03‏/10‏/2022

سلطة الانعتاق وآفاق التجاوز.. واقعنا المحجوب بتقنية الوعي المحدب

الدكتور سامي محمود إبراهيم
رئيس قسم الفلسفة - كلية الآداب/ جامعة الموصل
مرايا الواقع السياسي وعينا مزيف ومحرف، يبحر في الإشاعة، ويتيه في لجة بحر الأنا الغارق في هموم الدنيا.
 لهذا، علينا أن نزيح من ذهنيتنا الاحتجاج بما يفعله السلاطين والآخرون. علينا أن نقرأ التاريخ قراءة واعية، وأن نتهم أنفسنا ونفهمها، وإذا اتهمنا أنفسنا وقفنا على أحوالنا، فإن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وذلك هو الوعي بالواقع والحال والوجود..هذا من جانب، ومن جانب آخر نجد أن الوعي الحقيقي يتطلب التوازن بين الفرد وذاته، فمعظم الانتكاسات تأتي من عدم التصالح مع الذات، فينشأ الصـراع.. وللأسف الغالبية يركزون على ما لا يريدون، فتكبر الفجوة الداخلية التي تجعل المرء محدود الرؤية والتفاؤل والانسجام مع ذاته، وهذا يعني عدم التناغم مع عالمه الخارجي. وهنا يضع الفرد العتب على الظروف، مع أن الخلل ليس فيها، وإنما في داخله. لذا، من الضـروري التصالح مع اعتقاداتنا وأفكارنا وطروحاتنا ورؤانا.. عندها سنكون، وهكذا لن تبقى مشكلة .
وفي هذا الصدد :يروى أن صياداً عاد من رحلة صيد وفيرة، وفجأة رأى قارباً يتجه نحوه.. انزعج الصياد، وصار يصـرخ على صاحب المركب أن توقف.. لكن المحظور وقع.. فقد ارتطم القارب بالقارب.. ثم تبين أن لا أحد كان يقود القارب الآخر، فقد كان فارغاً. لذا شعر بمزيد من الأسى والحزن، فلا يمكنه أن يحمل المسؤولية أحداً .
    حياتنا مليئة بالمراكب السابحة على غير هدى، ومعظمها فارغة.
    من السهل التفكير في أن الآخر خاطئ، أو سيء، بدلاً من تقاسم المسؤولية.. يمكن أن تشعر بالإحباط عدة مرات، لكنك لست فاشلاً حتى تبدأ في إلقاء اللوم على شخص آخر والتوقف عن المحاولة.
    كما أن لعبة اللوم تقتضـي أيضاً البحث عن كبش فداء لا يستطيع الدفاع عن نفسه. وهكذا من السهل إلقاء اللوم على الأشخاص، أو الجماعات، الذين لا حول لهم ولا قوة. مجموعة مهمشة، تعد هدفاً سهلاً، عندما لا نستطيع التعامل مع شعور بالذنب، نرغب في أن نرمي به إلى الآخرين، من خلال إبراز المشاعر السيئة فيهم، والتي قمنا بإلحاقها بهم قصداً، حتى نتمكن من الظهور بشكل جيد.
    نحن نعيش ثقافة اللوم والشكوى، لأن الجميع يبحثون دائماً عن أشياء يشتكون منها، فنحن باستمرار نريد أن نكون خيرين.
إذاً، نحن بحاجة إلى الوعي روحياً ومادياً لنتمكن من آليات النهوض.. نستثمر الذات الإنسانية في الوجود، فنتوسع داخل فلك الحضارة. وبذلك نتخلص من حتمية السقوط والانحدار، إلى حتمية النهوض في مسار الحياة العالمية.
هذا التحول يتزامن مع رؤية عقلية عالمية، تمتلك بصـراً حاداً يغوص في الأعماق لينتشل سـر كينونتنا الغامض، خاصة أن الوعي حالة من الاستنفار العقلي والذهنية الثائرة التي تتجاوز الاعتبارات الظرفية إلى رحاب المسائل الكلية..
إن الوعي الحقيقي هو ذلك المرتكز على الشمولية والعمق التفسيري، إنه ذلك الذي يبحث عن النواميس والسنن الناظمة لهذا الكون، ويربط بين العلل ومعلولاتها.
نعم، العقل الواعي القادح لزناد فكره، لا يملك تجاهل دهشته، ومناهضة حب الفضول المغري باقتحام المجاهيل، ومقاومة التوق الجبلي نحو سبر أغوار الأشياء، لكن إن لم يضبط ويقنن، فمصيره إلى التيه والتخبط.
إنها دعوة للخروج بالعقل من أزمة اللاوعي، حين يكون العقل انتقائياً، حين يكون عقلاً للاحتلال، والبحث الدؤوب عن عقلنة التوسع من أجل السيطرة والأسواق، بل حين يتحور العقل إلى ملكة وأداة باعثة على التدمير والتخريب.
ولهذا، فإن علينا أن نسعى دائماً إلى تفحص برامجنا، وقراءة أحوالنا، وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا، ومع العالم. فطعم الحقيقة المطلقة أسعد وألذ من طعم الحيرة المعذبة، مهما طرأ على الحيرة من التمجيد.
لنقلب صفحات العالم، ونقرأها من جديد، علّنا ننتج في قاموس الحضارة انبعاثاً ونهضة تحتضن الحياة، وتجعل من الإنسان وعياً جديداً يحتمل سعة العالم اللاواعي اللامنتمي وثقله المطرد. لا بد من تحديد بعدنا الذاتي في أرض الواقع، وننسـى أثرنا المعكوس تحت الوصاية سنين طويلة.
لنتذكر أن مصادر طاقتنا موجودة في منظومتنا الفكرية. فنشهد عندئذٍ وعياً وانسجاماً تاماً مع سائر مفردات الحياة..
 لنتذكر أخيراً أننا أمة واعية قادرة على النهوض رغماً عن جميع ما يعتريها من عارض المحنة الحاضـرة.. فلنتفكر بمداد العقل والإيمان، بجدلية الوعي والإنسان، عندها سنتجاوز لجة البحر المظلم، لنصل إلى بر الأمان.
وعبر ثنايا الزمن تتشكل ملامحنا بانتظام جميل، يبقينا أحسن مما كنا بانتظام متلاحق. وأن أية حياة - مهما كانت بسيطة - ستكون جميلة وممتعة إن رويت بصدق.
فحين نرى الجمال نود أن نكون أمماً وجماعات وشعوباً وحضارات وأنساباً وقبائل. فبعض المشاهد والانفعالات والأحاسيس تجعلنا نضيق بكوننا واحداً، إذ لا بد من وجود آخر يقاسمنا مشهد الحياة، يحمل عنا شيئاً من فرح وسـرور مباغت، خاصة أن حياتنا مليئة بالمفاجآت.. هي تجربة مفعمة بالمعاناة في مسيرة عبورنا نهر الزمان، الذي نقطعه ونحن نحمل أثقال وجودنا على أكتافنا، إلى أن نصل جزيرة الأمل المفقودة في أبدية جميلة متصلة بكل معاني الوجود. وكأن روح الحياة وجمالها قد اختزلت في حكمة تعطي الزهد أقصـى معانيه. معانٍ تفجر لدينا الإحساس بالتفاؤل برغم التشـرب البطيء للمأساة التي نعانيها. وفي رحلة البحث عن الذات نقطع المسافات، فبيننا وبين السعادة صحارى مجهولة، وهواجس لا تنتهي. خاصة أن الوجود المشـروط غياب، ومساحة الصبر قليلة، تنتهي بحرف، وعلى حافة جرف، بعدها يعلن الوداع إلى غياب بنكهة الحضور.
وما زلنا تلامذة في مدرسة الدنيا، نتعلم أبجديات الحياة، وأسماء الواقع، وجدول الضمير، وكيمياء السعادة، وفيزياء الوجود، وفن الواقع، وجمال الحقيقة.
إن إنساننا بحاجة اليوم، أمس الحاجة، إلى خطاب روحي يوقظ فيه سبات الضمير، ويضخ النور في الإرادات الإيجابية البناءة.. نرغب دائماً ببرمجة مسيرة المستقبل إلى إشغال مكان بين نجوم السماء، قريباً من موقع الثريا ومشهد سحر الوجود الخلاق.
فلنتفكر بمداد العقل والإيمان، بجدلية الوعي والإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق