09‏/01‏/2020

مذهب اللذة والمنفعة في العصر الحديث


د. أكرم فتاح
  تحدثنا في المقالة السالفة عن هذا المذهب في العصـر القديم، وذكرنا أهم الشخصيات البارزة قديماً وحديثاً، لذا ينبغي أن نتحدث عن هذا المذهب في العصـر الحديث، وما فيه من مآخذ وملاحظات جديدة اختلفت عن ماضيها في العصـر القديم.
    جَسَّدَ مذهب‏‏ اللذة‏ موقفاً أخلاقياً متهافتاً منذ نشأته؛‏ عكَسَ حالة من التدهور العام والتراجع في النظريات الأخلاقية اليونانية بعد سقراط وأفلاطون وأرسطو‏،‏ نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية المضطربة في العصر الهيلينستي‏.‏ فقد كان من آثار النزعة السياسية والاقتصادية الاستعمارية الدولية
الجديدة، تغيير البنية التقليدية للمجتمع، وحدث استبعاد للناس العاديين من المشاركة في تقرير قضايا حياتهم اليومية الكبرى، ونشأت البيروقراطية نتيجة السلطة الاستعمارية التي كانت تدير كل الشؤون، ومن ضمنها الشؤون العقلية أيضاً.. وقد تأثر مذهب اللذة بالظروف التاريخية التي نشأ فيها؛ ففلسفات الأخلاق اليونانية بعامة هي نتاج مجتمع عبودي، قائم على التمييز بين الطبقات، واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، فضلاً عن كونه مجتمعاً عنصـرياً، ينظر باحتقار إلى الشعوب غير اليونانية باعتبارها شعوباً بربرية(1).
نظرية المنفعة تنطلق من أساس حسيٍّ، وهو أن الغاية من أفعال الأحياء هي تحصيل اللذة واجتناب الألم. ويشرح (جون ستيوارت مِلْ) مرتَكز مبدأ المنفعة: "نظرية الحياة التي ترتكز عليها هذه النظرية الأخلاقية، هي أن اللذة والتحرر من الألم هما الشيئان الوحيدان المرغوبان كغايات، وأن كل الأشياء المرغوب فيها، هي مرغوب فيها إما بسبب اللذة الكامنة فيها، أو كوسيلة لزيادة اللذة وتجنب الألم". وهذا الأساس قد قرر علماء المسلمين ثبوته، وفي ذلك يقول (فخر الدين الرَّازي): "لا شك أن ها هنا شيئًا يميل الطبع إليه، وتحكم أصل الفطرة بالرغبة في تحصيله، وأن ها هنا شيئا آخر يحكم صريح الفطرة بالنفرة عنه والهرب منه. إذا عرفت هذا فنقول لا يجوز أن يقال إن كل شيء يراد تحصيله، فإنما يراد تحصيله لأجل شيء آخر، وكل شيء أريدَ دَفعه فإنما أريد دفعه لأجل أن يُتوسَّل بدفعه إلى دفع شيء آخر، وإلا لزِمَ إما الدَّور وإما التَّسلسل، بل لا بد من الاعتراف بوجود أشياء تكون مطلوبةً لذواتها وأعيانها. ثم إذا تأملنا ورجعنا إلى أنفسنا علمنا أن الشيء الذي يكون مطلوب الحصول لذاته أحد أمرين، إمّا اللذة وإمّا السـرور، وأن الشـيء الذي يكون مكروه الحصول لذاته إمّا الألم وإمّا الغمّ. وأمّا كل ما يفضـي حصوله إلى حصول اللذة والسرور، فإنه يكون مطلوب الحصول لغيره"(2). ويقول ابن قيم الجوزية: "اللذة مقصود كلِّ حي، وذلك أمر ضروريٌّ من وجوده، وذلك في المقاصد والغايات بمنزلة الحسّ والعلوم البديهية في المبادىء والمقدمات، فإنَّ كُلَّ حيٍّ له علمٌ وإحساس، وله عمل وإرادة، وعلمُ الإنسان لا يجُوز أن يَّكون كلُّه نظريًّا استدلاليًّا، لاستحالة الدور والتسلسل، بل لا بد له من علم أولّه بديهي يبدَهُ النَّفسَ ويبتدىء فيها، فلذلك يسمى بديهيًّا وأوليًّا، وهو من نوع ما تضطر إليه النفس، ويسمّى ضروريًّا، فإن النفس تضطر إلى العلم تارة، وإلى العمل أخرى"(3).
     في العصر الحديث (جيرمي بانثام 1748 - 1823م)، هو أول فيلسوف أبرز مذهب اللذة في القرن التاسع الميلادي. في فلسفة (بانثام) الأخلاقية تبرز لنا النزعة التجريبية في صورتها المثالية، فهو أول من حوَّل علم الأخلاق إلى علم الحساب، نتيجة تأثره بـ(نيوتن) في العلوم الطبيعية، فدرس الأخلاق كما تدرس العلوم الطبيعية، وهاجم معيارية الأخلاق التقليدية. وحاول وضع علم رياضي لقياس اللذات، ووزن الآلام، معايير القياس عنده تستند إلى قياس الشدة أو الزخم، قياس الدوام، قياس التأكد أو عدمه، قياس القرب والبعد، الخصب، الصفاء أو النقاوة، الامتداد والانتشار. وغاية هذه المعايير هو التوصل إلى إدخال معطيات العمل الأخلاقي في حاسوب، فيعطينا الجواب قبل أن نُقدم على أيّ تصرّف إن كان الفعل أخلاقياً أم لا. إن معيارية الأخلاق في فلسفة بانثام لا ترتكز إلا على الحساب، إن فاقت قيمة اللذة أو المنفعة قيمة الألم فالعمل أخلاقي، وإن رجحت كفّة الألم، فهو فعل غير أخلاقي، لا يجب الإقدام عليه.
ثم تجدّد بعد ذلك المذهب على يد (توماس هوبز)، الفيلسوف الإنجليزي، وهو أول الماديين المحدثين (1588 - 1679م)، الذي يَعتبِرُ الإنسان أنانيّاً بطبعه. فعرَّف الخير على أنه كل ما يريده الإنسان ويرغب فيه، وأن الشر كل ما يضرّه ويؤذيه. و(جون لوك) الذي يرى اختيار الإنسان لرغبة ما أو رفضها يسير تبعًا لما تبثه الرغبات من لذة أو ألم، ومن ثم كانت اللذة والألم الدافع والمحرك الأساسي عنده للسلوك الإنساني، وإن كان ما يحسب لـ (جون لوك) اعتباره الأخلاق قانون الله وليس من وضع البشـر، بالرغم من إنكاره المبادئ الفطرية. إذ يؤكّد (لوك) على أن العقل عند ولادة الطفل يكون كالصفحة البيضاء، ثم كل ما سيأتي يُدْرَك بالتجربة وحدها، بما في ذلك الأخلاق. ثم تبعه (دافيد هيوم) في زعمه أن اللذة والألم هما الدافع الأساسي لسلوك الإنسان، وبهما نميّز بين الخير والشر.
وفي عام 1821م استدعيَ (بانثام) إلى (البرتغال)، من قبل البرلمان، ليضع لهم دستوراً شاملاً. وقد كان لتلامذة (بانثام) الدور الأكبر في نشر المذهب اللَّذِّي أو النفعي، وأشهرهم السويسري (لويس ديمونت)، الذي استُدْعِيَ إلى (روسيا) ليضع لها دستوراً يقوم على مبادئ (بانثام) النفعية. ثم في عام 1817م وضع (ديمونت) دستوراً لبلده. ومنذُ ذلك الوقت انتشرت النفعية في العالم بشكل كبير، واقترنت بالديمقراطية والحركات السياسية اللبرالية، ومثّلت حلقة الوصل بين اللبرالية التجارية والسياسية وبعض التيارات الاشتراكية.
 منظومة الأخلاق في اللبرالية ليست ثمرة من ثمرات عصر التنوير أو الحداثة الغربية، كما شاع، بقدر ما هي ارتداد إلى ماضٍ سحيق، ونبش في فلسفات ما قبل الميلاد. وبرهن (برغسون) في كتابه (مقالة حول المعطيات المباشرة للوعي)؛ بأن اللذة أو الألم لا يمكن أن يقاسا؛ لأنهما ينتميان إلى العالم الداخلي للفرد، العالم الذي لا يخضع إلى أيّ حساب. وناقش في كتابه النظريات التي يطرحها علم النفس الفيزيائي، والذي استقى منه (بانثام) نظريته الكمية.
 إن تحويل الكيفيات إلى كميات ممكن فقط في الظواهر الطبيعية، أما في مجال المشاعر والوجدانيات، فهذا يستحيل ضبطه، وهي الفكرة التي يؤكدها علم النفس الحديث علم النفس المعرفي. كما أن مفهوم التضحية في الأخلاق يرفضه (بانثام)، لأنها مناقضة تماماً لمفهومي المنفعة واللذة.
يقول جورج زيناتي: "التضحية تُعطي العمل الإنساني عظمة لا تُقدّر بحساب، وتُضفي على التجربة الإنسانية بعداً لا يستطيع العقل أن يجاريه لعظمته، إن كان الهدف الأسمى من كل عمل هو السعادة بما معناه اللذة، فهذا يعني أن هذا الهدف غير قابل للتحقق واقعاً، لأن اللذة لا يمكن إشباعها إطلاقاً، فهي طلبات متكررة، فكل لذة تموت حالما تتحقق، فكيف نجعل منها أساس السعادة". وتظهر المغالطة التي تعتبر اللذة هي السعادة، يقول زيناتي أيضاً: "إن كلمة سعادة كلمة تجذب الناس بسهولة، ولها وقع حسن في النفوس، وقد استتر (بانثام) و(ميل) وراءها لإخفاء الكثير من القصور، وللخلط بين مفاهيم اللذة والسعادة والمنفعة. إذ يمكننا أن نقول بأنه من السهل جداً أن نتصور إنساناً يتصرف من أجل منفعته، دون أن ينتج عن هذا التصرّف أية لذة ضرورة. إذن من العبث الخلط بينهما، كذلك من الخطأ الخلط بين اللذة والسعادة، فاللذة هي اللحظة التي ما إن يعيها الوعي حتى تتلاشى. في حين إن السعادة رغم أنها تقيم بعض العلاقات مع اللذة، إلا أنها تطمح لأن تملأ الحياة بأكملها، وحدودها لا متناهية. وتصديقاً لذلك، فإن الآلام غالباً ما تكون سبلاً في تحقيق النفع، كتناول الدواء المر، أو العلاج الطبي عموماً. ومن الآلام أيضاً ما يجلب سعادة، كآلام الولادة، وما يصاحبها من سعادة(4).
    الترقّي في عالم القيم غالباً ما يكون ولادة في ألم. ولادة عسيرة يمازجها الحزن والتألم. إن تضحية أيّ أمّ هي النقيض لكل جداول حسابات (بانثام)، وفي المقابل نجد أن هناك من يتلذذ بتعذيب النفس والغير، كالسادية والماسوشية. فهل نعتبر أفعال هؤلاء أخلاقية وخيِّرة، لا لشيء إلا لكون أصحابها ينشدون اللذة بمقياس مذهب النفعية؟!
ولهذا لا يصح - أخلاقياً ولا منطقياً - أن نعتبر البحث عن اللذة هو الخير، وهو الخُلق، كما يجب أن يكون. إن علاقة حب بين صديقين إذا ما تأسست على شيء من المنفعة واللذة، هي ليست بحب، كما أكد (أرسطو) في تحليله لمعنى الصداقة. فصداقة المنفعة أو المصلحة هي علاقة تخضع لملابسات ظرفية، فلا تدوم إلا بدوام المنفعة أو المتعة، ومن ثم يعتبرها (أرسطو) صداقة غير كاملة أو عرضية، إذا ما قورنت بصداقة الفضيلة، التي هي أتم وأنقى، والتي يريد فيها كل طرف الخير للآخر، من غير أن تكون المنفعة أو المتعة هي الهدف الأساسي.
واختصار العمل الأخلاقي، ومساواته باللذة والمنفعة، يؤسس لأخلاق النفاق. فإحسان المحسن لمجرّد الإحسان للآخرين، وإحسان المحتال للآخرين لتحقيق نفعه الذاتي، لا يستويان في النفعية. فخلق المحتال هنا أسمى في نظر اللذيّيّن؛ لأنه حقّق النفع لذاته وللآخرين. بينما الأول أسقط ذاته من حساباته.
 وقد وقع (ميل) في مغالطة غموض التركيب، فهو يعتبر أن سعادة المجموع هي خير لمجموع أفراده، أي إذا ما جمعنا سعادة الأفراد فرداً فرداً، سنحصل على سعادة المجتمع ككل. وهي مغالطة بُنيت عليها مفاهيم الحرية في اللبرالية. فكل فرد لديه الحرية المطلقة في الحصول على خيره ولذته الشخصية؛ لأن في سعادة الفرد تكمن سعادة المجموع - ما إن لم تتعارض سعادة الفرد مع سعادة المجموع -.
يقول (جون ستيوارت ماكنزي) في قول (ميل) إن سعادة المجموع خير لمجموع أفراده، مغالطة تُعرف في المنطق باسم (مغالطة غموض التركيب): "إن (ميل) يعتبر سعادة المجموع مجموع سعادات أفراده، أي طالما كانت لذَّاتي خيراً لي، ولذَّاتك خيراً لك، ولذَّاته خيراً له. ولم يفطن (ميل) إلى أن أنواع اللذات لا يمكن جمعها كما تُجمع أفراد الناس. وشبيه برأي (ميل) في هذا الصدد أن نقول إن الفرقة التي تتألف من مائة جندي، طول كل منهم ستة أقدام، لا بد أن يكون طول هذه الفرقة ستمائة قدم. وأن حجة ميل السالفة الذكر كان يمكن أن تكون صحيحة لو أن عقول الناس جميعاً أمكن أن يندمج بعضها في بعض، وتصبح مجموعاً عقلياً واحداً(5).
    أقرّ (زينون) في اعتباره أن أسمى الخيرات هي ممارسة الفضيلة؛ لأن الفضيلة تتوقف على إرادتنا، وأنه ينبغي على المرء بذل جهده في تغيير رغباته، بدلًا من تغيير نظام العالم، وأن يروّض نفسه على أن يعتقد أن آراء الإنسان وأفكاره هي كل ما يملك في هذا العالم(6).
ويمكن في الوقت الحاضر أن نجد جذور مذهب المنفعة عند كل من (توماس هوبز) 1588 - 1679م، الفيلسوف البريطاني الذي يرى أن كلمة خير يقصد بها الشهوة، وكلمة شـر يقصد بها النفور. و(فرنسيس هتشون) 1694 - 1747م، الفيلسوف الأيرلندي، ونظريته في الحس الأخلاقي تعبّر في بعض جوانبها عن مذهب المنفعة، إلا أنها ترتكز على الدين.
 كما نجد جذور مذهب المنفعة أيضاً عند (ديفيد هيوم) 1711 - 1776م، الفيلسوف البريطاني الذي يرى أنه لا شيء يؤثر في الفعل الإرادي، غير اللذة والألم، وقد يكون التأثير مباشراً(7).
    اهتم (جان ماري جيو) 1854 – 1888م، بالأخلاق وبالفن، وشرح (الأخلاق الإنجليزية المعاصرة) ونقدها نقدًا عسيرًا، وذكر أنه لا يصلح مذهب اللذة كأساس نظري لأيّ أخلاقيات تقوم على المشاركة والتعاون وانسجام خير الفرد مع خير المجتمع. ولم يوضح الشروط القبلية للأخلاق، أي الشروط التي لا بد من توافرها، والتي بدونها لا يمكن ممارسة الأخلاقيات، فمثلما لا يمكن الزراعة الجيدة بدون مناخ ملائم وأرض خصبة، فكذلك لا يمكن ممارسة الأخلاقيات إذا لم توجد شروط قبلية ضامنة، مثل: وجود إله عادل خيّر، يجازي الناس على أفعالهم في الدنيا أو الآخرة؛ فبدون هذه الشـروط لا يمكن أن تكون هناك إمكانية لأن تكون فاضلاً، وبدون هذه الشـروط لن تكون هناك إمكانية لممارسة أخلاق التقدم، لا سيما وأن مذهب اللذة لم يقدم الضمانات الدنيوية التي تكفل تطابق الفضيلة والسعادة، أي أن يكون الفضلاء سعداء، والأشرار تعساء في هذه الدنيا(8).
   في الخلاصة نقول: إن حصول اللذة والمنفعة، نظرة غير أخلاقية، وهي حصوله بأي وسيلة، كما يقول النفعيون: "الغاية تبرر الوسيلة"، استخدام أي وسيلة لتحقيق الهدف المقصود، بوسيلة أخلاقية أو غير أخلاقية، وهذا ليس اتجاهاً وحيداً، بل هناك من يناقضه، ويضع أي ممارسة إنسانية وفق معايير إنسانية أخلاقية يوافق عليه قانون الله سبحانه وتعالى، ويراعي مصلحة الغير ولا يلغيها.


الهوامش:
1.       الأهرام، http://www.ahram.org.eg.
2.    الفخر الرازي، المطالب العالية من العلم الإلهي، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دار الكتاب العربي، ج3، الطبعة الأولى،  1408هـ = 1987م، ص21-22.
3.    محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ)، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، تاريخ الطبعة: 1403هـ=1983م، ص155.
4.       الأهرام، http://www.ahram.org.eg.
5.       منتدى التوحيد،http://www.eltwhed.com.
6.       الألوكة، 8-9-2012م،      http://www.alukah.net.
7.       الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الموسوعة الميسـرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، ج2، ص809.
8.       الأهرام، 24 -12- 2013م، http://www.ahram.org.eg

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق