09‏/10‏/2013

قصة اندثار المدينة الفاضلة في ساحة رابعة العدوية التي دامت 40 يوما فقط

بقلم: هفـال برواري
في العدد الماضي تحدثت عن مجريات الحدث المصري وتداعيات الأحداث التي أدت إلى اقصاء الشرعية، واستبدالها بالانقلاب العسكري، وكيف اضطر الناس دفاعا عن حريتهم للاحتشاد والاعتصام في ميدان رابعة العدوية، وفي هذا العدد أحدثكم عن إدارة هذه المدينة الفاضلة، وكيف تم اقصاؤها ذبحا من الوريد إلى الوريد.
في رابعة وعلى منصتها الشامخة تم إدارة الاعتصام من قبل خير أجناد الأرض من الإخوان المسلمين، والدعاة الأوفياء، وعلماء الأزهر المخلصين، والإعلاميين المهرة؛ حتى فيهم من الأقباط الذين حملوا لواء الحرية بيقين، ورأوا أن شرف العزة والكرامة لا ينال بالتخوين ونفاق المنافقين! وهناك على المنصة جعلوا الأرض ترتجف على الانقلابيين وتهز بقوة إرادتهم كراسيهم ومصالح المستثمرين في مصر ومن يحيط مصالحهم بعدم إطلاق إرادة المصريين.
بل جعلوا العالم الاسلامي والغربي ينظر إليهم بنظرة التقدير والشموخ الإنساني في أرقى مناقبه، وجعلوا من شهر رمضان مهرجانا يتطلع إليه كل حر أبي، وأذكر كمتابع أن أغلب الناس كانوا قد تركوا مشاهدة المسلسلات الرمضانية والمحاضرات الدينية وكان جل اهتمامهم هو ما يدور في رابعة العدوية.
وهناك بعد متابعتي لهذا الاعتصام العظيم وتأملاتي لهذا المهرجان الشامخ تيقنت أن هذا الشارع ليس باعتصام فحسب؛ بل هو دولة بحد ذاتها بكل المقاييس، بل هو أرقى دولة، وذكرني بحلم أفلاطون في مدينته الفاضلة، وتذكرت تأسيس الرسول (صلى الله عليه وسلم) لمدينته المنورة.
لا تتعجبوا من كلامي فلست أبالغ فيه بل هي الحقيقة بعينها؛ وأوجزها بالتالي: 
1- تصورورا أن هذه الدولة التي أقيمت في مدينة رابعة العدوية كانت محصنة من كل الجهات؛ فمن يدخلها لا يسمح له بحمل أو ادخال السلاح؛ فكانوا يفتشون كل من يدخلها ...؟ انظروا إلى هذا التنظيم المتعال، حتى لا يدخلها مندس ولا من يريد أن يزعزع من في الميدان، فتم بذلك إفشال كل مخططات الأمن المتربص بخرق هذه المدينة الفاضلة.
2-من يدخلها هم من فضلاء الذين لم يثنهم عن الحضور لهذه المدينة القتل أو التنكيل أو تشويش الإعلام أو بلطجة الأمن والعسكر الذين يلقون عليهم رسائل التحذير والتخويف كالأمطار من طائراتهم المعدة لدحر الأعداء!.
3- أما داخل المدينة فقد شاهدنا العجب؛ ففي هذا الشهر رأينا كيف تتلاحم الجماهير فيما بينها، وكيف أنهم سطروا أروع نماذج الإيثار فقد كانوا يضعون لقمة الإفطار في فم أخوتهم قبل الإقدام على الإفطار، وكم شاهدناهم في هذا الحر والعطش الشديد يوزعون الماء على الأهالي قبل أن تبتل عروقهم ويرووا ظمأهم بعد يوم كامل من مشاق الاعتصام والهتافات! بل رأينا من كان في الرمق الأخير وهو يأن من جراحاته التي نالته على أيدي البلطجية يموت عطشا ويقول بكل يقين : أريد أن القى ربي وأنا صائم !.
4-ورأينا كيف سطروا أيضا أروع نماذج الأخوة، فقد كانت نفحات الأخوة تملأ الميدان؛ فالكل سواسية والكل يتآخون رغم الزحام، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في هذا الميدان؛ وهناك تجلت الأخوة في أروع مناقبها وهو ما لم نره حتى في بيت الله الحرام عند الحج.
5- رأينا كيف كان الشباب يبكرون في الفجر على أنغام تلاوة القرآن، وفي الشروق على الرياضة الجماعية، وفي الليل على أنغام هتافات آلترس الفرق الرياضية ليلهبوا حماس الجماهير بدلا من الفرق الرياضية التقليدية؟.
6- ورأينا في هذا الميدان كيف تقام الألعاب الشعبية و مبارايات كرة القدم وأنواع الفنون المسرحية التي تحكي قصصهم اليومية بدراما وتراجيديا المسرح.
7- شاهدنا حتى خدمات للأطفال كمدينة للألعاب والسباحة لكي ينفسوا عنهم مشاق المظاهرات! وكأننا في بلد العجائب ولسنا في شارع.
8- ورأينا الأعراس وعقد القران بين أصدقاء الميادين والاعتصامات، فقد جعلوا من المظاهرات أعراسا للشباب والشابات على سنة الله ورسوله المصطفى القائل (ما رأيت للمتحابين مثل النكاح)، وكيف لا يتحاب من حملوا أفكار الثورة وتكاتفوا على العيش بحرية!.
9- ورأينا من يقوم بكنس الشوارع وتنظيفها وقد يكون خريجا جامعيا؛ والأعجب رأينا من يقوم فقط بحمل رشاشة ماء ليرش الماء على المتظاهرين لترطيب الجو في ساعات الحر ليتحمل الجماهير التظاهر في ساعات الصيف وهم صائمون.
10-شاهدنا الأطباء والمتخصصين في أرقى تخصصات الطب يتواجدون في الميدان بل يقومون بفتح عدة مستشفيات ويعملون بالمجان ليل نهار لينعموا بحلمهم الذي عشقوه منذ نعومة الأظفار.
11-رأينا المهندسين وهم يصممون لهذه المدينة مخارجها ومداخلها، وكيف يتم ادخال المؤن الغذائية والادوية واخراج الفضلات؛ ويصمموا منصاتها التي كانت مكونة من عدة طبقات تتم فيها ادراة المظاهرات.
12- ورأينا الأُدباء والصحفيين والشعراء والمنضمات الشبابية الذين يتكلمون بكل لغات العالم ليصلوا باصواتهم ومعاناتهم الى كل البلدان.
13- ورأينا الاعلاميين ومهاراتهم في رصد الاوضاع وانتهاك الحقوق والقوانين من قبل الانقلابيين وفلول النظام؛ وما يقومون به من جهد في فتح القنوات الفضائية وتشكيل الاعلام البديل وتحرير الجرائد من داخل الميدان وتفنيد كل أكاذيب الاعلام المضاد وتبيان الحقيقة للناس من داخل مدينتهم الفاضلة.
كل هذا الذي ذكرته ألا يرتقي الى أن تكون هذه هي المدينة الفاضلة التي كانت تسكن حلم كل مفكر وفيلسوف وكل من يعشق التحرر من قيود الطغاة؟ ويبدوا ان الطغاة أدركوا هذا جيدا فتحالفوا على أن يهدموا هذه المدينة الفاضلة وأن يغرقوها بالدماء، وأن يحرقوها حتى تختفي من الانظار، وأن يحيطوها بوابل من الاكاذيب والاشاعات، وان يكذبوا ويكذبوا ويكذبوا حتى يصدقهم الناس! وان يتحملوا عبئا من الخطيئة الكبرى مقابل حفنة من الدولارات، ومقابل أن لا تعمم هذه الظاهرة التي أرعبت الغرب قبل الشرق، فقد التمسوا أن شعوب الشرق بدأ يسري في عروقها شعور الرغبة بحياة الشرف والكرامة والعزة والشهامة، وأن الموت بعزة أهون لها من حياة الرذيلة، فكان ما كان في يوم في 14 اغسطس 2013 حين دقت ساعة الصفر للحملة العسكرية الأمنية والمعدة من قبل المخابرات العسكرية في الداخل والخارج لفض الاعتصام بالقوة والانقضاض على هذه المدينة الفاضلة كي لا تكون سنة جارية للشعب المصري وشعوب الشرق، وأنه إنذار لكل من يفكر أن يتحرر من قيوده فسيكون هذا هو المصيره المحتوم!.
كانت الخطة ان تستخدم الجرافات؛ ومن ثم دخول قوات الامن وقتل من يواجهونهم بالرصاص الحي مستخدمين ايضا القنابل المسيلة للدموع ولكن بكثافة؛ كي يحصل اختناق بسبب الحشود الكبيرة! واستخدموا الطائرات لانزال القناصين لاحتلال الابنية ومن هناك تم قنص الناس وتم ضرب المخيمات بالمحروقات النارية ليتم حرقهم وهم احياء!!! وحدثت الكارثة التي لم تكن بالحسبان فقد طوقوا المستشفيات وهناك قاموا باخلائها من الاطباء والانقضاض على الجرحى وحرقهم مع الموتى بالاكفان في محرقة لم تصل اليها محرقة الهولوكوست الموثقة عن اليهود! وقاموا بقنص كل من يحمل كاميرا لكي تتم العملية بأقل صورة ومقاطع فيديو تفضحهم، وقد شاهدنا كيف يقومون بقنص القتيات والشباب الذين يحملون الكاميرات! ولم يراعوا العوائل والشخصيات التي حضروا هذا الميدان وكأنهم جيوش هولاكو والمغول الذين أكثروا في الارض الفساد واصبحت مجازر الاسرئيليين امام هذه المجزرة لعبة عيال!.
وكأن هذا الجيش وقوات الامن قد تم إعدادها في ثكنات ألد أعداء البلد، ولا أتصور أن عداء المتطرفين اليهود سيصلون الى ما وصلوا اليه من وحشية في التعامل مع أرقى وأنقى مظاهرة في التاريخ، والتي قالوا فيها: (إن ســــلميتنا هي أقوى من الرصاص). 
والانكى من ذلك انهم قاموا بحرق الجثث، وقد شاهدناها ايضا في المقاطع المسربة حتى يقال ان لايزال هناك 1400 مفقود في هذه المجزرة التي وصل حصيلة من قتل فيها ما يقارب من الـ 5000!!! في أقل من 7 ساعات.
وهكذا اندثرت هذه المدينة الفاضلة بعد قتل خيرة أهلها الذين اجتمعوا على الدفاع عن حريتهم وكرامتهم وشرعيتهم المسلوبة، وقدم القياديون ارواحهم، وقدم آخرون فلذات اكبادهم، وزجوا هم في غياهب السجون! وانتهى الحلم الذي كان يراودنا أننا امام عصر الحريات والديموقراطيات! واستهزأ الغرب منا قائلا:
"لا تنخدعوا بالانتخابات، لقد جعلنا منكم ومن قبلتكم معولا لنكسر انوفكم، أما نحن فسنجني الخيرات من بلدانكم مقابل بقاء مرتزقة يحكمونكم الى الابد"! فهل ستعود رابعة العدوية سيرتها الاولى بأن تترك الدنيا لتعبد الله وتتصوف في محرابها تاركة الدنيا وراءها؟ أم أنها ستجعل من شوارعها رمزا لإحياء من يتوق الى الحـــــــــــريــــــــــــــة، وأن العشـق الالهي يكمن في أن تكون الشعوب عبيدا لله لا للطغاة؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق