د. دحام إبراهيم الهسنياني
? يعد الإمام الشاطبي أحد رموز الفكر الوسطي في التشـريع الإسلامي خصوصاً، وفي الثقافة الإسلامية عموماً، فهو الذي استطاع أن يخرج بالفكر التشـريعي من الجمود والضمور إلى حيز الفعالية والوجود، باعتباره عاملاً من عوامل النهضة، وسبيلاً من سبل التنظير الاجتماعي والحضاري، فقاوم التقليد بشدة، مؤكداً على أهمية دور العقل في الاستنباط، واستطاع أن يبتكر منهجاً على درجة كبيرة من الإبداع والتجديد في النظر إلى الشـريعة الإسلامية، يقوم على مراعاة مقاصد الشـرع والتوسط بين مباني الألفاظ ودلالاتها ومعانيها. فكان لزاماً على كل من يتصدر للفتوى أن يتحرر من الأحكام المسبقة، وأن يتعامل مع النازلة بطريقة عقلية رشيدة، توفق بين الدلالة اللفظية ومقاصد الشـرع ومآلاته، وبمنهج وسطي معتدل. تلك هي رسالة الإمام الشاطبي في الاجتهاد والإفتاء.
ولمـا
كانت الشـريعة تتميّز بالوسطية واليسر، اتخـذ الإمام الشاطبي منهجاً وسطاً بعيداً
عن تنطّـع المغالين والمتشـددين، ومتجافياً عن تساهل المتساهلين، ويقرر - رحمه
الله - أن من خـرج عن الوسط فهو مـذموم عند الراسخين في العلم، ثم استدل بأحاديث
نبوية نهى فيها الرسول – صلى الله عليه وسلم
- عن التشـدد والحرج، ثم ختم كلامه قائلاً: "لأن
المستفتي إذا ذهب به مذهب التعنت والحرج، بُغِّضَ إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع
عن سلوك طريق الآخرة... وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال، كان مظنة للمشي مع الهوى
والشهوة. والشـرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك"([1]).
وفي
هذا البحث اعتمدت على كتاب الموافقات في أصول الفقه للإمام الشاطبي، هذا الكتاب
القيم الذي لا يستغني عنه طالب علم، والذي قال عنه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "ولقد
بنى الإمام الشاطبي حقاً بهذا التأليف (الموافقات) هرماً شامخاً للثقافة
الإسلامية، استطاع أن يشـرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قلَّ من
اهتدى إليها قبله؛ فأصبح الخائضون في معاني الشـريعة وأسـرارها عالة عليه، وظهرت
مزية كتابه ظهوراً عجيباً في قرننا الحاضـر، والقرن قبله؛ لما أشكلت على العالم
الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصـرية،
فكان كتاب: الموافقات للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع، لتصوير ما يقتضيه الدين من
استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة وصور الحياة
المختلفة"([2]).
التعريف بالإمام الشاطبي ومكانته العملية
هو
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي([3]). وكان الإمام
الشاطبي شغوفاً بالعلم، طالباً له من أهله، باحثاً عن كنوزه، كاشفاً لأسـراره، حيث
جمع أصول العلوم الشـرعية.
لازم الشاطبي ابن الفخار البيري إلى أن مات،
وأخذ عن كبار أئمة زمانه، منهم: أبو عبد الله المقري الكبير، ومفتي غرناطة الشيخ
الشهير أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب التغلبي، وابن مرزوق الجد، والمحقق الأصولي أبو
علي منصور ابن محمَّد الزواوي، والإمام المحقق أعلم أهل وقته الشريف التلمساني، والحافظ
الفقيه أبو العبَّاس القبَّاب. وكانت له مناظرات وأبحاث قيِّمة في مشكلات المسائل
مع كبار أئمة عصـره، أظهرت قوة عارضته، وإمامته، منها: مسألة (مراعاة الخلاف في
المذهب)([4])، له فيها
بحثٌ جليل مع الإمامين القباب وابن عرفة.
لقد تميز الشاطبي بمنزلة
عالية رفيعة بين علماء الشـريعة الإسلامية، فتمهر على يديه الكثير من العلماء، الذين خرًّجوا الكثير من العلماء،
فكان الشاطبي، نجماً ساطعاً بين علماء عصـره، حيث ارتقى مرتبة العلماء الذين خلد
التاريخ ذكرهم، فهم الذين أثْرَوا المكتبة الإسلامية بالفكر الذي تستند الأمة عليه.
قال
عنه صاحب (النيل): "الإمام العلَّامة المحقِّق، القدوة الحافظ الجليل
المجتهد، كان أصوليًّا مفسّـِرًا فقيهًا محدِّثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظَّارًا
ثبتًا، ورعًا صالحًا زاهدًا، سُنِّيًّا إمامًا مطلقًا، بحَّاثًا مدقِّقًا
جَدَليًّا، بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحقِّقين الأثبات، وأكابر الأئمة
المتقنين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة العظمى في الفنون؛ فقهًا وأصولًا
وتفسيرًا وحديثًا وعربيةً وغيرها"([5]).
للشاطبي
تآليف نافعة ومهمة، وتعد مؤلفات العلامة الشاطبي من أهم ما يحتاجه طلبة العلم
رعاية للنص، لفظاً ومعنى. منها:
(الموافقات في
أصول الفقه).
وقد وصف أحمد التنبكتي كتاب (الموافقات) بأنه: جليل القدر جدًا، لا نظير له. يدل
على إمامة الشاطبي، وبُعد شأوه في العلوم، سيما علم الأصول.
و(الاعتصام في
إنكار البدع)، و(الإفادات والإنشادات)، و(عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق)، و(شـرح
كتاب البيوع من البخاري). وله فتاوى كثيرة ومهمة. توفي - رحمه الله - في (غرناطة)
سنة ٧٩٠ﻫ([6]).
مفهوم الوسطية عند الإمام الشاطبي
في
معرض التعريف بمفهوم الوسطية، يقول الإمام الشاطبي: "والتوسط
يعرف بالشـرع، وقد يعرف بالعوائد، وما يشهد به معظم العقلاء، كما في الإسـراف
والإقتار في النفقات"([7]).
فهو عندما يجعل الحق مع التوسط، يعرّف التوسط بأنه ما دل عليه الشـرع، أو قُل: ما
دل عليه الشـرع فهو التوسط أو الوسط. أما قوله: "وما يشهد به معظم
العقلاء"، فقد جعل ذلك في الأمور التي جعل الشرع الفصل فيها للعرف، أو لأهل
المعرفة والخبرة، كمهر المثل، وأجر المثل، ونفقة المثل، وكتعريف الغني والفقير،
والبطر والتقتير، فإن هذه الأمور كلها إضافية ([8]).
وكان التطرق إلى مصطلح الوسطية بمصدرها الوسط، كخصوصية لإثبات عدالة
الصحابة – رضي الله عنهم-، وهناك من اعتبرهم الأحق بالآية الأمة الوسط. وقد تطرق
إلى هذه المسألة الإمام الشاطبي، وبيّن أن ما صار إليه الجمهور من أصحابنا أن
الرواة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، من المهاجرين والأنصار، معدلون
بنص الكتاب، وهم مقرون على العدالة.
ونقل عن الإمام الشاطبي: أن الذي عليه سلف الأمة، وجماهير الخلف، أن
الصحابة كلهم عدول بتعديل الله – سبحانه - لهم، فقال - رحمه الله-: "... سنة
الصحابة – رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها، ويرجع إليها. ومن الدليل على ذلك أمور:
أحدها: ثناء الله عليهم من غير مثنوية، ومدحهم بالعدالة، وما يرجع إليها؛ كقوله تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}([9])،
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}([10])،
ففي الأولى، إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضـي باستقامتهم في كل حال،
وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة. وفي الثانية، إثبات العدالة مطلقًا.."([11]).
ونهـجُ
الإمام الشاطبي التيسير والتخفيف في إفتائه لم يكن اعتباطاً، وإنما هو اتجاه إلى
التوسعة على الناس، فيما لا يصادم نصاً ثابتاً محكماً، ولا قاعدة شـرعية، فهو يسير
مع النصوص والقواعد العامة، الموافقة لروح الإسلام ومقاصده.
ثبت أن التوسط هو
الموافق لقصد الشارع، وهو نهج السلف الصالح. فعلى المقلد أن يختار المذهب الذي
يكون على هذا الطريق، وإن كانت كل المذاهب طرقاً إلى الله – سبحانه -، فإن الإمام الشاطبي يؤكد على ضـرورة ترجيح أحدها؛ لأنه
أبعد عن اتباع الهوى، وأقرب إلى مراعاة قصد الشارع، خاصة في مسائل الاجتهاد([12]).
إن الإمام الشاطبي
نشأ مالكياً، وأصبح من أكابر علماء المذهب المتأخرين، فبلغ درجة الاجتهاد في
المذهب، إلى التحقيق بالعلوم. وهو المعوّل على فتاويه في الحـلال والحرام؛ لذلك
كانت متابعته دقيقة في فهم معاني النصوص الشـرعية، والعمل بها على ضوء المقاصد.
وضع الإمام
الشاطبي منهجاً حكيماً للأخـذ بالدليل، سواء كان نصاً، أم أثراً، أم معقـولاً.
ويظهر من منهجه العناية الوافية بالـدليل، والأخـذ به وفـق الطـرق الصحيحة، التي
سلكها سلف الأمة لتحقيق الأحكام الشـرعية، ومقاصدها، عن طريق الدليل الشـرعي. حيث
إن الشـريعة شاملة لجميع الأحكـام، فلا يتـوصل إليها إلاّ بأدلة شـرعية، وما يتوصل
إليه بهذه الأدلة فهو شـرعي، وكل دليل شـرعي صحيح يوافق المعقول الصحيح.
تميّز
الإمام بحـرية فكره فقد بذل قصارى جهده لإبراز هذه الميزة في فتاويه، فكسر بذلك
التقليد والجمـود الفكري، واتّجه إلى النظر في النصــوص، والأخذ بها، وتطبيقها في
واقــع الحياة، فلم يقصـر العلم على ما عرفه من أئمة المــذهب وأعلامه؛ بل كان
يستشهد بآراء أئــمة من خارج المـذهب، كالإمام الغزالي
كما اتّسم
منهجه بالتيسير، ورفع الحرج، مراعـاةً للمصالح. وهذا التصوّر لمنهج التشريع ربما
لا يخفى من حيث المبدأ على من له إلمام بسيط بعلوم الشـرع، فالإمام الشاطبي - بملكته
الإدراكية للنصوص الشـرعية، ومقاصد الشـريعة - استطاع أن يخرج بآراء تتفق
والأهــداف العامة للتشريع، القاضية بأداء كل ما طلبه الشــارع، والامتناع عما نهى
عنه، بالقسط و اليسر، دون شطط ولا ظلم. وهذا التيسير والعدل، في مفهوم الإمام
الشاطبي، لا يعني تغليب هـذا الجانب على الجوانب الأخرى، التي يتطلب الأمر فيها
التزام الحذر والشدة أحياناً، كما إذا كان الأمر يتعلق بالابتداع في العقائد
والعبادات..؛ بل المراد أن يكون التيسير بالقدر الذي لا يفضي إلى انخرام مقاصد الشـريعة؛
وإلّا لزم ارتفاع جميع التكاليف، أو أكثرها. فهذا هو الطريق الوسط الذي جاءت به
الشريعة.
الوسطية
عند الإمام الشاطبي قائم على فقه الواقع
يعد
العلامة الإمام الشاطبي من القلائل الذين برعوا وأبدعوا في مقاصد الشريعة؛ تأصيلاً
وتفريعاً، وتجديداً وصياغة، في لحظة تاريخية عصيبة، كانت تعصف بالأمة هجمات الخارج،
ويهددها الجمود الفكري، والتقليد المذهبي الأعمى. وكانت الأمة بحاجة ماسة للتجديد
العلمي والمعرفي من أهله الراسخين، ومنهم الإمام الشاطبي المالكي الأندلسي. وكأنما
كانت لحظة ظهوره ميلاداً جديداً، وخاصة في علم أصول الفقه والمقاصد تحديداً. وفي
هذه اللحظات التاريخية من عمر الأمة المسلمة، تكثر الحاجة لمعرفة الأصول الضابطة
للتفكير المنهجي، والنظر العلمي المنضبط، والقائم على الاتباع الواعي، والتجديد
الراشد.
إن
منهج الوسطية في فكر الشاطبي، فسـره الشيخ محمد الفاضل بن عاشور بقوله: إن الشاطبي
لما شاهد ما بالمجتمع الإسلامي من انحلال، نهضت في نفسه همة الإصلاح، لكنه بقي
حائراً في اختيار المنهج الذي يتوخاه في إصلاحه. وكانت حركة بين مذهبين: مذهب يفصل
الفكر عن العمل، ومذهب يتجه إلى الباطن، ويعرض عن الفكر والواقع معاً. فاتجه إلى
منهج يجمع بين النظر والعمل، ويصلح الظاهر والباطن، فكانت الشـريعة - بمقاصدها - منطلقه
إلى الإصلاح؛ إصلاح ميولات النفس وجنوحها إلى ما لا يحل، وإرسالها بمقدار الاعتدال
فيما يحل. والسماحة، واليسر، ورفع الحرج، هي المقصد الأعظم للشريعة الإسلامية،
يؤخذ ذلك من كثرة النصوص الواردة بهذا المعنى. والسماحة مرتبطة بالفطرة الإنسانية،
وهي الطبع الذي خلق الله عليه الإنسان. والفطرة تأبى الشدة والعنت، وتجنح إلى
اليسر والرفق. والدين الحق - دين الفطرة- هو التزام بمنهج الوسطية التي لا تقوم مصلحة
الناس إلا عليها، والخروج عنها إلى أحد الطرفين؛ من الشدة واللين، يعد خروجاً عن
قصد الشارع. فالمعتبر في هذا المعنى أن الشريعة تسير على طريق وسط، لا انحراف فيه،
ولا ميل، ولا إفراط ولا تفريط، وذلك هو الصـراط المستقيم الذي جاء به الإسلام.
ولكن كيف يحقق الشارع الحكيم مصالح الخلق بهذه
الوسطية؟ يشبه الشاطبي المفتي بالطبيب الماهر الذي يعطي الغذاء، ابتداءً على ما
يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء، ويخبر من سأله عن بعض
المأكولات التي يجهلها المغتذي؛ أهو غذاء أم سم، أم غير ذلك؟ فإذا أصابته علة،
بانحراف بعض الأخلاط، قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر، ليرجع
إلى الاعتدال، وهو المزاج الأصلي، والصحة المطلوبة. وهذا غاية الرفق، وغاية
الإحسان والإنعام من الله تعالى([13]).
فقه الإمام
الشاطبي فقه واقعي، قائم على اعتبار الواقع، وحل مشاكله، ونزاعاته في ظل التشـريع
الإسلامي. وقد ساهم هذا في القضاء على ظاهرة الفقه الفرضي، الذي ناءت بأعبائه
الكتب، بل استنزفت الجهد والوقت معاً، وكان باباً لتلك القيود والآصار، والشواذ
والنوادر، في المسائل التي أثّرت في الفقه سلباً، وأقصته عن حياة الناس الواقعية،
بطاقاتها، وحدود إنسانيتها. لذلك يجب على المفتي أن تكون علاقته بالمجتمع الذي
يعيشه علاقة وطيدة، حتى تكون آراؤه آراء عالم خبير بأحوال النفوس، دارساً لها،
متعمّقاً في فهمها، فاحصاً لأحوال عصـره، عارفاً بظروفه؛ لأنّ آراءه وفتاويه هي
مواقف يسترشد بها المجتمع في سعيه للتغيير، فلا يقتصــر ضـررها على الفــرد، بل
يتجــاوزه إلى الأمة.
فمعـايشة الإمام الشاطبي لـواقع مجتمعه، حفزته
للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وردّ البدع، ومحاربتها؛ وهذا من أولويات جهاده،
وذوده عن السنة الصحيحة.
ولما كان المفتي خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقدوة للناس، وجب عليه أن يسلك منهجاً وسطاً،
فلا يميل بمن جاءه مستفتياً كل الميل إلى الانحلال، ولا إلى الشدة، كي لا يخرج عن
قصد الشارع في التكليف، إذ لا تكليف إلّا بمستطاع. والدليل على صحة هذا، ما قاله
الإمام الشاطبي: "أنه الصـراط المستقيم الذي جاءت به الشـريعة، فإنه قد مـر
أن مقصد الشـارع من المكلف الحمل على التـوسط، من غير إفراط ولا تفـريط"([14]).
فالمستفتي إذا حُمّل
من التكليف ما لا تطيقه نفسه، وقع في الحرج والضيق، فيبغض الدين، وينقطع عن
العبادة. أما إذا ذُهب به مذهب الانحلال، كان ذلك مظنة اتباع الهوى، وإنما جاء الشـرع
للنهي عنه.
ونبّه المفتي - إذا
كان ممن يكلف نفسه فوق الوسط - بأن يخفي ذلك؛ حتى لا يقتدي به من لا طاقة لـه بذلك
العمل، فينقطع عنه نهائياً. وإذا ظهر للناس عمله، نبّه عليه، كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفعل، فقد فاق الناس عبادة وخلقاً([15])،
ولكنه كان ينهى عن الوصال، وعن أمـور أخـرى، كانت خاصة به. يقول الله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ
لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}([16]).
وحذّر من تتبع رخص
المذاهب، واعتبر ذلك من المفاسد([17])،
لأنه ميل مع أهواء النفوس، يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، بترك اتباع الدليل إلى
اتباع الخلاف، والشـرع جاء بالنهي عن اتباع الـهــوى([18]).
إن
الفقه الحق لا بد أن يكون واقعياً، يعرف الواقع ولا يجهله، يلتفت إليه ولا يلتفت
عنه، يُعمله ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ. ويتم ذلك بتحقيق المناط: ولقد
ذهب الإمام الشاطبي، في تحقيق المناط، مذهباً فذاً، وارتقى به مرتقى صعباً، وهو
الذي سماه (تحقيق المناط الخاص)، وهو الذي لا يكتفي المجتهد فيه بتحقيق المناط
بصفة عامة وإجمالية، وتنزيل الأحكام والتكاليف على من هم داخلون تحت عموم
مقتضياتها، وإنما ينظر في الحالات الفردية، ويقدر خصوصياتها، وما يليق بها ويصلح
لها في خصوصياتها تلك. فإذا كان تحقيق المناط العام يقتضي معرفة الواقع في عمومه،
ومعرفة الحالات في إجمالها، فإن تحقيق المناط الخاص يقتضي معرفة الواقع الخاص،
ومقدار خصوصيته، وما تستوجبه تلك الخصوصية في ميزان الشرع.
ولقد اتسم نظر الإمام
الشاطبي، وبحثه في المقاصد، بالدقة والعمق، وقوة الاستدلال، وتحري ما وراءه عمل،
مع التفرد والسبق إلى عشـرات القواعد الكلية التي لم تُسْبَق إليها، مما يعد فتحاً
جديداً في علم الأصول.
لذا كان من أعظم خصال
الإمام الشاطبي، التي صبغت في المقاصد، أنه كان قاصداً فيما يقرره، متلمساً سبيل
الأولين، فلم تأخذه أبهة التجديد إلى الخروج عن حد الاعتدال والتوسط، وهذا من أكبر
الآيات على قوة نفسه، وعظيم إخلاصه، وشدة تواضعه.
فهو - رحمه الله - نجده
يُبدي ويعيد في هذه القضية، ويلح على ضـرورة الجمع في النظر بين جزئيات الشـريعة،
وكلياتها، وأن "من أخذ بالجزئي معرضاً عن كلية، فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي،
معرضاً عن جزئية"([19]).
ولذلك، فشأن الراسخين،
تصدر الشـريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة..
فكان العضو الواحد يعطي، في مفهوم أحكام الشـريعة، حكماً حقيقياً، فمتبعه متبع
متشابه([20]).
ويقول الإمام الشاطبي،
واصفاً العمل الاجتهادي في
تنـزيل الحكم على ما يليق به من
الأفعال بحسب الحالات: "هو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون
وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وازن
واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك… فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق
نوراً يعرف به النفوس، ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها
على حمل أعبائها، أو ضعفها. ويعرف التفاتها إلى الخطوط العاجلة، أو عدم التفاتها،
فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناءً على أن ذلك هو المقصود
الشرعي في تلقي التكاليف ” وعنه كذلك أنه “ لا يصلح للعالم إذا سئل عن أمر كيف
يحصل في الواقع، إلا أنه يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب
على غير ذلك، أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه، لأنه سئل عن مناط معين،
فأجاب عن مناط غير معين"([21]).
وبهذا يعد الإمام
الشاطبي من رموز التجديد التي أبلت بلاء حسناً في ميدان التنوير الإسلامي، وتجديد
المنهج العلمي والفكر الفقهي عند المسلمين، وأضافت للفكر الإسلامي لبنة مهمة في
البناء المنهجي، أعادت الوصل بين المعقول والمنقول، وجددت الاتصال بين الفروع
والأصول، وأفصحت عن سبيل الاتساق بين جزئيات الشـريعة وكلياتها، ونقلت التصنيف في
الأصول والقواعد ومقاصد الشريعة نقلة نوعية بارزة.
منهج الشاطبي في الفتوى قائم على الوسطية والاعتدال
الفتوى لغةً: هي الجواب عما يُشكل من المسالك الشـرعية أو القانونية.
والجمع: فتاوٍ وفتاوى، ويقال أفتى في المسألة: أبان الحكم فيها، فالإفتاء هو إبانة
الأحكام في المسائل الشـرعية، أو القانونية، أو غيرها مما يتعلق بسؤال السائل.
والمفتي: هو من يتصدر للإفتاء والفتوى بين الناس، وهو فقيه تعيّنه الدولة، ليجيب
عما يُشكل من المسائل الشـرعية. والجمع: مفتون. ودار الفتوى: هي مكان المفتي.
والفتيا هي الفتوى في المسألة المشكلة([22]).
الفتوى شـرعاً: لا يختلف المعنى الشرعي للفتوى والإفتاء عن هذه المعاني
اللغوية، فالفتوى: هي بيان الحكم الشـرعي في مسألة من المسائل مؤيداً بالدليل من
القرآن الكريم، أو السنة النبوية، أو الاجتهاد. وهي ضـرورية للناس، لأنهم لا يمكن
أن يكونوا جميعاً علماء بالأحكام. ولو انقطعوا لتحصيل ذلك حتى يبلغوا مرتبة
الاجتهاد، لتعطل العمل، وتوقفت الحياة. فكان من رحمة الله تعالى بالأمة أن جعل
منها علماء، ومقلدين، وأوجب على العامة من المقلدين أن يستفتوا العلماء فيما
يجهلونه، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}([23]).
وأوجب على العلماء أن يفتوهم، ويجيبوهم، ويبينوا لهم الأحكام، فقال – صلى الله
عليه وسلم -: (من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)([24]).
ويجب على العامي أن يتوجه بالسؤال إلى من يثق بعلمه وعدالته، فإذا جهل حاله،
كفاه أن يراه مشهوراً بين الناس بذلك. ومع هذا، لا تبرأ ذمته بالعمل بفتواه، إلاّ
إذا أطمأن قلبه إليها، فإذا كان يعلم أن الأمر في الواقع على خلاف الفتوى، لم يبرأ
من الإثم، وإن كان المفتي أعلم العلماء.
وعن مكانة المفتي، ومسؤوليته، يقول الإمام الشاطبي: "المفتي قائم في
الأمة مقام النبي – صلى الله عليه وسلم-، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النقل الشـرعي في الحديث: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء
لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم)([25]).
الثاني: أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام، بقوله – صلى الله عليه وسلم-: (ألا
ليبلغ الشاهد منكم الغائب)([26]).
وقوله: (بلغوا عني ولو آية)([27]).
الثالث: أن المفتي شارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشـريعة إما منقول من
صاحبها، وإما مستنبط من المنقول: فالأول: يكون فيه مبلغاً، والثاني: يكون فيه
قائماً مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع.
وعلى الجملة، فالمفتي مخبر عن الله تعالى كالنبي، وموقع للشـريعة على أفعال
المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي، ولذلك
سموا أولي الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ
مِنْكُمْ}([28])،
والأدلة على هذا المعنى كثيرة"([29]).
وتحصل الفتوى من المفتي من جهة القول، كأن يسأل فيجيب. ومن جهة الفعل، كأن
يفعل، ويقتدى به. ومن جهة الإقرار، كأن يرى عملاً من شخص، فيقره عليه. ولا تصح
الفتيا إذا خالفت مقتضـى العلم، سواء كانت قولاً أم فعلاً أم تقريراً. والمفتي
البالغ ذروة الدرجة، هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور،
فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال([30]).
فالداعية إلى الله، المخلص لدينه، الصادق مع ربه، هو الذي يجمع ولا يفرق،
ويجعل حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم-: (يسـروا ولا تعسـروا) نصب عينيه، فإن من
منهج الداعية التيسير، لا التعسير، كما أرشدنا إلى ذلك الداعية الأول رسول الله –
صلى الله عليه وسلم- لما بعث دعاة الإسلام إلى الأمصار، يدعون الناس إلى دين الله
بالحكمة والموعظة الحسنة([31]).
ومن مستلزمات التوسط في أهلية الإفتاء: ألا يقع المفتي تحت ضغط الواقع،
وتأثيره - سواء كان الواقع الذي يريده العامة، أم الواقع الذي يريده السلطان -
فينساق وراء دنياه؛ رغبة أو رهبة، فتغدو مهمته تسويغ الأحكام، والبحث عن المخارج،
والحيل. كما حكى الباجي عن بعض أهل زمانه: "أنه كان يقول: إن الذي عليَّ
لصديقي، إذا وقعت له حكومة، أو فتيا، أن أفتيه بالرواية التي توافقه. وأخبرني من
أثق به أنه وقعت له واقعة، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضـره، وكان غائباً، فلما
حضـر، قالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى. قـال: وهذا مما لا خلاف
بين المسلمين، المعتد بهم في الإجماع، أنه لا يجوز"([32]).
ويلتحق بهذه الصفات المؤهلة لإفتاء لا شطط فيه، ولا تفريط - أيضاً - مراعاة
أعراف الناس، والتغيرات الطارئة على حياتهم؛ فلكل عصـر مشكلاته، ولكل قوم طريقة
ونمط في السلوك والخطاب. غير أن هاهنا قضية عمت بها البلوى في زمن (القرية
الواحدة)، رأيت التنبيه عليها، وهي ظهور الفتوى وشيوعها في القنوات الفضائية، وفي
شبكة (الإنترنت)، فقد مضـى الناس يسألون ويستفتون من كافة أقطار المعمورة، ويأتيهم
جواب واحد لجميعهم في القضية الواحدة، وكثيراً ما تكون متصلة بالعرف، أو المذهب
السائد في البلد الذي ورد منه السؤال، ولكن التسـرع في الإفتاء([33])،
يجعل المفتي في غنى عن معرفة التفاصيل، والسؤال عن عرف السائل!، وهو خطأ بيّن،
وتساهل مكشوف في أمر الدين، ومضيع لحقوق المسلمين. فليس بلازم، إذا تسارع الزمن،
أن يتسـرّع المفتي، فيحمل القاصـي والداني على رأي واحد، فيفرط أو يفرّط، بل
الواجب التثبت في الفتوى، والاستفادة من هذه الوسائل الحديثة، حتى يظهر للمفتي
وجـه الحق، ويهتدي إلى الصواب([34]).
منهجه الوسطي قائم على التيسير، ورفع الحرج، مراعـاةً
للمصالح
والمتتبع
لفتاوى الإمام الشاطبي يجـده يكره التكلف والتعسـف، ويميـل إلى اليسـر والسماحة،
ويظهر ذلك عندما سُئِل عن خلط أصفر الزعفران، وأصل الشعر بما ابيضّ منه، هل يكون
ذلك من الغش أم لا؟([35])،
فأجاب: "الذي ظهر لي على الجملة أنه لا يشك أنّ خلطه الأصفر في الزعفـران غش،
وأما أصول الشعر، وهو الأبيض الذي ذكـرتم، فالأمـر فيه عنـدي خفيف، لأنـه يشبه
عجـم التين، وعراجين الزبيب، وما أشبه ذلك، فلا ضـرر فيه. وإن قلتم: إنه يزيد في
الوزن، فالزيادة يسيرة، مع أن مثل ذلك لازم في الزبيب وغيره، ولا مقال فيه، وإنما
قطع الأبيض عندي كتنقية الزبيب من عجمـه، فمن فعله فحسـن، ومـن لا، فلا حـرج. فإن
رضيتـم بهذا النظـر، من غير نـص أستنـد إليه في المســـألة، وإلا فـأنتم أعلم"([36]).
ونهـجُ
الإمام الشاطبي التيسير والتخفيف في إفتائه لم يكن اعتباطاً، وإنما هو اتجاه إلى
التوسعة على الناس، فيما لا يصادم نصاً ثابتاً محكماً، ولا قاعدة شـرعية، فهو يسير
مع النصوص، والقواعد العامة، الموافقة لروح الإسلام ومقاصده.
ويرى أن اليسر والتسهيل في الشريعة ليس مطلقاً،
وإنما هو مقيّد بما هو جار على أصولها. لذلك، لا تصح الفتوى بما يوافق هوى السائل،
وشهوته، فيميل إلى تتبع الرخـص بإطلاق، وهذا مضـاد للـوسطية والاعتـدال. وفي ذلك
يقـول: "لأن الحنيفية السمحـة إنما أتى فيها السّمـاح مقيّداً بما هو جـار
على أصولها، وليس تتبع الرخـص، ولا اختيار الأقـوال، بالتّشهي، بثابت من أصولها...
ثم نقول: تتبع الرخص ميلٌ مع أهواء النفوس، والشـرع جاء بالنهي عن اتّباع الـهوى،
فهذا مضادٌ لذلك الأصل المتفق عليه"([37]).
ويضيف قائلاً: "وهو أيضاً مؤدٍّ إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة، فإن التكاليف
كلها شـاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفاً، من الكلفة، وهي المشقة. فإذا كانت المشقة
حيث لحقت في التكـليف، تقتضي الرفـع، بهذه الدلائل، لـزم ذلك في الطهارات،
والصلوات، والزكوات... وغـير ذلك، ولا يقـف عنـد حـدّ، إلا إذا لم يبـق على العبـد
تكلـيف، وهذا مـحال"([38]).
كما اتّسم
منهجه بالتيسير، ورفع الحرج، مراعـاةً للمصالح. وهذا التصوّر لمنهج التشريع، ربما
لا يخفى - من حيث المبدأ - على من له إلمام بسيط بعلوم الشـرع. فالإمام الشاطبي -
بملكته الإدراكية للنصوص الشـرعية، ومقاصد الشـريعة - استطاع أن يخرج بآراء تتفق
والأهــداف العامة للتشريع، القاضية بأداء كل ما طلبه الشــارع، والامتناع عما نهى
عنه، بالقسط واليسر، دون شطط ولا ظلم. وهذا التيسير والعدل، في مفهوم الإمام
الشاطبي، لا يعني تغليب هـذا الجانب على الجوانب الأخرى، التي يتطلب الأمر فيها
التزام الحذر والشدة أحياناً، كما إذا كان الأمر يتعلق بالابتداع في العقائد
والعبادات… بل المراد أن يكون التيسير بالقدر الذي لا يفضي إلى انخرام مقاصد
الشريعة؛ وإلاّ لزم ارتفاع جميع التكاليف، أو أكثرها. فهذا هو الطريق الوسط الذي
جاءت به الشريعة.
تميّز
منهجه، في غالب فتاويه، بالإسهاب والاستطراد، بقصــد البيان والتوضيح وإظهار الحق،
ومتى كان ذلك هو المقصود. فالإمام الشاطبي لا يحسن عنده تأخير البيان عن وقت
الحاجة، وأحياناً يختصـر الكلام في مسألة ما، لعدم مناسبة المقام، أو لاشتهار
الجواب عنها، وهكذا..
كما اهتم
الإمام الشاطبي بالتطبيق الفعلي لقواعد الفقه، وأصوله، كـقاعدة: (العبرة بالمقاصد
والمعاني، لا بالألفاظ والمباني)، و(البيّنة على المدّعي، واليمين عـلى من أنكـر)،
وقــواعد الضـرورة.. وغيرها، فكان حريصاً على أن تظل القواعــد والأصول حية،
مطبّقة - فعلاً - في ميادينها، ومتى كان كذلك، فإنه يعطي لتلك المواد روحها، وتكون
مفهومة واضحة في مجالها. وبهذه الطريقة تُفهم هذه الأصول والقواعد، وتكون واضحة
المعاني.
ومبدأ التخفيف والتيسير في العبادة، من أجل المرض والسفر والجهاد، مبدأ نزل
به القرآن منذ مطلع فجر الإسلام، في مكة. قال الله تعالى: {عَلِمَ أَلَّن
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسـَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ
أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ
مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ
قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ}([39]).
ويفهم اليسـر - بصورة أدق - إذا تتبعنا التوازن والاعتدال في الأحكام الشـرعية،
والقاعدة في ذلك قول العلماء: (الأحكام الشـرعية لا تعرف بتشديد غال، ولا بترخص
جاف، ولا بعلة توهم بالانقياد)([40]).
فلا يكون منهج الإنسان في فهم الأحكام الشـرعية، وتطبيقها، البحث عن الأمور التي
فيها رخصة وسهولة، وقد قال العلماء: (لو تتبعت رخصة كل عالم، اجتمع فيك الشـر كله).
فلا ينبغي على المسلم أن يبحث عن سقطات العلماء، وشواذ الفتيا، ومرجوح الأقوال،
فيتخذ من ذلك مذهباً يدين به. كما أنه لا ينبغي للمسلم أن يكون منهجه هو البحث عما
فيه شدة.
لذا، فإن من التفريط في الأحكام الشـرعية تتبع الرخص في المذاهب، أو تتبع
أسهل الآراء فيها، لمجرد التخفف من ثقل التكاليف. ولكن مع هذا، نرى أن الشـريعة الإسلامية
قد بنيت على اليسـر، وكثرة الرخص، ولذلك فإن التوسط والاعتدال والتوازن هو الذي
يرجح بين كفتي التشديد في الأصول، والتيسير في الفروع. وما أروع وأحسن ما قاله
الإمام الشاطبي في هذا الشأن: "فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا،
بإطلاق، مضاداً للمشي على التوسط. كما أن الميل إلى التشديد، مضاداً له أيضاً.
وربما فهم بعض الناس ان ترك الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطاً، وهذا غلط،
والوسط هو معظم الشـريعة، وأمّ الكتاب. ومن تأمل موارد الأحكام، بالاستقراء التام،
عرف ذلك. وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم، يتعلق بالخلاف الوارد في
المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على
أن الفتوى بالقول المخالف لهواه، تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان
رحمة بهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب المعنى المقصود في
الشـريعة.. وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشتقات التي يترخص بسببها، وأن
الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشـريعة حمل على التوسط، لا على مطلق
التخفيف، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف، من حيث هو حرج ومخالف للهوى، ولا على مطلق
التشديد. فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره، فإنه مزلة قدم، على وضوح الأمر فيه"([41]).
وضابط الاعتدال أن العزيمة في موضعها أحب إلى الله تعالى، وأن الرخصة في
موضعها أحب إلى الله تعالى. كما لا ينبغي أن يتوقف امتثال المسلم لأمر الله، على
إدراك العلة أو الحكمة، بل يكفي أن يعتقد اعتقاداً مجملاً أن الله لم يحل إلا
طيباً، ولم يحرم إلا خبيثاً، ولم يشـرع إلا لحكمة، علمها من علمها، وجهلها من
جهلها، وعدم العلم بها لا ينفي وجوبها.
يقول الإمام الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة، هو الذي يحمل الناس
على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى
طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا، أنه الصـراط المستقيم الذي جاءت به الشـريعة،
فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط، من غير إفراط ولا تفريط،
فإذا خرج عن ذلك في المستفتين، خرج عن قصد الشارع. ولذلك، كان من خرج عن المذهب
الوسط، مذموماً عند العلماء الراسخين.
أيضاً، فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-
وأصحابه الأكرمين، وقد ورد عنه - عليه الصلاة والسلام - التبتل، وقال لمعاذ لما
أطال بالناس في الصلاة: (أفتان أنت يا معاذ؟)[42])). وقال – صلى الله عليه وسلم -: (إن منكم منفرين)[43])). وقال – عليه الصلاة والسلام-: (سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من
الدلجة، والقصد القصد، تبلغوا)([44]).
وقال – صلى الله عليه وسلم-: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى
تملوا)([45])،
وقال – عليه الصلاة والسلام-: (أحب العمل إلى الله، ما دام عليه صاحبه، وإن قل)[46])). ورد عليهم (الوصال)، وكثير من هذا.
وأيضاً، فإن الخروج إلى الأطراف، خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق؛
أما في طرف التشديد، فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال، فكذاك أيضاً. لأن
المستفتي، إذا ذهب به مذهب العنت والحرج، بغض إليه الدين، وأدى إلى انقطاع عن سلوك
طريق الآخرة، وهو مشاهد. وأما إذا ذهب مذهب الانحلال، كان مظنة للمشـي مع الهوى
والشهوة، والشـرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك)([47]).
([3]) نسبة إلى (شاطبة= Jativa)، مدينة قديمة في شـرقي الأندلس، وقرطبة، كانت مركزًا لصناعة
الورق في العهد الإسلامي.
([4]) وقاعدة مراعاة الخلاف هي: عبارة عن إعمال
المجتهد لدليل خصمه المخالف، في لازم مدلوله، الذي أُعْمِلَ في نقيضه دليلٌ آخرُ.
([6]) انظر ترجمته في: نيل الابتهاج للتنبكتي:
٤٦، ولقط الفرائد للمكناسي: ٢٢٥، والفكر السامي للحجوي: ٤/ ٢٤٨.
([8]) المقاصد عند الإمام الشاطبي؛ دراسة أصولية فقهية.
محمود عبد الهادي فاعور. الطبعة الأولى. 1427هـ - 2006م. بسيوني للطباعة. صيدا،
لبنان.
([20]) تصدير
الدكتور أحمد الربسوني لكتاب قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي لـ د. عبد الرحمن
الكيلاني، 1421هـ – 2000م، دار الفكر، دمشق، سورية، من سلسلة إصدارات المعهد
العالمي للفكر الإسلامي رقم (35)،ص 9-10.
([24]) رواه الإمام أحمد
في مسنده: 2/344، رقم (8514)، وأبو داود: رقم (3658)، والترمذي: رقم (2649) وقال:
حسن. وابن ماجة: رقم (266)، والحاكم في مستدركه: 1/182، رقم (345)، والبيهقي في
شعب الإيمان: 2/275، رقم (1743).
([25]) رواه أبو داود (3641)،
في أول كتاب العلم، وابن ماجة (223)، في المقدمة: باب فضل العلماء، والحث على طلب
العلم، والدارمي: 1/98، وابن عبد البر في جامع بيان العلم: 39 و40، والطحاوي في
مشكل الآثار: 1/429، والبغوي (129)، وعبارة: (وإن العلماء هم ورثة الأنبياء،
ورَّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً، سهل الله له
طريقاً إلى الجنة) أوردها البخاري في (صحيحه)، في كتاب العلم، ضمن عنوان: باب العلم
قبل القول والعمل.
([26]) رواه البخاري (67)
في العلم باب قول النبي: (رب مبلغ أوعى من سامع)، و (105) في العلم، باب: ليبلغ
العلم الشاهد الغائب، و(7447) في التوحيد، باب قول الله: {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}، ومسلم
(1679) في القسامة باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال(50).
([27]) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم
(3274)، والترمذي في جامعه رقم 2806، في كتاب العلم،
باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، ثم قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).
([42]) رواه الإمام أحمد
في مسنده: 3/299 (14226)، تعليق: شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شـرط الشيخين،
والبخاري، في: 78 كتاب الأدب: 74 باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً،
ومسلم (465)، (178)، في الصلاة: باب: القراءة في العشاء.
([43]) رواه البخاري في
العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، ومسلم في باب: أمر الأئمة
بتخفيف الصلاة في تمام (713)، والنسائي في العلم.
([44]) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، والنسائي في كتاب
الإيمان وشـرائعه، باب الدين يسر.
([45]) رواه البخاري في كتاب اللباس باب الجلوس على الحصير وغيره، فتح
الباري: 10/386. ومسلم كتاب الصيام، باب صيام النبي في غير رمضان.. والملال كناية
عن القبول أو الترك، أو أطلق على سبيل المشاكلة، وهو فتور يعرض للإنسان من كثرة
مزاولة شيء، فيوجب الكلال، والإعراض عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب
الأعمال إلى الله ما دام)، أي استمر في حياة العامل، وليس المراد حقيقة الدوام،
التي هي شمول جميع الأزمنة. لسان العرب: 13/49، مادة (ملل).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق