03‏/10‏/2022

عاشوراء رمز الاحتفال باندحار الكفر والظلم

 عابدين رشيد

 أجل يا أخوة الحب والإيمان والجهاد، إنَّ لله - عزَّ وجلَّ - لأياماً ذات حِكم وأسـرار وذكريات وبركات، يغفل عنها الناس غالباً، بل وقل دائماً ولا تبالِ، وبصورة أخص الـمسلمون اليوم، وكأنَّها لا تعنيهم ولا تهمهم لا من قريب ولا من بعيد – يا للغفلة العجيبة! – فتمرُّ بهم أو يمرّون بها مرَّ الكرام، بينما المفروض والحق والأصل أن يغتنموها ويستخرجوا منها لآلىء العِبر، ودرر الدروس، فيتخذونها خرائط هادية؛ كالنجوم في ظلمات ليالي حياتهم، وفيافي دنياهم، ليجتازوها بـسلام وأمان ورجاء ورضوان.

فالحياة كالمحيطات الواسعة المخيفة الهادرة العاصفة، تموج أمواجها بالمخاطر والمهلكات كالجبال الشامخات، تضمُّ في طيّاتها وأعماقها ألف نوع ونوع من الموت والحتف والفناء، والناس في فلكها تضـربهم بأمواجها الثائرة الفائرة، وتقذفهم يمنةً ويسرةً، توشك أن تغرقهم وتبتلعهم كالحيتان الزرقاء العملاقة!  لولا لُطف الله ورحمته – غالباً – عزَّ وجلَّ .

ومن هذه الأيام - الأيام الإلهية العظيمة، وهي ما أكثرها وما أروعها ! .. يوم (عاشوراء)!!

فإذا تأملنا مليّاً بتدّبر وتفكّر في بعض ما في هذا اليوم من حقائق وبصائر، بعيداً عن الغفلة والـنســيان والأُلفة والروتين، نرى أن لهذه القصة التاريخية الخالدة عبراً ودروساً وآياتٍ للناس عامة، وللمسلمين خاصة؛ وأمة محمد – صلى الله عليه وسلم - خاصة خاصة.

والآن، حان لنا أن نذهب ونتشـرّف إلى حضـرة (الحديث النبوي الكريم)، ونجلس بين يديه بكل أدب وشوق ووقار، لنســمع ماذا يقول قبل ما يقارب خمسة عشـر قرناً –يا للتاريخ الصدوق المجيد!- منذ فجر عصـر النبوة المحمدية الـسعيدة المباركة الخاتمة (على صاحبها صلوات الله وسلامه):

(عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قدم (المدينة)، فوجد اليهود صُيّاماً، يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما هذا اليوم الذي تصومونه؟  فقالوا: هذا يوم عظيم، أَنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً ، فنحن نصومه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فنحن أحق وأَولى بموسى منكم. فصامه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأمر بصيامه)  صحیح مسلم (2577).

وفي رواية أخرى: عن أبي غطفان بن طريف المريّ، قال: سمعت عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يقول: حين صام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ صُمْنَا يَوْمَ التَّاسِعَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ). قال: (فلم يأتِ العام المقبل، حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) صحيح مسلم (2722).

وفي الحديث الثالث، كما رواه الإمام الترمذي: عن أبي قتادة : أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفّر السَّنة التي قبله) الترمذي (749).

هذا، وأرى هنا - قبل أن أخوض في استنباط بعض ما في تلك الأحاديث الصحيحة المطهرة التي تتعلق مباشـرة بـ (يوم عاشوراء) العظيم - أن أنقل شـرحاً واضحاً عن (يوم عاشوراء):

(يَروي عبْدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ النَّبيَّ (صلى الله عليه وسلم) هاجَرَ إلى (المَدِينةِ) مِن (مكَّةَ)، ووَجَدَ يَهُودَ المدينةِ يَصُومُون يَومَ عاشُورَاءَ، وهو يومُ العاشرِ مِن شَهرِ اللهِ المحرَّمِ، فسَأَلَهم عن سَببِ ذلك، فذَكَروا أنَّ هذا يَومٌ صالِحٌ وَقَعَ فيه خَيرٌ وصَلاحٌ، حيثُ نَجَّى اللهُ فيه بَنِي إسرائِيلَ مِن عَدُوِّهِم فِرعونَ بإغراقِه وجُنودِه في البحرِ، فَصامَه نَبيُّ اللهِ مُوسَى – عليه السلام-، فلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ذلك، أخبَرَ أنَّه أحَقُّ بمُوسَى مِنهم، حيثُ إنَّهما أخَوانِ في النُّبوَّةِ، ولأنَّه (عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ) أطوَعُ وأتبَعُ للحقِّ منهم، فهو أحَقُّ أن يَشكُرَ اللهَ تعالَى على نَجاةِ أخيهِ مُوسى، ولذلك صامَهُ (صلى الله عليه وسلم)، وأَمَرَ المسلِمينَ بصِيَامِه؛ لأنَّنا -نَحنُ المسلِمينَ- أوْلَى بِحبِّ مُوسى – عليه السلام -، ومُوافقَتِه، مِنَ اليهودِ، حيثُ إنَّهم بَدَّلوا شـَريعتَه وحَرَّفوها، ونحنُ أتباعُ الإسلامِ الَّذي هو دِينُ كلِّ الأنبياءِ (عليهم السلام)، لما جاءت بيانات بيّنات في كتاب الله القرآن الخاتم الأقدس في قصص الأنبياء فيه.

وقد روَى ابنُ عبَّاسٍ أيضاً أنَّ من السُّنَّة أنْ يَصومَ المسلِمُ اليومَ التَّاسعَ معه؛ مُخالفةً لليهودِ.

وفي الحديثِ: مَشـروعيَّةُ شُكرِ اللهِ تعالَى بالصَّومِ لمَن حَصَلَ له خَيرٌ مِن تَفريجِ كُرَبٍ، أو تَيسيرِ أمرٍ).

وبعد، فيا أخي القارئ الكريم!

 لقد فتح الله لي بفضله ولطفه، بعد ما أخذت أتأمل بتدّبر وتعمّق في الأحاديث النبوية الواردة في حق (يوم عاشوراء)، أن أجد فيها جملةً من الحِكم والعِبر والفَوائد الجديرة بالعلم والتسجيل والنـشر، عسى الله أن تنفع المؤمنين المهتمّين الجادين المجاهدين، تذكرةً وتبصـرةً إن شاء الله:

 فمن تلك الحكم والفوائد؛ مثلاً:

(أولاً): أن المسلم بفطرته الإيمانية الحيّة الشَّهمة يفرح ويبتهج باندحار الظلم وزواله، بل ويحتفل بالنصـر الإلهي العزيز أيّما احتفال قلباً ولساناً وعملاً، ولكنه لا يحتفل كأهل الغفلة والمنكر بإعلان المجون والمعاصي والمحرمات والخروج بلا حياء عن الآداب والأعراف الطيّبة الراقية، بل يحتفل بما يليق بشخصيته ومستواه من الخلق الرفيع والنـسب العريق، وذلك بإعلان الشكر لله ربه ومنقذه والمنعم عليه. والطاعة الحسنة؛ بعبادة الصوم أو غيره، كثير، وهو كل ما يحبّه الله ويرضاه من عباده الذين أنعم عليهم بنعمة الحرية والعزّة والكرامة، سواء لهم أو لآبائهم وأجدادهم، كذكرى من ذكريات أيام الله!

 (ثانياً): أن المسلم لا ينبغي أن يقبل الظلم بأي شكل من الأشكال، ولا يخضع ولا يرضى به مطلقاً، بل يجب أن يرفضه رفضاً، وأن يحاربه حرباً؛ بيده إن استطاع، أو بلسانه، أو بقلبه، وهو أضعف الإيمان والرجولة.. بل وبكل وسيلة مشـروعة متاحة، بلا جمود ولا خمود ولا جبن ولا بخل، أينما كان، وحيثما كان، وممن كان، كائناً من كان، ذلك لأن الظلم كفر، كما أن الكفر ظلم، وإذا دام الظلم دمرَّ، كما نرى اليوم في كل مكان.

ويقول الربُّ تبارك، في الحديث القدسي: (يا عبادي، إني حَرمتُ الظلم على نفسـي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) صحيح مسلم (2577).

ثم إن المسلم رجلُ (لا إله إلا الله)، فكيف يجوز أن يسكت عن الظلم، أي نوع كان - حتى ولو كان كلمة معتادة، فيها إساءة ظاهرة ولو بأخف وأدنى درجة - إلا إذا قَبِل أو رضي أن يكون شيطاناً أخرس!

فلقد علّمتنا السيرة النبوية الشـريفة الحكيمة المباركة، درساً لن ننساه إلى يوم القيامة، وهو أن لا يقبل المسلم أدنى درجات الظلم والاعتداء، حتى ولو كان صادراً من أخيه المسلم، الجارح لمشاعره ومظاهره، وذلك في قصة تاريخية مشهورة مؤسفة مشينة، وقعت بين صحابيين جليلين: بلال الحبشـي، وأبي ذر الغفاري - رضي الله عنهما -، إذ عيّر أبو ذر أخاه بلالاً وشتمه بقوله له: يا ابن السوداء!

فما كان من بلال إلا أن يسـرع إلى الرسول الأكرم – صلى الله عليه وسلم- يشتكي إليه ما بدر من أبي ذر من قول سيّءٍ له، فدعاه رسول الله بين يديه. ولما تحقق له صِدق ما قاله لبلال، قال له – عليه الصلاة والسلام - وهو مستاء وغضبان: «يا أبا ذر، أعيّرته بأمّه، إنك أمرؤ فيك جاهلية»! البخاري (30)، ومسلم (1661)، وأحمد (21469).

ولعل بقية القصة معروفة للجميع. وهكذا يحتفظ المسلم بعزّته وكرامته الغاليتين.

 (ثالثاً): وهذه لفتة بارعة ومهمّة، وهي أن لا يكون احتفالهم السعيد الكريم تقليداً لطريقة احتفالات اليهود والنصارى، بل ينبغي أن يتميّزوا عنهم، وأن يخالفوهم، حتى لو كانت الاحتفالات دينية أو عبادية، فاليهود كانوا يصومون يوماً واحداً وهو (يوم عاشوراء)، ونحن نصومه ونصوم اليوم التاسع معه كذلك، إشارة صـريحة واضحة من نبيّنا الحبيب القدوة الحسنة الخالدة لنا في كل سُننه وخطواته، الذي قال وأكّد: (فإذا كان العام المقبل، إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع).

وهذه تذكرة جديرة جداً بالتدبر والتأمل، لئلا تكون أمته أمة مقلدة للآخرين الأغيار من الأُمم حتى في الأفراح! فالتقليد للأجانب المغضوب عليهم والضالين، بغيض بغيض في الإسلام؛ ذلك الدين الكامل الخاتم الحق، لا كما هو حال الـمسلمين اليوم.. يا للأسى والخزي والانحطاط!

 هذا، وما أعظم ما يرمز إليه الحديث النبوي الكريم: (صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفّر السنـة التي قبله)، من مكافأة المسلم من عند الله لاحتفاله بانتصار الحق على الباطل، والتوحيد على الآلهات المزيفة المزورة المدعاة، بالصيام يوماً واحداً، بإزالة ذنوب سنة ماضية كاملة، يا لرحمة الله!

 فأين نحن من هذه الدروس والفوائد؟ وأين نحن من حقائق هذه الحادثة العظيمة الفريدة في تاريخ البشرية، وفي تاريخ الدين الحق، دين الإســـــلام ، منذ سيدنا آدم – عليه السلام- إلى سيدنا الخاتم محمد – صلى الله عليه وسلم-؟!

هذا، وما أشد عجبي واستغرابي للبشـرية المؤمنة المهتدية، وفي مقدمتها أمة العلم والإيمان والبطولة والجهاد: أمة الإسلام، لماذا وكيف لا تحتفل - على مدى الدهور- قياساً واقتفاءً على (يوم عاشوراء) المجيد، بالأيام العظيمة الأخرى؛ كيوم نجاة (نوح) – عليه السلام- وســفـينته، من طوفان غضب الله على قومه؟ وكيوم نجاة إبراهيم الخليل – عليه السلام- من نار نمرود؟ وكيوم نجاة عيـسى – عليه السلام- من محاولة قتله، فرفعه الله إلى السماء؟ وكيوم نجاة يونس – عليه السلام- من الظلمات الثلاثة في بطن الحوت؟!

وهكذا غيرها وغيرها.. كيوم (إقرأ)، وكيوم (الإسراء والمعراج)، وكيوم (الهجرة)، وكيوم (بدر الكبرى)، في حياة النبي الخاتم الأعظم والعبد الأكرم محمد – صلى الله عليه وسلم؟! أليس كل هذه الأيام من أعاظم أيام الله في تاريخ الدنيا، للإنسـانية المكرّمة ؟!

فلماذا لا يحتفل بها كذلك لكي تبقى وتستمرّ مواسم وذكريات حيّة مباركة، في ذاكرة الأقوام والشعوب والأمم - مادامت الأيام والإنسـان على وجه الأرض – شكراً لله ، وحمداً لله ، ومجداً لله ، على ما أنقذ عباده الصالحين الأولياء الصادقين ، من شرور الطغاة الكفرة الفجرة تثويراً للغيرة الشَّماء وتحفيزاً للبطولة القعساء وتثبيتاً للمقاومة والتحدي الدائمين ضد كل ظلم وظالم وطغيان وطاغية ولكي تبقى البشـرية الكادحة الباسلة ترفض بحكمة وعبقرية كل أنواع الجور والحيف والعدوان. ولكي لا يستمرىء الناس الخضوع والخنوع والذّل والعبودية لجبابرة الأرض وأنظمتهم الفاسدة العفنة النّتنة وفلسفاتهم الإعلامية الدّجالة الخبيثة الضالة الخدّاعة ، فرداً أو حزباً أو قوماً أو أمة !

ذلك لأنه لا خطر على الحياة الإنسـانية ألعن من الظلم في الكون الذي يجعل الدنيا كلها فرناً من أفران الجحيم، قبل نار جحيم الله الموقدة المؤبدة .

يا لشر الشرور ، ويا لشقاء الشقاءات !

 وفي الختام أقول وأسأل: فهل وعينا حكمة ذكرى (يوم عاشوراء) حقَّ وعيها، كما المراد في كُنه حقيقته؟

 أرجو ذلك من صميم قلبي. وأول وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق