بالفعل سيطرة مباشرة، أو غير مباشرة، على جميع أنحاء الهند تقريبًا.. وكانت الهند البريطانية - التي تتألف من الرئاسات والمقاطعات البريطانية ذات الحكم المباشر- تضم الأجزاء الأكثر اكتظاظاً بالسكان، والأجزاء الثمينة من الإمبراطورية البريطانية، وبالتالي أصبحت تعرف باسم (جوهرة التاج البريطاني).

  بدأ الاستعمار البريطاني المباشر في شبه الجزيرة الهندية في عام 1857م، بعد فشل الثورة التي قادها المسلمون ضد الاستعمار البريطاني، المتمثل بشـركة الهند الشـرقية.. ولم تحكم معظم الأراضي التي وقعت في منطقة الهند البريطانية بواسطة الإمبراطورية البريطانية بشكل مباشر، بل كانت ولايات أميرية مستقلة اسمياً، حكمت بواسطة الماهاراجا والراجا والثاكور والنواب الذين وقعوا معاهدات مع بريطانيا بشأن سيادتهم، وعرف هذا النظام بالحلف الإضافي.

  كانت (مستعمرة عدن) جزءاً من الهند البريطانية أيضاً، منذ عام 1839م، هذا بالإضافة إلى (ميانمار)(عرفت سابقاً باسم بورما)، منذ عام 1886م.. وقد استقلت كلتا المستعمرتين من الإمبراطورية البريطانية في عام 1937م.. فيما حكمت أرض الصومال البريطانية بين عامي 1884 – 1898م، وسنغافورة بين عامي 1819 – 1867م، كجزء من الهند. وبالرغم من أن (سريلانكا) تقع في شبه الجزيرة الهندية، إلا أنها حكمت مباشرة من لندن، بخلاف الهند البريطانية.

   وعلى الرغم من أن بريطانيا كانت في مقدمة الدول الأوروبية التي حققت وحدتها القومية في العصور الحديثة – قبل الكشوف الجغرافية –، إلا أنها لم تشارك في الكشوف الجغرافية، وما لحقها من عمليات استعمارية، إلا في وقت متأخر من نشاط البرتغال وإسبانيا، وكذلك الهولنديين، بل والفرنسيين أيضاً. ولذلك جاء وصول بريطانيا إلى آسيا، بعد أن وطأت أقدام كل من البرتغاليين والهولنديين، أرضها، وبعد أن أخذت الإمبراطورية التجارية التي أقامها البرتغاليون هناك تتهاوى وتتراجع أمام الوجود الهولندي بالمياه الآسيوية. ولهذا تقابلت إنكلترا في المياه الآسيوية وجهاً لوجه مع قوة أوروبية، كان لها دور هام في التأثير على توجهات بريطانيا بآسيا – وخصوصاً بالهند – قرابة قرن من الزمان. وبمجرد أن أصاب الوهن الوجود الهولندي بالمياه الآسيوية، أخذت بريطانيا تزداد قوة وتأثيراً على الفعاليات الآسيوية، حتى أضحت القوة الأوروبية الوحيدة التي ورثت معظم دور هولندا التجاري.

   وجدير بالذكر أن هزيمة (الأرمادا) الإسبانية، التي حاولت غزو بريطانيا في سنة 1588م- بسبب أعمال القرصنة التي كانت ترتكب من جانب البحارة الإنكليز تجاه السفن الإسبانية، التي كانت تأتي محملة بالسبائك من أملاكها بالعالم الجديد – أمام القوات البريطانية في (بحر المانش)، أعطى إنكلترا إحساساً بقدرتها البحرية، ومن ثم أخذت تشارك الدول الأوربية الصراع البحري والتجاري. فبدأت السفن الإنكليزية، خلال القرن السادس عشر، في الدخول إلى البحر الأبيض المتوسط للبحث عن السلع الشـرقية والاتجار فيها. وعندما أوشك هذا القرن على الانتهاء، لم تعد تجارة البحر المتوسط تفي بحاجة السوق الإنكليزية من السلع الشرقية، ولذلك أيقن الإنكليز أنه ليست هناك وسيلة للوصول إلى ثروة الشـرق إلا بمزاحمة البرتغاليين مباشرة في الأسواق الشـرقية؛ ولهذا بدأت السفن الإنكليزية تهجر تدريجياً طريق البحر الأبيض المتوسط، وتتحول إلى الطريق البحري الطويل، الذي استخدمه البرتغاليون في الوصول إلى الهند.

 

التنصير في الهند:

  في عام 1321م وصل الراهب الفرنسـي الدومينيكاني (جوردانس كتالاني) إلى (مانغلور)، وأنشأ محطة تنصيرية هناك، وقد تحول على يده عدد من السكان المحليين إلى المسيحية. وينحدر كاثوليك مانغلور أساسًا من المستوطنين الغوانيين الكاثوليك، الذين هاجروا إلى جنوب (كانارا) من (غوا)، وهي ولاية تقع شمال كانارا، بين الأعوام 1560-1763م، خلال فترة محاكم التفتيش والحروب البرتغالية مع (العادل شاهية)، وإمبراطورية (ماراثا). وبعد الهجرة إلى مانغلور اعتمد المسيحيون الثقافة المانغلورية المحلية، لكنها أبقت على كثير من العادات والتقاليد الغوانيّة.

 كان كل من (جون لوري) و(ويليام ريد) من أوائل المنصـرين الذين ذهبوا إلى المناطق الواقعة فيما يعرف الآن بالبنجاب الهندية، في عام 1834م. وبما أن الكنيسة الأنكليكانية هي الكنيسة الرسمية في إنكلترا، فقد "كان لها تأثير على الهند، مع وصول البريطانيين".     

     واستناداً إلى عقيدة الإرسالية الكبرى، قال (جوزيف وايت)، وهو أستاذ اللغة العربية في (جامعة أكسفورد): "تم التبشير، أمام الجامعة في عام 1784م، على واجب الترويج للرسالة العالمية التقدمية للمسيحية بين رعايا (ماهوتانا) و(جينتو) في الهند". وفي عام 1889م أعرب رئيس وزراء بريطانيا العظمى (روبرت سيسل) عن مشاعر مشابهة، حيث قال: "ليس من واجبنا فقط، ولكن من مصلحتنا تشجيع نشـر المسيحية إلى أقصـى حد ممكن، على امتداد طول وعرض الهند".

أدى تعاظم شأن جيش الهند البريطاني، إلى وصول العديد من القساوسة الأنكليكان إلى الهند. وبعد تأسيس الجمعية التبشيرية التابعة لكنيسة إنكلترا، في عام 1814م، شيدت (أبرشية كلكتا) لكنيسة الهند وبورما وسيلان، وتم بناء (كاتدرائية القديس بولس)، في عام 1847م. وبحلول عام 1930م، كان لدى كنيسة الهند وبورما وسيلان أربعة عشـر أبرشية، عبر الهند البريطانية.

  وفي بداية القرن الثامن عشر، بدأ المبشرون البروتستانت العمل في جميع أنحاء الهند، مما أدى إلى إنشاء مجتمعات بروتستانتيَّة مختلفة في جميع أنحاء شبه القارة الهندية. أولى المعاقل التبشيرية كانت في (أندرا برديش)، في شمال غرب الهند؛ حيث الغالبية الإسلامية، من قبل (جمعية لندن التبشيرية)، والتي أنشأت أول بعثة بروتستانتية في مدينة (فيساخاباتنام)، عام 1805م. وفي وقت لاحق، خلال القرنين التاسع عشـر والعشـرين، تحول العديد من أبناء الطبقة العليا البنغاليين إلى المسيحية، خلال عصر النهضة البنغالية، تحت الحكم البريطاني.

   ويعتبر البنغاليون المسيحيون أقلية نموذجية، نظرًا لمساهمتهم الهامة في المجتمع والثقافة البنغالية، في القرنين الماضيين. كذلك يعتبر المجتمع المسيحي البنغالي من بين أكثر المجتمعات تقدماً في (البنغال)، ويملكون معدل الإلمام بالقراءة والكتابة الأعلى في الولاية. كما يملك المسيحيون البنغاليون أفضل وضع اجتماعي واقتصادي، مقارنةً بالجماعات الدينية الأخرى في الولاية.

  جاء المبشرون من الطوائف المسيحية الأخرى إلى الهند البريطانية كذلك؛ منهم المبشـرون اللوثريون، على سبيل المثال، والذين وصلوا إلى (كلكتا) في عام 1836م. وبحلول عام 1880م كان هناك أكثر من 31200 مسيحي لوثري، منتشـرون في 1052 قرية. وبدأ (الميثوديون) في الوصول إلى الهند في عام 1783م، وأقاموا بعثات، مع التركيز على (التعليم، والصحة والنظافة، والكرازة- التبشير). وفي عام 1790م، بدأ مبشـرون من (جمعية لندن التبشيرية)، و(الجمعية التبشيرية المعمدانية)، بالقيام بالأعمال التبشيرية في الهند البريطانية. وفي منطقة (نيور) كان مستشفى جمعية لندن التبشيرية رائداً في تحسين نظام الصحة العامة لعلاج الأمراض، حتى قبل إجراء المحاولات المنظمة من قبل رئاسة (مدراس) الاستعمارية، مما أدى إلى خفض معدل الوفيات بشكل كبير.

   ومن عام 1881 إلى عام 1891م، ازداد عدد السكان المسيحيين في البنجاب المتحدة آنذاك. وبرز المبشر البنجابي (سادهو سوندار سينغ) (1889 - 1929م)، وهو من مواليد (لوديانا)، تحول من الديانة السِّيخيّة إلى المسيحية، وقام بالتبشير في أنحاء الهند. وينحدر الكثير من المسيحيين البنجابيين الحاليين، من المتحولين إلى المسيحية خلال الحكم البريطاني.

  في البداية، كانت التحولات إلى المسيحية قادمة من "المجتمعات العليا في البنجاب، ومن العائلات المتميزة والمرموقة"، بما في ذلك العائلات الهندوسية (من الطبقة العليا)، وكذلك الأسر المسلمة، والسيخية، التي تحولت إلى المسيحية لاحقاً. ومع ذلك تعود أصول العديد من المسيحيين البنجابيين الحاليين الآخرين إلى (الشوراس)، حيث تحول الشوراس إلى حد كبير إلى المسيحية في شمال الهند خلال الحكم البريطاني. كما كان الغالبية العظمى من المتحولين من مجتمعات السِّيخ في البنجاب، وبدرجة أقل من الشوراس الهندوس؛ قد دخلوا المسيحيَّة تحت تأثير ضباط الجيش البريطاني المتحمسين، والمبشرين المسيحيين.

  بعد عام 1857م، أصبح إنشاء المدارس والمستشفيات من قبل المبشـرين المسيحيين البريطانيين "سمة محورية للعمل التبشيري، والمسارات الرئيسية للتحويل الديني". وتعتبر كلية (كنيسة المسيح)، التي بنيت في عام 1866م، وكلية (سانت ستيفن)، والتي بنيت في عام 1881م، مثالين على المؤسسات التعليمية البارزة التابعة للكنيسة، والتي تأسست خلال فترة حقبة الهند البريطانية. وداخل المؤسسات التعليمية التي أنشأت خلال فترة الحكم البريطاني، كانت النصوص المسيحية، وخاصةً الكتاب المقدس، جزءاً من المناهج الدراسية. وخلال فترة الحكم البريطاني طور المبشـرون المسيحيون أنظمة الكتابة للغات الهندية، التي لم يكن لها في السابق أنظمة، كما وعمل المنصرون المسيحيون في الهند على زيادة معرفة القراءة والكتابة، وشاركوا في النشاط الاجتماعي، مثل مكافحة الدعارة، ومناصرة حق النساء الأرامل في الزواج مرة أخرى، ومحاولة إيقاف الزواج المبكر للنساء. وأصبحت إرسالية (زنانة)[1]، بين النساء البريطانيات، طريقة شائعة لكسب المتحولين إلى المسيحية.

  وعلى أية حال، فقد انتشـرت المسيحية في أجزاء أخرى من الهند، في ظل الأنظمة الاستعمارية البرتغالية والهولندية والدانماركية والفرنسية، والأهم من ذلك البريطانية، من أوائل القرن السابع عشـر حتى وقت استقلال الهند في عام 1947م. وتأثرت الثقافة المسيحية، في هذه الأراضي الاستعمارية، بالدين وثقافة حكامهم. وبعد استقلال الهند تبوأ عدد من المسيحيين مناصب حساسة؛ منها (سونيا غاندي)، رئيسة حزب (المؤتمر الوطني الهندي)، وغيرها. وهناك نخبة مسيحية تمتع بمراكز رفيعة في الحكومة المركزية، والجيش، والشرطة، والتربية، والتعليم، والجامعات، والأعمال الحرة، وغيرها. وتملك الكنائس الهندية العديد من المؤسسات، التي تقدم خدمات للمجتمع الهندي، من ضمنها: مدارس، ومستشفيات، وجامعات، وكليّات، ودور أيتام ومشرّدين، وغيرها.

 

  المُنَّصر كارل غوتليب فاندر:

  ولد (فاندر) عام ١٨٠٣م، في (يبيلجن/ ساكسونيا - ألمانيا)؛ حيث كان والداه عضوين قياديين في جماعة الورع المحلية. وفي الثانية عشرة من عمره دخل فاندر المدرسة اللاتينية، وفي سن السادسة عشرة التحق بأكاديمية مورافيا في (شتوتغارت)، وتأثر في طفولته بالقراءة عن مهمة جامعة بازل[2] في التبشير، وانتهى به الأمر إلى أن يصبح مبشـراً. وكانت تلك الحركة ترى في نفسها المجتمع الروحي، فهي طائفة في المجتمع المسيحي، تكرست جهودها لتوحيد المسيحيين الورعين؛ سواء أكانوا لوثريين أو مورافيين، للالتزام بمهمة التبشير الملائكي. وكانت الفكرة المسيطرة آنذاك للورع، هي الحاجة إلى التوبة الفردية، والتجديد، بدءاً من وعي المرء بخطيئة نفسه، وبتلك العملية - فقط - من الاكتشاف الروحي يمكن أن يؤدي ذلك إلى الخلاص.

  كان الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للسلطة، وشكلت دراسته اللوح المركزي في المناهج الدراسية في كلية التدريب في (بازل) التي تأسست عام ١٨١٥م. كانت خارج حدود الطلاب في كلية التبشير، حيث سبقتها فترة لغة العصمة اللفظية، المؤسسة - في القرن التاسع عشر -، ولكنها كانت نظرة التقاة للكتاب المقدس - في أنه معصوم ودليل وحي للتعليم المسيحي والحياة والعمل - ولم يكن لمجادلة الفلاسفة واللاهوتيين ضد ما يرونه؛ لأن الايمان الروحي أهم من العقل والمنطق.

  عرض (فاندر) نفسه على المجتمع في سن السابعة عشرة من العمر، ودخل (كلية بازل) عام ١٨٢٠م، وهذا إلى جانب دراسة الكتاب المقدس، مع التركيز على اللغات الأصلية، وتعلم اللغة العربية والقرآن، لأن المبشرين الأوائل الذين يعملون في المناطق الإسلامية، حددوا مهمة التبشير بأنها أولى الأولويات.

  كان فاندر في عام ١٧٧٩ - ١٨٣٨م يأخذ محاضرات حول تعلم القرآن واللغة العربية خمس ساعات في الأسبوع، كذلك تلقى الطلاب في بازل دراسات في تعلم كيفية التجارة اليدوية بمهارة، وأصبح الاستقلال المالي سمة مميزة لكثير من الطوائف المسيحية، التي ترعاهم بازل. وغادر فاندر بازل مستحوذاً بعض المعارف الإسلامية – والتي تقوم في الأصل على القرآن – واختلف عن معاصـريه في أنها – ربما – كانت أكثر دقة ممن اعتمد فقط على المصادر الأوروبية.

 

التبشير في أرمينيا:

  في عام ١٨٢٥م، وبعد استكمال (فاندر) لمساره، ارتسم في أوامر اللوثرية ومعتقداتها، والمتمركزة في (شوشة) - عاصمة إقليم كاراباخ/ في أرمينيا الروسية - حيث تركزت بعض المراكز هناك لإصلاح الكنيسة الأرثوذكسية الأرمينية، والتي يعتقد بفسادها، وبالتالي تخليص ثلث السكان المحليين الذين كانوا من مسيحيي الأرمن.

على أن (فاندر) تحول انتباهه سريعاً إلى المسلمين، الذين يشكلون ثلثي عدد السكان المحليين، وأعرب عن اعتقاده بأنه إذا قرأ المسلمون العهد الجديد باللغة الفارسية - وهي اللغة التي يفضلونها- فإنهم سيعترفون - تلقائياً – بالحقيقة، وينبذون الإسلام كما ينبذ المرء خطيئته. ولإتقان اللغة الفارسية، قام فاندر بعدة رحلات إلى إيران، وقضـى عاماً في بغداد.

  بدأ (فاندر) في كتابة أعمال (اعتذار المسيحي)، وقال إنه يعتقد أن إقناع المسلمين بالتفوق المسيحي لا يوصف! وقال إنه يدرك جيداً أن هذا النوع من الاعتذار، سواء أكان من جانب الإسلام إلى المسيحية، أو من المسيحيين إلى المسلمين، كان له تاريخ طويل، ولكنه رأى أن كتبه ستشكل آفاقاً جديدة، من حيث الدقة العلمية، ربما أكبر من حصـر اللغة والثقافة في مجرد كلمات أو مصطلحات عند القراء المسلمين، كما ذكر أنه نجح في هذا المسار، وهو يعتقد أن عدداً غير قليل من القراء المسلمين تداولوا كتابه، ومنهم من ارتد عن دينه كذلك.

  تعرف فاندر على آراء (هنري مارتين) (1781 – 1812م) المثيرة للجدل، على الرغم من أن أي تأثير يظل مدرجاً في التفاصيل، كما ظهرت المخطوطة الألمانية لكتابه (ميزان الحق)، لأول مرة، عام ١٨٢٩م. وخصص (فاندر) جزءاً كبيراً من عمله - في وقت لاحق - لتنقيح وترجمة كتابه الميزان، بالإضافة إلى كتابيين تاليين، وهما: مفتاح الأسرار، وطريق الحياة إلى لغات أخرى. وعلق (W. A  رايس)؛ بقوله: كان فاندر يبلغ الأربعين من العمر ، حين أجاد في عمله بشكل مثير للجدل.

  في عام ١٨٣١م ظهر (ميزان الحق) بالأرمينية، وفي عام ١٨٣٥م ظهر بالفارسية. وفي عام ١٨٣٣م تلقى (فاندر) إذناً من بعثة (بازل) للحصول على إجازة - لبعض الوقت - لغرض الزواج، وطبقاً - ربما - لتقاليد المجتمع، اتفقت رغبته مع عادات وتقاليد المجتمع - آنذاك - في الزواج من روسية، وعدم الزواج من أجنبية. فتم السماح له - بادئ الأمر - بالذهاب إلى روسيا.

  ومن جهته، قام (فاندر) بعمل تبشيري في كاراباخ والأراضي المجاورة، ما بين سنتي 1825 و1836م. ومن بين العديد من الإرساليات التبشيرية، ركز بعض المبشـرين على إصلاح الكنيسة الأرثوذكسية الأرمينية، التي اعتقدوا أنها فاسدة ومفلسة - ثلث السكان المحليين من المسيحيين الأرمن -، حيث كانت هذه المقاطعة المنشأة حديثًا قد هاجر إليها الأرمن من بلاد فارس (إيران الحالية).

  ركز (فاندر)، نيابة عن بعثة بازل، على التبشير وإيصال الإنجيل إلى المسلمين المحليين - كان حوالي ثلثي السكان المحليين من المسلمين-. وكان (فاندر) يعتقد أنه إذا قرأ المسلمون العهد الجديد مترجمًا إلى اللغة الفارسية، لغتهم المفضلة، فسوف يتخلون تلقائيًا عن الإسلام، ويعترفون بتفوقه وحقيقته؛ لهذا قام فاندر بالعديد من الرحلات إلى إيران، وقضـى أيضًا عامًا في بغداد في العراق، لإتقان اللغة الفارسية؛ من عام 1825 إلى 1829م. بعدها انتقل إلى القوقاز.

وفي عام 1835م حظرت روسيا جميع العمليات التبشيرية للبروتستانت في (شوشة)، عاصمة مقاطعة كاراباخ في القوقاز، باستثناء عمليات الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية؛ وبالتالي أُجبر (فاندر) على مغادرة (شوشة)، ثم عاد إليها عام 1836م، بعد أن ذهب إلى استنبول عام 1835م، لكنه غادر إلى كلكتا بالهند عام 1837م.

 

 

عمل فاندر في إقليم أغرة بشمال الهند (1841–1855م):

  مع انفتاح البرلمان البريطاني على الأنشطة التبشيرية البروتستانتية في عام 1813م في الهند، بدأ العديد من المبشرين العمل في الهند، التي كانت تحت سيطرة شركة الهند الشـرقية. ففي عام 1814م تم تكريس أول أسقف إنكليكاني سـرًا في (كلكتا)، ومنذ عام 1832م سُمح أيضًا للمبشرين غير البريطانيين بالعمل في شبه القارة الهندية. كانت مدينة (أغرة) مشهورة بالتعليم والثقافة الإسلامية، وقد حولتها الحكومة البريطانية إلى مركز إداري لمقاطعة شمال غرب الهند. أصبحت كل من أغرة و لكهنؤ موطنًا للمبشرين الذين شاركوا في حوار بين الأديان مع العلماء المسلمين المحليين، ونشـروا كتبًا جدلية ضد العقيدة الإسلامية.

  وكانت جمعية التبشير الكنسية قد جندت (فاندر)، وأرسلته إلى (أغرة) لتنصير المسلمين، وأيضًا لمساعدة الزملاء المبشرين الألمان العاملين، الذين تم نفيهم مثل فاندر من آسيا الوسطى بسبب حظر القيصر الروسي لأي نشاط تبشيري آخر. وصل (فاندر) إلى (كلكتا) في 1 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1838م، ولدى وصوله كان لديه انطباع بأن المسلمين في الهند على وشك التحول إلى المسيحية، وبناءً على ذلك قام بترجمة بعض الكتب عن الإسلام والمسيحية - التي سبق أن كتبها خلال السنوات السابقة - إلى الأوردية. كان (ميزان الحق) أحد هذه الكتب التي تم استخدامها كنقطة انطلاق في (أغرة)، وقد تُرجم إلى عدة لغات أخرى في العالم الإسلامي أيضًا. وفي عام 1854م، انخرط (فاندر) في مناظرة عامة شهيرة مع كبار العلماء المسلمين في (أغرة).

  ولئن كانت عقائد المسلمين سبباً دافعاً للشيخ (رحمت الله)، فإنّ جهود المنصـرين خلال ثلاثة قرون - برئاسة (فانـدر) - وكتبهـم، وهجومهـم على الإسلام، في ظرف تسلط فيـه الإنكليز على سائر أرجاء الهند، كان السبب المباشـر والهام الذي جعل الشيخ يطلب مناظرة مؤلفه؛ بعد صدور كتاب (ميزان الحق). حيث توافرت في الكتاب ومؤلفه الأسباب الدافعة الآتية:

1- إن مؤلف هذا الكتاب هو رئيس المنصـرين الذي كان معتـداً بنفسه، وكثير الإدلال بكتابه، وقد ملأ الغرور والكبرياء نفسه، وكثر نشاطه، حتى طارت شهرته وذاع صيته، وصارت الأموال تُرسل إليه من مؤسسات عديدة؛ حكومية وأهلية، تقديراً لجهوده ودعماً لموقفه.

2- تلقّي المنصـّرين والقسس لهذا الكتاب بالقبول والتقدير، لشموله جميع الشبه والافتــراءات، وكل ما يمكـن أن يعترض به المنصـرون والمستشـرقون على دين الإسلام، بالإضافة لشموله جميع أوجـه الـرد والدفاع عن العقائد النصرانية، بحيث إنه يعـد كتابـاً جامعـاً في موضوعه؛ لأنه حصيلة جهود قرون طوال في الكيد للإسلام[3].

3- اعتماد كل الكتاب والطاعنين في الإسلام على هذا الكتـاب بعـد صدوره، واعتباره المرجع الرئيسي لهم. وكل الكـتب المعاديـة للإسلام التي جاءت بعده، كانت شـرحاً وتطويلاً للكتاب، أو اختصاراً له، فكتـاب (الهداية)؛ الواقع في أربعة مجلدات لمؤلف مجهـول، ما هو إلا تطويل لـ(ميزان الحق). وكتاب (تذييـل مـقـال في الإسلام)، لمؤلف مجهول ـ سمّى نفسه هاشماً العربـي ـ، ما هو إلا اختصار له.

يقول الباحث المصري عبد الرحمن الجزيري، بهذا الصدد: "من أجل ذلك نظرت في كتب المبشريـن القديمة والحديثة، فوجدت أنهـا تـرجـع في معظمهـا إلى كتـابين؛ أحدهما: كتاب (ميزان الحق)... ولعل هذا الكتاب هو الينبوع الذي منه يستقي المبشـرون مطاعنهم في الإسلام، وثانيهما كتـاب (تذييـل مقال في الإسلام)... ولكنه لم يخرج عن مطاعن (ميزان الحق) قيـد شعرة، فـ(ميزان الحق) هو عمـدتهم الـذي يعتمـدون عليـه في مطاعنهم، وصاحبه هو زعيمهم الأول الذي فتح لهم طريق الطعـن على الإسلام والمسلمين بجرأة مدهشة"[4].

4- وكتاب (ميزان الحق) نفذت له ثلاث طبعات متتاليـة في الهنـد؛ الأولى القديمة في سنتي ١٨٣٣م و ١٨٤٣م بالإنكليزية، والثانية بالفارسية سنة ١٨٤٩م، والثالثة بالأردية سنة 1850م، وتُرجم فيما بعـد للتركية والعربية، حيث ظهرت الطبعة العربية الثانية في سنة 1923م، التي نقحها وأضاف عليها نتائج الاكتشافات الحديثة المنصـّر الإنكليزي (وليام سانت كلير تيسدال)، مؤلف كتاب (مصادر الإسلام)، مما يظهر سـرعة انتشاره، ومدى خطورته، ويدل على أن كل منصـّر عندما يُفْحم من قبل علماء المسلمين، فإن أخلافه يحاولون بشتى السبل تكملة المشوار عن طريق القول بـ(نتائج الاكتشافات الحديثة).

5- زعـم (فانـدر) أن كتابه (ميزان الحق) لا تُمكن معارضتـه، وأن علمـاء المسلمين عاجزون عن الرد على ما فيه من حقائق، مستدلاً بأنه تم توزيع الكتاب بطبعاته الثلاث في جميع أرجاء الهند، بحيث لا يشك في وصوله إلى أيدي علماء المسلمين، وقراءتهم ما فيه، ومع ذلك لم يستطع أحـد الـرد عليـه، وما زال يتحداهـم أن يردوا إن استطاعوا.

6- تنسيق أبواب الكتاب، وفصوله، بصورة توهم القارىء أن المقدمات توصل حتماً إلى النتائج المقررة، وأن الكتاب يؤلف وحدة متكاملة للربط الظاهري بين السابق واللاحق. فبعد أن ذكر في الباب الأول عدم نسخ كتب العهدين وعدم تحريفهما، وأن القرآن نفسه يؤيـد كونهما كلام الله الذي لا ينسخ ولا يحرف! ذكر في الباب الثاني أهم تعاليم التوراة والإنجيل، وكيفية الإيمان بالمسيح، والفوز بالخلاص، وكيفية انتشار دينه. ثم زعم في الباب الثالث أن خبر رسالة محمد ليس مكتوباً في التوراة، ولا في الإنجيـل، وأن أعمالـه لا تدل على نبوته، وأن بلاغة القرآن ليست دليلاً على كونه كلام الله. ثم ذكر كيفية انتشار دين الإسلام بالسيف والقهر. وعليه، فالقرآن - في نظره - ليس كلام الله، وليس بناسخ لكتب العهدين.

 7- تسمية هذا الكتاب بـ(ميزان الحق)، مما يوهـم القارىء أن مؤلفه قد وزن جميع الأمور، ووازن بين العقائد، وبحث في علم مقارنة الأديان بحثاً علمياً نزيهاً، بطرقه الصحيحة، فوجد أن الحق هو ما دوّنه في هذا الكتاب. لذلك، فإن اسم هذا الكتاب وحده يشكل خطورة بالغة على المبتدئين، وأنصاف المتعلمين.

8- أمـا بالنسبـة للعلمـاء، فإن هذا الكتاب جدير بهذه التسميـة، لأن القارىء المتيقـظ يظهـر له - بفضل الله ـ أن كل دليل أتى به صاحب ميزان الحق لإبطال الإسلام، وتأييد عقائد النصرانية: كان في الواقع دليلاً على صحـة ديـن الإسلام وزيف ما عداه، فقتل (فانـدر) بسيف (جليات)[5]: "فإذا كان لاسم هذا الكتاب مدلول صادق، فذلك لأنه قد أيد الإسلام من حيث يريد مؤلفه أن يطعـن به عليه، وأثبت تحريف التوراة والإنجيل من حيث يريد إثبات سلامتهما من التحريف، وعمل على هدم دينه من أساسه من حيث يريد بناءه"[6]، فكان يحتج بما هو حجة عليـه، يعيب القرآن بما هو أجدر أن يعاب به التوراة والإنجيل المحرّفان، ولكن التعصب أعماه.

9- الهجوم الشديد على دين الإسلام، والقرآن الكريم، والرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع عدم تورّعه عن استعمال السب والشتم للمخالفين، وإذا صدرت من المخالف كلمة بسيطة في حقه، أو حق علماء مذهبه، فإنـه يجعلهـا كبيرة، ويشنّـع بها على علمـاء المسلمين، ويستقبـح ذلك منهم. وقد كان في ردوده على الشيخ هادي علي ـ مؤلف كتاب (كشف الأستار للرد على مفتاح الأسـرار) لفاندر ـ لا يتورع عن نسبته إلى الكفر والعمى والتعصب والتكبر وسوء الفهم. كما قال في حق الشيخ محمـد آل حسن ـ مؤلـف كتاب (الاستفسار للرد على ميزان الحق) ـ ونسبه إلى الكفر، وعدم المبالاة، وأن فهمه أنقص من فهم الوثني، وأن الإنصاف والإيمان غائبان عن قلبه. كما نسب الدكتور محمد وزیر خان إلى الدهريين، بينما غضب غضباً شديداً من نسبة الشيخ (رحمت الله) لفظ الفرار إليه، عندما حاول التهرب من المناظرة. وأما ما نسبه إلى القرآن  الكريم، والنبي (صلى الله عليه وسلم)، فيعظم ذكره، وينبـو القلـم عن تدوينه. ولا نستغرب ذلك منه في حق نبينـا (صلى الله عليه وسلم)، وهو ممن ينسبون السكر والزنا والكفر إلى الأنبياء، ويشتمون الله بنسبة الولد إليه، ووصفه بصفات البشـر، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

 10- خطورة هذا الكتاب على المسلمين عامة، وفي الهند خاصة، أكثر من خطورة تدريس التوراة والإنجيل في المدارس والكليات. وقد عدّ (م. هوري) زعزعة (فاندر) لعقيدة المسلمين في الهند، بترجمته كتابه (ميزان الحق) إلى اللغتين الفارسية والأردية، أعظمَ من عمل المبشر القس (هنري مارتين)، الذي ترجم الإنجيل للفارسية والأوردية. وقد ذكر إبراهيم خليل أحمد – الدكتور والقسيس المصـري الذي أسلم – أخطرَ أربعة كتب للمنصرين، وهي:

أ– ميزان الحق، للدكتور فاندر.

ب– كتاب الهداية؛ ويقع في أربعة أجزاء، وهو هجوم مريع على الإسلام، وعلى القرآن الكريم، وعلى نبي الإسلام، يعتقد أنه للمنصر الأمريكي المشهور (صموئيل زويمر) (1867 –1952م).

ج– مقالة في الإسلام، للمستشرق الدكتور (جورج سال) (1697- 1736م)، وقد نشـر من قبل المطبعة الإنكليزية الأميركانية في مصـر سنة1914م. وترجم من قبل شخص مجهول، يدعى هاشم العربي، ويبدو أنه هو مؤلف الكتاب، حسب ما ذكر الجزيري في مقدمة كتابه (أدلة اليقين في الرد على مطاعن المستشرقين)[7].

د– كتاب مصادر الإسلام، للدكتور (وليام سانت كلير تيسدال)[8].

 وجعل أولها، وأكثرها خطورة، كتاب (ميزان الحق)[9].

11ـ ردة الفعل العنيفة التي حصلت عند المسلمين في الهند إثر صدور هذا الكتاب، لانتشاره السريع، والسكوت عن الرد عليـه فترة من الزمن، بحيث خيـف على ضعاف النفوس من الردة، لما فيه من مدح العقائد النصرانية، وتأييدها، والنيـل من عقائـد الإسلام، ونقدها. وقد دب الملل إلى نفوس المسلمين، وثارت ثائرتهـم، حمية لدينهم وعقيدتهم، وانتظروا من يعلن جرأته في الرد على افتراءات زعيم المنصرين، التي أحدثت أثراً سيئاً في نفوس المسلمين، حتى تحير كثيرون منهم، وقالوا للشيخ بأنهم إذا سمعوا لـ(فانـدر) ظنــوا أن النصرانية حق، وإذا سمعوا لعالم مسلـم ظنوا أن الإسلام حق، وأنهـم يحبون المناظرة العلنية لرفع الإشكال وإزالـة الشبهات. بل إن (رام شندر) الهندوسي، الذي كان صديقاً لفانـدر، وللشيخ رحمت الله، وكان محباً لفاندر وكتبه، تجرأ أن يطلب من الشيخ رحمت الله زيارة فانـدر، لعلّه يهتدي إلى النصرانية"[10].

  وعلى العموم، فإن المنصرين في الهنـد قد استطـار شـرهـم، وكثفـوا حملاتهم التنصيرية، وقد استفحل أمـر (فانـدر)، ورأى أن الجو قد خلا له، فازداد جرأة و تحدياً. ورأى الشيخ (رحمت الله) أنه لا سبيل إلى الحد من نشاط هؤلاء القسس ـ وفي مقدمتهم، وعلى رأسهم القس فاندر ـ وإعادة الثقة إلى نفوس المسلمين، ومقاومة (مركب النقص) فيهم، إلا مناظرة (فاندر) في مجمع حافل؛ يحضـره المسلمون، وعامة المواطنين، والحكام الأوروبيون، والنصارى، والمتنصـّرون.. وكان (فـاندر) كثير الإدلال بكتابـه (ميزان الحق)، فخـوراً به، ويرى أنه ليس من السهـل معارضته ونقضه من علمـاء المسلمين.

  كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت الحاجة ماسة للرد على هذا القسيس، مما حفز الشيخ (رحمت الله) للدعوة إلى مناظرته علناً، حتى يعرّيه، ويفقده كل هذا الأثر في الأوساط الهندية.

 

رحمت الله الكيرانوي العثماني الهندي:

   هو محمد رحمت الله بن خليل الله، ويعرف بخليل الرحمن الكيرواني العثماني؛ وينتهي نسبه عند الجد الرابع والثلاثين إلى ذي النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. ولد بحي (درباركلان)، في قرية (كَيرانة)، بمحافظة (مظفر)، من توابع (دلهي) عاصمة الهند، سنة ١٨١٨م. وقد اشتهر أفراد أسرته بالعلم، والطب، والمناصب العالية. أتقن اللغات الإسلامية الثلاث: العربية، والفارسية، والأردية، وقرأ كتب الشـريعة واللغة على يد آبائه. وأسس مدرسة شرعية في (كيرانة)، تخرج منها كبار المدرسين والمؤلفين، ومؤسسي المدارس - في أرجاء الهند -، كما أسس مراكز لتدريب الدعاة على مقاومة التنصير.

  ولد في عائلة شهيرة، وأسـرة كريمة، اشتهر أفرادها في تلك المقاطعة أمراء ورؤساء وحكاماً وعلماء وأطباء. وكان أول من قدم إلى الهند من آل سيدنا عثمان، هو الشيخ عبد الرحمن الكاذروني، الجد الأعلى للشيخ، حيث كان قاضياً شرعياً للجيوش الإسلامية التي فتحت الهند على يد السلطان محمود الغزنوي، فاستقر الشيخ عبد الرحمن الكاذروني في بلدة (باني بت)، وتوفي فيها، وقبره معروف حتى الآن. وكان الشيخ (رحمت الله) من ذرية هذا المجاهد الغازي- رحمه الله -، ولذا يطلق على الشيخ لقب (العثماني).

  نشأ (رحمت الله) في أسـرة واسعة الثراء والجاه. حفظ القرآن الكريم في الثانية عشـرة من عمره، وتتلمذ في مدينة العلم والحضارة (لكهنؤ)، على يد المفتي سعد الله المرادآبادي. بدأ في حفظ القرآن الكريم، والمبادئ، من الكتب المتداولة في بلدته، على يد كبار أفراد أسرته، المشهورين بالعلم والفضل. ثم شد رحله إلى (دلهي)، عاصمة العلوم والفنون، والتحق بإحدى المدارس الدينية، ونال الحظ الأوفر من أمهات العلوم والكتب. ثم أخذه العلم والمعرفة إلى بلدة (لكنو) - مدينة الثقافة والحضارة - فأخذ عن عدة علماء أفاضل بها، وتخصص في آداب اللغة الفارسية، وعلوم الطب. ولما فرغ من تحصيل العلوم الدينية والرياضية، رجع إلى مسقط رأسه (كيرانه)، وأسس مدرسة، قام بالتدريس فيها مدة وجيزة. لازمه عدد من تلاميذه مدة طويلة، وأصبحوا من العلماء العالين في الهند، منهم: العلامة الشيخ عبد الوهاب، مؤسس أول مدرسة إسلامية بمدينة (مدراس) بالهند، عرفت وسميت بـ(الباقيات الصالحات)، والتي تعتبر اليوم أكبر كلية في مدينة (مدراس) بجنوبي الهند.

  اشترك (رحمت الله) في الثورة على الإنجليز عام ١٨٥٧م، ولما فشلت الثورة، وأخمدها الإنكليز بوحشية بالغة، ونصبوا أعواد المشانق للعلماء، وجعلوا مكافأة لمن يدلهم عليه، ولكنه انتصر عليهم في المعركة الدينية، وأسهم في الجهاد ضدهم، وقد اختفى مدة في قرية صغيرة، ولما دخلت الجيوش الإنكليزية في هذه القرية، أخذ المنجل ودخل في مزرعة وتشاغل بحصاد الحقل، كفلاح صغير مغمور، واستطاع بذلك أن ينجو بنفسه، ويصل إلى (سورت) ميناء الهند المطل على المحيط الهندي وبحر العرب، وخرج خفية وسافر بحراً إلى اليمن، ومنها براً إلى  الديار المقدسة مكة المكرمة سنة ١٢٧٨هـ/١٨٦٢م يعني بعد الثورة بخمس سنوات، وصودرت أملاكه التي كانت كبيرة وواسعة، وبيعت بالمزاد العلني، وكان ذلك في أيام خلافة السلطان العثماني عبد العزيز خان(1245-،1277هـ/1830-1876م) وإمارة الشريف عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون(1275-1294هـ /1885 -1277م)على الحجاز. ولما عرفت منزلته في مكة، وبلاؤه في الدفاع عن الإسلام، سمح له بالتدريس في الحرم المكي، وتوثقت بينه وبين عالم مكة الجليل مفتي الشافعية الشيخ أحمد بن زيني دحلان(1232 - 1304 هـ/1816 -1886م) الصداقة، وهو الذي كان له الفضل في التعريف به عند شريف وعلماء مكة وأعيانها، وسجل اسمه في السجل الرسمي لعلماء الحرم عام ١٨٨٥م.

  أسس أول مدرسة في مكة والحجاز، عام ١٨٩١م، وسميت باسم (المدرسة الصولتية)، وبقي الشيخ مديراً ومدرساً فيها إلى وفاته عام ١٨٩١م، ودفن في مقبرة مكة - رحمه الله -.

 

 بعد تأليف إظهار الحق:

  هاجر الشيخ (رحمت الله) إلى مكة المكرمة، واشتغل بالتدريس في الحرم الشـريف، وبداره، ولم يكن التعليم في أرض الحرم مرتَّباً منظماً، بل كان مقتصـراً على حلقات العلماء، بدون تنظيم ولا منهج، ومن غير شك كانت الخلافة العثمانية تبذل أموالاً طائلة لعلماء المسجد الحرام ولطلاب العلم، ولكن لم تكن هناك مدرسة نظامية تعتني بأبناء مكة والمهاجرين من حيث التعليم والتربية، وكان شديد التألم من رداءة حالة التعليم، وضياع أبناء المسلمين، فقام - اعتماداً على الله - بفتح وتأسيس أول مدرسة، في ربيع الأول عام 1285هـ/1891م، على نفقته الخاصة، بمحلة الشامية، بدار أمراء الهند المهاجرين، المعروفة بدار السقيفة، عند مطلع جبل هندي بالشامية، عرفت بالمدرسة الهندية أو مدرسة الشيخ رحمت الله. ونظراً لضيق المكان لم يستطع الشيخ تنظيم المدرسة، كما كان يتمناها ويريدها، إلى أن قدمت إحدى أميرات الهند تؤدِّي فريضة الحج عام ١٢٨٩هـ... وكانت تنوي بناء رباط في مكة بعد الحج، كما هي عادة أهل الخير في أراضي الحرمين الشـريفين، وكانت على علم تام بشهرة الشيخ رحمت الله وجهاده في الهند، فاستشارته في إقامة عمارة للفقراء، فأخبرها الشيخ أن مكة المكرمة ليست بها مدرسة تتكفّل بتعليم أبناء المسلمين، وأخبرها عن مدرسته، فوافقت على إنشاء مدرسة، وفوّضت الأمر إلى الشيخ، وسبحان الله مسبب الأسباب؛ فقد اشترت الأرض في حي الخندريسة بمحلة الباب، ووضع الشيخ رحمت الله بيده المباركة حجر الأساس لأول مدرسة دينية نظامية تحت ظل البيت العتيق، صباح يوم الأربعاء الموافق ١٥ شعبان عام 1290هـ/1891م.

  شهدت هذه البلدة المقدسة ميلاد أول مدرسة ببدء الدراسة بالنظام الحديث فيها، في احتفال كبير حضره جميع علماء وأعيان مكة وطلاب العلم، بفضل هذه المحسنة، وتخليداً لذكرها فقد أطلق الشيخ اسم: الصولتية على المدرسة، نسبة إلى السيدة (صولت النساء)، ولم ينسبها إلى نفسه، فأصبحت هذه المدرسة مركزاً للطلاب من كل حدب، ومنبعاً للعلوم والمعرفة، وهي أول مدرسة نظامية على الإطلاق، وبالاتفاق، في الجزيرة العربية، تأسست على يد ذلك المجاهد العظيم، ولا زالت - والحمد لله - تؤدي رسالتها في مدة قرن ونصف تقريباً من الزمن. وتاريخ المدرسة حافل بالخدمات العظيمة في نشـر الدين والعلم، وتخريج أفواج من العلماء، والمدرسين، والقضاة، والمؤلفين، ورجال الدولة، حملوا رسالتها في البلاد وخارجها، ومنهم جلالة الملك الشـريف حسين بن علي الهاشمي؛ مؤسس الدولة الهاشمية بالحجاز.

 

 

الحالة العامة بالهند، وجهود الشيخ رحمت الله في مقاومة التنصير:

  كانت فترة حياة الشيخ من أصعب الفترات التاريخية في الهند؛ من حيث تدهور الإمبراطورية المغولية الإسلامية، التي ظل حكمها نحو أربعمائة سنة على عموم أنحاء الهند. وعندما بدأ نفوذ وتسلط التدخل الأجنبي المستعمر (الإنكليز)، وكانت الفوضى السياسية والحكمية، وانعدام الأمن والاستقرار، وأهم من ذلك كله فقد كانت الأمور بيد الإنجليز يديرونها ويدبرونها كيفما شاؤوا ضد المسلمين، للقضاء على الإمبراطورية التي بقيت اسماً وصورة فقط، وقد كانت الضربة القوية موجهة إلى الإسلام والمسلمين، وكانت جماعات وفرق من المنصرين والمسيحيين تجوب أطراف الهند، تبث الدعاية المسمومة ضد المعتقدات الإسلامية، ونشط القسيسون بعقد الاجتماعات والحلقات والحفلات في الأماكن العامة، والهجوم على المساجد والمدارس، وإلقاء الخطب ضد الدين الإسلامي، ومهاجمة العلماء والعامة سوية، وإجبار المسلمين على قبول الدين المسيحي. ولا ننسـى - في مثل هذه الأجواء - مساندة الحكومة الإنكليزية، بكل نفوذها وقوتها، في نشـر دعوة النصـرانية، وإنزال أنواع العذاب بكل من يقاوم حركتهم، ويتصدى لهم. وفي هذه الظروف الحالكة، كان الشيخ رحمت الله الفرد الوحيد الذي جازف بحياته، وأعلن الجهاد ضد الإنجليز، ودعا رئيس البعثة التنصيرية المسيحية القسيس (فاندر) إلى المناظرة؛ حيث تفرغ لمقاومة المنصرين، ودرس النصرانية حتى فاق علماءها المتخصصين، ثم بدأ يؤلف كتبه للرد عليهم.

 

مؤلفاته:

  بدأ برسائل صغيرة، أو بالترجمة، فله رسالة مخطوطة في وقت صلاة العصـر، ورسالة التنبيهات في إثبات الاحتياج إلى البعثة والحشـر، وله مخطوطة في ترجمة كتاب (التحفة الاثني عشـرية في الرد على الروافض)، لمؤلفه الشيخ عبد العزيز ولي الله الدهلوي، بالعربية، بالمدرسة الصولتية. أما مؤلفاته في الرد على المنصرين، والدفاع عن عقائد الإسلام، فهي:

إزالة الأوهام: بالفارسية، طبع عام ١٢٦٩م/، وترجم إلى الأردية باسم: دافع الأسقام.

إزالة الشكوك: بالأردية، للإجابة على ٢٩ سؤالاً أوردها المنصرون على علماء الإسلام لإثبات نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإثبات التحريف في كتب العهدين.

الإعجاز العيسوي: ويسمى باسمين آخرين هما (الإعجاز المسيحي، ومصقلة التحريف)، وألف بالأردية ١٢٧٠هـ /١٨٥٣م، وأعيد طبعه في (لاهور) بباكستان عام ١٩٨٨م، ويقع في ٧٧٣ صفحة.

أحسن الأحاديث في إبطال التثليث: بالأردية، عام ١٢٩٢م/.

البروق اللامعة: بالعربية، وهو مفقود.

معدل اعوجاج الميزان: بالأردية، للرد على ميزان الحق، الطبعة الجديدة.

تقليب المطاعن:  بالعربية، للرد على كتاب (تحقيق الدين الحق)، وهو مفقود.

معيار التحقيق: للرد على كتاب (تحقيق الإيمان)، وهو مفقود.

المحبوب إلى القلوب: مخطوط بالأردية.

البحث الشريف في إثبات النسخ والتحريف: يحوي نص المناظرة الكبرى بالفارسية.

 

مناظرة رحمت الله الكيرواني وفاندر:

 في نيسان عام 1854م جرت المناظرة الدينية بين الشيخ الكيرواني والقسيس فاندر، فانقلب السحر على الساحر، وأثرت المناظرة تأثيراً بالغاً في توسيع رقعة الإسلام، وتجلية صورته المشوهة، وأعقبت نتائج إيجابية كبيرة في صالح المسلمين، وتركت أصداء عالية في أوساط المنصرين، فأشعلت غضبهم، وحركت ساكنهم، حتى تفجرت الثورة الاستقلالية الكبرى في الهند، عام 1857م.

  أمّا مساعد الشيخ رحمت الله، وشـريكه في مناظرته، فهو الحكيم محمد وزير خان الأكبرآبادي، الذي درس الطب في لندن، وتخرج عام ١٨٣٢م، وكان يتقن الإنكليزية واليونانية، واطلع على المسيحية في مصادرها الأصلية، وأحضـر معه مكتبة زاخرة عن النصرانية بلغاتها الأصلية. كان له دوره العلمي الدعوي في الهند، هاجر إلى مكة، وتوفي بالمدينة المنورة، ودفن بالبقيع.

  كان اللقاء بين الشيخ رحمت الله والدكتور محمد وزير خان حدثاً ميموناً، إذ خلال إحدى سفرات الشيخ لمدينة (أكبر آباد)، قبيل 1850م، تعرف على (محمد وزير خان) الذي أمد الشيخ بما حصله من معارف وخبرة بالنصـرانية، وأرشده إلى نتائج حركة النقد التاريخي والعقلي للكتاب المقدس في أوروبا، فاتفقا على التآزر من أجل كف شـر (فاندر)، وجماعته، باستدراجهم للمناظرة أمام الملأ. وبعد ثلاث سنين من الدراسة، والعمل، أثمرت جهودهما، فألف الشيخ رحمت الله عدة كتب في الرد على المنصـرين، ثم نجحت مساعي الشيخ، وصديقه وزير خان، فتناظرا أول الأمر في مسألة تحريف الكتاب المقدس مع القس (كيس)، والقس الإنجليزي (طوماس فالبي فريج)، في منزل هذا الأخير بـ(أكبر آباد)، سنة 1854م، فكان التوفيق حليف الشيخ ورفيقه. ثم تناظرا بعد ذلك بأشهر يسيرة، أمام الملأ، مع (فاندر)، ورفيقه (فريج)، في يومين متتالين من شهر أبريل/نيسان عام1854م، في مسألتي النسخ والتحريف، وكان النصر حليفهما أيضاً، وافتضحت أباطيل المنصـّر (فاندر).

 

عمل فاندر في الآستانة (=استنبول):

   بعد هزيمة (فاندر)، لامه الإنكليز، وعنفوه، لأنه جر الذل والعار على كنيستهم، فنقلوه من مدينة (أكبر آباد)، إلى مدينة (بيشاور)، لسنوات معدودة، فلم يستطع البقاء في الهند، وغادرها عام 1857م، فعين ليعمل في (الآستانة)، فما أن اطمأن به المقام بها حتى أصدر سنة 1860م نسخة تركية من كتابه (ميزان الحق). أما الشيخ رحمت الله، فقد هاجر إلى مكة، بعدما طالب الإنكليز برأسه، بعد ثورة مسلمي الهند ضدهم سنة 1857م.

  وفي سنة 1280هـ/1863م أصيب السلطان العثماني (عبد العزيز الأول خان) بغم شديد لسماعه آراء (فاندر) عن المناظرة، فكتب رسالة عاجلة إلى شريف مكة (عبد الله بن عون)، للاستفسار من الحجاج الهنود عن قصة المناظرة، والثورة سنة 1857م، وإعلام الباب العالي بحقيقة الأمر. فأخبره الشـريف بأن الشيخ رحمت الله موجود في (مكة). فطلبه السلطان كضيف خاص، وودعه والي مكة كضيف ملكي. وعند وصوله إلى (الآستانة)(= استنبول)، في رجب سنة 1280هـ/ديسمبر لعام 1863م، استقبله السلطان عبد العزيز خان في موكب رسمي، وأنزله بالقصر الهمايوني، وأقام له حفلة كبيرة حضـرها الوزراء والعلماء وكبار رجال الدولة، ثم طلب من الشيخ أن يحدثهم عن المناظرة، والثورة، ودور العلماء فيها، والمذابح الوحشية على يد الإنكليز. فحدثهم الشيخ عن كل ذلك، وبين لهم كيف أن القس (فاندر) تغيب بل هرب في اليوم الثالث للمناظرة.

   وقد فرّ (فاندر) من استنبول عندما سمع بوصول الشيخ رحمت الله إليها، وإكرام السلطان له، والتجأ إلى بريطانيا، بعد تعليق نشاط جمعية التبشير الكنسية في (استنبول)، وتوفي في 1 ديسمبر/ كانون الأول عام 1865م في (ريتشموند- لندن).

  يتبين لنا مما سبق، أن الهند كانت مرتعا خصباً للتنصير، وأن المنصـرين كانوا متفائلين بتنصير أهلها في مدة وجيزة، لأن أبوابها مفتوحة لهم، ولأن مسلمي الهند - الذين يزيد عددهـم خمسة ملايين على نصارى المستعمرات البريطانية كلها - يرتقبـون الخلاص[11]. وكان المنصرون يعـدون الوضع الطبيعي والبدهي هو أن تكون الهند القاعدة الأماميـة لتأسيس الأنظمة الخاصة بتنصير المسلمين، ولتدريب المنصـرين الذين سينطلقون منها إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، ولذلك انهالت المساعدات المالية عليهم بمبالغ ضخمة.

  وتجدر الإشارة إلى أن المستشرق الفرنسي (الفرد لي شاتليه) (1855 – 1929م)، المشرف على مجلة (العالم الإسلامي)، من سنة 1907 إلى سنة 1926م، علق على هذا الموضوع بقوله: "من الذين ألفوا في هذا الموضوع المستر (م. هوري)، فإنه تكلم عن حالة التبشير في شمالي الهند، وعن انتشار الإسلام، ووسائط نشـره، وأشار الی دراويش جمعية (انجمن إسلام- جمعية الإسلام)، وذكر التقدم الفكري والاجتماعي الذي حدث في هذه الجهات، وأن الإسلام عرقل سير هذه الميول. ثم لخص هذا المبشر تاريخ التبشير في الهند، فقال إنه ابتدأ منذ مائة سنة، عندما نال (جيروم كزافيه) اليسوعي إذناً بالتبشير في (لاهور)، ففتح باب الجدال في مسائل التوحيد، والتثليث، وألوهية المسيح، وصحة الكتب المقدسة، فتسبب عن ذلك قيام (أحمد بن زين العابدين) بتأليف كتاب (الأنوار الإلهية في دحض خطأ المسيحية)"[12].

  إلا أن هذا المبشر البروتستاني، الذي يتكلم في تاريخ التبشير في الهند، لم ترق له الأعمال التي قام بها المبشـرون الكاثوليك، وقال إن دفاعهم عن عقيدة عبادة العذراء، والآثار والصور، وعن الأماكن المقدسة، كان من شأنه إظهار النصرانية بغير مظهرها الحقيقي. ثم جاء المبشـر (هنري مارتين)، فوضع أساساً قوياً للتبشير بالإنجيل، وترجمه إلى الفارسية والأوردية.

  ثم يتطرق بعد ذلك إلى الحديث عن المنصـّر (فاندر): "جاء بعده (فاندر)، فترجم كتابه (ميزان الحق) من الفارسية إلى الأوردية؛ وزاد عليه ترجمة كتاب (طريق الحياة)، و(مفتاح الأسـرار)، وبهذا أثار (فاندر)، مجادلات شديدة مع علماء الإسلام، في مدن: (دهلي) و(اكرا) و(لكنو)، وزلزل بذلك إيمان كثير من المسلمين، وإن يكن الذين تنصـروا منهـم قليل عددهم. وأعان المبشـرين في هذه المجادلات، المسلمون المتنصـرون مثل السيد مولوي صفدر علي، ومولوي عماد الدين، وسيد عبد الله أثيم، ومنشـي محمد حنيف، والدكتور برخدار خان"[13].

  وبخصوص التنصير في شمال الهند، وعدد المنظمات العاملة هناك، ونتائج التنصير المترتبة على ذلك، أي عدد المسلمين الذين تركوا دينهم وتنصروا، يقول: "في شمال الهند الآن ما لا يقل عن ١٢ جمعية تبشيرية؛ بين إنكليزية وأمريكية وأسترالية، وكلها ترمي إلى غاية واحدة، واجتهدت هذه الجمعيات في تنصير المسلمين، منذ أن وطأت البلاد؛ ويتبين من تقارير هذه الإرساليات أن من المسلمين المتنصـرين من وصل إلى درجة المبشـر، وقد اختصت هذه الجمعيات المسلمين بكتب يطالعونها، وهي معروضة لهم في مكتبات التبشير. وقد اشتد انتباه المبشرين إلى مكافحة الإسلام في الأيام الأخيرة، فنمت فيهم فكرة الاختصاص بتبشير المسلمين، على أثر كتابات الدكتور (مردوتش)، وبادرت جمعيات متعددة إلى إرسال مبشرين اختصاصيين لهذا الغرض. أما عدد المسلمين المتنصـرين، فلا تمكن معرفته بالاعتماد على الإحصائيات، ولكنه تمّ العثور في تقارير سنة 1904م على أسماء إسلامية صار أصحابها قسيسين مبشـرين، وعددهم حوالي 194 اسماً. ويرى القارىء أسماء إسلامية في قوائم أعضاء اللجان الدينية في (بيشاور)، وغيرها. وقرأ المولوي عماد الدين[14] في (برلمان الأديان)[15]، في (شيكاغو)، الذي عقد سنة 1893م، أسماء خمسين من المسلمين المتنصرين، الذين امتازوا بإخلاصهم للتنصير[16].

  أما بشأن التنصير في مناطق أخرى من الهند، فقد علق عليه بقوله: "أما ثمرة التنصير في أواسط الهنـد، فهي أضعف بكثير من ثمرته في شمالي الهند، بالرغم من اجتهاد جمعية (تبشير الكنيسة)، التي كانت تعمل في مدن (مدراس) و(حيدر آباد)، وبالرغم من تفاني إرسالية (زنانة) التبشيرية التابعة للكنيسة الإنكليزية. وكل المتنصرين في أواسط الهند عدد قليل في جهتين أو ثلاث، وفوق ذلك فإنه يكثر في هذه الجهات انتقال النصارى إلى الإسلام لأسباب مالية، ومصالح شخصية، وجمعية (انجمن إسلام) تنجح دائماً بما لها من نشاط في حمل عدد كبير من الهندوس والمسيحيين على اعتناق الإسلام، ولم يفت مؤتمر المبشـرين الذي عقد في القاهرة سنة 1906م[17]، البحث في حركة الإصلاح التي دخلت بين مسلمي الهند، ولم تفته الإشارة إلى السير سيد أحمد خان[18]، زعيم تلك النهضة، وما تبذله جامعته الإسلامية في (عليكره)[19]، ومؤتمر التربية الإسلامية[20].

  وقد خطب القسيس (ويتبرتشّت)، في (مؤتمر القاهرة)، عام 1906م، بموضوع (الإسلام الجديد)، فذكر أن تعاليم أوروبا تقرب المسلمين من الاستجابة للمبشرين، ثم قال:

1-      يجب أن ننشئ جسراً فوق الهاوية التي تفصل بين العناصر، ولنتوصل إلى ذلك يجب أن ننتفع من وجود الطلبة المسلمين في إنكلترا.

2-      أن يدرس الإنجيل على حدة، أو على جماعات قليلة العدد.

3-      أن تلقى محاضرات ودروس منظمة، بمراقبة رجال ممتازين، وأن تصـرف العناية إلى المناقشات.

4-      توسيع نطاق المطبوعات بالأوردية، مثل مجلة (ترقي)، وأن يترجم تاريخ التوراة للدكتور (بلاكي)، وأن يتذرع لترويج ذلك بالنشر في الجرائد والكتب الإنكليزية التي يأنس بها المسلمون المتعلمون[21].

 

فاندر من وجهة نظر الأكاديميين الأوروبيين:

   تقول الدكتورة (كريستين)، أستاذ الدراسات الإسلامية في (جامعة لوفان) البروتستانتية، في (بلجيكا): "في القرن التاسع عشر أخذت دائرة النقاش بين المسلمين والمسيحيين مكاناً بعيداً عن المراكز التقليدية للتعليم الإسلامي. في (أكرا)، في عام ١٨٥٤م، وربما للمرة الأولى، استخدم علماء الدين الإسلامي البراهين ضد المبشـرين المسيحيين بطريقة أحرجت الأوربيين. حيث يصادف القرن التاسع عشر نقطة تحول عندما يتعلق الأمر بعلوم الدفاع عن المسيحية، وضع المسلمين طريقة جديدة تماماً لإثبات أن المسيحية هو الدين الباطل، بمساعدة مصادر أوروبية، أنشأها اللاهوتيين المسيحيون أساساً كتعليقات على الكتاب المقدس".

   ويهمنا هنا أن ننقل كلام المؤرخ البريطاني من أصل لبناني، البروفيسور (ألبرت حوراني) (1915 – 1993م) حول المناظرة الكبرى موضوع هذا المقال، عندما كتب: "كانت المناظرة حاسمة، حيث انسحب (فاندر) من الجلسة الثانية، وبدا واضحاً من خلال النتائج، أنه لم يعد هناك بد من الاستمرار؛ حيث تمكن (رحمت الله)، من خلال معارفه العلمية الألمانية بمناهج نقد الإنجيل، فقادته عن طريق زميله الطبيب الهندي المسلم، الذي يتقن الإنكليزية، والذي استخدمها بحرفية، ليتساءل عن سند ومصدر هذا الكتاب (= الكتاب المقدس).


[1]- زنانة: انت بعثات زينانا عبارة عن برامج توعية تم إنشاؤها في الهند البريطانية بهدف تحويل النساء إلى المسيحية. منذ منتصف القرن التاسع عشر، أرسلوا مبشرين إناث إلى منازل النساء الهنديات، بما في ذلك المناطق الخاصة بالمنازل - المعروفة باسم الزنانة - التي لا يُسمح للزوار الذكور برؤيتها. توسعت هذه الإرساليات تدريجياً من العمل الإنجيلي البحت إلى تقديم الخدمات الطبية والتعليمية. لا تزال المستشفيات والمدارس التي أنشأتها هذه البعثات نشطة، مما يجعل بعثات الزنانة جزءًا مهمًا من تاريخ المسيحية. وتم فصل النساء في الهند في هذا الوقت بموجب نظام البردا، حيث تم حصرهن في أماكن مخصصة للنساء تُعرف باسم الزنانة، والتي كان يُمنع دخول الرجال غير المرتبطين بها. تألفت بعثات الزنانة من مبشّرات يمكنهن زيارة النساء الهنديات في منازلهن بهدف تحويلهن إلى المسيحية. وقد افتتحت جمعية التبشير المعمدان إحدى بعثاتها في الهند في منتصف القرن 19. بناءً على اقتراح قدّمه توماس سميث في عام 1840م، وبدأت المهمّة في عام 1854م، تحت إشراف جون فورديس. تُعرف هانا كاثرين مولينز بأنها واحدة من أكثر عمال الزنانة كفاءة في الهند، وفازت بلقب "رسول الزنانات". وفي عام 1856م، أنشأت السيدة مولينز مدرسة صغيرة في بهاوانيبور تضم ثلاثة وعشرين طالبًا تتراوح أعمارهم بين ثمانية وعشرين عاماً. ثم تأسست مدرسة كلكتا للمعلمين في العام نفسه، لتدريب النساء الأصليات على عمل الزنانة. . https://stringfixer.com/ar/Zenana_missions

 

[2]- جامعة بازل: أسست عام ١٤٦٠م وتعد من أقدم الجامعات في سويسرا، وفي عام ١٨٩٧م ترأس هيرتزل اليهودي النمساوي أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل، وكان من أهم قراراته وضع برنامج الحركة الصهيونية للاستيلاء على فلسطين، ووضع أسس المنظمة الصهيونية العالمية. الموسوعة العربية العالمية السعودية.

 

[3]- المناظرة الكبرى بين العلامة الشيخ رحمة الله والدكتور القسيس فاندر، تحقيق وتعليق: محمد عبدالقادر خليل، (مكة: مطابع الصف، 1410هـ/1990م)، ص111.

[4]- عبدالرحمن محمد عوض الجزيري، أدلة اليقين (شبرا: مطبعة الإرشاد،1353هـ/1934م)، ص8.

[5]- جليات: المقصود به جالوت زعيم الكنعانيين الذي قتله نبي الله داود - عليه السلام - بسيف، فأصبح مضرباً للمثل كما ورد في القرآن الكريم – سورة البقرة.

[6]- عبد الرحمن الجزيري، مرجع سابق، ص9.

[7]- عبدالرحمن الجزيري، أدلة اليقين في الرد على مطاعن المستشرقين (باريس: دار أسمار،2007م)، ص8.

[8]- وليام سانت كلير تيسدال: ولد في انكلترا سنة 1859م، أصبح كاهنًا أنكليكانيًا ولغويًا ومؤرخًا، شغل منصب سكرتير البعثة التبشيرية لكنيسة إنكلترا في مدينة أصفهان في بلاد فارس (= ايران الحالية) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كان تيسدال يجيد العديد من لغات الشعوب الإسلامية، الفارسية والاوردية والعربية، وقضى الكثير من الوقت في البحث عن مصادر الإسلام والقرآن باللغات الأصلية. كما كتب قواعد النحو للفارسية والهندوستانية والبنجابية والغوجاراتية. وبصفته باحثًا مبكرًا في قواعد اللغة الغوجاراتية، حدد ثلاثة أنواع رئيسة من الغوجاراتية: اللهجة "الهندوسية" القياسية، واللهجة "الفارسية" واللهجة "المسلمة"، وقضى الكثير من الوقت في البحث عن مصادر الإسلام والقرآن باللغات الأصلية. ومن الواضح أن تسدال يصور على أنه تصادمي يديم الجدل المسيحي التقليدي المناهض للمسلمين. ويتهم تيسدال النبي محمد باختراع الوحي وفقًا لما يعتقد، وكان تيسدال واحدًا من ثلاثة عشر مؤلفًا تم تجميع مقالاتهم فيما سمي أصول القرآن: مقالات كلاسيكية في كتاب الإسلام المقدس عام 1998م، والكتاب من تحرير ابن الوراق، وهو شخص باكستاني تنصر وهاجم الاسلام بضراوة اعتماداً على كتابات المنصرين والمستشرقين. وقد انتقد أستاذ الدراسات الدينية (هربرت بيرج) إدراج عمل تيسدال على أنه "ليس مقالًا علميًا ". وخلص بيرج  أيضاً إلى أنه "يبدو أن المنصر ابن وراق قد أدرج بعض المقالات ليس على أساس قيمتها العلمية أو وضعها ككلاسيكيات، بل على أساس عدائها للإسلام. ولكن على القارئ أن يدرك أن هذه المجموعة لا تمثل بالكامل الدراسات الكلاسيكية حول القرآن ". توفي تيسدال عام 1928م. https://www.turess.com/alfajrnews/13384

[9]- خليل إبراهيم أحمد، المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي، (القاهرة: دار الوعي العربي، د، م)، ص85.

[10]- المناظرة الكبرى بين العلامة الشيخ رحمة الله والدكتور القسيس فاندر، ص؛ رحمت الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي، إظهار الحق، دراسة وتحقيق وتعليق: محمد أحمد محمد عبدالقادر خليل ملكاوي (الرياض: المؤسسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1410هـ - 1989م)، ج1، ص33 – 34.

[11]- أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، لخصه ونقله إلى اللغة العربية: مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب، جدة، منشورات العصر الحديث، ط2، 1387هـ، ص49 - 50، وص86.

[12]- أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، ص 84- 85.

[13]- المرجع نفسه، ص86.

[14]- عماد الدين محي الدين: لا تتوفر معلومات عن ولادته وبداية حياته، سوى أنه تنصر بفعل الإرساليات التنصيرية في ٢٩ أبريل/ نيسان عام ١٨٦٦م في مدينة امريتسار على يد القس روبرت كلارك من منظمة CMS ، ببساطة من أجل تحقيق الخلاص. وكتب عماد محي الدين قصة حياته في عام ١٨٦٦م. ترجمت هذه القصة إلى اللغة الإنكليزية من الأوردية، وحتى وفاة عماد الدين في أغسطس/ آب عام ١٩٠٠م. ينظر: منهج دراسة الأديان بين الشيخ رحمت الله الهندي والقس فاندر، ص62.

[15]- برلمان الأديان: افتتح برلمان الأديان في 11 سبتمبر/ أيلول عام 1893م في مبنى الكونغرس العالمي المساعد الذي أصبح الآن معهد شيكاغو للفنون، واستمر من 11 إلى 27 سبتمبر، مما يجعله أول تجمع منظم بين الأديان. وكان الإسلام وحده غائباً عن الاجتماع، وذلك لأنَّ السلطان في إسطنبول كان ينظر إلى هذا المشروع بعين الريبة والشكّ، ويعتقد أنَّ وراءه محاولة تبشير مسيحية، وقد منع الفقهاء والعلماء المسلمين الرسميين من المشاركة. ومع ذلك مثل الإسلام (محمد ألكسندر راسل ويب)، وهو أنكلو أمريكي اعتنق الإسلام والسفير الأمريكي السابق في الفلبين. وكان القس (هنري جيسوب) مخاطباً البرلمان العالمي للأديان أول من ناقش علنًا العقيدة البهائية في الولايات المتحدة (كانت معروفة سابقاً في أوروبا). ومنذ ذلك الحين أصبح البهائيون مشاركين نشطين. https://ar.qantara.de/content/brlmn-dyny-lmy-lshwwn-ldyn-wldny-mndh-m-1893- brlmn-dyn-llm-y-tywiby-llm-twahdw

[16]- أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، ص 87 – 88.

[17]- عقد هذا المؤتمر في  منزل أحمد عرابي باشا، وزير الحربية المصري الأسبق، الذي سبق وأن تصدى للبريطانيين عندما حاولوا احتلال مصر عام 1882م، وبزعامة المنصر الأمريكي المشهور صموئيل زويمر.

[18]- السير أحمد خان: ولد السيد أحمد خان بن محمد متقي خان في مدينة دلهي الهندية في (6 ذو الحجة 1232هـ=17 من أكتوبر 1817م)، ونشأ في أسرة شريفة الأصل، فأبوه ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأجداده عملوا في خدمة الدولة المغولية، وتولوا في كنفها مناصب مدنية وعسكرية. وبدأ السيد أحمد خان تعليمه بتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم درس اللغتين الفارسية والعربية، وتعلم الرياضيات ثم تزوج وهو في الثامنة عشرة من عمره. وفي سنة (1254هـ=1838م) توفي والده، فاضطر إلى العمل بعد أن زادت عليه أعباء الحياة، فالتحق بإحدى الوظائف الحكومية "نائب كاتب" في النيابة بمدينة (أكرا)، ثم مكنته ثقافته الواسعة من اجتياز اختبار للعمل في سلك المحاماة. وحين اشتعلت ثورة الهند التي قادها المجاهدون المسلمون كان السيد أحمد خان يعمل في بجنور، لكنه لم يشارك في أعمالها ضد الإنجليز، لأنه كان يرى أن المسلمين ليست لديهم القوة الكافية التي تمكنهم من مواجهة الإنجليز.. وهذا الرأي يعارضه فيه الكثيرون، فقيام الحركات التحررية لم يعتمد على اعتدال موازين القوى بينها وبين المحتلين، وإلا لما قامت حركة للمقاومة والتحرير. ولم يقتصر السيد أحمد خان على كف يده عن الاشتراك في الثورة، بل عمل على تهدئة الناس، وحماية المدنيين الإنجليز من بطش الثائرين. وبعد فشل هذه الثورة التي أراق المجاهدون فيها دماء غالية طلبا للحرية والشهادة، واستنقاذا للوطن السليب، صب المحتلون جام غضبهم على المسلمين، وحملوهم مسئولية اشتغال الثورة دون غيرهم، وجردوهم من أدنى حقوقهم الإنسانية. ولم يجد السيد أحمد خان بدا من مد جسور التفاهم والتعاون مع الإنجليز بعد أن تسارعت الطوائف المختلفة للهند في التقرب إلى الإنجليز الذين أحكموا قبضتهم على البلاد، وكان أحمد خان يهدف من سعيه إلى وقف الأضرار التي لحقت بالمسلمين من تعذيب وظلم، وإنهاء حالة العداوة بين الطرفين، وألف في هذا الشأن رسالة باللغة الأردية بعنوان "أسباب الثورة الهندية"، برأ فيها المسلمين من التهم التي نسبت إليهم. وفي الوقت نفسه سعى أحمد خان إلى تقديم تفسير جديد لنظرية الجهاد التي كانت تخشاها بريطانيا بعد أن زلزلت الأرض من تحت أقدامها بفعل حركات المجاهدين، وكان قد ساد في هذه الفترة أن الهند أصبحت دار حرب ووجب الجهاد المسلح على أبنائها المسلمين دفاعا عن دينهم. وقام تفسير أحمد خان للجهاد على أساس أن الجهاد غير مباح إلا في حالة القهر البالغ أو الحيلولة بين المسلمين وأداء شعائرهم الدينية، ولما كان ذلك غير متحقق لأن الإنجليز يكفلون الحرية الدينية، فإن ذلك لا يبرر الجهاد ضدهم.. وقد جرت هذه الفكرة اتهامات كثيرة وجهت إليه. وفي سنة (1286هـ/1869م) سافر السيد أحمد خان مع ابنه "محمود" إلى لندن لإلحاقه بالجامعة، وفي الوقت نفسه لجمع مادة علمية يستعين بها في الرد على كتاب السير وليم ميور "حياة محمد" الذي شحنه بالافتراءات والأكاذيب على نبي الإسلام. وطالت فترة إقامته في لندن إلى نحو عام ونصف قضاها في زيارة الجامعات والمدارس والمجالس العلمية والمتاحف، ومقابلة كثير من العلماء والمفكرين هناك، ومنهم توماس كارليل، وقد حدثه طويلا عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وربما كان لهذا الحديث أثره المحمود عند توماس، حين كتب فصلا بديعا عن نبي الإسلام في كتابه المعروف "الأبطال". عاد السيد أحمد خان إلى بلاده سنة (1287هـ/1870م) وهو عاقد العزم على إصلاح حال المسلمين والنهوض بهم والارتقاء بشأنهم. وضرورة الاستفادة من المدنية الحديثة والإقبال على علومها، وتحقيق مثل هذا الأمر يحتاج إلى صبر في إعداد الناس لتقبله والاستعداد للتغيير، وإزالة تحفظهم إزاء كل جديد؛ لذا أنشأ مجلة بعنوان "تهذيب الأخلاق" سنة (1287هـ/1870م) تكون منبرا لإذاعة أفكاره التعليمية والدينية ومحاربة الأمراض الاجتماعية التي انتشرت بين المسلمين. وعلى صفحات هذه المجلة نشر كثيرا من الموضوعات الدينية التي غلب عليها الجنوح والتطرف، وتطرق إلى تفسير القرآن، وذهب إلى أن النظر الصحيح فيه يوجب الاعتماد على روحه أكثر من الاعتماد على حرفيته، وادعى أن الوحي كان بالمعنى دون اللفظ، وأنكر نظام تعدد الزوجات والرق ووجود الجن وغيرها من الموضوعات التي كانت سببا في إثارة معارضة العلماء له، وحكموا بتكفيره، وتعرضت حياته للخطر، ونجا بأعجوبة من محاولة اغتيال له. وإن كان السيد أحمد خان قد تعرض لكثير من الهجوم على آرائه التي صدمت مشاعر المسلمين فإن ذلك لا يحرمه من فضل تحريك الحياة الراكدة، وإثارة الوعي والنهوض بالتعليم والمحافظة على الثقافة الإسلامية. وقد توفي في (25 من رجب 1306هـ/27 من مارس سنة 1889م) ودفن في ساحة مسجد جامعة عليكرة.ينظر: أحمد أمين، زعماء الاصلاح في العصر الحديث،(القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1978م)، ص..

[19]- عليكره: أول جامعة إسلامية تقع في أغرة، أتر برديش بالهند. أسّست عام 1875م على يد السيد أحمد خان. تشمل الدراسة فيها الآداب والعلوم والهندسة والطبّ. تضمّ كليات الطبّ، العلوم والصناعات، الهندسة والتكنولوجيا، وفيها كلية النساء. في مكتبتها 4500 مخطوط باللغات العربية والفارسية والأردية والبنغالية والإنكليزية، وقد تم فهرستها من قبل محمد ياسين مظهر صديقي (مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 1423هـ / 2002م)، وفيها  مقر المجمع العلمي العربي الهندي منذ تأسيسه 1976م. ينظر: الموسوعة العربية الميسرة، 1965م.

[20]- أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، ص 87 – 88.

[21]- عبدالرحمن حسن حبنكه الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها (دمشق: دار القلم، 1987م)، ص70، ويبدو أنه نقل النص كاملاً من كتاب الغارة على العالم الاسلامي للمبشر الفرنسي أ.ل. شاتليه، ص86 – 90 دون الاشارة إليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق