03‏/10‏/2021

ذم التفاخر في سورة التكاثر

صالح شيخو الهسنياني

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8).

?تسميتها وعدد كلماتها:

سمّيت سورة التكاثر لمفتتحها.

عدد آياتها: ثماني آيات..

عدد كلماتها: ثمان وعشرون كلمة..

عدد حروفها: مائة وعشرون حرفاً..

مقدمة:

   يقول سيد: "هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق، وكأنما هي صوت نذير، قائم على شـرف عال. يمد بصوته، ويدوي بنبرته. يصيح بنوّم غافلين مخمورين سادرين، أشـرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة، وحسهم مسحور. فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ: ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ.

أيها السادرون المخمورون، أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال، والأولاد، وأعراض الحياة، وأنتم مفارقون. أيها المخدوعون بما أنتم فيه، عما يليه. أيها التاركون ما تتكاثرون فيه، وتتفاخرون، إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر.. استيقظوا وانظروا.. فقد ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ.

ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك، بعد زيارة المقابر، في إيقاع عميق رزين:

﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ.

ويكرر هذا الإيقاع بألفاظه وجرسه الرهيب الرصين:

 ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ .

ثم يزيد التوكيد عمقاً ورهبة، وتلويحاً بما وراءه من أمر ثقيل، لا يتبينون حقيقته الهائلة في غمرة الخمار والاستكثار: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ.

ثم يكشف عن هذه الحقيقة المطوية الرهيبة:

 ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾.

ثم يؤكد هذه الحقيقة، ويعمق وقعها الرهيب في القلوب: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ[1]".

ترتيب السورة في المصحف:

(سورة القارعة- 101، سورة التكاثر - 102، سورة العصـر - 103).

 

مناسبتها لما قبلها (سورة القارعة):

الحديث في هذه السورة، متصل بما قبلها من الحديث عن القيامة، وعما يذهل الناس عنها، ويشغلهم عن الإعداد لها.. وهو المال، والتكاثر منه([2]).

  هذه السورة واقعة موقع العلة لخاتمة ما قبلها؛ كأنه لما قال هناك: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة: 9] قيل: لِمَ ذلك؟ فقال: لأنكم ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، فاشتغلتم بدنياكم عن دينكم، وملأتم موازينكم بالحطام، فخفت موازينكم بالآثام؛ ولهذا عقَّبها بسورة (والعصـر)، المشتملة على أن الإنسان في خسر، بيان لخسارة تجارة الدنيا، وربح تجارة الآخرة؛ ولهذا عقَّبها بسورة (الهمزة)، المتوعَّد فيها مَن ﴿جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة: 2- 3]([3]).

  يقول البقاعي: "ولما أثبت في القارعة أمر الساعة، وقسم الناس فيها إلى شقي وسعيد، وختم بالشقي، افتتح هذه بعلة الشقاوة، ومبدأ الحشر، لينزجر السامع عن هذا السبب، ليكون من القسم الأول، فقال ما حاصله: انقسمتم؛ فكان قسم منكم هالكاً، لأنه (ألهكم) أي أغفلكم، إلا النادر منكم، غفلة عظيمة عن الموت، الذي هو وحده كاف في البعث على الزهد، فكيف بما بعده (التكاثر)، وهو المباهاة والمفاخرة بكثرة الأعراض الفانية من متاع الدنيا: المال والجاه والبنين ونحوها مما هو شاغل عن الله، فكان ذلك موجباً لصـرف الهمة كلها إلى الجمع، فصـرفكم ذلك إلى اللهو، فأغفلكم عما أمامكم من الآخرة، والدين الحق، وعن ذكر ربكم، وعن كل ما ينجيكم من سخطه، أو عن المنافسة في الأعمال الموصلة إلى أعلى الدرجات بكثرة الطاعات. وذلك كله لأنكم لا تسلمون بما غلب عليكم من الجهل الذي سببه شهوة النفس، وحب الراحة، فخفت موازينكم"([4]).  

ترتيب النزول:

(سورة الكوثر- 15، سورة التكاثر - 16، سورة الماعون - 17).

أسباب النزول:

وفي سبب نزولها أقوال([5]):

1.                     قال الواحدي، والبغوي، عن مقاتل والكلبي والقرطبي، عنهما وعن ابن عباس: أن بني عبد مناف، وبني سهم، من قريش، تفاخروا، فتعادوا السادة والأشـراف من أيهم أكثر عدداً، فكثر بنو عبد مناف بني سهم. ثم قالوا: نعد موتانا، حتى زاروا القبور، فعدوا القبور، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات، لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية.

2.                     وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي بريدة الجرمي، قال: نزلت في قبيلين من الأنصار (بني حارثة، وبني الحارث)، تفاخروا وتكاثروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان، تشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله: ألهاكم التكاثر.

3.                     اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، فألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالاً، فنزلت هذه فيهم. قاله قتادة.

الغرض منها([6]):

1.                     ذمّ المُقْبِلين على الدّنيا، والمفتخرين بالمال، وبيان أَنَّ عاقبة الكلّ الموت والزَّوال، وأن نصيب الغافلين العقوبة والنكال.

2.                     وأَعدّ للمتمولين المذلَّة والسّؤال، والحساب والوبال، في قوله: ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم. تحريم التفاخر بالأموال والأولاد، وبيان أنّ هذا التفاخر هو الذي ألهى قريشاً عن قبول الدعوة، وبهذا تكون هذه السورة في سياق الترهيب، وهو من سياق السورة السابقة، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها.

3.                     اشتملت على التوبيخ على اللهو، عن النظر في دلائل القرآن ودعوة الإسلام، بإيثار المال والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف، وعدم الإقلاع عن ذلك، إلى أن يصيروا في القبور، كما صار من كان قبلهم، وعلى الوعيد على ذلك. وحثهم على التدبر فيما ينجيهم من الجحيم.

4.                     ذم الانشغال بمظاهر الحياة، وأن عمرها قصير، ما طالت الحياة وعمر الإنسان.

5.                     التذكير بالموت، والقبر، والحساب.

6.                     زجر الغافلين والعابثين، وتذكيرهم بيوم الدين.

7.                     لن ينقذهم من النار جاه ولا سلطان، لن ينفعهم سوى العمل الصالح.

8.                    الحساب على النعيم حق، فيجب أن يكون النعيم حلالاً طيباً.

 

المتشابهات:

قوله: ﴿كَلاَّ في المواضع الثلاثة، فيه قولان:

أَحدهما أَنَّ معناه: الرّدع والزجر عن التكاثر.

والثاني أَنه يجري مجرى القَسَم. ومعناه: حقّاً.

قوله: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ وبعده: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكرار للتأْكيد عند بعضهم. وعند بعضهم: هما في وقتين: في القبر والقيامة، فلا يكون تكراراً. وكذلك قول من قال: الأَول للكفَّار، والثاني للمؤمنين.

قوله: ﴿لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا تأْكيد أَيضاً. وقيل: الأَوّل قبل الدّخول، والثاني بعد الدّخول. ولهذا قال بعده: ﴿عَيْنَ اليقين أَي عِيانًا، لستم عنها بغائبين. وقيل: الأَوّل من رؤية العَيْن، والثاني من رؤية القلب([7]).

مناسبتها لما قبلها (سورة الكوثر)، حسب ترتيب النزول:

   بعد (سورة الكوثر)، حيث الخير الجزيل المصحوب بالشكر والصلاة والنحر والتقرب إلى الله تعالى بالخير غير المنقطع، جاءت (سورة التكاثر) لتبين حال المتكاثرين والمتفاخرين والمتباهين بحطام الدنيا. "هذه السورة الكريمة تعالج ظاهرة إنسانية تستبد بالإنسان عندما يغفل وينسى مصيره، وهي ظاهرة التكاثر، وهذا التفاخر من الأمور التي تقف عقبة في طريق إسلام الناس، واتباعهم للهدى. وقال ابن عباس في بيان معنى التكاثر: قرأ النبي: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، قال: "تكاثر الأموال، جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدّها في الأوعية".

وذكر المقابر مع ظاهرة التكاثر سبيل قوي من سبل معالجة هذه الظاهرة، وما تحدثه في القلب من فتن لا ينزعها من القلب إلا بذكر الموت، وما يتبعه من قبر.

 وأمام الناس السؤال عن النعيم الذي عاشوا فيه بدنياهم، قبل أن يزوروا المقابر بالموت، فهل قاموا بشكره، وأدّوا حقه، ولم يستعينوا به على معصية المنعم سبحانه، فيجزيهم بهذا نعيماً أفضل منه، أم اغتروا به، ولم يقوموا بشكره، واستعانوا به على معصية المنعم سبحانه، فيعاقبون على ذلك؟

  إن عقيدة عذاب القبر، ونعيمه، وما يكون بعده من رؤية الحقائق المرتبطة بالنعيم والعذاب في الجنة والنار، تغرس في نفوس الناس، ويذكّرون بهذه الحقائق، حتى يتخلصوا من القيم الفاسدة التي عاشوا عليها، ومنها هذا التكاثر الذي عالجته هذه السورة الكريمة علاجاً شاملاً، حيث ذكر التكاثر الملهي، ولم يذكر المتكاثرون به، ليشمل كلّ ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، في غمرة وغفلة ونسيان لربهم.

 

مناسبتها لما بعدها (سورة الماعون)، حسب ترتيب النزول:

   تكاثر أموال الذين لا يؤمنون بالله تعالى، والسهو عن الصلوات، من ثمرات إلهاء [التكاثر]، والشغل بالأموال والأولاد، أدى إلى افتعال أزمات وحروب لمنع [الماعون]، أو التحكم بالحقوق والمستحقات الواجبة للمستحقين، مما أدى إلى دخولهم دائرة الكفر بصـراعاتهم على الماعون، فأحلوا دماء بعضهم بعضاً.

معاني الكلمات:

قوله تعالى: ﴿أَلْهاكُمُ([8]): يعني: شغلكم.

ومعنى ألهاكم: شغلكم عن طاعة الله وعبادته.

اللَّهْوُ: ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه.

ألهاه عن الشيء يلهيه: شغله أو صـرفه عنه.

الإلهاء الصـرف إلى اللهو، واللهو الانصـراف إلى ما يدعو إليه الهوى. ومعلوم أن الانصـراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره.

معناه: شغل بلذاته، ومنه لهو الحديث والأصوات، واللهو بالنساء. وهذا خبر، فيه تقريع وتوبيخ وتحسر.

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد: 36].

قال تعالى: ﴿وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت: 64]، ويعبّر عن كلّ ما به استمتاع باللهو.

قال تعالى: ﴿لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً [الأنبياء: 17] ومن قال: أراد باللهو المرأة والولد، فتخصيص لبعض ما هو من زينة الحياة الدّنيا، التي جعلت لهواً ولعباً.

ويقال: أَلْهاهُ كذا، أي: شغله عمّا هو أهمّ إليه.

قوله: ﴿التَّكاثُرُوتعني([9]):

1.                     والْمُكَاثَرَةُ والتّكَاثُرُ: التّباري في كثرة المال والعزّ.

2.                     تباهيكم بالأولاد والأنصار، وتفاخركم بالأموال والأحساب.

3.                     التكاثر بالأموال والأولاد.

4.                     التباهي والتفاخر بالقبائل والعشائر والأهل.

5.                     التشاغل بالمعاش والتجارة.

6.                     وتعني التكاثر بالأنصار والأقرباء والجيش.

7.                     التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب.

8.                     التكاثر والمباهاة بالقصور والسيارات والعقارات والفلل والعمارات والمولات...

9.                     التكاثر واحتكار المناصب والثروات واقتصاد البلد.

10.                  التكاثر على حساب أموال الفقراء والجياع والمظلومين والمقهورين والضعفاء.

11.                  التكاثر بالرواتب والوظائف والمشاريع الوهمية. 

12.                  التفاخر والتباهي بكثرة الأتباع والمعجبين والمشاهدين في منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

قوله تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، والخطاب للمشـركين، بقرينة غلظة الوعيد بقوله: كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون، وقوله: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ[التكاثر: 6] إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خلق المسلمين يومئذ.

  والمراد بالخطاب: سادتهم، وأهل الثراء منهم، لقوله: ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8]، ولأن سادة المشركين هم الذين آثروا ما هم فيه من النعمة، على تلقي دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم-، فتصدوا لتكذيبه، وأغروا الدهماء بعدم الإصغاء له. فلم يذكر الملهى عنه، لظهور أنه القرآن، والتدبر فيه، والإنصاف بتصديقه. وهذا الإلهاء حصل منهم، وتحقق، كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي.

 وإذا كان الخطاب للمشركين، فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله، وأنه من خصال أهل الشـرك، فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك، فيحذرون من أن يلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير([10]).

  أنه تعالى لم يقل: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عن كذا، وإنما لم يذكره، لأن المطلق أبلغ في الذم، لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله الموضع، أي: ألهاكم التكاثر عن ذكر الله، وعن الواجبات، والمندوبات، في المعرفة والطاعة والتفكر والتدبر. أو نقول: إن نظرنا إلى ما قبل هذه الآية فالمعنى: ألهاكم التكاثر عن التدبر في أمر القارعة، والاستعداد لها، قبل الموت. وإن نظرنا إلى الأسفل، فالمعنى ألهاكم التكاثر، فنسيتم القبر حتى زرتموه([11]).

  يقول الرازي: "التفاخر إنما يكون بإثبات الإنسان نوعاً من أنواع السعادة لنفسه، وأجناس السعادة ثلاثة:

فأحدها: في النفس. والثانية: في البدن. والثالثة: فيما يطيف بالبدن من خارج.

أما التي في النفس، فهي العلوم والأخلاق الفاضلة.

وأما التي في البدن، فهي الصحة والجمال، وهي المرتبة الثانية.

وأما التي تطيف بالبدن من خارج، فقسمان:

أحدهما: ضـروري، وهو المال والجاه، والآخر غير ضـروري، وهو الأقرباء والأصدقاء، وهذا الذي عددناه في المرتبة الثالثة إنما يراد كله للبدن، بدليل أنه إذا تألم عضو من أعضائه، فإنه يجعل المال والجاه فداء له"([12]).

وقوله تعالى: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ يعني:

1.                     حتى صـرتم إلى المقابر، فدفنتم فيها؛ وفي هذا دليل على صحة القول بعذاب القبر، لأن الله تعالى ذكره، فأخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم التكاثر، أنهم سيعلمون ما يلقون إذا هم زاروا القبور، وعيداً منه لهم، وتهدّداً. عن عليّ، قال: كنا نشكّ في عذاب القبر، حتى نزلت هذه الآية: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ... إلى: ﴿كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في عذاب القبر([13]). 

2.                     قال ابن الجوزي: فيها قولان؛ أحدهما: حتى أدرككم الموت على تلك الحال، فصـرتم في المقابر زُوَّاراً، ترجعون منها إلى منازلكم من الجنة أو النار، كرجوع الزائر إلى منزله.

   والثاني: حتى زرتم المقابر، فَعَدَدْتم من فيها من موتاكم([14]).

3.                     عن ميمون بن مهران قال: كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز، فقرأ ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر، فلبث هنيهة، فقال: يا ميمون، ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله([15]).

4.                     وقال: المعنى: حتى متم، وزرتم بأجسادكم مقابرها، أي قطعتم بالتكاثر أعماركم. وعلى هذا التأويل، روي أن أعرابياً سمع هذه الآية، فقال: بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصـرف لا مقيم([16]).

5.                     قال الرازي: "ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم، حتى أتاكم الموت، وأنتم على ذلك. يقال: حمله على هذا الوجه مشكل من وجهين: الأول: أن الزائر هو الذي يزور ساعة، ثم ينصـرف، والميت يبقى في قبره، فكيف يقال: إنه زار القبر؟ والثاني: أن قوله: حتى زرتم المقابر، إخبار عن الماضي، فكيف يحمل على المستقبل؟

 والجواب عن السؤال الأول: أنه قد يمكث الزائر، لكن لا بد له من الرحيل، وكذا أهل القبور يرحلون عنها إلى مكان الحساب.

 والجواب عن السؤال الثاني من وجوه:

أحدها: يحتمل أن يكون المراد من كان مشرفاً على الموت بسبب الكبر، ولذلك يقال فيه: إنه على شفير القبر.

وثانيها: أن الخبر عمن تقدمهم وعظاً لهم، فهو كالخبر عنهم، لأنهم كانوا على طريقتهم.

وثالثها: قيل: إن الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار، وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور.

القول الثالث: ألهاكم الحرص على المال، وطلب تكثيره، حتى منعتم الحقوق المالية، إلى حين الموت، ثم تقول في تلك الحالة: أوصيت لأجل الزكاة بكذا، ولأجل الحج بكذا.

القول الرابع: ألهاكم التكاثر فلا تلتفتون إلى الدين، بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسر البتة، إلا إذا زرتم المقابر، هكذا ينبغي أن تكون حالكم، وهو أن يكون حظكم من دينكم ذلك القدر القليل من الانكسار"([17]).

  والتعبير بالفعل الماضي في ﴿زُرْتُمُ لتنزيل المستقبل منزلة الماضي، لأنه محقق وقوعه([18]).

قوله تعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: ﴿كَلَّا حقاً.

سَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة سفهكم وتفريطكم.

يقول ابن عاشور: "فأفاد كلا زجراً وإبطالاً، لإنهاء التكاثر. وسوف تعلمون سوء مغبة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإسلام"([19]).

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: ﴿ثُمَّ كَلَّا ثم حقّاً.

سَوْفَ تَعْلَمُونَ حتماً تلك العاقبة.

وكرّر قوله: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ مرتين، لأن العرب إذا أرادت التغليظ في التخويف والتهديد كرّروا الكلمة مرتين([20]).

يقول ابن عاشور: "وأكد الزجر والوعيد بقوله: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فعطف عطفاً لفظياً بحرف التراخي أيضاً، للإشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول، لكن عطفه بحرف ﴿ثُمَّ اقتضى كونه أقوى من الأول، لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.

فجملة: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ توكيد لفظي لجملة: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، وعن ابن عباس: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ما ينزل بكم من عذاب في القبر: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عند البعث، أن ما وعدتم به صدق"([21]).

قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ: حقّاً لو تعلمون يقيناً سوء مصيركم، لفزعتم من تكاثركم، وتزودتم لآخرتكم.

اليَقِينُ: من صفة العلم فوق المعرفة والدّراية([22]).

يقن الأمر يقناً: ثبت ووضح، والوصف يقين. ويقال اليقين للعلم الذي انتفت عنه الشكوك والشبه. ويقال: خبر يقين: لا شك فيه. ويقال: اليقين للموت، لأنه لا يمتري فيه أحد([23]).

  وقيل: اليقين ها هنا: الموت، قاله قتادة. وعنه أيضاً: البعث، لأنه إذا جاء، زال الشك، أي لو تعلمون علم البعث، وجواب لو محذوف، أي لو تعلمون اليوم من البعث ما تعلمونه إذا جاءتكم نفخة الصور، وانشقت اللحود عن جثثكم، كيف يكون حشـركم، لشغلكم ذاك عن التكاثر بالدنيا([24]).

  قوله تعالى: ﴿عِلْمَ الْيَقِينِ: وهو ما ظَهَرَ من الحَقِّ، وقَبُول ما غابَ للحْقّ، والوُقُوف على ما قام بالحَقّ. وأَركانه:

الأَوّل: هو ما ظهر من الحقَّ تعالى، والَّذى ظهر منه سبحانه أَوامرُه ونَواهِيه، وشَـرْعُه ودِينُه، الَّذي ظهر لنا منه على أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فيتلقَّاه بالقَبول والانْقياد والإِذعان والتَّسْليم للرّبوبيّة، والدّخول تحت رقّ العبوديّة.

الثاني: قَبُولُ ما غابَ للحقِّ، وهو الإِيمانُ بالغيب الَّذى أَخبر به الحقُّ سبحانه على لسان رُسُلِه؛ من أَمورِ المَعاد وتَفاصيله، والجنَّة والنَّار، وما قبل ذلك من الصّـراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تَشَقُّق السّماءِ وانفطارها، وانتثار الكواكب، ونَسْف الجبال، وطَيّ العالم، وما قبل ذلك من أَمور البَرْزَخ، ونَعِيمه وعَذابه. فقبولُ هذا كلِّه، تصديقاً وإِيماناً، هو اليقين، بحيث لا يُخالج القَلْبَ فيه شُبْهَةٌ ولا شكٌّ ولا رَيْب، ولا تَناس، ولا غَفْلَة عنه، فإِنَّه إِن لم يستملك يَقِينَه، أَفْسَدَه وأَضْعَفَه.

الثالث: الوقوف على ما قام بالحقّ سبحانه من أَسمائه وصفاته وأَفعاله، وهو عِلْمُ التَّوحيد الَّذي أَساسهُ إِثبات الأَسماءِ والصّفات.

الثانية: عين اليَقين، وهو المَعْنِيّ بالاسْتِدْراك عن الاسْتِدْلال، وعن الخَبَرِ بالعَيان، وخَرْق الشُّهود حجابَ العِلْم.

والفَرْقُ بين عِلْم اليَقِين وعَيْن اليقين، كالفَرْقِ بين الخَبَر الصادِق والعَيان، وحَقُّ اليَقين فَوْقَ هذا. وقد مُثِّلَت المراتب الثلاثة بمن أَخبرك أَنَّ عنده عَسَلاً، وأَنت لا تَشُكَّ في صِدْقه، تمَّ أَراك إِيّاه، فازددت يقيناً، ثم ذُقْت منه، فالأَوّل عِلْمُ يَقِين، والثاني عَيْنُ يَقِينٍ؛ والثالث حَقُّ يَقِين. فعِلْمُنا الآن بالجنَّة والنَّار عِلْمُ يَقينٍ، فإِذا أَزْلِفَتِ الجنَّة في المَوْقف وشاهَدَها الخلائِقُ، وبُرِّزت الجَحيم وعاينها الخلائِق، فذلك عَيْنُ اليَقين. فإِذا دخل أَهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأَهلُ النَّار النَّارَ، فذلك هو حَق اليقين([25]).

قوله تعالى: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾: ﴿لَتَرَوُنَّ على القسم، أي أقسم لكم أنكم ستشاهدون الجحيم، وأنتم في القبر. فيه دلالة على إثبات عذاب القبر([26]).

والجَحْمة: شدَّة تأَجّج النَّار. ومنه الجحيم، وهو النَّار الشديدة التأَجُّج. وكل نار بعضُها فوق بعض جحِيم؛ والجمر بعضه على بعض جحيم، وهي نار جاحمة. والجاحم: الجَمْر الشَّديد الاشتعال؛ وقيل: هو، والمكانُ الشَّديد الحَرّ([27]).

والجحيم: اسم من أسماء جهنم([28]).

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ: ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ عياناً ويقيناً، يعني معايشة النار يوم القيامة([29]).

  يقول سيد قطب: "ثم يلقي بالإيقاع الأخير، الذي يدع المخمور يفيق، والغافل يتنبه، والسادر يتلفت، والناعم يرتعش ويرتجف مما في يديه من نعيم: ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ! لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة، وفي طاعة؟ أم من معصية، وفي معصية؟ أمن حلال، وفي حلال؟ أم من حرام، وفي حرام؟ هل شكرتم؟ هل أديتم؟ هل شاركتم؟ هل استأثرتم؟

﴿لَتُسْئَلُنَّ عما تتكاثرون به، وتتفاخرون.. فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم، ولكن وراءه ما وراءه من همّ ثقيل! إنها سورة تعبّر بذاتها عن ذاتها، وتلقي في الحس ما تلقي، بمعناها وإيقاعها، وتدع القلب مثقلاً مشغولاً بهمّ الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا، وصغائر اهتماماتها، التي يهش لها الفارغون! إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشـريط الطويل.. ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ..

وتنتهي ومضة الحياة الدنيا، وتنطوي صفحتها الصغيرة.. ثم يمتد الزمن بعد ذلك، وتمتد الأثقال، ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء، فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد..

وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها.. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها، ويمضي به مثقلاً في الطريق! ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد"([30]).

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ: ثم لتحاسبن.

  أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر، عن النظر في دعوة الإسلام، من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم، بتهديد وتخويف من مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا، ولم يشكروا الله عليه، بقوله تعالى: ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم، أي عن النعيم الذي خولتموه في الدنيا، فلم تشكروا الله عليه، وكان به بطركم([31]).

والنعيم: اسم لما يلذ لإنسان، كشرب الماء، وأكل الطعام، والتلذذ بالمسموعات، وبما فيه فخر، وبرؤية المحاسن، فكلها تعد من النعيم([32]).

قوله تعالى: ﴿عَنِ النَّعِيمِ، جاء في تفسيرها([33]):

1.                     ألوان النعيم الذي أسـرفتم فيه، واستمتعتم به.

2.                     إن النعيم: الماء الحار في الشتاء.

3.                     الأمْنُ والصحةُ.

4.                     وأجلّها العقل، والرسول، والقرآن.

5.                     الصحة والفراغ.

6.                     صحة الأبدان، والأسماع، والأبصار.

7.                     خبز البُرّ .

8.                     الماءُ العَذْبُ.

9.                     الماء البارد.

10.             الإدراك بحواس السمع والبصر.

11.                         ملاذّ المأكول والمشروب.

12.                      الغداء والعشاء.

13.                      إنعام الله على الخلق بإرسال محمد (صلى الله عليه وسلم).

14.                      تخفيف الشرائع وتيسير القرآن.

15.                      شبع البطون، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم.

16.                      كل شيء من ملذات الدنيا.

17.                      صنوف النعم.

    قال ابن الجوزي: والصحيح أنه عام في كل نعيم، وعام في جميع الخلق، فالكافر يسأل توبيخاً، إذا لم يشكر المنعم، ولم يوحِّده. والمؤمن يسأل عن شكرها([34]).

  قال الماوردي: "وهذا السؤال يعم المؤمن والكافر، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن جمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وسؤال الكافر تقريع، لأنه قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية، ويحتمل أن يكون ذلك تذكيراً بما أوتوه، ليكون جزاء على ما قدموه"([35]).

وقال الخازن: "قيل إن هذا السّؤال يعم الكافر، والمؤمن، وهو الأولى، لكن سؤال الكافر توبيخ، وتقريع، لأنه ترك شكر ما أنعم الله به عليه. والمؤمن يسأل سؤال تشريف وتكريم، لأنه شكر ما أنعم الله به عليه، وأطاع ربه، فيكون السّؤال في حقه تذكرة بنعم الله عليه([36]).

  يدل على ذلك ما روي عن الزّبير، قال لما نزلت: ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزبير: يا رسول الله، وأي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان: التّمر والماء؟ قال: (أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ)([37]).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ لَيْلَةٍ - فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟) قَالَا: الْجُوعُ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا)، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أَيْنَ فُلَانٌ؟)([38])، قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (إِيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ)، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَـرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ)([39]).

فهذا سؤال عن النعيم، ثبت بالسنة، وهو غير الذي جاء في هذه الآية.

ومعنى الحديث: لتسألن عن شكر تلك النعمة. أراد تذكيرهم بالشكر في كل نعمة.

وسؤال المؤمنين سؤال لترتيب الثواب على الشكر، أو لأجل المؤاخذة بالنعيم الحرام([40]).

فقه الاستنباط([41]):

1.                     يحذر اللَّه تعالى من ترك العمل الصالح والاستعداد للآخرة، ويوبخ الذين تشغلهم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة اللَّه، حتى يموتوا، ويدفنوا في المقابر.

والتوبيخ عام يشمل التفاخر بكل شيء؛ من الأموال والأولاد، والقبائل والعشائر، والسلطة والجاه، والرجال والأعوان، فهو يتضمن التفاخر بالنفس، وهي العلوم والأخلاق الفاضلة، والتفاخر بالبدن، وهو الصحة والجمال، والتفاخر بالأمور الخارجية، وهي المال والجاه والأعوان والأقرباء والأصدقاء.

2.                     لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي، لأنها تذكّر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصـر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها.

3.                     كرر اللَّه تعالى في هذه السورة الوعيد بعد الوعيد، للتأكيد والتغليظ على ثبوت عذاب القبر، وعذاب الآخرة، وأن ما وعدنا به من البعث، وتوابعه، حق وصدق. ثم أعاد تعالى الزجر والتنبيه على أنه إن لم يفعل الناس العمل الصالح، وترك التفاخر بالأموال والأولاد والرجال، يندمون، ويستوجبون العقاب.

4.                     يسأل الناس يوم القيامة عن ألوان النعيم في الدنيا، من ظلال المساكن والأشجار، وطيب الحياة والرفاهية، والصحة والفراغ، والأمن والستر ونحو ذلك. والكل يسألون، ولكن سؤال الكافر توبيخ، لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه شكر، وهذا النعيم في كل نعمة. ويكون السؤال في موقف الحساب، وقيل: بعد الدخول في النار، توبيخاً لهم، والأول هو الظاهر.

5.                     تنديد موجه إلى السامعين، بما هم فيه من المباراة في الاستكثار من الأموال والأولاد، والتفاخر بذلك، واستغراقهم بسبب ذلك استغراقاً يمنعهم من التفكير في الموت وما بعده، بحيث لا ينتهون مما هم فيه إلّا حين يموتون.

6.                     وتنبيه وتبصير لهم. فإنهم سوف يعلمون علماً يقينياً بأنهم مخطئون، وأنهم سوف يرون الجحيم الموعودة، ويرون بعين اليقين ما أوعدوا به، وأنهم سوف يسألون عن أعمالهم، وما قضوه في الدنيا من حياة النعيم التي ألهتهم عن الآخرة والتفكير فيها.

7.                     ولما كانوا ينكرون البعث، ويعتقدون دوام الإقامة في القبور، عبّر بالزيارة، إشارة إلى أن البعث لا بد منه، ولا مرية فيه، وأن اللبث في البرزخ - وإن طال - فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره، في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم، أو غار الجحيم. وأن الإقامة فيه محبوبة، للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال، فقال: ﴿حَتَّى أي استمرت مباهاتكم ومفاخرتكم إلى أن ﴿زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾، أي بالموت والدفن، فكنتم فيها عرضة للبعث، لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم، لأن دار العمل فاتت، كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور، لا يمكثون بها إلّا ريثما يكتمل المجموعون بالموت، كما أن الزائر معرض للرجوع إلى داره، وحل قراره. فلو لم يكن لكم وازع عن الإقبال على الدنيا إلا الموت، لكان كافياً، فكيف والأمر أعظم من ذلك؟ فإن الموت مقدمة من مقدمات العرض.

8.                     أنه يجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته، ومحاسن أخلاقه، إذا كان يظن أن غيره يقتدي به. فثبت أن مطلق التكاثر ليس بمذموم، بل التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة هو المحمود، وهو أصل الخيرات. أما التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها، فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله تعالى وعبوديته، فهو المذموم.

 

إعجاز علمي:

قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ

علم اليقين نوعان:

1.                     النوع الأول إخباري، وهو ما جاء به الوحي على رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فأخبره عن الغيبيات، سواء في القرآن الكريم، أو في الحديث النبوي، فآمنا به، وصدقناه، وهو من أركان الإيمان الذي لا يكتمل الإيمان إلا به.

النوع الثاني تجريبي تطبيقي، وهو ما يقوم به العلماء في المختبرات، والمفاعلات النووية، للوصول إلى حقيقة نشوء الكون، وكيفية بدء الخلق. واستنباطاً من الآيتين الكريمتين أعلاه، نتوقع أن يتوصل العلماء يوماً ما بتجاربهم إلى إخبارنا عن وجود جهنم بعلومهم، ونظرياتهم التطبيقية، من دون إمكانية النظر بالعين الإنسانية، لأن ذلك محال في الدنيا. والله أعلم.


[1] - في ظلال القرآن: (6/3962).

[2] - الخطيب، التفسير القرآني للقرآن: (16/1664).

[3] - السيوطي، أسـرار الترتيب: (ص167).

[4] - نظم الدر: (22/225).

[5] - التحرير والتنوير: (30/518)؛ زاد المسير: (4/485)؛ السيوطي، لباب النقول في أسباب النزول: (ص234).

[6] - الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز: (ص540)؛ جعفر شـرف الدين، الموسوعة القرآنية، خصائص السور: (12/147)؛ التحرير والتنوير: (30/518)؛ الموسوعة القرآنية، خصائص السور: (12/145).

[7] - الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز: (ص541).

[8] - زاد المسير: (4/485)؛ مفاتيح الغيب: (32/269)؛ ابن عطية، المحرر الوجيز: (5/518)؛ الراغب الأصفهاني، مفردات القرآن: (ص748)؛ حسن عز الدين بن حسين بن عبد الفتاح أحمد الجمل، معجم وتفسير لغوي لكلمات القرآن: (4/195)؛ إبراهيم بن إسماعيل الأبياري، الموسوعة القرآنية: (11/494).

[9] - الراغب الأصفهاني، مفردات القرآن: (ص703)؛ مفاتيح الغيب: (32/269)؛ الجامع لأحكام القرآن: (20/168)؛ الموسوعة القرآنية، خصائص السور: (12/143).

[10] - التحرير والتنوير: (30/519).

[11] - مفاتيح الغيب: (32/271).

[12] - مفاتيح الغيب: (32/269-270).

[13] - جامع البيان: (24/580).

[14] - زاد المسير: (4/485).

[15] - تفسير ابن أبي حاتم: (10/3459).

[16] - ابن عطية، المحرر الوجيز: (5/518).

[17] - مفاتيح الغيب: (32/271).

[18] - التحرير والتنوير: (30/520).

[19] - التحرير والتنوير: (30/521).

[20] - جامع البيان: (24/581).

[21] - التحرير والتنوير: (30/521).

[22] - مفردات الراغب: (ص892)؛ بصائر ذوي التمييز: (5/395).

[23] - معجم وتفسير لغوي لكلمات القرآن: (5/307).

[24] - الجامع لأحكام القرآن: (20/173).

[25] - بصائر ذوي التمييز: (5/403).

[26] - د. زغلول النجار، تفسير سورة التكاثر (يوتيوب).

[27] - تهذيب اللغة: (4/102)؛ بصائر ذوي التمييز: (2/369)؛ تاج العروس: (31/371-372).

[28] - معجم وتفسير لغوي لكلمات القرآن: (1/309).

[29] - د. زغلول النجار، تفسير سورة التكاثر (يوتيوب).

[30] - في ظلال القرآن: (6/3962).

[31] - التحرير والتنوير: (30/524).

[32] - التحرير والتنوير: (30/524).

[33] - ابن قتيبة، غريب القرآن: (ص11، 468)، تحقيق: سعيد اللحام؛ التفسير القرآني للقرآن: (16/1667)؛ الماوردي، النكت والعيون: (6/332)؛ زاد المسير: (4/486)؛ لباب التأويل في معاني التنزيل: (4/465).

[34] - زاد المسير: (4/486).

[35] - الماوردي، النكت والعيون: (6/332).

[36] - لباب التأويل في معاني التنزيل: (4/465).

[37] - مسند الحميدي: (رقم: 61)؛ سنن الترمذي: (رقم: 3356)، وقال حديث حسن، وقال الألباني: حسن الإسناد.

[38] - الأنصاري هو أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك.

[39] - صحيح مسلم: (رقم: 2038).

[40] - التحرير والتنوير: (30/524).

[41] - مفاتيح الغيب: (32/270)؛ الزحيلي، التفسير المنير: (30/388)؛ محمد عزة دروزة، التفسير الحديث: (2/15)؛ نظم الدر: (22/223).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق