08‏/01‏/2023

الشكُّ المنهجي.. الغزالي وديكارت أنموذجاً

آزاد قزاز

الباحث الأكاديمي في جامعة ليوفين - بلجيكا 

معلوم أن الشك ظاهرة بشـرية تظهر بين حين وآخر في تاريخ الفكر الإنساني، سواء بين المتدينين أو الفلاسفة أو العلماء؛ كل في مجاله. وهذا الشك هو حالة نفسية مستحدثة، تبرز عند الذين يقعون في الشك، عندما يبدو لهم أن ما اكتسبوه من معرفة متوارثة، إنما بُنيت على التسليم بها مسبقاً، دون تفكير وتدليل. وعندما يرون أن الواقع يشير إلى خلل في معرفتهم المكتسبة، ومن ثم أصبحوا واعین

أن عقيدتهم لم ترسو على أساس متين، حينئذ يبحث الشاكّ عن الحقيقة الضائعة. الشاكّ يمر بعملية عقلية متتابعة، ثم يكون في حالة نفسية قلقة، لأنه يشعر أنه لم يعد يقف على أرضية صلبة، ومن ثم لا يتمتع بالاطمئنان الروحي، لذا هو يبحث عن المُنقذ الذي يدله على الطريق، ويرشده إلى الحقيقة، ومن ثم الوصول إلى الیقین المنشود: المؤمن يبحث عن حقيقة إيمانه، الفيلسوف يبحث عن حقيقة معرفته، وأما العالم فيبحث عن حقيقة علمه ومعلومه.

هناك من يقع في شباك الشك دون إرادته، كما حدث لأبي حامد الغزالي (1058-1111م)، في العالم الإسلامي، حينما ذاق مرارة الشك في إيمانه وأحسّ بألمه. وهناك من يصطنع الشك كي يتأكد من مسلماته وأُسس معرفته، كما فعل الفيلسوف الفرنسـي الأصل (رینیە دیکارت) (1596-1650م)، في العالم المسيحي([1]).

إن الشك من خلال التساؤل، للوصول إلی الیقین، هي من أهم ميزات الإنسان المفكر. بمعنى آخر: إن المفكر یتخذ من الشك وسیلة ومنهجاً في التفکیر، کي یصل إلی الحقيقة المنشودة.

 وفي تاريخ الفكر، الغزالي ودیکارت رائدان مشهوران، قاما بعمل عظيم في مجال الشك والبحث عن اليقين، وترکا آثاراً بالغة الأهمية في العالمين الإسلامي والمسيحي. أوجه التشابه بینهما لا تقتصـر فقط علی إنتاج الشك لديهما، بل تكمن في أهمية هذا النوع من الشك في بناء فکرهما، إنْ كان كلامياً([2]) أو فلسفياً، وقد سمّي هذا النوع من الشك، فيما بعد، بـ(الشك المنهجي). وهو شك يقوم على منهج، باحثاً عن أصل جديد، ليكون مرتكزاً له، بعد أن تهاوى الأصل القديم، کي یصل من خلاله إلى اليقين. أي أنه إجراء مرحلي یهتدي الشاك من خلاله إلى حقيقة، يمكنه أن یشعر فیها بالاطمئنان النفسـي والیقین الروحي. قوام التفكر في الحقيقة هو التساؤل، والتساؤل ضرب من الشك الأولي، وإن لم يبد ذلك جلياً أثناء التفكير، إلا أنه حقيقة متضمنة فيها. وما من مفكر أصيل إلا وكان الشك نقطة البداية التي انطلق منها، وعى المفكر بذلك أم لا.‏

 كان أبو حامد الغزالي من أوائل من أرسوا قواعد هذا الشك المنهجي، وتبعه الفيلسوف الفرنسـي (رينيه ديكارت) بعد ما يقارب أربعة قرون.‏ استحوذ الغزالي بتأثيره الساحر، على عقول المسلمين، وانكمشت أهمية الفلسفة في العالم الإسلامي، بسبب انتقاده للفلاسفة، ولا يزال هذا التأثير جارياً إلى يومنا هذا. أما (ديكارت)، فأصبح رائداً للفلسفة الحديثة، وواحداً من أهم فلاسفة العصـر الحديث([3]). الحقيقة أن الفيلسوفين كليهما لم يبتغيا من الشك إلا اليقين.

يقول أبو حامد الغزالي، مثلاً:

وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي(‏[4]).

أما (ديكارت)، فيقول:

لا بد لي مرة في حياتي من الشـروع الجدي في إطلاق نفسـي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد لي من بناء جديد من الأسس، إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئاً وطيداً مستقراً([5]).

هنا من المفید أن نذكر أن الشك لا یأتي من فراغ، بل لا بد أن تکون هناك أسباب خارجية متراكمة، ودوافع نفسية متزاحمة. كما يصف الغزالي حالته قائلاً:

ولم أزل في عنفوان شبابي، منذ راهقت البلوغ قبل العشـرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن كل عقيدة وفرقة، وأستكشف أسـرار مذهب كل طائفة، لأميّز بين محق ومبطل، ومستسن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سـر صوفیّته (تصوفه)، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته([6]).

 أما (ديكارت)، فقد فعل كما قال الغزالي في فحص موروثاته الفکریة والدينية وسبر أغوارها، قائلاً:

... سوف أفرغ جداً، وفي حرية، لتقويض كافة آرائي القديمة، على وجه العموم، وليس يلزم لهذا أن أبيّن أنها كلها زائفة، فهذا أمر قد لا ننتهي منه أبداً... فيكفي لرفضها جميعاً أن يتيسر، وأن أجد في كل واحد منها سبباً للشك(‏[7]).

إن السبب والدافع الحقیقي للشك عند الغزالي ودیکارت، هو ظهور خلل بین المعرفة الجديدة التي اكتسبوها، والعقيدة التي تأسست علی معرفة أصبحت بالية في نظرهم. یمکننا أن نعبر عن هذه الحالة بصيغة أخری، وهي: ظهور تناقض بین العلم والمعلوم، أو بین الفکر المكتسب والواقع الجديد. بمعنى أن العلم الذی اكتسبه الإنسان، والذي من خلاله يرى المعلوم، والفکر الذی یحمله الإنسان، ویقرأ به الواقع، يبدو مختلاً عند المفكر. بعبارة أخرى: يمكننا أن نقول إن الواقع الموجود، والفکر المكتسب لدى المفکر، لا ينسجمان ولا يتواءمان، هو هذا منبع الشك، الذي في حقيقته عملية عقلية، وتصبح حالة نفسية، يجد المفكر نفسه فيها قلقاً. هنا یرى المفکر علامة تشیر إلى تناقض بین ما یعتقده صحيحاً، وبین ما یراه خللاً في الواقع.

على الرغم من أن الغزالي وجد ضالته في التصوف، واستند إلى التجربة الروحية التي تتمتع بها الطرق الصوفية، كما يقول في كتابه (المنقذ) بأنه وصل إلى اليقين "بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف". في حين أن (ديكارت) وجد ضالته بالرجوع إلى الواقع أو العقل الذي يستنبط معرفته من الواقع، واستند هو أيضاً إلى تجربته الداخلية، للإحساس بوجوده هو ككائن يفكر، ثم انطلق منها إلى ما يستنتج من وجود غيره، كوجود الله والكون، بإطلاق مقولته الشهيرة: (أنا أفكر، إذاً أنا موجود).

 في الوقت الذي يصل الغزالي إلى اليقين بسبب نور من الله، إلى معيار لمعرفة الواقع، كما هو يقول، فإن ديكارت يصل إلى اليقين من نور الواقع إلى معيار لمعرفة الله، كما هو يستنتج.

لكي نفهم ظاهرة الشك، علينا بقراءة تاريخ الشك في الدین والفلسفة، ثم نقرأ معنى الفکر والواقع، وما هو تأثيره على الإنسان، ومعنى علاقة الإنسان بما حوله، وطريقة فهمه للوجود. أبو حامد الغزالي المتدين ورینیە دیکارت الفيلسوف، كانا نموذجين لنا في هذا المضمار. المرء يتساءل: لماذا ألمُ التشكّك يُمرضُ الغزالي([8])، ولا يمرض ديكارت؟ أين يكمن الفرق بين الشك الديني والشك الفلسفي؟ ماذا يتغير في كينونة الشخص الشاك، بعد وصوله إلى اليقين؟ ثم ما هو اليقين؟ هل اليقين هو حقيقة واقعة وملموسة، لـدى الذي يدعي الوصول إليه، أم تحوّل في زاوية نظره وعملية تفكيره؟ ثم لماذا العقل يشك، ولماذا الروح تبحث عن الیقین؟ هل الشك موصل الإنسان إلی الحقيقة الموضوعية فعلاً، أم الوصول إلى الحقيقة حالة نفسية جداً؟ للإجابة على كل هذه الأسئلة نحتاج إلى بحث واسع وعميق. أنا أردت في هذه الورقة أن أفتح باباً فقط في هذا المجال ليس إلا. المقال الموجز هذا لا يروي ظمأ الباحث قط.

في كل الأحوال شك الغزالي ممتع جداً، وحيوي أبداً، وإن لم يصلنا إلى مبتغانا اليوم. ونذهب إلى أن دعوة الغزالي إلی التحرر من المعرفة المتوارثة، وإعادة قراءتها في ضوء الواقع المتجدد، ودعوة دیکارت إلى الشك المنهجي للوصول إلى الحقيقة المنشودة، دعوة حیة متجددة علی مر الزمان([9]). یقول الغزالي – مثلاً – بهذا الصدد:

إذ الشكوك هي الموصلة إلی الحق، فمن لم یشك لم ینظر، ومن لم ینظر لم یبصـر، ومن لم یبصر بقي في العمی والضّلال، نعوذ بالله من ذلك([10]).

هذا ما یدعو إلیه دیکارت أيضاً، وهو یقول في کتابه (مقال عن المنهج):

کانت لديَّ رغبة قویة طوال حیاتي أن أتعلم کیف أمیّز الحق من الباطل، کي أكون علی بصیرة في أعمالي، ولکي أسیر علی هدی في حیاتي([11]).

وفي النهاية أود أن أقول:

 أقول ما أعرفه، ما أعرفه محدود، وما أجهله غير محدود.



[1]- هناك من تعايش مع الشك، کما فعل السفسطائيون فی القرن الخامس قبل الميلاد، مثلاً بروتاغوراس -زعيم الفلسفة السفسطائية - يقول إن في إمكان أي شخص أن يقول شيئين متناقضين في شيء واحد. وكان لا يؤمن بوجود الحقيقة الموضوعية. لذا هو يجعل الإنسان معياراً للحقيقة، لأنه هو الذي يقدم قيمة للمعرفة والحقيقة، وليست المعرفة والحقيقة تقدمان قيمة للإنسان. “The Sophists,” The Stanford Encyclopedia of Philosophy.      

[2]- إشارة إلى علم الكلام الذي ظهرت بداياته كعلم يبحث عن الوجود وخالقه على أسس فلسفية في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة. ثم تم تطوير هذا العلم من قبل المتكلمين الذين جاءوا في القرون التالية، لا سيما على أيدي المعتزلة. يُعد الغزالي بعض الأحيان من فلاسفة المسلمين، و بعض الأحيان من المتكلمين المسلمين.

 

[3]- هؤلاء الفلاسفة هم: ولهلم لايبنز (1646-1716)، بندوكت سبينوزا (1632-1677)، جون لوك (1632-1704)، جورج بيركلي (1685-1753)، دافيد هيوم (1711-1776)، ايمانويل كانط (1724-1804)، مع ديكارت، هؤلاء السبعة يعتبرون من الفلاسفة الذين أرسوا قواعد الفلسفة الكلاسيكية الحديثة. انظر:

 Richard Schacht, Classical Modern Philosophers: Descarts to Kant, (London: Routledge,1993), 1.

 

[4]- أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، (بيروت: المكتبة الشعبية،؟)، 24.

[5]- رينيه ديكارت، تأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة: عثمان أمين، (القاهرة: مكتبة القاهرة الحديثة، 1956)، 53.‏

[6]- المنقذ من الضلال، 24-25.‏

[7]- تأملات في الفلسفة الأولى، 53-54.

 

[8]- للحصول على معلومات حول مرض الغزالي بسبب الشك، يمكن القارئ أن يعود إلى: عبدالله محمد الفلاحي، نقد العقل بين الغزالي و كانط، (بيروت: مجد، 2003)،  73-75.

[9]- وإن كانت انتقادات الغزالي للفلسفة في زمنه قد شاركت في إخماد الروح الفلسفية في المجتمع الإسلامي، لكن بعض انتقاداته أصبحت مقبولة لدى بعض فلاسفة العصـر الحديث، وإن لم يكن بالمستوى المطلوب. مثلاً باحث غربي مثل (يوليوس وينبغ) يقول: إن قانون السببية أو العلية (يسمى الحدث السبب، ويسمى حدث آخر التأثير، بحيث يكون الحدث الثاني هو نتيجة الحدث الأول) الذي كان شائعاً بين فلاسفة اليونان والمسلمين، وأغلبهم آمنوا به. وجه الغزالي انتقاده إليه، واعتبر أن ذلك القانون ليس قانوناً حتمياً أو ضرورياً في الكون، بل هو تدخل الله المستمر في شؤون الكون. عدم حتمية قانون السببية أصبح مقبولاً عند (ديفيد هيوم) قائلاً إن قانون السببية ليس حتمياً، بل إن الإنسان تعود على تلك الظاهرة. المشاهدة المستمرة للإنسان لظاهرة "نتيجة معينة تأتي بعد سبب معين" جعل الإنسان يعتقد أن نتيجة معينة أثراً ضرورياً لسبب معين. بينما (هيوم) يجعل تعود الإنسان سبباً في الاعتقاد بحتمية العلاقة الضـرورية بين الأسباب ونتائجها، لكن في الحقيقة ليست هناك حتمية طبيعية لتلك العلاقة، الغزالي يعتقد أن ليست هناك حتمية الوجود في العلاقة بين السبب والنتيجة، بل الله هو الحاضر الدائم في تكوين تلك العلاقة. يبدو أن الآية {كل يوم هو في شأن} عند الغزالي لها مثل هذه الدلالة (قزاز).

Juluis R. Weinberg, A Short History of Medieval Philosophy, (Princeton: Princeton University Press, 1991), 123-124.

[10]- أبو حامد الغزالي، میزان العمل، 61.

[11]- ديكارت، مقال عن المنهج، ترجمة: محمود محمد الخضيري، (القاهرة: الهيئة العامة المصـرية، 1985) 175.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق