06‏/07‏/2023

منهج الوسطية في المشروع الفكري للشيخ يوسف القرضاوي

د. دحام إبراهيم الهسنياني

في عصـرنا هذا ظهر علماء ومجددون ومفكرون يدعون إلى منهجية الوسطية الإسلامية التي جاء بها الإسلام، وكان من أبرزهم العلامة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، الذي دعا إلى الوسطية الإسلامية الجامعة الشاملة، حتى مثلت هذه القضية معلماً من معالم المشـروع الفكري له، وروحاً سارية في كل المواقف والقضايا والمشكلات التي عرض لها بالبحث والرأي والإفتاء.

إذا كانت الوسطية - بالمعنى الإسلامي المتميز، والجامع - هي واحدة من أخص خصائص الأمة الإسلامية،

حتى لقد تحدث عنها القرآن الكريم باعتبارها (جعلاً إلهياً): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وَسَطًا فلقد رأينا لها مكاناً ملحوظاً في المشـروع الفكري للدكتور يوسف القرضاوي.. حتى لقد مثلت مزاج هذا المشـروع، والمعيار الحاكم لاجتهادات وتجديدات صاحبه..

والدكتور يوسف القرضاوي من أبرز الفقهاء والمجتهدين المعاصرين الذين يتمتعون بقدرة متميزة على النظر الدقيق، من خلال كسبه المتعمق للعلوم الشـرعية، وتجربته الميدانية في مجال العمل الإسلامي، كما يعد من المفكرين البارزين المجددين الذين يمتازون بالوسطية والاعتدال، ويجمعون بين محكمات الشـرع ومقتضيات العصـر، تجمع مؤلفاته البناءة والهادفة والمفيدة بين دقة العالم، وإشراقة الأديب، وحرارة الداعية. فالرجل داعية للوسطية الإسلامية، وهذا المشـروع الفكري الذي أبدعه هو واحد من مشاريع فكر الوسطية الإسلامية، التي برئت من غلوى الإفراط والتفريط، وجمعت ووازنت بين عناصر الحق والعدل والاعتدال في كل القضايا والفتاوى والاجتهادات..

الأمة الوسط في الفكر والثقافة

   قام فقه الشيخ القرضاوي كله على (الوسطية)، وحرص عليها، وجعلها شعاراً وعنواناً للفقه الذي يحقق الغايات الشرعية، من غير إعنات للمسلمين.

هذا ما يعلنه القرضاوي على أنه هو اتجاه مدرسة (الوسطية)، أو الاتجاه المتوازن أو المعتدل، الذي يجمع بين اتباع النصوص ورعاية مقاصد الشـريعة، فلا يعارض الكلي بالجزئي، ولا القطعي بالظني، ويراعي مصالح البشـر، بشـرط ألا تعارض نصاً صحيح الثبوت، صريح الدلالة، ولا قاعدة شرعية مجمعاً عليها. فهو يجمع بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر.

وهذا هو الاتجاه السليم الذي تحتاج إليه أُمتنا، وهو الذي يمثل بحق وسطية الإسلام بين الأديان، ووسطية أُمته بين الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وَسَطًا}، ووسطية أهل السنة والفرقة الناجية بين الفرق المختلفة، التي مال بها الغلو أو التفريط عن الصراط المستقيم.

وهذا هو اتجاه أهل العلم والورع والاعتدال، وهي الصفات اللازمة لمن يتعرض للفتوى والتحدث باسم الشرع، وخصوصاً في هذا العصر.

"فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل.

والورع هو العاصم من الحكم بالهوى.

والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط.

وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود، وهو الاتجاه الشرعي الصحيح"([1]).

"فإن اختلاف الآراء الاجتهادية يُثرى به الفقه، وينمو ويتسع؛ نظراً لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية، أفرزتها عقول كبيرة، تجتهد وتستنبط، وتقيس وتستحسن، وتوزن وترجح، وتؤصل، وتقعد القواعد، وتفرع عليها الفروع والمسائل.

وبهذا التعدد المختلف المشارب، المتنوع المسالك، تتسع الثروة الفقهية التشـريعية، وتختلف ألوانها، من مدرسة الحديث والأثر، إلى مدرسة الرأي والنظر، إلى مدرسة الوقوف عند الظواهر، إلى مدرسة الاعتدال أو الوسط، التي تأخذ من كل مدرسة أحسن ما لديها، متجنبة نقاط الضعف في كل مدرسة، حسبما يهدي إليه اجتهادها، غير متحيزة لهذه أو تلك، ولا لهذا الإمام أو ذاك، ولا لهذا القول أو ضده"([2]).

فالوسطية، هي منهاج النبوة: "منهج وسط، لأمة وسط، منهج يتميز بالتوازن، فهو يوازن بين الروح والجسد، بين العقل والقلب، بين الدنيا والآخرة، بين المثال والواقع، بين النظر والعمل، بين الغيب والشهادة، بين الحرية والمسؤولية، بين الفردية والجماعية، بين الاتّباع والابتداع"([3]).

يقول الدكتور يوسف القرضاوي:

"الإسلام منهج وسط للأمة الوسط، وهو يمثل (الصـراط المستقيم)، في كل مجال من المجالات، ويجسد التوازن والاعتدال في كل شيء: في العقيدة، وفي العبادة، وفي الأخلاق، وفي المعاملات والتشـريعات كلها، بعيداً عن الغلو والتفريط. وقد تحدثنا عن هذه (الوسطية) بشـيء من التفصيل في كتابنا: (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف)، ورسالتنا: (ظاهرة الغلو في التكفير). وتحدثنا عن (الفكر الوسطي)، أو (التيار الوسطي)، ومعالمه وملامحه: في عدة كتب منها: (أولويات الحركة الإسلامية)، و(في فقه الأولويات)، و(الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي)، و(مستقبل الأصولية الإسلامية)، وغيرها. حتى لاحظ بعض الدارسين: أن عدداً من عناوين كتبي يتضمن كلمة (بين)، التي كثيراً ما تدل على وسط بين طرفين، مثل: (الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد)، (الفتوى بين الانضباط والتسيب)، (الاجتهاد بين الانضباط والانفراط)، (الثقافة الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة)، (ثقافتنا بين الانغلاق والانفتاح).. إلخ. وأنا الآن أسعى إلى تكوين جمعية ثقافية، أسميتها (جمعية الأمة الوسط في الفكر والثقافة)، مهمتها: أن تورث (الفكر الوسطي) للأجيال الصاعدة عن طريق الدعوة والتثقيف والتعليم والتربية، بطريقة مؤسسية عصـرية. وأدعو الله أن يرى هذا المشروع النور قريباً.

وإنما عنيت بهذا الأمر كل هذه العناية، لأني أرى هذا الفكر، أو هذا الاتجاه: هو طوق النجاة للدعوة الإسلامية، بل للأمة الإسلامية كلها. وهو الجدير أن يمضـي بها في الطريق الصحيح، الذي يوصل إلى الغاية المنشودة، وهي الرقي بالأمة مادياً وروحياً، والعودة بها إلى دفة القيادة للبشـرية، بما لديها من رسالة ربانية إنسانية أخلاقية عالمية، متكاملة متوازنة.

كما أني أرى الإعراض عن هذه الوسطية هو الهلاك بعينه، والضياع في الدين والدنيا معاً. سواء كان هذا الإعراض جنوحاً إلى جانب التسيب والانفلات، وهو جانب التفريط والتقصير، بإضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والسير في ركاب شياطين الإنس والجن، وباعة الفجور، ومروجي الإلحاد والانحلال، ودعاة المادية المجحفة، والإباحية المسـرفة: فهلاك هؤلاء محتم وفق سنن الله تعالى: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون}([4]).

فوسطيتنا ليست مجرد موقف عاطفي يلوذ بالوسط، وإنما هي تخيّر لأجود ما هناك في هذه الثروة الفقهية، التي أثرتها المناهج الفقهية المتنوعة، بمعنى أن منهج الوسطية هذا قد جمع عقول الفقهاء في الأمة أجمع، على امتدادها الزماني، جيلاً بعد جيل، والمكاني؛ تنقلاً من الحجاز إلى الشام إلى العراق إلى مصـر، ثم إلى خراسان وما وراء النهر، رجوعاً إلى المغرب والأندلس، وانتقى من كل هذه العقول الذكية، التي أجهدت نفسها في النظر والاستنباط، أبدع الاجتهادات، وأعمل النظر، وأجمل الرأي، فجعل الجنى المحصود في مجموع واحد. وهذه الوسطية الإسلامية جامعة بين العقل والشـرع، على النحو الذي يجعل نورهما نوراً على نور.. (فالعقل قد غطى كل جوانب الكون، علويه وسفليه، الإنسان بحاضره وماضيه، آيات الله الكونية والتنزيلية، فمن لم يستخدم عقله في هذه النواحي كلها، كان خليقاً ألّا يهتدي إلى الحق، وأن يسير في ركاب أهل الضلال والإضلال، وأن يقول مع أهل الشقاء في النار يوم القيامة ما حكاه الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}([5]).."([6]).

والمقابل المناقض للعقل - في الوسطية الإسلامية - ليس (النقل.. والشـرع)، وإنما هو (الجنون)، الذي ليس معه (عقل)، ولا (نقل)، وإنما هو مسقط لكل (تكليف)!.. ولذلك، فإن هذه الوسطية الإسلامية الجامعة يتزامل فيها ويمتزج (العقل) و (النقل)، و(النقل) و(القلب) جميعاً.. ومن هنا، فإن ما أوهمه بعض الكتاب من أن البيئة الدينية لا تهيئ لمناخ علمي مزدهر، بافتراض وجود صراع بين النقل والعقل، أو بين النص الإلهي والاجتهاد الإنساني، غير صحيح، بل ترده النصوص، ويرده التاريخ، ويرده الواقع، فالعقل هو المخاطب بنص الشارع، والمكلف بفهمه والعمل به، والاجتهاد في دلالته، وملء الفراغ فيما لا نص فيه.

وقد ترك النقل - أو الوحي - للعقل شؤون الكون والحياة كلها يصول فيها ويجول، ولم يحجر عليه في ذلك، بل أمره وحرّضه ودعاه.

والمحققون من علماء الأمة اعتبروا الوحي والعقل هاديين للخلق إلى الحق. يقول الإمام الراغب الأصـفهاني في كتابه القيم (الذريعة إلى مكارم الشريعة): "لله -عز وجل - إلى خلقه رسولان، أحدهما: من الباطن، وهو العقل، والثاني: من الظاهر، وهو الرسول، ولا سبيل لأحد إلى الانتفاع بالرسول الظاهر ما لم يتقدمه الانتفاع بالباطن، فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر، ولولاه لما كانت تلزم حجة بقوله، ولهذا أحال الله من يشكك في وحدانيته، وصحة نبوة أنبيائه، على العقل، فأمره أن يفزع إليه في معرفة صحتها. فالعقل قائد، والدين مدد، ولو لم يكن العقل، لم يكن الدين باقياً، ولو لم يكن الدين، لأصبح العقل حائراً، واجتماعهما كما قال الله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}([7]).."([8]).

ولذلك، "لا عجب أن يتفق العقل والنقل، ويلتقي العقل الصـريح والنقل الصحيح لا محالة، لأن كليهما أثر من آثار رحمة الله بعباده، وبره بهم، ونعمته عليهم، وآثاره لا تتناقض، فإن بدا لنا شيء من التناقض بين العقل والنقل، فلا بد أن يكون النقل غير صحيح، أو العقل غير صريح، كما أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)([9])..".

الوسطية الإسلامية الجامعة:          
  وبهذه الوسطية الإسلامية الجامعة، التي طبعت المشـروع الفكري للدكتور يوسف، كانت إبداعاته إسهاماً كبيراً في إحياء علوم الدين، بإعادة اللحمة بين القلب والعقل.. بين التصوف والشـرع.. بل بين السلفية والصوفية، في علوم الإسلام..

فالفقه، الذي يزكيه الدكتور يوسف، هو (فقه) العبادة، وليس فقط - (علم) العبادة.. "فهدفنا من هذا التعليم والتفقيه، أن نحبب رب الناس إلى الناس، حتى يعبدوه عبادة حب وشكر وإقبال، لا عبادة مراسيم وقوالب وأشكال.. أن نوجههم إلى روح العبادة، لا صورة العبادة فحسب. وبعبارة أخرى: أن يكون همنا (فقه) العبادة، لا (علم) العبادة.

والفقه معنى فوق العلم، والتفقيه أخص من التعليم. العلم يتعلق بالعقول والرؤوس، والفقه يتجاوز ذلك إلى القلوب والنفوس. والرسول إنما ناط الخير بالفقه في الدين، لا بمجرد العلم الظاهري الجاف به، قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)([10]).. غير أن مفهوم الفقه هذا أصابه من التغيير ما جعل مؤداه مجرد العلم الجاف بتقصـي التفريعات الظاهرة، والأحكام الخلافية. وكثير من الفروض والمسائل الدقيقة التي تعد من الأغاليط أو من التنطع.. إن فقه الصلاة، مثلاً، هو إدراك سـرها، والنفوذ إلى لبها وروحها، وعلم الصلاة هو المعرفة الجافة بشـرائطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها.. والذي نريده بفقه العبادة، إنما هو الفقه كما كان في العصـر الأول، هو الفقه الذي يرقق القلوب، ويطهر النفوس، ويذكر بالآخرة، ويضـيء الطريق إلى الله.."([11]).

وكما دعا الدكتور يوسف - بهذه الوسطية - إلى تزامل العقل والنقل.. وامتزاج العقل والقلب.. فلقد دعا إلى تزامل القلب والنص، والمصالحة بين الصوفية والسلفية.. "فمن الخير أن نطعّم كل واحد من الصنفين أو الطرفين (السلفية والصوفية) بالمزايا التي عند الطرف الآخر، وهو ما عبر عنه المفكر المسلم محمد المبارك، - رحمه الله -، بقوله: (نُسَلّف الصوفية، ونُصوّف السلفية)!. وبهذا التطعيم ينشأ صنف جامع لمزايا الفئتين، منزه عن عيوب كل منهما.."([12]).

ولذلك، وجدنا الدكتور يوسف يميز في تراث التصوف بين فكر (الحلول) و(وحدة الوجود) - الذي رفضه - وبين التصوف الشـرعي، الذي هو علم الخلق، ومرتبة الإحسان التي تبلغها أعمال المحسنين.. "فالتصوف الفلسفي، القائم على فكرة (الحلول) و(وحدة الوجود) كله مرفوض. والذي يعنينا من التصوف هو الجانب الأخلاقي والتربوي، الذي قال فيه ابن القيم في (المدارج): "اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق". فيجب أن ننتقي من التصوف ما يخدم العقيدة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، وندع كل ما فيه شائبة أو ريبة.. والصوفية الأوائل، الذين وضعوا أسس التصوف، ومهدوا طريقه، رفضوا كل محاولة لإخراجه عن الشـرع، وأبوا إلا تقييده بالقرآن والسنة. وفي التصوف لفتات روحية مشرقة في فهم الآيات والأحاديث.. وفي أقوال أهله حرارة وحيوية يلمسها قارئها.. فقد عنوا بأحكام الباطن، حين عنى الفقهاء بأحكام الظاهر المُحَسّ، والمتكلمون بالجانب العقلي الجاف([13]). إن التصوف، باعتباره تراثاً في التربية والسلوك الإيماني، لا يمكن الاستغناء عنه، كما لا يمكن الاستغناء عن تراث الفقه في معرفة الأحكام الظاهرة.. ([14]).

وبهذه الوسطية الإسلامية الجامعة بين العقل والنقل.. بين العقل والقلب.. بين السلفية والصوفية. دعا الدكتور يوسف إلى الجمع بين السلفية والتجديد.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة - من حقائق الوسطية الإسلامية الجامعة - صاغ الدكتور (أصول المنهج السلفي الحق) - فكانت:

الاحتكام للنصوص المعصومة، لا لأقوال الرجال.

ورد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات.

وفهم الفروع والجزئيات في ضوء الأصول والكليات.

والدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، وذم الجمود والتقليد.

والدعوة إلى الالتزام لا التسيب، في مجال الأخلاق.

والدعوة إلى التيسير لا التعسير، في مجال الفقه.

والدعوة إلى التبشير لا التنفير، في مجال التوجيه.

والدعوة بغرس اليقين لا بالجدل، في مجال العقيدة.

والعناية بالروح لا بالشكل، في مجال العبادة.

والدعوة إلى الاتّباع في أصول الدين، والاختراع في أمور الدنيا.."([15]).

وبهذه الوسطية، أيضاً، تآخى (العلم) و(الدين) في ثقافة الإسلام.. وبعبارة الدكتور يوسف: "فإن العلم عندنا دين، والدين عندنا علم!".  "أما أن العلم عندنا دين، فإن كتاب ربنا وسنة نبينا، يدعواننا إلى العلم، ويعتبرانه عبادة وفريضة، سواء أكان علم دين أم علم دنيا، علماً مصدره الوحي، أم علماً مصدره الكون.. وأما أن الدين عندنا علم، فلأنه لا يقوم على التقليد.. بل يحارب القرآن التقليد الأعمى والتبعية المطـلقة للآخرين، وينادي كل ذي عقيدة أن يبني عقيدته على البرهان واليقين، لا على الظن والتخمين: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}([16]).."([17]).

ولهذه الحقيقة من حقائق علاقة الدين الإسلامي بالعلم، كانت العقلية الإسلامية (عقلية علمية موضوعية) (لا تقبل نتائج بلا مقدمات، ولا تخضع إلا للحجة والبرهان).. وقد وضح القرآن والسنة المعالم الأساسية التي تقوم عليها هذه العقلية العلمية، ونستطيع أن نوجزها في النقاط الآتية:

- ألا تُقبل دعوى بغير دليل، مهما كان قائلها، والدليل هو: البرهان النظري في العقليات: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}([18]) والمشاهدة أو التجربة في الحسيات: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}([19]) وصحة الرواية وتوثيقها في النقليات: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}([20]).

- رفض الظن والعواطف والأهواء في كل موضع يطلب فيه اليقين الجازم، والعلم الواثق: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}([21])، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ}([22])، (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)([23]).

- الثورة على الجمود والتقليد والتبعية الفكرية للآخرين: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}([24]).. (لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أساءت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألاّ تظلموا)([25]).

- الاهتمام بالنظر والتفكير والتأمل: {فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَمَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ}([26])، وفي الإنسان نفسه، فهو عالم وحده: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِـرُونَ}([27])، وفي سير التاريخ البشـري، ومصاير الأمم، وسنن الله في الاجتماع الإنساني: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرض فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}([28])..([29]).

تلك هي سمات العقلية الإسلامية العلمية، كما صاغتها الوسطية الإسلامية الجامعة بين العلم والدين..

الجمع بين الثبات والمرونة:

يؤكد القرضاوي "اتباع المنهج الوسط، الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيداً عن طرفي الغلو والتفريط"([30]). ويجعل ذلك منهجاً، وقد أصاب، وهو نعم المنهج.

ومن تمام أعمال هذا المنهج الصائب: "تجنب القطع في المسائل الاجتهادية، التي تحتمل وجهين أو رأيين أو أكثر، وكذلك تجنب الإنكار فيها على الآخرين، ولهذا قرر علماؤنا أنه لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية؛ فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بله أن ينكر على مجتهد"([31]).

ومن ضرورات ذلك: "الاطلاع على اختلاف العلماء؛ ليعرف منه تعدد المذاهب، وتنوع المآخذ والمشارب، وأن لكل منهم وجهته، وأدلته التي يستند إليها، ويعول عليها، وكلهم يغترف من بحر الشـريعة، وما أوسعه. ومن أجل ذلك أكد علماؤنا فيما أكدوه وجوب العلم باختلاف الفقهاء، كوجوب العلم بما أجمعوا عليه، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة. وفي هذا قالوا: من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه"([32]).

لكن ذلك لا يعني أبداً اتخاذ مبدأ الوسطية هذا منفذ هروب من تكاليف الشـرع، إنما هو - عند القرضاوي - المخرج من التكلف: "إنني ضد الجمود والتقليد والتعصب، ولكنني - بنفس القدر - ضد الانفراط والتحلل والتسيب.. إن الذي أومن به، وأدعو إليه، وأدافع عنه، هو (المنهج الوسط) للأمة الوسط، وهو الاجتهاد، بكل أنواعه ودرجاته، كلياً وجزئياً، فردياً وجماعياً، ترجيحياً وإنشائياً، بشـرط أن يصدر من أهله في محله، منضبطاً بضوابطه الشـرعية المعتبرة، بعيداً عن غلو الغالين، وتفريط المفرطين"([33]).

إن موقف الإسلام الصحيح، هو الذي يجمع بين الثبات والمرونة في أحكامه وتعاليمه:

الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والآلات.

الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.

الثبات على الأخلاقيات والدينيات، والمرونة في الماديات والدنيويات.

نجد هذا الثبات في النصوص المحكمة، القطعية في ثبوتها، القطعية في دلالتها. كما نجد المرونة في النصوص الظنية في ثبوتها، والظنية في دلالتها، وفي منطقة الفراغ، التي تركتها النصوص لاجتهاد المجتهدين، رحمة بنا، وتيسيراً علينا.

نجد هذا الثبات في العقائد الرئيسة، والفرائض الأساسية، وأمهات الفضائل، وأصول المحرمات، وكليات الشـريعة، ونحو ذلك، مما لا يختلف باختلاف الأزمان والبيئات والأحوال. كما نجد المرونة في الأحكام الفرعية الجزئية، التي تتسع لأكثر من نظرة، وأكثر من اجتهاد، ولم يضيق الله فيها على عباده، فمن اجتهد فيها فأصاب فله أجران. ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، وهي التي قال فيها فقهاؤنا: إن الفتوى فيها تتغير بتغير المكان والزمان والعرف والحال. ونجد مرونة أكثر وأكثر في أمور الدنيا: الأمور التقنية والفنية التي تتعلق بالوسائل والأساليب. التي قال فيها رسول الله : (أنتم أعلم بأمر دنياكم)([34]).

وهذه الأمور يجب أن يتقنها المسلمون، ويتفوقوا فيها، ولا حرج عليهم أن يقتبسوها من غيرهم إن لم تكن عندهم.

لقد كان الرسول يخطب على جذع نخلة في المدينة، فلما كثر المسلمون، واستقر لهم الأمر، استدعى له نجاراً رومياً، فصنع له منبراً من ثلاث درجات، فكان يخطب عليه، ولم يقل: هذا من صنع رجل رومي فلا أستعمله. وفي (غزوة الأحزاب) أشار عليه سلمان بحفر خندق حول المدينة يحميها من الغزاة المشـركين، فأعجب برأيه ونفذه، ولم يقل: هذا من أساليب المجوس، لا نأخذ به..

وكذلك جاء أصحابه من بعده، فسنوا أنظمة وأعمالاً لم تكن في عهد الرسول، مثل تدوين الدواوين، وتمصير الأمصار، وجمع القرآن في مصاحف، وتوزيعه على الأقاليم، وتخصيص أناس لوظيفة القضاة وحدها، وإدخال نظام البريد، وغير ذلك من الأمور التي لا ريب في فائدتها، وحسن أثرها، والتي لم يضق هذا الدين بها صدراً. كيف وقد سنها الراشدون المهديون، الذين تعد سنتهم جزءاً من هذا الدين، يهتدي بها، ويعض عليها بالنواجذ؟!

لقد شاء الله أن يتضمن هذا الدين كلمات الله الأخيرة للبشـرية، بعد أن بلغت أشدها، واستحقت أن ينزل عليها الرسالة العامة الخالدة، فلا عجب أن أودع فيه من السعة والتيسير والمرونة ما يواجه به التطور، ويصلح لكل بيئة، وكل أمة، وكل جيل. بل أودع فيه من القيم والأفكار، والأصول الفكرية والخلقية والتشـريعية، مما يدفع إلى النمو والحركة والرقي، وما يكفي لخلق حضارة ربانية إنسانية، تلتقي فيها الدنيا والدين، والعلم والإيمان، والتمدن والأخلاق.

إنه لا يرفض كل تطور، ولو كان يحمل في ثناياه العلم والحكمة والحق والخير. ولا يقبل كل تطور، ولو كان يحمل في تياره الفساد والانحراف والسقوط، وإنما يرد كل أمر إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق، والميزان. فإن الله لم يدع خلقه هملاً، ولم يتركهم سدى، بل أعطاهم المعيار الذي به يقومون كل شيء في الحياة.

 

الجمع بين القديم النافع والجديد الصالح:

إن الإسلام يرفض الجمود، ويدعو إلى الحركة الدائبة المستمرة، ولكنه يريدها حركة هادفة عاقلة، لا حركة هوجاء مخربة. يريدها حركة النهر الدافق في مجراه الأمين، لا حركة السيل المنهدر المنطلق بلا مجرى ولا ضوابط ولا حدود. إن النهر والسيل كلاهما يجري ويتحرك بماء عذب، ولكن النهر يشيع الحياة والخضـرة والبركة حيثما جرى، والسيل يعقب الدمار والخراب ويهلك الزرع والضرع حيثما سار.

إن الإسلام يريد للإنسان أن يتحرك ويعمل، بشـرط أن تكون حركته إلى هدف يليق بإنسانيته الكريمة على الله، وأن تكون في دمار مأمون، يأمن فيه أن يتحطم أو يحطم. إنها -كما قال الشهيد سيد قطب-: (الحركة داخل إطار ثابت، وحول محور ثابت).

إن الإسلام يقبل التطور العاقل الصالح، الذي تحكمه قيم الحق والخير والفضيلة، وتضبطه موازين العدل الذي أنزل الله به كتابه، وبعث به رسوله، أما الانطلاق العربيد فهو كالجمود البليد، كلاهما مرفوض في نظر الإسلام([35]).

وفي مجال السياسة الشـرعية، يقرر الدكتور يوسف أن السياسة الشـرعية ليست جموداً ولا انغلاقاً، بل هي متحركة بحركة الحياة، متطورة بتطور المجتمع، متجددة بتجديد الفكر، وهي تتسع للاجتهاد والتجديد في الفروع والجزئيات والظنيات، في ضوء الأصول والكليات والقطعيات، فهي تفهم المتغيرات في إطار الثوابت، والظنيات في دائرة القطعيات، كما تتسع هذه السياسة الشـرعية للإبداع والابتكار في مجال الوسائل والأساليب والآليات التي تتسم بالتغير، والقيم الكبرى التي تتسم بالثبات.

والدكتور يوسف من دعاة الوسطية في هذا المجال مجال السياسة الشـرعية فهو يقول: "لا ريب أن موضوع السياسة الشرعية مهم وخطير، والفقهاء من عهد ابن القيم وما قبله، ما بين جامد حجّر ما وسع الله في شـريعته، وغلّق الأبواب على ولاة الأمر، فاستحدثوا قوانين سياسية بمعزل عن الشـريعة، ومرّخصٍ بالغ في البحبحة لهم؛ حتى اجترؤوا على حدود الله وحقوق الناس. والمنهج الوسط هو المطلوب دائماً؛ فهو لا يخلو ولا يقصر؛ ولا يطغي ولا يخسر في الميزان.

ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنهج الوسطي في عصـرنا؛ وخصوصاً في هذا الموضوع الذي قد كثر فيه اللغط؛ واختلط فيه الصواب بالغلط؛ وتنازعت في الإفتاء فيه مدارس متباينة في أهدافها، وفي مناهجها: ما بين (متسيبين) لا يريدون أن يتقيدوا بشـيء؛ ولا أن تضبطهم ضوابط؛ ولا أن تحكمهم أصول وقواعد؛ زاعمين أنهم إنما يحكمون روح الدين؛ ومقاصد الشرع؛ وهم أبعد الناس عن مقاصد الشرع؛ وروح الدين.

وما بين (حرفيين) جامدين يعيشون في الماضي وحده؛ ويجترون القديم؛ ولا يعايشون العصـر؛ ولا يحسون بما تمور به الحياة من أفكار؛ ولا ما يجري في العالم من حولهم من أحداث؛ وما يجّد كل يوم من جديد؛ لا يكاد يلاحقه الناس؛ فهؤلاء في غفلة عن مقاصد الشرع؛ وعن مشاكل العصر.

وما بين (وسطيين) يحاولون أن يجمعوا بين الحسنيين؛ بين فقه الشـرع وفقه الواقع؛ بين استلهام القديم والانتفاع بالجديد؛ بين الاستهداء بالتراث واستشراف المستقبل؛ بين النظر إلى المقاصد الكلية وإلى النصوص الجزئية؛ وفهم هذه في ضوء تلك، فهم يجتهدون ألا يطغوا في الميزان، وأن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسـروا الميزان. وأنا أرجو أن أكون من هؤلاء.

وشأن هؤلاء شأن أهل الوسط دائماً، لا يرضون أياً من الطرفين، ولا يعجبون واحداً من الفريقين السابقين.

ولكن هؤلاء هم الذين يناط بهم الأمل؛ وينعقد عليم الرجاء في إنقاذ الأمة؛ والرقي بها؛ وفق منهج الإسلام، عقيدة وشريعة؛ ومثلا وحضارة؛ موازنين بين ثوابت الشـرع ومتغيرات العصـر؛ متخذين من التراث نوراً يهدي؛ لا قيداً يعوق؛ جامعين بين القديم النافع والجديد الصالح"([36]).

وبالوسطية الإسلامية الجامعة، تتزامل (الرواية) و(الدراية) في مأثورات الثقافة الإسلامية.. "فأقوم المناهج ما مزج بين الرواية والدراية، وجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وألّف بين تراث السلف ومعارف الخلف"([37]).. متجاوزاً الثنائية المفتعلة بين (الرأي) و(الأثر) في التعامل مع المرويات..

وإذا كانت الحداثة الغربية وهي المؤسسة على (التنوير الغربي.. الوضعي.. العلماني)، إنما تقيم قطيعة معرفية مع الموروث، ومع الموروث الديني على وجه الخصوص.. فإن الوسطية الإسلامية الجامعة تؤلف بين ما يسميه الدكتور يوسف (القديم النافع، والجديد الصالح)، دونما تعصب لأي منهما.. "فلقد شهد عصـرنا صراعاً مريراً بين القديم والجديد، تمخض عن فئات ثلاث من الناس: فئة تتشبث بالقديم كله، على ما فيه من شوائب وانحرافات.. وفئة تبنت الجديد كله، بما فيه من نقائص وسيئات.. وفئة وقفت موقف الوسط، وقالت نتمسك بكل قديم نافع، ونرحب بكل جديد صالح.."([38]).

ثم يتحدث الدكتور يوسف عن منهجه الوسطي الجامع إزاء هذه الثنائية، وعن موقعه بين فرقاء النزاع حول القديم والجديد، فيقول: "لم أكن أقرأ الأقوال والنصوص قراءة المقلد المتحيز، بل قراءة الفاحص الممحص، الباحث عن الحق، لا يبالي أين وجده، ولا مع من وجده، قد يجده عند المتقدمين، وقد يجده عند المتأخرين، وقد يجده في مدرسة الرأي، وقد يجده في مدرسة الحديث، وقد يجده في فقه الظاهرية، وقد يجده في المذاهب الأربعة، وقد يجده عند غيرهم من الأئمة، وما أكثرهم.

إنني لم أقف مع المتعصبين المتزمتين الجامدين على كل قديم، والزاعمين بأن لا أئمة بعد الأربعة، ولا اجتهاد بعد القرون الأولى، ولا علم إلّا في كتب المتأخرين المقلدين، ومن عارضهم في ذلك اتهموه بكل نقيصة.

ومع هذا، لم أكن لأنساق وراء أدعياء الاجتهاد الذين لم يملكوا وسائله، ودعاة التجديد الذين سخر منهم الرافعي الأديب بأنهم (يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر)!!

وإنما أقف موقفاً وسطاً عدلاً: أرحب بكل جديد نافع، وأحرص على كل قديم صالح.. وهكذا انتفعت بالقديم والجديد، دون تزمت ولا تحلل.."([39]).

ولهذا الموقف الوسطي الجامع، الذي ينتمي إلى الأمة، كل الأمة، ويحتضن تراثها كله، مختاراً منه الصالح والنافع، دونما تعصب لمذهب أو فريق أو عصـر أو إمام. توجه الدكتور يوسف بالنقد إلى:

المدرسة المذهبية: التي تحصـر الاجتهاد المعاصر في حدود مذهب لا تتعداه، فلا تأخذ من المذاهب الأخرى.. و"هذا الصنف يتمسك بأقوال الأقدمين من أئمة المذاهب، وأتباعهم، لا يحيد عنها، ولا يرضى بها بديلاً، معتقداً أن السلف لم يتركوا شيئاً للخلف، رافضاً كل اجتهاد جديد، أياً كان صاحبه، وكانت الحاجة إليه، فلا يقبل هؤلاء اجتهاداً انتقائياً، ولا إنشائياً، لا فردياً ولا جماعياً، ظانين أن كتب الأقدمين تحوي كل شيء، وفيها إجابة عن كل سؤال، غافلين عما طرأ على الحياة من تغيير هائل، وتطور كبير، بعد الانقلاب الصناعي، والتطور التكنولوجي، والتواصل العالمي، الذي جعل العالم (قرية كبرى)، كما قال أحد الأدباء"([40]).

وإلى المدرسة الظاهرية الحديثة: المدرسة النصية الحرفية، وجلّهم ممن اشتغلوا بالحديث، ولم يتمرسوا بالفقه وأصوله، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط، ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشـريعة وتعليل الأحكام، ورعاية المصالح، وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال.

"وهذا الصنف يدّعي التمسك بالنصوص، وخصوصاً من السنة، رافضاً أقوال المتقدمين والمتأخرين، جاعلاً من نفسه (مذهباً خامساً)، يحكم على المذاهب كلها، ولا تحكم عليه! يقول عن الأئمة العظام، بل الصحابة الكرام: هم رجال، ونحن رجال!.. وأنا أسمي هؤلاء (الظاهرية الجدد)، وإن لم يكن لهم علم الظاهرية، ففيهم حرفيتهم، (وهؤلاء يقفون جامدين عند ظواهر النصوص، ولا يمعنون النظر إلى مقاصدها، ولا يفهمون الجزئيات في ضوء الكليات، ولا غرو أن تراهم يقيمون معارك حامية من أجل أمور هامشية في الدين، وأنا لا أتهمهم في دينهم، ولكن آفتهم في عقولهم، حيث إنهم لا يراعون المكان أو الزمان، فهؤلاء في حاجة أن نرشد خطاهم، وننير بصيرتهم).. وكثيراً ما يغفل هؤلاء عن طبيعة النصوص الجزئية، ودلالاتها، وملابسات ورودها، أهي عامة أم خاصة، مطلقة أم مقيدة، محكمة أم منسوخة، ثابتة أو متغيرة، موجبة أو مخيرة، أصلية أم فرعية، قطعية أم ظنية؟.. فلا بد من النظر في هذا كله، ليعلم ما يقبل تعدد الأفهام، وما لا يقبل، وما يحتمل وجهة نظر جديدة، وما لا يحتمل، وما تغير فيه الفتوى بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأعراف والأحوال، وما لا يتغير بحال. وهذا ما يحتاج إلى أهلية خاصة، وأفق واسع، كثيراً ما يفقده أولئك المتشددون الذين يحجّرون ما وسع الله"([41]).. وكذلك وجّه نقده إلى مدرسة تبرير الواقع!

انتقد الدكتور يوسف هذه المدارس الثلاث، لأنها انحازت إما للقديم وحده، أو الجديد دون سواه.. إما للأثر وحده، أو للرأي لا تتعداه.. ودعا إلى مدرسة رابعة: "مدرسة الوسط، والاتجاه المتوازن، الذي يجمع بين اتّباع النصوص ورعاية مقاصد الشريعة، فلا يعارض الكلي بالجزئي، ولا القطعي بالظني، ويراعي مصالح البشر، بشرط ألا تعارض نصاً صحيح الثبوت، صريح الدلالة، ولا قاعدة شرعية مجمعاً عليها، فهو يجمع بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر"([42]).

وإذا كان تراثنا الفقهي قد فصّل القول في شروط الاجتهاد.. وميادينه.. وأنواعه، ومراتبه.. فإن الدكتور يوسف يدعو إلى كل ألوان الاجتهاد ومستوياته.. ففي المستجدات، التي لم يعرفها السابقون، ومن ثم لم تعرض لها المذاهب والاجتهادات الموروثة، نحن في حاجة إلى (الاجتهاد الإنشائي)، الذي يستنبط الأحكام الجديدة من المصادر الأصلية، والمتصلة بالأصلية، للشريعة الإسلامية.. وفي الميادين التي تأتي حاجاتنا فيها (الاجتهاد الانتقائي)، الذي يختار من الاجتهادات السابقة، بعد المقارنة والترجيح، يكون الطريق هو هذا (الاجتهاد الانتقائي).. وقد يحتاج الأمر، في ميادين أخرى إلى الجمع بين (الانتقاء) و(الإنشاء) في الاجتهاد الجديد والمعاصر([43]).

 وإذا كان هذا هو موقف الدكتور يوسف من قضية الإحياء المعاصر للاجتهاد الإسلامي.. فإن ممارساته الفكرية، كما تجسدت في مشروعه الفكري، قد جاءت ثمرة لهذا الموقف الاجتهادي، في القضايا التي عرض لها، وكتب فيها.. فهو عالم رفض التقليد، ومارس الاجتهاد.. ولم يقف، فقط، عند الإدانة القولية للتقليد، ومارس الاجتهادات.. ولم يقف، فقط، عند الإدانة القولية للتقليد، أو التزكية النظرية للاجتهاد.. فهو يقول: "أنا لا أحسن التقليد، ولم أحاول في حياتي أن أكون نسخة من أحد"([44]).. ثم يؤكد مذهبه (الوسطي- المنضبط) في هذا الأمر؛ فيقول: "إنني ضد الجمود والتقليد والتعصب، ولكنني بنفس القدر ضد الانفراط والتحلل والتسيب. إن الذي أؤمن به، وأدعو إليه، وأدافع عنه، هو: المنهج الوسط للأمة الوسط. هو الاجتهاد بكل أنواعه ودرجاته: كلياً وجزئياً، فردياً وجماعياً، ترجيحياً وإنشائياً، بشرط أن يصدر من أهله في محله، منضبطاً بضوابطه الشرعية المعتبرة، بعيداً عن غلو الغالين، وتفريط المفرطين..". وانطلاقاً من هذا المنهج الوسطي، وتطبيقاته له، جاء المشروع الفكري للدكتور يوسف في الفقه والدعوة واحداً من مشاريع الاجتهاد والتجديد في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة.

وهذه الوسطية الإسلامية الجامعة، قد استصحبت الدكتور يوسف القرضاوي في فقهه للواقع، كما اعتمدها في فقهه للأحكام. فرأيناه ينظر بمنظارها إلى قضية موقف الإسلام من ملكية الثروات والأموال، ذلك الموقف الذي لم يتحيز إلى الملكية الفردية بإطلاق.. ولا ضدها بإطلاق، وإنما جمع انطلاقاً من فلسفته الاجتماعية المتميزة بين الملكية الخاصة والملكية العامة في الثروات والأموال.. "فالإسلام لا يحمي كل ملكية، ولو جاءت من طريق حرام، وإنما يبسط حمايته على الملكية التي جاءت من طريق مشروع.. كما يقر الملكية الجامعة في الأشياء الضرورية لجميع الناس.. ومن هنا أخرج الإسلام من نطاق الملكية الخاصة: الأشياء التي لا يتوقف وجودها، ولا الانتفاع بها، على مجهود خاص، ويكون جماهير الناس محتاجين إليها، فجعل ملكيتها جماعية عامة، حتى لا يستبد بها فرد أو أفراد، فيضار المجتمع من جراء ذلك. إن الحرية الاقتصادية المطلقة أو شبه المطلقة التي يحبذها الرأسماليون كالمساواة الاقتصادية المطلقة، التي يحلم بها الشيوعيون كلتاهما ليست فضيلة محمودة، بل رذيلة ممقوتة، ولهذا، فإن الإسلام حين أباح للإنسان حرية التملك لم يدع له الحبل على الغارب.. بل وضع حدوداً للكسب والتملك، وحدوداً للتصـرف في الملك، تثميراً أو استهلاكاً، وفرض حقوقا ًمعينة على المال المملوك، إذا بلغ نصاباً مقدّراً، وحقوقاً أخرى يعينها أولو الأمر، أو تحدّدها الضـرورات والحاجات.. فقيّد الإسلام من جموح الحرية الاقتصادية، بما وضع من حدود، وما فرض من حقوق، وما ألزم من قيود، أحل بها الحلال، وحرّم الحرام.. إنها حرية اقتصادية مقيدة بالعدل الذي فرضه الله، وليست مطلقة، كالتي توهمها قوم شعيب: {أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}([45]).."([46]).

المعالم الرئيسة للمشروع الفكري الوسطي عند الدكتور يوسف القرضاوي:

ومن المعالم الرئيسة للمشـروع الفكري الوسطي، عند الدكتور يوسف القرضاوي: أنه فكر وسطي الوجهة والنزعة، فهو فكر تتجلى فيه النظرة الوسطية المعتدلة المتكاملة للناس والحياة، النظرة التي تمثل المنهج الوسط للأمة الوسط، بعيداً عن الغلو والتقصير.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: تتميز وسطية هذا الفكر في موقفه المعتدل من قضايا كبيرة مهمة:

فهو وسط بين دعاة المذهبية الضيقة، ودعاة اللامذهبية المنفرطة.

وسط بين أتباع التصوف، وإن انحرف وابتدع، وأعداء التصوف، وإن التزم واتبع.

وسط بين دعاة الانفتاح على العالم بلا ضوابط، ودعاة الانغلاق على النفس بلا مبرر.

وسط بين المحكمين للعقل، وإن خالف النص القاطع، والمغيبين للعقل، ولو في فهم النص.

وسط بين المقدسين للتراث، وإن بدا فيه قصور البشـر، والملغين للتراث، وإن تجلت فيه روائع الهداية.

وسط بين المستغرقين في السياسة على حساب التربية، والمهملين للسياسة كلية بدعوى التربية.

وسط بين المستعجلين لقطف الثمرة قبل أوانها، والغافلين عنها حتى تسقط في أيدي غيرهم بعد نضجها.

وسط بين المستغرقين في الحاضر غائبين عن المستقبل، والمبالغين في التنبؤ بالمستقبل كأنه كتاب يقرأونه.

وسط بين المقدسين للأشكال التنظيمية كأنها أوثان تعبد، والمتحللين من أي عمل منظم، كأنهم حبات عقد منفرط.

وسط بين الغلاة في طاعة الفرد للشيخ والقائد، كأنه الميت بين يدي الغاسل، والمسرفين في تحرره، كأنه ليس عضواً في جماعة.

وسط بين الدعاة إلى العالمية، دون رعاية للظروف والملابسات المحلية، والدعاة إلى الإقليمية الضيقة، دون أدنى ارتباط بالحركة العالمية.

وسط بين المسرفين في التفاؤل متجاهلين العوائق والمخاطر، والمسرفين في التشاؤم فلا يرون إلاّ الظلام، ولا يرقبون للظلام فجراً.

وسط بين المغالين في التحريم، كأنه لا يوجد في الدنيا شيء حلال، والمبالغين في التحليل، كأنه لا يوجد في الدين شيء حرام.

هذه هي الوسطية التي يتبناها هذا الفكر، وإن كان الغالب على مجتمعاتنا اليوم السقوط بين طرفي الإفراط والتفريط، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم([47]).

هكذا مثلت منهج الوسطية الإسلامية الجامعة واحدة من أهم القضايا، ومعلماً من أبرز المعالم، وقسمة من أخطر القسمات في المشـروع الفكري لعالمنا الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي.

فضمنت لهذا المشـروع الجمع بين السلفية في الدين، تلك التي تنطلق من المنابع الجوهرية والنقية للمرجعية الإسلامية، وبين التجديد لهذا الدين، بالعقلانية الإسلامية المؤمنة التي تفقه الأحكام.. وتفقه الواقع المتجدد.. وتعقد القران بين فقه الواقع وفقه الأحكام، لتحقق المصالح الشـرعية المعتبرة، وتستشـرف المستقبل المنشود لأمة الإسلام.. ففيها وبها تجتمع الأصالة المتميزة.. والمعاصرة المتميزة.. والمستقبلية المتميزة.. جميعاً!


([1]) الاجتهاد المعاصر: 91 للقرضاوي.

([2]) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم: 53.

([3]) كيف نتعامل مع السنة النبوية. د. يوسف القرضاوي: 24.

([4]) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد: 141ـ142.

([5]) سورة الملك، الآيتان: 10-11.

([6]) العقل والعلم في القرآن الكريم، د. يوسف القرضاوي: 21.

([7]) سورة النور، الآية: 35.

([8]) الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، د. يوسف القرضاوي: 106-107.

([9]) ثقافة الداعية، د. يوسف القرضاوي: 129.

([10]) رواه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، برقم (3116)، ومسلم برقم (1037) كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة. والترمذي برقم (2645) كتاب العلم، وابن ماجه برقم (220) في المقدمة. قال الحافظ في الفتح (1 / 164): وفي الحديث إثبات الخير لمن تفقه في دين اللَّه، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح اللَّه عليه به، وأن من يفتح اللَّه عليه بذلك لا يزال جنسه موجوداً حتى يأتي أْمر اللَّه، وقد جزم البخاري بأن المراد بهم أهل العلم بالآثار.

([11]) العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي: 300-302.

([12]) الحياة الربانية والعلم، د. يوسف القرضاوي: 22.

([13]) ثقافة الداعية، د. يوسف القرضاوي: 95، 96.

([14]) الحياة الربانية والعلم، د. يوسف القرضاوي: 15.

([15]) المرجع السابق: 103.

([16]) سورة البقرة، الآية: 111.

([17]) العقل والعلم في القرآن الكريم، د. يوسف القرضاوي: 96،97.

([18]) سورة النمل، الآية: 64.

([19]) سورة الزخرف، الآية: 19.

([20]) سورة الأحقاف، الآية: 4.

([21]) سورة النجم، الآية: 28.

([22]) سورة النجم، الآية: 23.

([23]) رواه البخاري، كتاب الآداب، باب ما ينهي عن التحاسد والتدابر، ومسلم ، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس، رقم (2563). وأبو داود والترمذي وأحمد.

([24]) سورة البقرة، الآية: 170.

([25]) رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو، وقال: هذا حديث حسن غريب. و(الإمعة): هو الذي لا رأي له، فيواتي الناس بالخير والشر.

([26]) سورة الأعراف، الآية: 185.

([27]) سورة الذاريات، الآية: 21.

([28]) سورة آل عمران، الآية: 137.

([29]) الرسول والعلم، د. يوسف القرضاوي: 38-40.

([30]) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم: 62.

([31]) المرجع نفسه: 69.

([32]) المرجع نفسه: 69-72..

([33]) الاجتهاد المعاصر للشيخ يوسف القرضاوي: 4.

([34]) رواه أحمد في مسنده: 6/123، ومسلم في كتاب الفضائل، بَاب وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ، رقم (4358).

([35]) من أجل صحوة راشدة: 56 – 62.

([36]) السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي: 8 –9.

([37]) المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، د. يوسف القرضاوي: 41.

([38]) الفتوى بين الانضباط والتسيب، د. يوسف القرضاوي: 63.

([39]) فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي: 1/21-22.

([40]) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، د. يوسف القرضاوي: 64.

([41]) المصدر السابق.

([42]) الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، د. يوسف القرضاوي: 88.

([43]) المصدر السابق: 32-33

([44]) تفسير سورة الرعد، د. يوسف القرضاوي: 13.

([45]) سورة هود، الآية: 87.

([46]) دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف القرضاوي: 114، 118،350.

([47]) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، د. يوسف القرضاوي: 114-115.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق