09‏/10‏/2013

دولة القانون: أسبقية النضال وخيارات الاستمرار الصعبة

بقلم: د. على عبد داود الزكي
بعد سقوط الصنم عام 2003 تحركت معارضة الداخل بسرعة لتملأ الفراغ السلطوي الكبير وتسيطر على الشارع؛ بنفس الوقت عملت على منع اي تمدد لأحزاب المعارضة التي جاءت من الخارج وقطع الطريق امامها من الدخول للشارع العراقي كوحدات تنظيمية فعالة وقوية، بينما المجتمع العراقي في بدايات الاحتلال كان متشوقا جدا لرجوع أحزاب المعارضة العراقية العريقة المقيمة في المنافي، فغالبية العراقيين يتعاطفون معها.
سيطرت معارضة الداخل وتنظمت بسرعة كبيرة جدا وبشكل مذهل أمام أعين المحتل المتخبط، وكلما حاولت القوى الشيعية الوافدة من الخارج أن تمد نفوذها قطع عليها الطريق؛ وكانت أمريكا ترغب بذلك لان هذا يجعل من الاحزاب الشيعية والقوى التي كانت في المنفى والمعادية ايديولوجيا لأمريكا ضعيفة وتدريجيا ستسقط بنظر المواطن العراقي.
الانتخابات الاولى والثانية والثالثة أوصلت للسلطة الأحزاب الشيعية التي كانت تقيم في الخارج منذ عقود، وكان رصيدها الوحيد هو هيبة قدسية نضالها وجهادها ضد الطاغية المقبور لعدة عقود من الزمان، حيث انها تمتلك تاريخاً لا يمكن ان يمحى، لكن واقع الحال فرض رؤى جديدة فيما بعد.
الكتل السياسية الشيعية التابعة لتنظيمات عراقيي الداخل وحدها من تمتلك سيطرة وقوة ونفوذا سلطوياً على الشارع الشيعي، والديمقراطية في عهدها الجديد منحت الانسان العراقي شيئا من الحرية بحيث اصبح بإمكانه ان يتكلم بحرية وينتقد اي زعيم ويهاجم اي مجموعة او حزب او كتلة او حركة سياسية دون تحفظ؛ لكن يوجد خط احمر وحيد يخشاه الانسان العراقي وهو سلطة الشارع والعاطفة غير الناضجة؛ الى جانب الإرهاب، لذا اصبح الانسان حذرا من بعض القوى السياسية ومتحفظا ويخشى سطوتها! اي ان المواطن اصبح يخشى سلطة الشارع ويخشى التعرض لأي مشكلة ولا يوجد من يحميه لا حكومة ولا سلطة! لا بل ان الحكومة عاجزة عن فرض هيبة سلطتها وفرض العدالة الاجتماعية بين الناس! كما ان القرار الحكومي والتشريعات والقوانين أصبحت لا قيمة لها امام سلطة الشارع التي لا تحترم الدولة؛ وغالبا ما تفرض رؤيتها ليصبح القانون الحكومي غير محترم ولا قيمة له.
قوى الداخل الشيعية عملت بذكاء شديد على اجتثاث بعض السوء والقصاص من بعض رجالات الماضي بشكل مرعب احيانا، مما جلعهم يمثلون السلطة الاولى في الحساب والمحاسبة من وجهة نظر المواطن العادي في الشارع العراقي، وكان المحتل والحكومة عاجزين وغير قادرين على القصاص لصالح العدالة، ولا تزال الحكومة لحد الآن وبعد خروج المحتل عاجزة عن محاسبة رجالات السوء من ازلام النظام البائد، إذ لا توجد رغبة حقيقية للقصاص من سوء الماضي، كما ان المحتل والحكومات العراقية بعد السقوط لم تستطع ان تحاسب او تحد من عمليات القصاص تلك؛ حتى ان بعض عمليات القصاص لم تلحق برموز الماضي فقط وانما بكل من يعارض توجهات مؤسسة سلطة الشارع الجديدة!!! وهنا نشأ خوف مجتمعي من سلطة الشارع واصبحت سلطة الشارع محترمة اكثر من أي قوة اخرى، سواء حكومية او غير حكومية، لان الحكومة لا تستطيع ان تحمي احدا، ولا تستطيع ان تمنح قوة متواصلة لحماية اي انسان ضمن اطار المجتمع ككل، كما ان القوى الشيعية المحلية التي نشأت وتنظمت بسرعة امتد نفوذها عبر التثقيف في الجوامع والمدارس التي اصبحت تحت سيطرتها، واصبحت خاضعة لها ولا يستطيع اي مسؤول ان يفرض وجهة نظر الحكومة او القانون خارج اطار رؤيتها، واصبحت الاحزاب الشيعية التي كانت في المنفى عاجزة وكلامها اشبه بالخيال، واحيانا كلامها كذب وتلفيق!.
الاحزاب التي وصلت لسدة الحكم بعد السقوط بدأت تدريجيا تفقد اتصالها بالشارع الذي ولد بعد السقوط؛ واصبحت احزاب سلطة فقط، واصبح رجال السلطة لا يثقون ولا يعتمدون على عراقيي الداخل، لذلك اغلب المناصب العليا والسفارات كانت من حصة عراقيي الخارج، اضافة الى انهم وقعوا في فخ كبير وهو اعتمادهم في الادارة على الحاشيات الانتهازية السيئة التي التفت حولهم، والتي يرون من خلالها المجتمع؛ لانهم لا يمتلكون اي امتداد حقيقي مع الشارع العراقي، لذا فان اي تزكية لاي منصب تكون عبر هذه الحاشيات! هذه الحاشيات في الغالب سيئة واصبحت عبارة عن مافيات سوء تسيء الى رجال النضال الحاكمين والعاجزين عن رؤية الحقائق بشكل مباشر، وعاجزين عن الوصول الى نبض الشارع.
اليوم وبعد 10 سنوات نلاحظ بانه لا يوجد قيادات عليا او قيادات صاعدة من عراقيي الداخل لجميع الاحزاب العريقة التي كانت في المنفى، بينما القوى الشيعية المحلية خلقت لها كيانها المحلي الذي ينمو ويتعاظم على حساب فقدان الكتل الاخرى رصيدها الشعبي.
التيار الصدري مثلا لم ينشأ في عام 2003 وانما نشأ كفكر في التسعينيات؛ ولكنه تنظم بسرعة مهولة بعد السقوط، وكان هناك فكر وقدسية انتماء تجمع من ينتمون لهذا التيار، عكس الاحزاب الشيعية الاخرى التي لم يكن يجمعها سوى فكرة الوصول للسلطة والحكم بمثالية بعيدا عن الواقع، هذا التيار توسع وانتشر بسرعة كبيرة لانه يمتلك عقيدة تجديد فكرية عظيمة، اعتمد بقوة على الشباب والفتيان وبشكل كبير الامر الذي ادى تعاظم نفوذه مع مرور الايام والسنين ليصبح في موقع الصدارة، فللتيار الصدري منهاج تربوي استراتيجي يقوم على تربية الفتيان والسيطرة عليهم لغرض خلق جيل شبابي لاحق يتولى تنفيذ الاوامر وبصرامة وحزم شديدين كجيل ثوري، صحيح انه لم يكن الفائز الأكبر في كل الانتخابات السابقة لكنه يمتلك النفوذ الاكبر؛ ومن يعارض هذا التيار سيعاني من مشاكل كبيرة تعجز عن حمايته كتلته او حكومته، حتى مسألة تغيير العلم العراقي الحالي وهو العلم الذي جاء به القوميون والبعثيون لم تستطيع الكتل تغييره، لان التيار الصدري غير راغب بتغييره الآن! لذلك غالبية رجال السلطة والحكومة حينما يتحدثون عن التيار الصدري يتحدثون عنه باسلوب الخائف المادح المداهن؛ او اسلوب الذي لا يريد ان يتقاطع مع توجهات هذا التيار، ولا يستطيعون ان يوجهوا انتقاداتهم مثلما يقوموا بتوجيهها الى اي خصم خارجي او داخلي من الشيعة او السنة!.
التيار الصدري عمل منذ 10 سنوات للمستقبل وها هو يقطف بعض ثمار ما خطط له، يستغرب البعض لما يرى ويسمع لكن الايام أثبتت شيئا، وهو ان التيار الصدري نجح وكل يوم تثبت الايام انه يمتلك فكرا مخابراتيا عظيما ورؤية استراتيجية عظيمة؛ حيث تم التخطيط لكي يكون التيار في كل يوم اقوى من الذي قبله، ويتم تقليم أظافر القوى الشيعية الاخرى التي تمتلك السلطة، والتي اصبحت رغم شعبيتها الكبيرة لكنها بعيدة عن الإنسان ولا تمتلك اي سلطة في الشارع.

دولة القانون امام التحدي
دولة القانون لكي لا تنهار وتصبح جزءا من الماضي عليها اليوم عدم اخذ الامور بسطحية؛ وعليها ان تعمل برؤية استشراف مستقبلية من خلال الانفتاح على عراقيي الداخل، ويجب ان يكون لها قيادات مؤثرة جديدة منهم، مع ضرورة توفر قدسية انتماء لكل من يعاضد وينتمي لها، يجب ان يكون من يناصر هذه الكتلة له قوة وسند من الكتلة، ويجب ان تعمل دولة القانون على نشر نفوذها، وتخلق لنفسها حركة شبابية قوية تمتلك القدرة على حماية نفسها وحماية اعضائها؛ وقادرة على ان تكون سلطة شارع مهابة ولا تخجل ولا تتراجع بل تحقق ما تريده بقوة نفوذها وتنظيمها، ولابد ان يسبق هذا التنظيم الشبابي تنظيم فكري وعقائدي، وهذا يحتاج لفترة لا تقل عن 5 الى 8 سنوات لكي تستطيع ان تكون هكذا نفوذ، وأهم شيء ان يكون لهذه الحركات الشبابية عصبية انتماء مقدسة ورموز مقدسة بحيث يكون كل فردا منهم مستعدا للموت من اجل ان يحافظ على قدسية ما يؤمن به، وليس المشكلة ان يخسر اليوم الانتخابات او يضعف نفوذه؛ ولكن اهم شي هو ان يكون فعالا ومبادرا وقادرا على دحر السوء والضرب بيد من حديد على يد كل من يحاول ان يكسر القانون ويتجاوز على الرموز المقدسة والوطنية.

الإضعاف الممنهح لهيبة الدولة
هناك الكثير من الذين تجرأوا وسكنوا في مباني الدولة او استولوا على اراضي وقامو بالبناء فيها ولم يهتموا بهندسة المدينة ولم يهتموا لما قد يسبب ذلك من اضرار على البيئة وعلى التخطيط العمراني للمدينة، وهذه فئة اتسعت بقوة بعد سقوط صنم بغداد مباشرة! دفعت بعضهم الحاجة الشديدة، ودفع بعضهم الجشع وحب الاستحواذ على اقصى ما يمكن وانتهاز فرصة ضعف الدولة وغياب القانون وحزم السلطة.. وهناك عاملان مهمان يمكن الاشارة لهما هنا وهو ان هؤلاء يمثلون فئة ليست بالقليلة ويمتلكون الجرأة الكبيرة، لذا تم استغلالهم من قبل بعض الكتل الحزبية لغرض كسر القانون وعدم احترام قرارات الدولة، وانتهز بعض هؤلاء الفقراء الفرصة وبدأوا يرفعون رايات وشعارت للكتل السياسية القوية، وهذا يعتبر وحده تهديدا لمؤسسات الدولة الضعيفة التي لا تقوى على مواجهة الناس، خصوصا المسلحين الذين يرفعون شعارات سياسية وحزبية ما، لذلك هنا وهناك توجد اماكن وبنايات كان ممكن استغلالها من قبل الحكومة لتوفير مستلزمات وخدمات افضل للناس؛ لكن ضعف الاجهزة الحكومية ودعم بعض الجهات الحزبية التي تريد بقاء الحكومة ضعيفة جعل العشوائيات مناطق خطرة ويصعب على اجهزة الدولة التعامل معها بسهولة، المناطق الفقيرة عادة ما تكون هي أول معارضٍ لسلطة الحكومة لأنها اساسا تخرق قانون الدولة؛ لذا يجب الاهتمام ومعالجة مشاكل هذه الفئة المجتمعية بحكمة وتوفير مستلزمات معيشية مناسبة لها؛ وسكن مناسب لكي تستطيع الحكومة ان تتحرك بحرية وتفرض القانون بحزم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق