08‏/01‏/2023

جلال الدين الرومي رائد الاتحاد والحلول ووحدة الوجود

 د. سعد سعيد الديوەجي

    من المعلوم أن الفكر الإسلامي يقوم على فكرة وجود الخالق (جل جلاله)، القادر على كل شيء والذي ليس كمثله شيء. وصلته بمخلوقاته، وأسماها الإنسان، تقوم على مبدأ الطاعة، وفق ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشـريفة، ولا تمييز بين البشـر إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح. ولقد أطلق المتصوفة الحلوليون مصطلحات الاتحاد بالله ووحدة الوجود والعشق الإلهي والفناء في الله، وهذه المبادئ تُخالف القرآن جملةً وتفصيلاً، ولا نكاد نلمس في هذه المصطلحات أدنى إشارات قرآنية، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}(الزمر/٦٢)، وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ

مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(غافر/٥٧)، وقوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}(لقمان/٢٨).

إن رائد فكر الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، هو جلال الدين الرومي (604-672هـ)، الذي اشتهر بلقب (مولانا)، من خلال ما يُشاع فقط بدون ذكر الأفكار التي طرحها باسم التصوف، وهو التصوف الحلولي – السياسي، وأصله الباطني الذي تبلورت مبادؤه على يد أبو اليزيد البسطامي (ت261هـ)، والحلاج (ت309هـ)، وغيرهما، وكانت بدوافع إرجاع المجد الفارسي المندرس؛ كهدف باطني بعيد. لهذا، فليس من المستغرب أن نجد معظم هذه المفاهيم قد نشأت في أوساط أعجمية، ومُجمل رجالها من الفرس.

وببساطة؛ فالتصوف الحلولي هو الإيمان بين اللاهوت (علم الله وذاته)، ودمجه بالناسوت (طبيعة البشر وما فيها). والمؤمنون بوحدة الوجود يعتبرون أن اللاهوت يتحد بالناسوت ويحل فيه، على أُسس باطنية غامضة، وأن وحدة الوجود تجعل من الخالق وكل المخلوقات شيئاً واحداً. كذلك عبّر المتصوفة الحلوليون، وهم دعاة الإسماعيلية الخفية، عن الاتحاد والحلول ووحدة الوجود بكلمات (العشق الإلهي)، و(الفناء في الله). فحب الله في قلب كل مؤمن، لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ.. }(البقرة/١٦٥).

وقد نشأت وتبلورت هذه الأفكار حول الحركة الإسماعيلية – الباطنية، التي اتبعت كل الأساليب في سيرها نحو هدفها، ومنها التصوف الحلولي، والغلو في آل البيت، وادعاء الانتساب إليهم.

وقبل الخوض في صلب الموضوع، فهذا التصوف هو عكس التصوف السني، الذي لخصه الجنيد البغدادي (ت298هـ)، بقوله: (من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة)، وكان يؤكد بأن الطُرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول ((صلى الله عليه وسلم))، واتبع سنته، ولزم طريقته.

والإسماعيلية حركة باطنية انشقت عن التشيع، بعد وفاة جعفر الصادق (148هـ)، واعتبرت ابنه (إسماعيل) - الذي توفي قبل والده (138هـ) - هو الإمام السادس، ومن بعده ابنه محمد (ت192هـ). وتشير المصادر السنية والشيعية بأن إسماعيل لم يكن على سيرة أبيه في التقوى والصلاح، وأن الغموض يلف كثيراً مما ورد حول تاريخ ووجود ابنه محمد، والذي تفرعت منه السلالة الفاطمية على ما يدعون، ولهذا يُسمون بـ(السبعية)، حيث استغنوا عن جعفر الصادق من سلسلة الأئمة. ويعود ذلك إلى رفعه إلى مرتبة الألوهية في علم الباطن، وهو ما زرعه أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي، وتبرأ منه الإمام جعفر، ولعنه، قبل أن يُقتل عام (145هـ).

والإسماعيلية منظمة سرية باطنية، بكل ما تعنيه الكلمة، وليس من السهل الكتابة عنها، لما يلف تاريخها من غموض، كما يقول المستشرق (بيرنارد لويس) (ت2018م)، الذي كانت أطروحته للدكتوراه حول الموضوع، حتى أنه يقول: "بأن الماسونية الحديثة، والتنظيم اليسوعي، قد أخذا أُسسهم التنظيمية من الإسماعيلية"!.

ففي فكر الإسماعيلية أن لكل ظاهر باطناً، ولذلك آمنوا بالديصانية، التي تقول بأن أصل كل شيء هو الإيمان بمبدأ النور والظلمة؛ والنور إله الخير، والظلمة تمثل إله الشر، وهما في صراع دائم. وهو ما كانت تؤمن به أديان فارس القديمة؛ كالزرادشتية، والمانوية، والمزدكية.

ولذلك، فللإسماعيلية تفسيراتها الباطنية الخاصة بها، "فالوضوء هو موالاة الإمام، والتيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الحجة، والصلاة هي الناطق الذي هو الرسول ((صلى الله عليه وسلم))، والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هي عليه من الدين، والطواف بالبيت سبعاً هو موالاة الأئمة، والجنة براحة الأبدان عن التكاليف، والنار بمشقتها بمزاولة التكاليف،... إلخ".

نجحت الإسماعيلية – الباطنية، في إقامة الدولة الفاطمية في شمال أفريقيا عام (297هـ)، على يد عبيد الله المهدي، الذي اعتبرته الإسماعيلية المهدي المنتظر، بعد هروبه من (السَلمية) في الشام، وانكشاف حقيقته أمام حلفائه القرامطة، وبعد أن مهد له الدعاة نشر عقيدته بين قبائل البربر، وعلى رأسهم عبد الله الشيعي، وشقيقه العباس، الذين قتلهما المهدي لاحقاً، لأنهما كانا يعرفان حقيقة الدعوة الفاطمية، وأن المهدي لم يكن علوياً ولا ينتمي لسلالة آل البيت، وإنما يرجع نسبه إلى عبد الله بن ميمون القداح الفارسي، أحد أشهر مؤسسي الإسماعيلية، والذي قسم الإمامة عند أتباعه (الإسماعيلية)، إلى (إمامة مستقرة)، و(إمامة مستودعة)، فالأئمة الحقيقيون هم أبناء وأحفاد محمد بن إسماعيل، ولهم حق توريث الإمامة، أما الإمامة المستودعة، فإن الإمام يقوم بدور الإمام الحقيقي استناداً إلى مبدأ التقية والخوف على الإمام المستقر، وهي أكبر خدعة استطاع عبد الله بن ميمون غرسها في الحركة الإسماعيلية.

انتقلت الدولة الفاطمية إلى مصر في زمن المعز لدين الله (341-365هـ)، لأن تطلعهم كان نحو الشرق وإنهاء الدولة العباسية.

في زمن المستنصر بالله (427-487هـ)، انقسمت الدولة الفاطمية على يد الحسن الصباح (ت518هـ)، إلى قسمين، بعد أن ادعى أنه استطاع تهريب نزار (الابن الأكبر للمستنصر) معه إلى شمال فارس، بعد الفتنة التي حصلت أيام المستنصر، وانقسمت فيها الدولة الفاطمية إلى قسمين.

فاستمرت الخلافة في مصر بابن المستنصر المدعو (المستعلي) (487-495هـ)، الذي صار إماماً للدولة في (مصر) وهو طفل صغير، بعد أن قُتل نزار على يد الوزير القوي (الجمالي)، وصار إماماً مستقراً في (آلموت)، كما ادعى الحسن الصباح!، ويسمون أتباعه بالإسماعيلية النزارية.

اتخذ الحسن الصباح قلعة (آلموت) الحصينة عاصمة له، واتبع تكتيكاً جديداً بالاستيلاء على القلاع الحصينة في شمال فارس، ومنها كان يبث دعاة الإسماعيلية إلى كل مكان، والحشاشين الذين اشتهروا بعمليات الاغتيال لخصومهم، وعلى الأخص السلاجقة. وكانت هذه الدولة تقوم على ثقافة فارسية إسماعيلية، بينما كانت الإسماعيلية في (مصر) قد تأثرت بالمحيط العربي، وعلى الأغلب كان هذا هو سبب الانقسام. (انظر الجدول المرفق):

 

جدول الحكام الإسماعيليين النزاريين في آلموت (483-654هـ / 1090-1256م)

بصفتهم دعاة وحججاً

1

الحسن الصباح

483 – 518 /1090 – 1124

2

كيا بزورك – أوميد

518 – 532 /1124 – 1138

3

محمد بن بزورك – أوميد

532 – 557 /1138 – 1162

بصفتهم أئمة

4

الحسن الثاني

557 – 561 /1162 – 1166

5

نور الدين محمد

561 – 607 /1166 – 1210

6

جلال الدين حسن

607 – 618 /1210 – 1221

7

علاء الدين محمد

618 – 653 /1221 – 1255

8

ركن الدين خورشاه

653 – 654 /1255 – 1256

* عن كتاب فرهاد دفتري – تاريخ الإسلام الشيعي

 

انتهت الدولة الفاطمية في (مصر) على يد صلاح الدين الأيوبي (سنة 567هـ)، ودولة الإسماعيلية النزارية في (آلموت) وما حولها، على يد المغول (سنة 654هـ)، ولكن العقيدة الإسماعيلية – الباطنية لم تمت، ولذلك نجد أن الزمن الذي ولد فيه جلال الدين الرومي كان زمناً مضطرباً سياسياً ودينياً، حيث برز السلاجقة على مسرح الأحداث، وكانوا على المذهب السني، ويستمدون شرعيتهم من الخلافة في بغداد، ورافقه صعود الخطر المغولي من الشرق.

ولد جلال الدين الرومي عام (604هـ) في مدينة (بلخ)، وهي ضمن الحدود الأفغانية حالياً، وهو من أصول فارسية، واسمه الأصلي محمد بن محمد بن حسين البلخي البكري.

وأما لقبه (الرومي)، فيرجع الى استقراره في (أرضروم) (= أرض الروم)، حيث اتخذ محل سكناه في بلدة (قونية)، وهي في شرق تركيا الحالية. أما لقبه (البكري)، فيرجع الى ادعائه بأنه ينتسب لمحمد بن أبي بكر (رض) الذي يحظى بمكانة متميزة لدى الشيعة عموماً، ومن غير المعقول أن يتم الربط بين النسب العربي والفارسي في نسب واحد!. والشيعة ينسبون قولاً لعلي (رض): (محمد ابني من صلب أبي بكر)، وكان من المشتركين في قتل عثمان (رض).

رُزق الرومي بولدين هما: علاء الدين، وبهاء الدين، والأخير على اسم جده، والذي عرف لاحقاً باسم بهاء الدين أو (سلطان ولد)، وكان له دور كبير في تأسيس الطريقة المولوية.

توفي والد الرومي، واسمه (بهاء الدين)، عام (628هـ)، وكان داعياً من دعاة الإسماعيلية، وواعظاً في مسائل المذهب الحنفي؛ كجزء من تصرف التقية الشائع في المذهب الإسماعيلي، أو لوجود تيار جديد ظهر أيام الإمام الخامس نور الدين محمد (561-607هـ)، خلط فيه بعض الإسماعيلية معتقداتهم ببعض ممارسات أهل السنة.

ومن المعلوم أن الفكر الصوفي عموماً، والحلولي على وجه الخصوص، ينشر ويعمل على إضفاء الأساطير والخرافات والمعجزات حول رجاله، والذي حظي الرومي بجزء وافر منها. ومن هذه الأساطير أن الرومي التقى مع والده بفريد الدين العطار (540-618هـ) وهو طفل صغير، وكان ذلك عام (608هـ) بعد هروب والد الرومي من أمام السلطان علاء الدين محمد خوارزمشاه إلى (نيسابور). والعطار شاعر فارسي، ومن شيوخ الصوفية الباطنية، والذي قال لوالد الرومي: (احرص على هذا الجوهر الثمين، ولا تغفل عنه)، ثم أهدى هذا الطفل الصغير كتابه (مثنوي أسرار نامة). وبهذه الأسطورة تم ربط الرومي بالعطار لأنهما على منهج واحد، وهو منهج والد الرومي على الأغلب، أي الصوفية الحلولية.

في عام (630هـ)، ذهب الرومي إلى الشام للقاء المتصوف الكبير ابن عربي (558-638هـ)، وهذا اللقاء مشكوك بصحته، لأنه لا يترك أي أثر في أعمال الرومي الشعرية، على عكس (العطار) و(السنائي) (ت451هـ/1150م)، حيث لهما تأثير كبير في مؤلفات الرومي، وهو نفسه قد صرح بذلك.

فالسنائي هو صاحب كتاب (إلهي نامة)، أي الرسالة الإلهية، والذي يُعرف بكتاب (حديقة الحقيقة)، الذي تأثر به وبطريقته الصوفية الباطنية إلى حد كبير، وهو القائل: (دعك من كل كلام يُبعدك عن الطريقة (التصوف الحلولي)، سواء كان كفراً أو إيماناً)!، وهذا لا يعني إلا ترك الشريعة في حالة معارضتها للتعاليم الباطنية – الصوفية. والدارسون لسيرة جلال الدين الرومي يعزون معظم ممارساتها في العزف (السماع) والرقص الدوراني إلى (سنائي).

ولعل أهم شخصية أثرت بالرومي هي (شمس الدين التبريزي)، حيث يلف هذه الشخصية الكثير من الغموض، وكان ذلك في عام (642هـ/1244م).

ويدعي أنصار الرومي ومحبوه بأن لقاء الرومي بالتبريزي كان محض صدفة، بعدة أشكال خرافية؛ منها: أن التبريزي كان واقفاً بباب خان، ومرّ الرومي فأمسك بعنان مِطية جلال الدين، وقال له: يا إمام المسلمين، هل أبو اليزيد البسطامي أعظم أم مُحمد (صلى الله عليه وسلم)؟، ثم تقول الأسطورة: ومن هيبة السؤال خُيل للرومي أن السموات السبع قد تفطرن وسقطن فوق الأرض، واندلعت نار عظيمة في الرأس، ومنها خَرج دخان وصل إلى قاعدة العرش!.. وواضع الأسطورة يريد أن يقول أن منزلة أبو يزيد البسطامي عند الباطنية – الصوفية توازي منزلة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتقارن بها!، ولا تقول لنا الأسطورة ماذا كان جواب الرومي!.

والبسطامي (ت261هـ) - كما هو معلوم - كان باطنياً للعظم، وكان يستشعر اتحاد ذاته بذات الله، وهي فكرة الفناء بالله، وجذورها هندية.

ويُنسب للبسطامي قوله: (ما أعظم شأني)، وأي شأن أعظم من أن يبلغ مرتبة الألوهية، ويتحقق له الاتحاد التام بالله، كما أشاع هو. والإسلام لا يعترف بمثل هذه المبهمات التي هي خارج الشرع وعقيدة التوحيد.

وتقول الأسطورة بأن سلوك الرومي تغير بعد هذا اللقاء، فانقطع عن تلامذته ومريديه، وقال: (إن شمس الدين تبريزي هو الذي أراني طريق الحقيقة، وهو الذي أدين له بديني وإيماني)!، والحقيقة أن في هذه الحكاية بُعداً سياسياً يغفل عنه معظم دارسي سيرة الرومي.

فالتبريزي، ورغم هيئته الرثة، قد كان شقيق آخر أئمة (حكام) الإسماعيلية النزارية؛ الإمام الثامن (ركن الدين خورشاه) (653-654هـ)، (لاحظ الجدول المرفق)، وهو الذي قتله المغول عندما اجتاحوا (آلموت).

وكما يقول د. مصطفى غالب (وهو باطني – إسماعيلي معاصر): بأن التبريزي لم يكن إلا حداً من حدود الإسماعيلية (دعاتها الكبار)، وأخذه الرومي إلى داره، وبقيا معاً لا يفترقان لمدة عامين، لا يخرجان إلا لضرورة ملحة!.

وتقول مصادر أخرى بأن التبريزي كان يكسب النقود لطعامه من تفسير الأحلام وقراءة الكفوف، ولم يكن أحد يصدق الرؤى التي قال إنها تراوده، وكانوا ينعتونه بالمجنون.

وادعى التبريزي بأنه كلم الله والملائكة في هذه الرؤى، وكان يتقن الفارسية والعربية والتركية.

وهو بهذه الهيئة يكون من زمرة الملامتية (فقراء الصوفية)، أو يتظاهر بها. ويرى المؤرخ (جولدتسهير) بأن الملامتية كانوا يثيرون السخرية والفضيحة بمسلكهم، وما يجر عليهم من مذمة الناس، ويرتكبون من الأعمال ما يُعد مخجلاً للدرجة القصوى. وفي هذا المجال يقول الرومي: (اهجر فرقتك، وكُن موضع الاحتقار، واخلع عن نفسك ثوب المجد، ودع الذكر، وانشد نفور الناس)، أي أنه من مشجعي هذا المسلك للملامتية.

وهذا يعني أن التبريزي، الذي صار شيخ الرومي، كان يتظاهر بالملامتية رغم انحداره العائلي من سلسلة أئمة آلموت، وأن هذا الشيخ لم يأتِ من المجهول، وأن لشخصيته بعداً سياسياً – صوفياً باطنياً عميقاً، وقد يُمثل خطاً معيناً داخل الإسماعيلية النزارية، بعد تفاقم الخلافات بين أطرافها المتعددة.

اختفى التبريزي فجأةً، فحزن عليه الرومي، وعرف أخيراً أنه في (دمشق)، فأرسل في أثره ولده الكبير (سلطان ولد)، وجلبه معه إلى (قونية).

وشأن كل الكتب الباطنية أو معظمها، حيث يسود الاضطراب الفكري جوانبها، فإنها لا تقدم لنا سبب اختفاء أو هروب التبريزي فجأةً إلى (دمشق)، ولا سبب اغتياله فيها عام (645هـ/1248م)، سوى أن طلاب الرومي ومريديه هم الذين قتلوه ورموا جثته في بئر، لأنه حرمهم من أستاذهم وشيخهم. وهو تعليل سقيم لا يقبله منطق ولا عقل.

والحقيقة أن هنالك بعداً سياسياً وعقائدياً لاغتيال هذه الشخصية المبهمة، حيث اختفى علاء الدين، الابن البكر للرومي، وهو على الأكثر قُتل مع الإمام السابع علاء الدين محمد في الوقت نفسه.

لقد ترك موت التبريزي جرحاً غائراً في نفسية الرومي، مما جعله يؤلف ديواناً كاملاً باسمه، ترك فيه بصمات الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، بقوله:

برغم أن الوجود ليس سوى جزء من شمس تبريز..

هو جزء يحجب الروح من مصدره..

يا شمس تبريز، أنت شمس لفها غيم الكلمات..

عندما طلعت شمسك محت الأقوال..

وفي كتاب (مناقب العارفين)، لـ(الأفلاكي)، الذي كتبه في (قونية) عام (718هـ/1318م)، في سيرة الرومي ومناقبه، وكان (الأفلاكي) قد استقى معلوماته من ابن الرومي (بهاء الدين)، وحفيد الرومي، الذي تنسب له كرامات كثيرة.

وتوجد عدة نسخ مختلفة من كتاب الأفلاكي فيها تعديلات كثيرة، ونحن لسنا بصدد عرض الكتاب، وما فيه من تناقضات، ولكن سنقتبس بعض الحكايات التي تؤكد الاضطراب الفكري والسلوكي، وعدم ثبوتها على مبدأ واحد، غير مبدأ التصوف الحلولي – الباطني الخارج من رحم الإسماعيلية النزارية.

فموقف الرومي - مثلاً - من المغول يشوبه الغموض، ولكن يقال إنه مستمد من شيخه التبريزي، فكان يسمي عساكر المغول المشركين بعساكرنا، وكان يثني على (هولاكو) بأنه ابتهل إلى الله حتى مكنه من دخول (بغداد). وكان شيخه (التبريزي) يقول عن أحد قواد هولاكو أنه ولي. وكان الرومي وشيخه التبريزي يغضبان من كل من حاول أن يعلن في مجلسهما العداء للمغول، أو أن يحدث الناس عن مظالمهم.

وهي مسألة معقدة، إلا إذا تخلى الرومي وأستاذه عن التصوف الحلولي (تقيةً)، وأعلنا بأنهما لا يتصلان بحكام (آلموت) بأية صلة!.

إن اغتيال الإمام علاء الدين محمد (الإمام السابع)، والد ركن الدين خورشاه، على يد أحد رجاله المقربين، ومقتل ابن الرومي البكر علاء الدين، يعكس حالة الاضطراب السياسي السائدة آنذاك، الذي كانت تعيشه الحركة الإسماعيلية، والصراعات السياسية داخلها.

 وهنالك رواية أخرى تقول بأن التبريزي قُتل في (أذربيجان) عام (1248م)، وله ضريح هناك، وهي رواية ضعيفة.

إن تذبذب الروايات حول التبريزي، كونه من الدعاة الكبار في الحركة الإسماعيلية، وبنسب مشترك مع الطبقة الحاكمة، أو أنه درويش أُمي لا يحسن القراءة والكتابة، ثم اجتماع كل هذه العوامل لتخلق منه شخصية تقلب سلوك الرومي رأساً على عقب، لهو أمر محير وغريب.

وديوان (شمس تبريزي)، الذي كتبه الرومي، يمثل ذلك الأثر العميق الذي تركه موت التبريزي لدى الرومي. ونهجه يشتمل على قصائد وغزليات صوفية يبلغ عددها (3500) قطعة، ويبلغ عدد أبيات الديوان نحو (43000) بيت، تدل على أن للتبريزي مكانةً كبيرة في الحركة الإسماعيلية. وهذا دليل على علو كعب التبريزي داخل الحركة الإسماعيلية النزارية، مستخدماً التقية كدرويش تائه.

إن كتابة ديوان ضخم على أساس الحزن على موت التبريزي لا يمكن تعليله إلا بفقدان حد كبير من حدود الإسماعيلية ودعاتها.

فعن إيمانه بالحلول والاتحاد، يقول عن شيخه التبريزي:

- ما أسعد تلك اللحظة، حيث نجلس في الإيوان أنا وأنت..

- بدون نقشين وصورتين، ولكننا روح واحد أنا وأنت..

- فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة، أنا وأنت..

وفي مكان آخر يقول:

- من ذا الذي قال إن شمس الروح الخالدة قد ماتت؟

- ومن الذي تجرأ على القول بأن شمس الأمل قد تولت؟

- إن هذا ليس إلا عدواً للشمس، وقف تحت سقف وربط عينيه ثم صاح ها هي ذي الشمس تموت..

وعن مكانة التبريزي السامية يقول الرومي:

- يا شمس تبريز، حدثنا بسر الملوك ذوي الطبيعة الملكية، فبدون حرف ولا صوت ولا لون ولا رائحة، بل بدون الشمس، كيف يشرق الضياء؟..

ويقول الرومي:

- إن الاحتراق بالنار نصيب الكافر، ولم أر محروقاً من نارك سوى أبي لهب..

ولو لاحظنا هذا البيت بدقة، فهو يستغني عن قوله تعالى بقوله (يقولون)، ولأن أبا لهب سيذهب للنار، فهو محروم من نار محبة تبريزي.

وعن المكانة العالية لتبريزي في قالب وحدة الوجود، يقول:

- صب لي من الخمر ما أتخلص به من ذاتي، فإني لم أر في الذاتية والوجود سوى التعب، يا من أنت اللبن والسُكر!، يا من أنت الشمس والقمر!، يا من أنت الأم والأب!، إني لم أر نسباً سواك.

- يا شمس تبريز، إنك أنت الشمس وراء سحاب الأحرف!، فإذا ما طلعت شمسك امحت كل الكلمات!.

ويستمر الرومي في مدح التبريزي ليضعه في مصافي الألوهية، أو ما يشبه، فيقول:

- يا روح عناصر العالم الأربعة، إن جمالك مبارك على الماء والهواء والنار والغبراء..

-  إن كل ما زرعت لن يصيبه الضياع..

- وما غرس أحد بذور الدين إلا كان مباركاً..

- إني أسجد، لأن ترابك على الرأس مثل التاج!..

ويقول الرومي:

- مرحى بالملك شمس تبريز، طائر السعد الإلهي..

- إنه شمس، لا شرقية ولا غربية، ولا يحتويها مكان!..

لقد غالى الرومي في ديوان (شمس تبريزي) قبل أن يكتب (المثنوي) فيقول: (دين الحب منفصل عن كل أشكال الديانات، والعاشقون أمة واحدة، وهذا هو الله)، وهذا هو عين الغلو في وحدة الوجود.

وكانت إشاعة الأساطير حول الرومي إحدى مهام شيخه التبريزي، والذي لا زالت العلاقة بينهما مبهمة إلى حد كبير، حيث ينقل عن التبريزي قوله: (من أراد أن يرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فلينظر إلى مولانا (جلال الدين الرومي)، فإن فيه حركات الرسول وحاله... والآن فإن مفتاح الجنة هو مولانا). وقال التبريزي: (أُقسم بالله يميناً أثر يمين، لقد وقعت في قبضة مَلِك (يعني جلال الدين الرومي)، لو أراد أن يعلو بي إلى العرش لفعل، أو يهبط بي للأرض لفعل).

ومن كل هذه المعطيات، فكيف يكون الرومي مريداً وتابعاً للتبريزي؟، فقد روى (الأفلاكي) بأن جلال الدين كان يصف التبريزي بالإله، فيقول للتبريزي: "أنت إلهي الذي أوصلتني إلى الحق، وأنت الحق الذي أديت حقي، حيث علمتني مذهب الوجود به، وعرفتني أنك وجميع الممكنات إله، ولولا أنت لكنت أعتقد كما يعتقد أتباع الرسل والأنبياء من الأئمة والعلماء والجماهير والدهماء أن الله تعالى هو غير وجود الكائنات، خالق للمخلوقات، موجود للموجودات الحادثة على ما ثبت بقواطع العقل).

وينقل (الأفلاكي) بأن شخصاً قال للتبريزي: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن شمس الدين (التبريزي) رسول الله. فلما سمع الناس هذا ثاروا به، وهموا بضربه، بل وتقدم أحدهم فضربه. فلما رأى الشمس (التبريزي) هذا صرخ صرخةً مات لها ذلك الضارب، فخضع الناس له، وبكوا، وعادوا عبيداً له"!.

ومن كل هذه المعطيات بين الشخصيتين نلاحظ الاضطراب بينهما، ولا ندري من هو شيخ من، ومن يتبع من؟.

بعد مرحلة تبريزي، يبدأ الرومي بتأليف ديوانه الأشهر (المثنوي)، حيث تشير معظم المصادر الإسماعيلية إلى أسطورة طريفة في شأن بداية كتابته، وهي أن أحد مريديه المدعو حسن حسام الدين (622-683هـ)، هو الذي شجع الرومي على الكتابة. وتصفه بعض المصادر المولوية بأنه أول خليفة للمولوية بعد (مولانا)، وآخر مُلهم للرومي. وتقول الإسطورة بأن حسن حسام الدين عندما طلب من الرومي كتابه المثنوي، أخرج الرومي من عمامته طوماراً (لفائف ورقية) فيها ثمانية عشر بيتاً فقط، وكان ذلك عام (660هـ) على الأغلب، وأعطاها له، فصار كظلهِ الذي لا يفارقه أينما ذهب، حتى أن أحد النصوص يقول بأنه كان ملازماً له في البيت والسوق والخان، وحتى في الحمام، والرومي ينظم وحسام الدين يكتب!.

ثم نصبه الرومي خليفةً له، كما كان المتصرف في كل شؤون الزاوية المالية والتنظيمية أثناء حياة الرومي. وقد وصفه الرومي في المثنوي بأنه مفتاح خزائن العرش، وأمير كنوز الفرش، وبايزيد الوقت، وجنيد الزمان. ويصفه في مكان آخر: "هو لي الابن والأب، وهو لي النور والبصر".

وكل هذا يوصلنا إلى أن حسن حسام الدين كان شخصية متميزة في التنظيم الإسماعيلي – الباطني، الذي اتخذ من التصوف الحلولي طريقاً له.

وللرومي كتب ورسائل كثيرة، منها كتاب (فيه ما فيه). وأشهرها ديوان (المثنوي)، الذي يتكون من (25632) بيتاً، وهو من أشكال الشعر الفارسي، وتعني كلمة مثنوي بالعربية النظم المزدوج، الذي يتحد به شطرا البيت الواحد، ويكون لكل بيت قافيته الخاصة به. ويتكون المثنوي من سبعة أجزاء، ولكن الجزء السابع يُقال أنه منحول.

ومما جاء في المثنوي، في مقدمة المجلد الأول، مقلداً فيها آيات من القرآن، لا بل يضع معتقداته فوق آيات القرآن، فيقول:

"إن المثنوي هو أصل الدين، في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، يشرق إشراقاً أنور من الإصباح، وهو جنان الجنَان، ذو العيون والأغصان، منها عين تُسمَّى عند أبناء هذا السبيل سلسبيلا، وعند أصحاب المقامات والكرامات خيرُ مقاماً وأحسن مقيلا، الأبرارُ فيه يأكلون ويشربون، والأحرارُ منه يفرحون ويطربون".

وقال في المثنوي: "إنه قرآن، ولم لا يكون قرآناً وما هو إلا نور أسرار الحق، وهو كنيل مصر شراب للصابرين، وحسرةٌ على آل فرعون والكافرين، كما قال يُضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً،..."!.

والنص واضح وضوح الشمس بأن هذا الكلام هو استنساخ للآية (35) من (سورة النور)، وفي هذا الوصف يجعل المثنوي فوق القرآن لأنه أصل الدين، وهو كلام أقرب للكفر منه للإيمان.

قال الرومي في الجزء السادس من المثنوي رقم (2248):

- لو أصبحت الغابات أقلاماً، وكانت البحار مدراراً، فلا تخالن أن المثنوي سينفد..

ويوجد نسخة مخطوطة في (مكتبة يوأسفا أغا)، في (قونية)، رقم (5547)، كتب على ظاهر جلدتها: (لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين).

وقال أحد كبار الصوفية، وهو الجامي، عن الرومي: (وهو ليس بنبي، ولكن له كتاب).

وكان الرومي يعتقد أن الرسول متمثل في جسد الحلاج.

وينقل (الأفلاكي) روايات عديدة وغريبة عن الرومي، منها:

- أن مولانا (الرومي) دخل خاناً لمغنية جميلة، ودخل معها غرفتها من الصباح إلى المغرب، يتعبد عندها!، وأعطاها قطعة من قماش عمامته، فجعلتها في شعرها، مما أضفى إليها جمالاً يأخذ الألباب لكل من رآها..

والحقيقة أن معظم قصص وأبيات المثنوي جاءت تقليداً لكتاب كليلة ودمنة، وما تركه العطار وسنائي في إلهي نامة وحقيقة الحديقة، مع بعض الحشو لأساطير خارج المعقول، وتجنٍّ على القرآن؛ مثل سجود المسيح (ع) ليحيى (ع)، وكلاهما في بطن أُمه. وكذلك يفصل يحيى (ع) فيسجد للمسيح (ع)، وهي خرافة ليس لها موقع من الإعراب. وقصة أخرى عندما يوقظ إبليس معاوية (رض) للصلاة، ويدور بينهما حوار أقرب إلى السفسطة منه إلى الوعظ الديني. وقصص أخرى مثل: البقال والببغاء، والأسد والوحش، وقصص الإعرابي وزوجته،...إلخ، ثم يجري حشر الحِكم داخل هذه الأساطير ليعطيها بعداً دينياً وأخلاقياً، كما فعل إخوان الصفا من قبل.

والغلو في علي (رض) لا يخفى على أحد، لأن الإسماعيلية ترفع الأئمة إلى مرتبة قريبة من الألوهية، فيقول:

- منذ كانت صورة تركيب العالم.. كان علي..

- منذ نُقشت الأرض وكان الزمان.. كان علي..

ذلك الفاتح الذي انتزع باب خيبر..

- بجملة واحدة .. كان علي..

- كلما تأملت في الآفاق، ونظرت فيها

أيقنت بأنه في الموجودات.. كان علي..

- أن من كان هو الوجود، ولولاه

لسرى العدم في العالم الموجود.. (إياه) كان علي..

إن سر العالمين الظاهر والباطن

الذي بدأ في شمس تبريز.. (إياه) كان علي..

والقصيدة واضحة، تضع (علي)اً (رض) سراً للوجود، ولولاه لسرى العدم في العالم الموجود، والذي كان شمس تبريزي واحداً من تلك التجليات!.

ومن هذا نرى أن الرومي والعطار وحافظ شيرازي كان بينهم وبين العقيدة الإسماعيلية ارتباط روحي لا يمكن إخفاءه، كما كانت للحلاج قبلهم بثلاث قرون.

وعن وحدة الوجود يقول الرومي:

- بدأت أتعب من المخلوقات، أُريد جمال الخالق، لكن حين أتطلع هناك، أرى نفسي، وحين أتطلع إلى نفسي، أرى ذلك الجمال..

وهذا المبدأ يختلط مع مبدأ وحدة الوجود والعدمية، التي يعبر عنها الرومي بالشكل التالي:

أين المسلمون.. ما التدبير، وأنا نفسي لا أعرف نفسي..؟!

فلا أنا مسيحي، ولا أنا يهودي، ولا أنا مجوسي، ولا أنا مسلم..!!

ولا أنا شرقي، ولا أنا غربي، ولا أنا بري، ولا أنا بحري..

ولا أنا من عناصر الأرض والطبيعة، ولا أنا من الأفلاك والسموات..

ولا أنا من التراب، ولا أنا من الماء، ولا أنا من الهواء، ولا أنا من النار..

ولا أنا من العرش، ولا أنا من الفرش، ولا أنا من الكون، ولا أنا من المكان، ولا أنا من الهند، ولا أنا من الصين، ولا أنا من البلغار، ولا أنا من الكون..

ولا أنا من العراقيين، ولا أنا من بلاد خراسان..!!

ولا أنا من أهل الدنيا، ولا أنا من أهل العقبى، ولا أنا من أهل الجنة، ولا أنا من أهل النار..!!

ولا أنا من نسل آدم، ولا أنا من نسل حواء، ولا أنا من أهل الفردوس، ولا أنا من أهل جنة الرضوان..

وإنما مكاني حيث لا مكان، وبرهاني حيث لا برهان..

فلا هو الجسد.. ولا هو الروح.. لأنني في الحقيقة من روح الروح الحبيب..!

وهذه القصيدة تجسد للعدمية ووحدة الوجود بكل ما تعنيه الكلمة، ناهيك عن إبطال عقيدة الإسلام، بعد وضعها في خط واحد مع المسيحية واليهودية والمجوسية.

ولهذا السبب، فإن هذه الأفكار تلقى ترحيباً واسعاً في الأوساط الغربية، التي تميل للعدمية أو وحدة الوجود.

ويعطي صورة مبهمة عن الله - جل جلاله - في وحدة الوجود والاتحاد والحلول، فيقول كذلك:

- يظهر الجمال الخاطف في كل لحظة في صورة..

- فيحل القلب، ويختفي..

- في كل نفس يظهر ذلك (الصديق) في ثوب جديد..

- فشيخاً تراه تارةً، وشاباً تراه أخرى..

- وأصبح البتار في زمانه..

- لا، لا، بل هو الذي ظهر في صورة إنسان..

- وصاح: أنا الحق..

ويستخدم المتصوفة الحلوليون مصطلح (الحق) للدلالة على اسم الله - جل جلاله-، وهذه الأبيات تدل بوضوح على وحدة الوجود التي يتجلى فيها الله تعالى كصديق، فقد يتجلى كشيخ أو شاب، أو حتى في هيئة جماد في هيئة سيف علي (رض). وكما قلنا فإن هذه التعابير مرفوضة رفضاً كاملاً على ضوء القرآن الكريم والشريعة الإسلامية.

ويعبر الرومي عن وحدة الوجود تارة أخرى بالشكل التالي:

(إذا كان الإنسان يعتقد بأن الله موجود في مكان ما خارجه، فإنه لن يجده. وهذه الرحلة تعبر عن البحث في الله، والبحث عن الله رحلة لا نهاية). فتارة يستخدم تعبير (البحث في الله)، وأخرى (البحث عن الله).

إن أحد ظواهر أشعار المتصوفة الحلوليين استخدامهم التعبير الغزلي في أشعارهم، مما شكل عنصر جذب عند السامعين والقراء. ثم يعزو البعض حياد هؤلاء المتصوفة عن طريق القرآن والسُنة بأنها (شطحات)!.

وبالنسبة للرومي فقد اشتهر - أكثر من غيره - بأنه خرج على المأثور من تقاليد الإسلام، عندما أقام للسماع (الموسيقى) مكاناً في مراسيم طريقته الصوفية، بالإضافة للرقصة المولوية، التي يصاحبها العزف على الناي والطبل.

أما وجود ضريح يزوره الناس من كل حدب وصوب، فيعود - كما يقول (نيكلسون) - بأن مؤسس كل طريقة يصبح إمام مذهب، وصوفياً يكتسب شيئاً من الصفات الإلهية، ويصبح مقره بعد موته مقام تقديس واحترام. والذي قام به الرومي أنه هيأ النفوس لتقبل هذه الفرضيات.

وهنا لنا وقفة خاصة عن علاقة البهائية - الفئة المنحرفة عن الإسلام - بالرومي ونهجه. فصلة البهائية بالرومي شيء كبير، إلى حد كبير، خصوصاً عندما يصدر من شخصية لها وزن كبير مثل (محمد إقبال)، الشاعر والمفكر الشهير، حيث ينعت الرومي بالشيخ العظيم، ولا ندري هل كان الأمر مقصوداً أم عن جهل!؟ واعتبر المثنوي الكتاب الثاني بعد القرآن، وليست السنة النبوية!.

فقد ألف محمد إقبال (ت1357هـ/1938م)، ديواناً شعرياً مثنوياً (بالفارسية تعني مزدوج القافية)، من ألفي بيت، ويعتبر فيها جلال الدين الرومي هادياً لشرح أسرار المعراج، إلى جانب تمجيده للحلاج!، فهل كان إقبال إسماعيلياً وباطنياً أيضاً؟.

ويقول بحق الرومي:

صير الرومي طيني جوهرا      من غباري شاد كوناً آخرا

ويضع إقبال روح الحلاج في تطوافه الكوني الخيالي في فلك المشتري مع (قرة العين) البابية (ت1269هـ/1852م)، إحدى أهم الشخصيات في تاريخ تأسيس البهائية المنشقة عن الإسلام، والتي ألغت الشريعة من الدين، وكانت إحدى ركائز البهائية، إلى حين إعدامها في إيران عام (1852م).

ولأن أرواحهم لم تجد لها مستقراً في الجنة، فجعلت تطوف على الدوام وإلى الأبد، بالإضافة إلى الرومي و(نيتشة)، صاحب نظرية (موت الإله)!.

إن الخلط بين مقاصد التصوف الحلولي والبهائية، يضع مقاصد محمد إقبال موضع الريبة والشك، فهل كان محمد إقبال يخفي بهائيته، ثم باللاشعور يمجد شخصيات التصوف الحلولي والشخصيات البهائية؟!

ويقول مؤسس البهائية (الميرزا حسين علي النوري)، والمعروف بلقب (بهاء الله): "لعمري أول من سجد لي محمد، ثم علي، ثم الذين هم شهداء من بعده، ثم أبواب الهدى الذين سبقوا إلى أمر ربهم، وأولئك هم الفائزون، وأنهم سيعرضون عليّ". فهل مزج إقبال بين النهج الإسماعيلي – الحلولي وبين البهائية، وهو الملقب بـ(شاعر الإسلام)؟! وذهب أبو الحسن الندوي بنفس الاتجاه تقريباً!

أما في الوقت الحاضر، فإن أشهر من كتب عن الرومي وطريقته الصوفية الحلولية هو (فرانكلين د. لويس)، والذي يعرض فيه سعة انتشار أشعار الرومي، وطريقة رقص المولوية، في الولايات المتحدة خصوصاً، فيشير إلى تعرفه على أشعار الرومي من خلال نصوص تعبدية ودينية خاصة من كتاب الأودية السبعة (seven valleys) لبهاء الله (1817-1892م)، مؤسس الديانة البهائية، حيث يقتبس أبياتاً كثيرة من الرومي ومؤلفاته. ولا يزال ضريح بهاء الله في (عكا)، في (فلسطين)، حيث يحج أتباعه إليه هناك، برعاية إسرائيلية لا تخفى على أحد.

والحقيقة أن كتاب (فرانكلين د. لويس) مملوء بالمعلومات عن الاحتفالات التي قامت بها كل الفئات؛ مثل البوذية الوجودية والبهائية وغيرها، بمناسبة ذكرى ولادة الرومي، التي صادفت عام (2007م) حسب التقويم الميلادي.

 

أهم المصادر (حسب أهميتها)

1.إبراهيم الدسوقي شتا، في ترجمة وشرح وتقديم (المثنوي)، لمولانا جلال الدين الرومي، المركز القومي للترجمة، ط5، القاهرة، 1995م.

2.آدم متنز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، ج2، دار الكاتب العربي، بيروت.

3.بيرنارد لويس، أصول الإسماعيلية، ترجمة: خليل أحمد وجاسم الرجب، دار الكاتب العربي، مصر، 1947م.

4.سعد سعيد الديوەجي – أسطورة الحلاج – دراسة في أصول التصوف الحلولي السياسي، ط1، الدار العربية للموسوعات، 2014م، 1435هـ.

5. د. عبد الوهاب المسيري، الحلولية ووحدة الوجود، مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2018م.

6. د. فرهاد دفتري، تاريخ الإسلام الشيعي، ترجمة: سيف الدين القصر، دار الساقي، بيروت، 2017م.

7.د. كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التشيع والتصوف، دار المعارف، ط2، 1969م.

8. د. مصطفى غالب، جلال الدين الرومي، من متاهات الحقيقة حتى بلوغ الجوزاء، دار الرافدين، بيروت، 2017م.

9. فرانكلين د. لويس، الرومي ماضياً وحاضراً، شرقاً وغرباً، ترجمة: أ.د.عيسى علي العاكوب، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، 2016م، 1437هـ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق