09‏/01‏/2020

ظاهرة الديمقراطية – الثيوقراطية ونتائجها على العراق


سعد سعيد الديوه چي
  تجتاح العراق أجواء مشحونة بالاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكافة مناحي الخدمات، بعد أكثر من عقد ونصف من الاحتلال الأمريكي، الذي استبشـر به الكثيرون على أنه انتقال من الدكتاتورية إلى أجواء الحرية والديمقراطية، وإذا بنا أمام خليط من المشاعر والممارسات (الديمقراطية – الثيوقراطية)، صارت في لبّ المجتمع العراقي، فكراً وممارسة، ليس لها مثيل في تاريخ العالم والمنطقة، وأفرزت أحزاباً وتجمعات غريبة على الفكر الديني، وغريبة على الديمقراطية الحقيقية.
والديمقراطية - كما هو معروف - هي حكم الشعب على أساس الأكثرية بواسطة الشعب مباشرة، أو بواسطة ممثليهم، ويكون تداول السلطة بواسطتها سلمياً، وتترافق عادة مع الليبرالية. وكما هو معروف فإن أصول الديمقراطية نشأت في (روما) القديمة.
وأما الحكومة الثيوقراطية، فهي حكومة دينية يقوم فيها رجال الدين على أساس أنهم يستمدون سلطانهم من نصوص دينية يفسرونها بأنها إرادة الله، في حالة الأديان السماوية، أو الآلهة، في حالة الأديان الوثنية، وهم أداة التنفيذ ليس إلا!، وهذه الفكرة غريبة عن روح الإسلام ونصوصه، فلا كهنوتية في الإسلام ولا رهبانية، بالإضافة إلى أن تاريخ الخلافة ليس تاريخاً كهنوتياً ثيوقراطياً، حيث لا توجد نصوص قرآنية مباشرة تشير إلى فئة معينة تستأثر بالحكم دون غيرها.
من هذين الفكرين ظهرت أجواء خليطة من الديمقراطية، والتي يرعاها ويتحكّم بجزء كبير من مفاصلها رجال الدين، الذين تتباين طموحاتهم وأفكارهم، ويستطيعون تحريك أتباعهم على أساس قدسية النص، وهي بذلك ليست ديمقراطية مدنية، وإنما صراع ثيوقراطي بين الفرقاء يرتدي اللباس الديمقراطي.
هذه الأجواء غير المتجانسة أدّت إلى مشاهد سياسية غاية في الإرباك، وفوضـى انعكست على كل مفاصل الحياة في العراق، فبرزت الطائفية كوليد غير شرعي لهذا الارتباك الفكري والتاريخي، ناهيك عن الفساد الذي صار هو القاعدة في التعاملات الرسمية، وصارت الرشوة أمراً مألوفاً لا يستحي منه أحد، وهو القاعدة في تسيير الأمور، كزيت التشحيم في المكائن، خصوصاً للموظفين والسياسيين، من أسفل السلّم إلى أعلاه.
ولقد كانت أحد أسباب هذه الفوضى بعد الاحتلال، أن الأمريكان اعتقدوا بأن تقسيم المجتمع إلى طوائف وقوميات على أساس المظلومية، على أنه المفتاح السحري للسيطرة على الأمور، في بلد يعاني من الارتباك والفوضى والجوع قبل الاحتلال، وإذا بالسحر ينقلب على الساحر، ليبدأ الأمريكان بتغيير استراتيجيتهم بعد أن وقعوا في داخل هذه الفوضـى، ليختفي الوجه الطيب الذي بشرتنا به قبل دخولها للعراق.
عانى العراق قبل الاحتلال من استبداد منظّم، وإذا بالبلد أمام استبداد فوضوي مطلق، بعدّة رؤوس، يستطيع أن يلمسه أي إنسان، مهما كانت ثقافته محدودة.
الأصبع الأمريكي لا زال في العراق، وإذا كانت هنالك نية صادقة بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فإن أمريكا أمام مهمة عسيرة جداً، إنْ لم تكن مستحيلة، وإن كان التدخل الإقليمي لا يستهان به.
إن التجارب في ألمانيا واليابان وكوريا بعيدة جداً عن الواقع العراقي اللامتجانس، خصوصاً بعد نمو شجرة الطائفية، وازدهارها، ويحتاج العراق لمعجزة للوقوف على الطريق الصحيح، ولكن ذلك ليس مستحيلاً.
إن صعوبة المهمة في العراق - عدا الوضع الآيديولوجي - تكمن في كون القاعدة الصناعية شبه معدومة، والقطاع الزراعي متخلّف، ومستند إلى قاعدة عشائرية قديمة، والجهاز الوظيفي متضخم لحدّ الانفجار، ناهيك عن البطالة المقنّعة في كل مفاصل الإدارة، وإدارة الدولة تغازل هذه القطاعات، وتسترضيها، وهي غير مستعدة لمواجهتها، وهذه القطاعات - بغلافها الثيوقراطي الديمقراطي - أقوى من الدولة، حيث يديرها سياسيون فاسدون.
والمعضلة الكبيرة الأخرى أن المجتمع العراقي، ومنذ نشأة الدولة، يعتبر مجتمعاً عسكرياً – عشائرياً، في معظم قطاعاته، وأن الجانب المدني فيه ضعيف جداً، يحرّكه الماضي أكثر من التفكير بالمستقبل، على ضوء ما وصل إليه العالم من تطوّر علمي وتكنولوجي، ومدنية تتسارع بوتيرة عالية.
لقد تفاقمت هذه الأمور بازدياد الأمّية والفقر، وانهيار التعليم، والهجرة من الريف إلى المدن، وصار الكل يبحث عن الوظائف الحكومية، ولا يعلم شيئاً عن توّفر ما يسمّى بفرص العمل خارج الإطار الحكومي، وأن الوظيفة ليست الملاذ لكل شيء.
وخلاصة الأمر، أن العراق أمام مفترق طرق يجب أن يبدأ بإصلاح الفكر السياسي، ثم تناول كل المسائل بروح من الوطنية الخالصة، التي أصبحت تترنح تحت معضلة الطائفية والفساد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق