06‏/07‏/2023

رأي العلامة سبحاني في ولاية الفقيه - الحلقة 17 –

د. عمر عبد العزيز  

   منهجية سبحاني في مناقشة الموضوع:

   لقد وضع العلامة سبحاني منهجية متميزة لمناقشة ما يتعلق بتصورات بعض الفرق الشيعية حول الإمامة والولاية والعصمة وغير ذلك. فأكد في البداية أنه لا يناقشهم إلا عن طريق الآيات القرآنية، لكونهم مختلفين مع أهل السنة في أمر حجية السنة ومصادرها. فبينما يرى أهل السنة أن كتباً، كالجامع الصحيح للبخاري، ويليه الجامع الصحيح لمسلم، ثم السنن والمسانيد، يعدّون من أصح المصادر - رغم ما في السنن والمسانيد

من الأحاديث الضعيفة -، يرى علماء الشيعة أن كتباً مثل (أصول الكافي) للكليني، و(بحار الأنوار) للمجلسـي، وغيرهما، هي المراجع المعتمدة، وأن في صحاح أهل السنة مئات من الأحاديث الملفقة والموضوعة ضد آل البيت، حسب ادعائهم.

   ولهذا قدم ناصر سبحاني في مقدمة كتابه القيّم (الولاية والإمامة) إيضاحاً حول الاستناد إلى القرآن الكريم في مناقشة ما يتعلق بموضوع الإمامة والولاية، وهو يعلن سبب هذا الأمر بوضوح، فيقول: "لأن هذه الأمور (أعني الولاية والإمامة وما يتعلق بهما) من الأمور الأساسية، ولأنها تكون في الإصابة وعدم الإصابة في الكلام فيها آثار كبيرة، لا ينبغي بناء الكلام فيها إلا على أساس البرهان المسمّى في القرآن بالسلطان، فلذلك قد قررّنا أن لا نستند في هذا الكتاب إلا إلى آيات كتاب الله، التي هي لأولي الأبصار النور المبين"([1]).

   يقول الشهيد سبحاني ذلك، وهو - كما هو معلوم -كان يعيش في بلد تحكمه الشيعة الإمامية، وكان يعلم أن علماء ذلك المذهب لا يقبلون بروايات أهل السنة، وإن كانت من الصحاح والمسانيد المعتبرة، فضلاً عن أنه كان موقناً بأن في القرآن من الآيات البينات ما يغني عن فتح باب للنقاش الطويل الذي لا يُجنى منه شيء، نقاشِ إثارة موضوع حجية الروايات بين أهل السنة والشيعة، فسدّ من الخطوة الأولى هذا المدخل، الذي لا يليه إلا متاهات من الجدل العقيم.

   وفعلاً تحقق هذا الهدف، فلقد شاهدنا أن مشايخهم وقادتهم وعلماءهم قد سكتوا في الرد على الآراء التي وردت في هذا الكتاب، الذي سجّله بصوته أيضاً، ونشـر في أنحاء المعمورة، لأن أدلته الدامغة المستلهمة من القرآن قد أفحمتهم"([2]).

 

 

نشوء فكرة ولاية الأئمة لدى الشيعة، ورأي علماء السنة في ذلك:

   لقد استدل كثير من مراجع الشيعة بآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة/٥٥)، على ولاية علي -رضي الله عنه- وأئمتهم المعصومين بعده (الأئمة الاثني عشـر)، وقالوا بأن الحصر بـ(إنما) يفيد التخصيص، ولكنهم نسوا بأنه لو كانت الآية ـ جدلاً ـ نزلت في علي، ولو أن أداة الحصـر حصـرت الإمامة فيمن أشارت إليه الآية، لثبتت بحق علي فقط، فأين موقع ادعاء أحقية الإمامة والولاية لغيره، بدءاً بالحسن والحسين -رضي الله عنهما-، وانتهاءً بالمهدي المنتظر، الذي يعتقدون أنه هو الإمام الثاني عشـر؟! نسوا بأن (إنما) يفيد إثبات الحكم المذكور للمشار إليه، وينفيه عمن عداه، وبهذا يبطلون إمامة كل أئمتهم دون أن يشعروا.

   فالاستدلال بالآية على الإمامة أو الولاية، بمعنى الولاية السياسية، أمر في غير محلّه، من جملة أوجه: فصيغة {الذين آمنوا} جاءت بصيغة الجمع لا الإفراد، حتى تخصص بعلي -رضي الله عنه- كما قلنا. ثم إن اسم (الولي)، بالمعنى الذي يُستعمل للأئمة، لا يُستعمل لله سبحانه، فكيف يكون معنى كون الله وليّاً، ورسوله وليّاً، والمؤمنين أولياء، بمعنى الإمامة السياسية؟ إضافة إلى أنه لو افترضنا جدلاً أن الآية تعني عليّاً، فكيف انتقل حكم الإمامة إلى ذريّته من بقية الأئمة إلى الثاني عشـر، وبأي دليل؟ ثم كيف استدل جميع الفرق المختلفة ـ بل المتناحرة ـ الشيعية بالآية في آن واحد؟ كيف يمكن أن يكون دليل واحد حجة لبعض على بعض، وبالعكس، ومستنَداً لحكم معين ونقيضه في آن واحد؟ لأن كل فريق منهم استدل بالآية على إمام معيّن، وليسوا مجمعين على سلسلة من الأئمة موحدة. وأخيراً، لا ننسـى أن الذين احتجوا بهذه الآية على ولاية الأئمة ـ عليّ، ومن بعده (رضي الله عنهم) ـ احتجوا بالروايات لا بالآية -كما قلنا آنفاً-، والاحتجاج بالروايات -لا سيما إن كانت ضعيفة وواهية -مما لا يقبل ههنا، لأهمية الموضوع، وكونه من كبرى أمور المسلمين.

   والأغرب من ذلك، ظنّ بعض كبار الإمامية أن ولاية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مكتوبة في جميع صحف الأنبياء عليهم السلام([3])، بل إن الله تعالى أخذ ميثاق النبيين على ولاية علي([4]). بل قالوا: إن الله عرض ولاية علي على أهل السموات والأرض([5]). وهذا ما لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله، ويتناقض مع عشـرات الآيات والأحاديث التي تتحدث عن النبوة والإمامة والولاية.

   وهناك أقوال في تفاسير أهل السنة، في تفسير آية المائدة، تشير إلى المقصود من الولاية، ومراد الآية ممن لهم حق الولاية، فقال شيخ المفسـرين الطبري: "قال بعضهم: عُني به علي بن أبي طالب، وقال بعضهم: عني به جميع المؤمنين"([6]). ولكن القرطبي أكد على أن لفظ (الذين) في الآية عام في جميع المؤمنين، وقد سُئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي عن معنى {الذين آمنوا}، هل هو علي بن أبي طالب؟ فقال: علي من المؤمنين، وهذا لجميع المؤمنين([7]). وأما ابن كثير فلقد عبَّر عن حصـر الآية في علي بأنه توهم، وأبان عن عوار الروايات الواهية التي تتحدث عن نزول الآية في علي -رضي الله عنه-([8]). وأكد الشوكاني أن الروايات التي وردت عن الطبراني فيها مجاهيل([9]).

   ولقد أحسن الشيخ محمد رشيد رضا، في تعليقه على ذكر علي -رضي الله عنه- في تفسير الآية، حيث يقال إنها نزلت في علي، إذ مرّ به سائل في المسجد، فأعطاه خاتمه، يقول: "لكن التعبير عن المفرد بـ(الذين آمنوا)، وعن إعطاء الخاتم بـ(يؤتون الزكاة)، مما لا يقع في كلام الفصحاء من الناس، فهل يقع في المعجز من كلام الله، على عدم ملاءمة السياق"([10]). وهذا تعليق في محله، مع إضافة أن الآية وردت في سياق نهي المؤمنين أن يجعلوا من اليهود والنصارى أولياء، وأن يتّبعوا أهواءهم، أو أن يبتغوا حكم الجاهلية، لا سيما بعد أن أكد الله تعالى أن هناك في المجتمع الإسلامي - آنذاك - بعض مرضى القلوب - من المنافقين - يحبون موالاة بعض اليهود، بل يسارعون في ذلك، بتبرير احتمال عودة دائرة اليهود على المؤمنين، وإصابتهم بها.. في هذا السياق - وبعد هذه المقدمات - أكد الله لهم حصـر الولاية في الله ورسوله والراكعين الخاشعين لله من المؤمنين.

   ولكن العلامة ناصر يرى أن الله سبحانه حصـر الولاية في الله ورسوله والمؤمنين، وأكد أن المراد من (الذين آمنوا) في الآية هو كل المؤمنين، مستدلاً بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(التوبة/٧١)، لا فئة خاصة تستثنيهم الجملة الحالية في الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة/ ٥٥)، حيث يرى أن الوصفين ـ أعني: إقامة الصلاة تذللاً، وإيتاء الزكاة بتذلل - من الأوصاف اللازمة للإيمان، العامة لكل المؤمنين، مؤكداً أن بداية العبودية تتحقق بهما، وإليهما ينتهي أمرها([11]). ثم يؤكد بعد ذلك التبيين قائلاً: "لم يبق محلّ لتوهم أن الآية في إثبات ولاية فرد بعينه، أو جمع بأعينهم، ولم يبق إلا أن يُؤمَن بأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وظهر كظهور الشمس في رابعة النهار بطلان ما قيل من أنها في إثبات ولاية علي -رضي الله عنه- على سائر المؤمنين"([12]).

نشوء فكرة ولاية الفقيه لدى الشيعة:

   رغم أن مصطلح الولاية قد ورد في بعض مراجع الشيعة القديمة بعد عهد غياب (الإمام الثاني عشـر) -محمد بن الحسن العسكري - إلا أن مصطلح (ولاية الفقيه) لم يرد إلا متأخراً، حيث هناك لنشوء المصطلح حيثيات تاريخية، لا بدّ من ذكرها هنا، وهي باختصار: بعد وفاة الحسن العسكري (الإمام الحادي عشـر للشيعة الإمامية) عام (260هـ/ 873م)، لم يعلن عن خلف مجمع عليه له، مما أحدث بلبلة وحيرة لدى فرق الشيعة، حيث افترقت إلى حوالى أربعة عشـر فرقة، واحدة منها - فقط - قالت بوجود خلف له، هو ابنه محمد العسكري الذي اختفى نهائياً عام (329هـ/940م)، ثم نشأت إثر ذلك فكرة (المهدوية)، التي أنجت الشيعة من إحراجات فكرية، بل من أزمة عقدية.

   الطرف الآخر من الفرق الشيعية رأى بأن انتظار شخص باسم المهدي المنتظر يتناقض ـ أساساً - مع فلسفة الإمامة القاضية بعدم جواز خلوّ الأرض من قائم معصوم حجّة"([13]). ومن هنا نشأت لديهم فكرة تحريم إقامة الدولة والعمل السياسي في غياب المهدي، بل أفتى علماء الشيعة بتعليق وإيقاف جميع وظائف الدولة؛ كإمامة الحدود، وجباية الأموال، بل القيام بمهام صلاة الجمعة والشعائر العامة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأعمال الحسبة عموماً، بحجة أن غيبة المهدي تعني -لزوماً - استحالة تحقق قيام الدولة وممارسة مهام الإمامة، إلا بعض الأعمال من باب التقية، ومن هنا قالوا بإرجاء إقامة دولة الحق إلى حين ظهور الإمام المهدي"([14]).

   ومن الجدير بالذكر هنا أن أحداً لم يكتب عن ولاية الفقيه شيئاً يذكر، إلى أن كتب أحد علماء الإمامية كتاباً باسم (ولاية الفقيه)، وأصّل لها، وأثبت لولي الفقيه، ما هو للنبي ولأئمتهم (المعصومين)، دون أن يجد لذلك دليلاً([15]). إلا أن هناك رواية في كتب الإمامية، يستدلون بها على وجوب الولاية، رغم ما عليها من إيرادات، سواء في سندها أو متنها، عند علماء الشيعة أنفسهم، فضلاً عما قاله علماء السنة بحقها. والرواية باختصار هي: عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله - أي جعفر الصادق - عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان، وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: "من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}(النساء/٦٠)، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: "ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، وينظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رَدَّ، والرادّ علينا رادّ على الله، وهو على حد الشرك بالله. قال: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، فاختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟. فقال: "الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.. الرواية"([16]).

   ومن يدقق في الرواية ـ بالرغم من ضعف سندها ـ يجد أن دلالتها قاصرة جدّاً عن إثبات ولاية الفقيه بمعنى النيابة العامة، بل هي تتحدث عن القضاء فقط. وكل ما يمكن الاستفادة منها - لمن يقبلها - هو ضرورة اختيار الشيعة للحكام (القضاة) العدول من أنفسهم، ممن روى شيئاً من أحاديث أهل البيت، وموافقة الإمام الصادق على اختيار الشيعة بتلك الصورة وإمضائه.. وليس في ذلك أي نصب أو تعيين منه لفقيه، أو إعطاؤه صفة (النيابة العامة) للحكم بدلاً عنه. ولم يفهم أحد من الشيعة - لا في عهد الإمام الصادق، ولا في بقية عهود أئمتهم، لا في فترة ما يسمونه (الغيبة الصغرى)، ولا في القرون الأولى من (الغيبة الكبرى) - مفهوم ولاية الفقيه والنيابة العامة منها.

   وكذلك فعل قائد الثورة الإيرانية آية الله الخميني، الذي نظّر عقلياً لوجوب إقامة الدولة في عصر الغيبة، وأكّد في كتابه: (الحكومة الإسلامية) على عدم وجود نصّ يثبت وجود شخص ينوب عن الإمام المهدي حال غيبته. وهو أول من فصّل الحديث عن ولاية الفقيه، بعد قرابة قرنين من ذلك التاريخ، حيث قال بالحرف: "ولاية الفقيه من الأمور التي يجب التصديق بها، فهي لا تحتاج إلى دليل، فهي بديهية ضرورية لمن أدرك العقائد والأحكام الإسلامية"([17]).

   ومما يجدر ذكره هنا أنه قد ورد ذكر ولاية الفقيه في ست عشـرة فقرة من دستور إيران المعاصر، وجاء في ديباجة الدستور: "أن قيادة إيران بيد الفقيه، وهو كاف كضمان لعدم انحراف أجهزة النظام." وورد في المادة الخامسة من الدستور الإيراني: "في زمن غياب الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير الشجاع القادر على الإدارة والتدبير"([18]).

   من هذا المنطلق، وبهذه القناعة التي حصلت لقادة إيران المعاصرين - وعلى رأسهم قائد الثورة - حورب بشدّة كل من اعترض على فكرة ولاية الفقيه، بل راج شعار في جميع أنحاء إيران، كان يُرفع ويُردّد في المناسبات الرسمية والشعبية، هو: (الموت لكل من هو ضد ولاية الفقيه)! وكل الشيعة على يقين -أثناء ترديد هذا الشعار - من أنهم يقصدون بأولئك جميع أهل السنة، ومن معهم من الشيعة الرافضين لفكرة ولاية الفقيه.

وفي تطور مغاير متوقع، نادى قائد الثورة الإيرانية عام (1409هـ/198م) بالولاية المطلقة للفقيه([19])، حيث أجاز لبعض الوزراء تطبيق بعض القوانين التي لم يصوّت عليها مجلس المحافظة على الدستور، (وهو مجلس الأوصياء)([20])، مما أثار حفيظة عدد من المتنوّرين من قادة الشيعة، داخل إيران وخارجها، ومنهم ـ حينذاك ـ المرشد الحالي للثورة آية خامنئي، الذي انتقد تلك الفتوى في خطبة رسمية له في جمعة طهران، حيث كان الإمام الرسمي لجمعة طهران ورئيس الجمهورية في ذلك الوقت، فغضب قائد الثورة الخميني منه غضباً شديداً، وأرسل في (31/12/1988م) رسالة عتاب خاصة نشـرت في وسائل الإعلام آنذاك - وأكد فيها على أن: "صلاحيات الولي الفقيه ليست محصورة في إطار الأحكام الإلهية الفرعية، وأن الحكومة (الإيرانية) شعبة من ولاية الرسول ﷺ المطلقة، بل إن لولاية الفقيه حق إلغاء الاتفاقات الشأرعية من طرف واحد"([21]).

   ولقد لخّص المرحوم سبحاني مجمل ما قالوه بهذا الصدد، فقال: "خلاصة ما قاله هو وأصحابه، الذين هبّوا يشـرحون كلامه - بعد أن قاموا من مسّ مفاجئة تصـريحه الغريب - أن أحكام الشـريعة معدودة لا تفي بحاجات العباد، ولا تساير التطورات، فلا بدّ من مكمّل، وهو ولاية الرسول ﷺ ثم الإمام، ثم نائبه الفقيه. ومما قالوا في بيان عدم تقيّد هذه الولاية بقيود الشـريعة: إن الأحكام التي تصدرها السلطات التشـريعية والتنفيذية والقضائية - التي إنما نالت ما نالت من السلطات بتخويل من الفقيه الولي ـ إنما هي معارضة لأحكام الله، مقدَّمة عليها، لا مقيّدة بها، تابعة لها"([22]). ثم يوضح بعبارات صريحة فهم أهل السنة لموضوع الولاية فيقول: "..لا مكان في معتقداتنا نحن ـ أتباع كتاب الله وسنة رسوله ـ بعد ولاية الله الخاصة، وولاية رسول الله وإمامته الفرديتين - لولايةٍ وإمامةٍ فرديتين أخريين. فمن أخصّ خصائصنا، وأبرز ميزاتنا، في مجال الأمور السياسية، اعتقاد النظام السياسي المبتنى على الإمامة الجمعية وولاية أهل الشورى والتزامه، والبراءة من النظام السياسي المبتنى على الإمامة والولاية الفرديتين. وإن شئت فقل: إن من أعظم ما يُعرَف به نظامنا السياسي، اعتقاد والتزام ولاية الهيئة الحاصلة من اجتماع جميع فقهاء العصـر، والبراءة من إمامة وولاية الفقيه الواحد"([23]).

   وفي مقابل ذلك، أكد في كثير من دروسه، أن نظام الحكم في الإسلام شوريّ، وأنه ليس هناك في الإسلام شكل لولاية الفقيه، بل هناك ما سماها ولاية شورى أولي الأمر([24]). بل أكّد - مراراً - أن القيام بالاستنباطات الفردية، في بعض الأمور الجزئية، حالة استثنائية في الأمة، وأن الأصل هو اجتهاد أولي الأمر، لأنه: "لو أذن لكل مؤمن أن يقوم بالاستنباط من القواعد المقررة بانفراد، لكان قد أذن لمن يريد لهم الاهتداء بنوره، ويدعوهم إلى الاعتصام بحبله، بالوقوع في متاهات الأخطاء، وباتخاذ سبيل الاختلاف والتفرّق عما يدعوهم إليه. فاختار الله تعالى للذين آمنوا أن يكون أمرهم شورى بينهم. وذلك أنه ـ وإن لم يكن أحد ممن أمرهم شورى بينهم معصوماً ـ يكون التشاور طريقاً موصلاً إلى أعظم قدر مما يمكن للبشـر من الإصابات. وأما الاستنباطات الفردية، فلا شك أنها مجلبة لأكبر قدر ممكن من الأخطاء. ولأن الانفراد بأمر الاستنباط، مع إمكان التشاور، ترك لخير الأمرين، ولا تكون الأخطاء الناشئة منه معفوّاً عنها"([25]).

   هذا الذي قاله الشهيد، أراد به تثبيت قاعدة عامة، وأصل ثابت، لا أنه لا يؤمن بالاجتهاد الفردي للضرورة، فقد أكد في السياق نفسه أنه: "قد لا يَتيسّر التشاور ـ كما هو حال المسلمين منذ استبدال الملك العضوض بالخلافة ـ فيضطر المؤمن إلى الانفراد في الاستنباط اضطراراً، قال الله تعالى: {... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(النحل/١١٥). فمن اضطر إلى الاستنباط منفرداً، ولكنه لم يرض بما هو فيه، ولم يطمئن، بل جاهد بماله ونفسه في إبطال الباطل وإقامةِ دين الله ـ كما كان يفعل الأئمة الأخيار من السلف ـ لم يأثم باستنباطاته المنفردة الاضطرارية، بل كان له أجره بما يجتهد"([26]).




[1] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: 13.

[2] ومما ينبغي ذكره هنا أن هناك من غلاة الشيعة من صرّح بالتحريف في القرآن. مثل: على بن إبراهيم القمي، صاحب تفسير القمي (ت: 307هـ). وكذلك محمد بن يعقوب (ت 328هـ) صاحب كتاب الكافي، الذي صرح بوقوع التحريف في القرآن في مواقع عديدة من كتابه. ومرزا حسين الطبرسي (ت: 1320هـ) الذي اشتهر أنه ألف كتاباً سماه: فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وقد طبع في إيران، عام 1289هـ. ومنهم: الحر العاملي في كتابه: وسائل الشيعة 18/145، والشيخ المفيد في أوائل المقالات، ص: 91. ومحمد باقر المجلسي، في مرآة العقول، 12/525. وعدنان البحراني، في كتابه: في تواتر التحريف، ص: 126. وكذلك الفيض الكاشاني، في تفسيره الصافي في تفسير القرآن، صرّح بوقوع التحريف، وقال بالحرف: "القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أُنزل على محمد، بل منه خلاف ما أنزله الله، ومنه ما هو غير محرّف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها اسم علي..!" (الفيض الكاشاني،  تفسير الصافي، 1/24). نقلاً عن: ممدوح الحربي، موسوعة فرق الشيعة ص: 32. ولكن عدداً من علمائهم القدامى؛ كالشيخ الصدوق (ت: 381هـ)، والمفيد البغدادي (ت: 413هـ)، وعلم الهدى (ت: 436هـ)، والطوسي (ت: 460هـ)، نفوا التحريف في القرآن، وكذلك بعض المسؤولين المعاصرين في إيران، ردّوا في مناسبات عدة مثل هذه الأقوال، لا سيما في مؤتمرات أو مجالس حوار ونقاش مع علماء أهل السنة.

[3] روى المجلسي في (بحار الأنوار) عن أبي الحسن، قال: ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء. (محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، 26/360).

[4] المصدر نفسه، 26/28.

[5] روى المجلسي بسنده عن علي (رضي الله عنه)، قال: "إن الله عرض ولايتي على أهل السماوات والأرض، أقرّ بها من أقرّ، وأنكرها من أنكر. أنكر يونس، فحبسه الله في بطن الحوت، حتى أقرّ بها.!" (المجلسي، بحار الأنوار، 26/282).

 [6]الطبري، جامع البيان، 6/288.

[7] ينظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 6/221.

[8] ينظر: ابن كثير، تفسير القرآن، 3/71.

[9] ينظر: الشوكاني، فتح القدير، ص: 380.

[10] محمد رشيد رضا، المنار، 6/442.

[11] ينظر: ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: 46.

12 المصدر نفسه، ص: 49.

13 أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، 371.

14 ينظر لتفصيل ما قالوه: الشريف المرتضي، الشافي في الإمامة، 1/112.

[15] هو أحمد الذاقي، توفي عام (1245هـ/1829م)، ألف كتاب (ولاية الفقيه)، وهو مطبوع في دار التعارف، بيروت. ينظر: صفحة: (69) منه.

[16] الحر العاملي، وسائل الشيعة، كتاب القضاء، 18/99.

[17] آية الله الخميني، الحكومة الإسلامية، مركز بقية الله، طهران، ط3، ص: 10.

[18] ينظر: د. على البغدادي، إيران، تاريخ وحضارة. ص: 8.

[19] الغريب أنه قد ألّف قبل انتصار الثورة كتاباً حول الولاية، ولكنه لم يشر فيه إطلاقاً إلى ولاية الفقيه، إلا أنه ذكر ولاية مقيّدة بقيود الشريعة، حيث كان مفهوم الولاية المطلقة آنذاك غريباً جداً.

[20] مجلس المحافظة على الدستور: يتكون من (12) عضواً، ستة منهم فقهاء يختارهم مرشد الثورة، وستة منهم خبراء قانون، ينتخبهم مجلس الشورى، من قائمة يرشحها مجلس القضاء الأعلى، ومدة المجلس ست سنوات. وأهم مهامها: 1- مراجعة تشريعات مجلس الشورى والمصادقة عليها. 2ـ تفسير نصوص الدستور. 3- الإشراف على الانتخابات والاستفتائات العامة. 4- حق النقض في التشريعات الهامة. ينظر: (د.علي البغدادي، إيران، تاريخ وحضارة، 179-180).

[21] قال آية الله الخميني في بداية الرسالة ـ موجهاً خطابه للخامنئي-: "... يظهر من حديثكم في خطبة الجمعة أنكم لا تؤمنون بأن الحكومة التي تعني الولاية المخوّلة من قبل الله إلى النبي ، مقدَّمَة على جميع الأحكام الفرعية." وقال ـ في سياق آخر، كمثال لما قاله-: من حق الحكومة أن تمنع مؤقتاً فريضة الحج، الذي يُعتبَر من الفرائض المهمة الإلهية". وفي نهاية رسالته يتهم قائد الثورة الخميني السيد خامنئي بأنه لا يعرف حقيقة الولاية المطلقة. (لقد نشر نص هذه الرسالة في الشهر الأول من عام (1989م) في جميع وسائل إعلام إيران. ولدى الباحث عبارات مستقاة حرفاً مما نشر، بعضها ما ورد أعلاه).

[22] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: 58.

[23] المصدر نفسه، ص: 156.

[24] ينظر: ناصر سبحاني، محاضرات حول النظام السياسي في الإسلام، وكذلك: نظرة حول المفردات والمفاهيم القرآنية، ص: 135.

[25] ناصر سبحاني، أسس التصورات والقيم، ص: 112-113 .

26 المصدر نفسه، ص: 114.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق