عبد الباقي يوسف
? الكلمة التي وردت إليك بواسطة صفحة بيضاء هي
عالم بحد ذاته، عالم بتقلب فصوله، تماماً كالإنسان الذي يشكل كل فرد منه عالماً
خاصاً به، فهي تحمل جزءاً من ماضيك وحاضـرك ومستقبلك، بكونك حامل تاريخ ملايين
البشر.
إنك هنا تحتاج إلى صفاء وركون وجهد كي تتعرف على
هذه الكلمة، لأن كل جيل من سلسلتك البشـرية حملها لغزاً وبصمةً وتحيةً إليك، فإن
لم تتقن فنية فض غلاف هذه الكلمة، لن تقع على اللب المستقر في كوامنها، والذي ينبض
في ثناياه ذاك التاريخ الحافل الذي انتهى بك.
فإن استعصـى عليك أمر التعرف على الكلمة التي تنظر فيها، يمكن أن تتخذ منظاراً مكبراً يتيح رؤيةً أكمل في
تمظهرات جسد الكلمة، في نقاطها، وحروفها، وهيكليتها، فتصغي آنئذٍ لحركاتها، وسكونها، وانفعالاتها، وموسيقاها. ولا بأس أن تسكن الكلمة فتلقي بجسدك في فراشها،
وتتوسد إحدى نقاطها، وفي البرد تلتحف حرفاً منها، وتداعبها، وتأتنس
بها.
حينها ستداعبك وتأتنس بك، فتعوم ذراتُها مع
ذراتِك في فضاء النفس المنتشية برفقة ما تحب، حتى إنها في ذروة انسجام ذراتها مع
ذراتك، تفضـي الذراتُ للذراتِ ما لم تفض به لمخلوق غيرك.
وهذا يستغرق أياماً طوالاً، وإياك أن تركن لضجر،
أو يستوطنك نفور من
هذه العلائق في جسد وروح الكلمة. وتلافياً لكارثةٍ كهذه، يمكن أن تنطلق إلى
الطبيعة، بين حينٍ وآخر، للترويح، ولتجدّد روح العلاقة بينك وبين الكلمة، كذلك لإراحتها
من سطوتك وهيمنتك عليها، ومن سطوتها وهيمنتها عليك، تلافياً
لأي بؤرة تمرد عليك، أو الانفجار في روحك.
هذه الحميمية السحرية مع الكلمة الواحدة، تولّد حالة صفاء لانهائية في
الذهن. فليس ثمة ما هو أرقى وأنقى من الإصغاء لموسيقى الأحرف من داخل الكلمة، عندها
ستدرك أي شقي ذاك المغفَّل الذي يفوته الإصغاء والاستئناس بموسيقى الكلمات
الطبيعية، فليس ثمة موسيقى في الكون أعذب منها
على الروح، ولن تجد بدّاً من الرأفة بذاك الشقي الذي يُمضـي ساعات في قراءة آلاف
الكلمات في ليلة واحدة، دون أن يبني علاقة روحية مع كلمة واحدة من تلك الكلمات
المبارَكة التي تتطاير أمام ناظرَيه، نافرة من لا أدبه في الإفراط بحقه من الظفر
بنعيمها.
فلو اكتفى هذا المفرط بقراءة صفحتَين قراءة
تدبرية من الداخل، لأغناه ذلك عن قراءة مئات الصفحات قراءة خارجية شكلية لفظية.
واعلم أن للتلقي عدة
وجوه متفاوتة: يمكن أن تلقي نظرات تأملية في جسد الكلمات الموضوعة على الصفحة أمام
ناظرَيك، ثم تمرّر بصـرك على الحروف حرفاً حرفاً، وتقف أمام إشارات وعلائم الترقيم
والتشديد والتقطيع والتسكين والتلوين والتوصيل.
لا تدع كلمة دون أن تنظر فيها من الصفحة التي هي
أمامك، وتكون في حالة من الصفاء الذهني لاستقبال نصٍ أدبيٍ وفنيٍ، وتذوّقه،
وستكون
حواسك خلال مدة النظرات التأملية قد استعدَّت لاستقبال غذاء الذهن والحواس والروح،
فتشـرع في تركيز عينيك وذهنك على السطر الأول من النص، وتمر على السطور سطراً
سطراً مستوعباً معاني ومدلولات المفردات اللغوية.
هذا وجه من وجوه القراءة التأملية المفتوحة،
ويمكن الولوج إلى وجه آخر، كأن تباشر في القراءة
جملة واحدة، ثم تستريح أسبوعاً تراقب خلاله ما علق في ذهنك، فتعود مرة أخرى لإعادة
القراءة قراءة معرفية تأملية، ثم بعد وقتٍ غير محدد آخر تعود إلى النص قراءة
ثالثة، متقطّعة، بغية استخراج عناقيد اللآلئ من جَوف اللغة، بعد أن تكون قد
تملَّكتها.
واعلم أن اللغة لا تهب لآلئها للقارئ الواهن
الذي يبدو ضعيفاً أمام قوّتها، بَيدَ أنها تهب كنوزها المعرفية الثمينة لقارئ
قويٍ، تبدو واهنةً أمام قوَّته، وقد تملَّكها، وانتزع مبتغاه انتزاعاً من كوامنها.
على هذا المنوال ستنفرز النصوص إلى مقاماتٍ من
تلقائية ثرائها أو خوائها، فتجد نصوصاً لا تستحق منك إضاعة وقت لإعادة قراءتها،
وتجد نصوصاً تقف عندها في قراءتَين، وتجد نصوصاً تدعها نصف أو ربع مقروءة، وكذلك تجد نصوصاً ترجع إلى قراءتها مدى
العمر، فلا ترتوي نفسك من قراءتها.
الذي لا يمتلك فقه القراءة، يصعب عليه أن يمتلك
فقه الإصغاء، أو فقه المشاهدة، فكم من ناظرٍ إلى لب الطبيعة، وليس له فقه النظر،
ولا علاقة له بنبل الكنوز الخفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق