03‏/10‏/2021

تفنيد قصّة سحر النبيّ المزعومة

محمَّد عبد الشافي القُوصي – مصـر

عضو جمعية حُماة اللغة العربية

?   زعم البعض بأنَّ النبيّ الكريم – صلوات الله عليه – وقع تحت سُلطان الجن والشياطين، معتمدين على رواية منكرة، من أحاديث الآحاد! مفادها أن أحد اليهود الساقطين سحر النبيّ، ومكث الرسول عدة شهور تحت تأثير هذا السحر، وأنه كان يفعل الشيء ولا يدري فَعله أمْ لا؟

   وقد ردَّ العلماء الأكابر على مثل هذه الافتراءات، بالبراهين العقلية، والأدلة النقلية الصحيحة ... لكن هؤلاء المساكين ألغوا عقولهم، وعطَّلوا مداركهم، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصرُّوا واستكبروا استكباراً!

   لوْ افترضنا –كذباً- صحة هذه الرواية؛ فما جدوى تكرارها، والتكريس لها في كل الخطب والدروس والمحاضرات؟ وما الذي تستفيده الأُمة منها؟ وماذا يفيد الدِّين بأنّ النبيّ وقع فريسةً لمشعوذ حقير، سوى خدمة أعداء الإسلام! وهي من مدسوسات اليهود، ومن الإسرائيليات التي تهدف للتشكيك في مصدر هذا الدين.

          ألمْ يعلم هؤلاء بأنه لا صحة لِما هو ظني الثبوت، وجاء من طريق واحد (حديث آحاد) وليس مُتواتراً، فيما يخص مسائل العقيدة، لأنها تقدح في النبوات والرسالات، وأنَّ العقائد لا تُبنى على الظن والتخيّل والشك؟! فلماذا نقبل هذه الرواية، وهي من (أحاديث الآحاد)؟!

 ألمْ يتفق العلماء على أنَّ ما ورد في كتب الأحاديث؛ يردُّه ما هو قطعي الثبوت -وهو كلامُ الله الخالد في (القرآن الكريم)، الذي زكى عقل النبي، وقلبه، ولسانه، بلْ زكَّاه كله، ونزَّهه عن العيب والنقصان والزلل؟!

فكيف يدَّعي هؤلاء –مهما كانت مكانتهم، ومهما كان عددهم- أنَّ الرسول اختلط في عقله وإدراكه وأصبح يتخيل، ولا يُدرك ما يفعل!! فهل الرسول يتخيّل أنه أُنزل عليه وحي، وبلغه أمْ لم يُبلغه، خلال بضعة شهور، على أنه وحيٌ من الله، وهو ليس بوحي! ويُخيَّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، ويُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّه صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصنَعْه!؟

         فهل كان يتخيل أنه صلَّى وهو لم يُصلّ؟ وهل بلَّغ وحياً وهو ليس بوحي؟!

 أليس هذا كله طعنٌ وهدم للنبوة والرسالة، ويمكن أن يفقد المصداقية في أيّ قول أو فعل يصدر منه - صلى اللهُ عليه وسلم-، وكفيل بأنْ يدخل الشك في الإسلام جملة وتفصيلاً، وهذا يعني أن الساحر قد هيمن وسيطر على الرسول نفسياً، وأفقده وعيه وشعوره، فأين الملاك جبريل الذي أيَّد الله نبيه به، وأين العصمة؟ وأين كفاية الله لعبده أثناء عدة شهور مُتواصلة؟!

  بلْ استمع إلى قوله سُبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} "النجم 1-4".

   فقد أقسم المولى –تعالى- بالنجم إذا هوى أنَّ هذا النبي الخاتم ما ضلَّ وما غوى أبداً.

ومن يقع تحت السحر، فهو قد وقع تحت غواية الشياطين!

ولا مُقارنة للتبريرات الواهية بالاستدلال بسحر موسى وفرعون، لأنَّ للفراعنة سحر خداعٌ بصـري، وهو معروفٌ ولا يؤثر إلاَّ على التخييل للبصـر، ويكون مؤقتاً لثوان، أو على الأكثر دقائق، وهو موجود الآن ويمتهنه الدجَّالون والمشعوذون، وهذا يحدث لمن يشـرب الخمر أو يتناول المُخدرات أو ما شابهها.

          أمَّا سحرهم الذي نسبوه لرسول الله، فهو سحرٌ - كما ادعوا - أثَّر في العقل والفكر والتصـرفات والأفعال.. وتبريراتهم الواهية هي قولهم: بأن هذا السحر فقط مُسخّر نحو نساءه ومنعه عنهن، ولم يؤثر على الدين والعقيدة! وهو تبرير أقبح من الذنب! فهل كان (اليهود) يريدون – فقط – أن يجعلوا رسول الله يُخيل إليه أنه أتى نساءه وهو لم يأتهن؟!

  أيضاً: معروف أنَّ (السحر) لا يمكن أن يتم بدون القرين، وقرينُ الرسول أعانه اللهُ عليه وأسلم!

  كما أنَّ الأنبياء والرُسل هُم الذين اختارهم الله واصطفاهم لحمل رسالته وتبليغها للناس، وقد نصـرهم وأيّدهم بالمعجزات الباهرات، فكيف إذا كان مُرسَلاً للبشرية جمعاء، بلْ للعالمين؟!

         إنه من المفترض أن يكون بكامل عقله وفكره حتى يُبلِّغ رسالة ربه.. فكيف يقع النبيُّ تحت سيطرة أحد هؤلاء الذي أُرسِلَ إليهم؟!

والسحر هو الوقوع تحت تأثير وسلطان الجن والشياطين، والخضوع لمَا أراده الساحر أو المُشعوذ.. فكيف إذا كان هذا الرسول هو (مُحمَّد)، الذي تعهّد اللهُ أن يجعل كلامه في فمه، وأنه لا ينطقُ عن الهوى، وأن كُل ما يصدر عنه وحيٌ يوحى، وتعهده بالعصمة، وكفاه شر خلقه، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}الزمر36؟

فهل من تكفّل اللهُ بكفايته، يُسحَرُ، ويقع فريسةً لشياطين الإنس والجن؟ ألمْ يتعهد الله بحفظ نبيه وعصمته، بقوله له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}المائدة6؟

فهل من عصمه الله من الناس، وكفاه إياهم؛ يقع تحت سحرهم وشعوذاتهم؟

*   *   *

        ثمّ نسأل المؤيدين لهذه الحادثة المزعومة:

     أولاً: أليستْ (المعوذتان) سورتيْن مكيتيْن؛ أيْ: نزلتا في مكة، وما تمَّ روايته عن قصة السحر أنها حدثت بالمدينة المُنورة، وكانت بعد صلح الحديبية!!

     ثانياً: أليس دفاعكم عن هذه الرواية يؤكد مزاعم المشـركين، الذي حكى القرآن افتراءاتهم:

{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً }.

   ألمْ يصف المولى –تعالى- الذين ألصقوا السحر بالرسول بأنهم (الظالمون)؟!

   ثالثاً: إذا كان (عمر) يمشـي في طريق، والشيطان في طريق آخر .. فما الظن بإمام الهُدى؟

   رابعاً: لوْ أنّ الرسول الأكرم ابتُلِي بالسحر، فإنّ هذا الأمر ليس بمسألة بسيطة أوْ هينة، بلْ هو أمر جلل.. خاصة أن القصة تشير إلى أن السحر استمر لأكثر من شهرين! لذا كان من المتوقع أن يرويها كثير من كتيبة الرواة الذين لا يبرحون مجالس الرسول!

 خامساً: لماذا لم ترِد أيّة إشارة من (صاحب الرسالة) إلى أنه قد سُحِر ذات مرة، أو في يوم كذا، أو أنَّ السبب كذا.. كعهدنا بالمرويات النبوية؟ أو أنَّ أحد الصحابة – مثلاً – قال له أخبرنا عن واقعة سحرك.. وما شابه ذلك؟!

  سادساً: إذا كان النبيّ المُجتبَى قد سُحِر بالفعل؛ فما معنى قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}! فمن أي شيء -إذن- عصمه؟ وهل هناك بلاء أكثر من السحر؟!

 سابعاً: المعلوم والمتواتر أنّ الناس كانوا يذهبون للنبيّ لعلاجهم مما يصيبهم من سحر وحسد، كالمرأة التي كانت تتكشّف، فدعا لها بالشفاء. ومأثور عنه أنه كان يُعوِّذ (الحسنيْن) بالكلمات التامّات، وكان يعلِّم الناس ويُعوِّذهم بسورتيْ: الفلق، والناس. بلْ أُثِرَ عنه أدعية لا حصر لها في هذا الباب. فهل هو - حاشاه ربّه - نسيَ أن يُعوِّذ نفسه؟!

ثامناً: إن الذي نجَّى (موسى) من السحر، ونصـره على السحرة .. كيف لا ينصـر أخاه مُحمّداً؟!

تاسعا: أليستْ هذه القصة - لوْ صحّتْ - كفيلة بأن تفتح الباب واسعاً للتشكيك في أمور كثيرة فيما يتعلق بالوحي، وما تبعه من الهدي النبوي؟!

عاشراً: نريد من هؤلاء المساكين أن يجيبوا عن السؤال التالي: ما هو السـر الخفي في أنّ (البطل) وراء قصص (سِحر النبيّ، وسَم النبيّ، ورهن درع النبيّ، و..) يهودي؛ وليس وثنياً أو هندوكياً، أوْ روسياً-؟!!

الحقّ الحقَّ أقـول: إنَّ المُصدّقين لتلك الافتراءات – المتسربلة في بعض كُتُب الحديث - ما قدروا (رسولَ الله) حق قدره، عندما قبلوا بأنه كان رجُلاً مسحوراً.. مع أنهم سينكرونها إذا نُسبتْ إلى أحدهم، أوْ إلى أحد شيوخهم!.

هناك تعليق واحد: