03‏/10‏/2022

نظريات المواجهة (كيفية التعامل مع الحاكم الجائر) من كنوز قلائد الجمان شـرح اللؤلؤ والمرجان - الحلقة الثانية -

فكرة وإعداد وشـرح

صالح شيخو الهسنياني

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

  كثرت الآراء والأقوال ووجهات النظر في كيفية التعامل مع الحاكم الجائر في القديم والحديث ما بين

جواز الخروج عليه خروجاً مسلحاً؛ أو العصيان عليه بعدم التعامل معه، أو مع منظومته، وما بين السكوت والإقرار بحكمه درءاً للفتنة، وما بين منعزل لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

 في هذه النظريات (18 نظرية) التي استنتجناها حول كيفية التعامل مع الحاكم الجائر أو الفاسق، استنبطنا أسماءها ونصها وأفكارها من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن مواقف الصحابة والتابعين حول الأحداث التي واكبت بيعة وتولي يزيد بن معاوية الخلافة، وكذلك الأحداث التي جرت في خلافة عبد الملك بن مروان عند أخذ البيعة لولدين من أولاده (الوليد وسليمان)، وأيضاً قصته مع عبد الله بن الزبير، ومن أقوال العلماء والفقهاء الذين عاشوا المرحلة، أو الذين كتبوا عنها فيما بعد، إلى العصـر الحديث.

في الحلقة الأولى تطرقنا إلى النظريات الآتية:

1- نظرية هجر الظالمين.

2- النظرية العندية.

3- نظرية النصح (النظرية النصحية).

4- نظرية السمع والطاعة.

 

5- نظرية التقديس:

 تقول النظرية: السلطان ظل الله في الأرض، وأنهم مفضولون على طبقات البشـر؛ تفضيل البشـر على سائر أنواع الخلق وأجناسه، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله.  

عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَأْوِي إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا عَدَلَ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الشُّكْرُ، وَإِذَا جَارَ كَانَ عَلَيْهِ الْإِصْرُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ)[1].

وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَكْرَمَهُ أَكْرَمَه اللَّهَ، وَمَنْ أَهَانَهُ أَهَانَهُ اللَّهُ)[2].

  قال الماوردي في كتابه (نصيحة الملوك): "ومن جلالة شأن الملوك وفضائلهم على الرعايا وطبقات الناس، أن كل من تحت يدي الملك من رعاياه... فإن محلهم منه، في كثير من الجهات، محل المملوكين. لأن (مَلَكَ يَملِك) في أصل اللغة من المِلك، لا من الملُك... فهو يستعمل الرعية حسب ما يريده ويهواه، ويحبه ويراه"([3]).

أي أن الرعية وعامة الناس، في نظر الماوردي، مجرد مقتنيات مادية لجلالة الملك، لا إرادة لهم ولا حرية، يتلفهم، يستبدلهم وقت ما شاء، حسب مزاجه، فهم عبيد مسلوبي الإرادة، هوى الملك هواهم، وإرادة الملك إرادتهم، وهم لا حول لهم ولا قوة.

وعن واجب المحبة والطاعة، يقول حجة الإسلام الغزالي، في كتابه (التبر المسبوك في نصيحة الملوك): "ينبغي أن يُعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك([4])، وجعله ظله في الأرض، فإنه يجب على الخلق محبته، ويلزمهم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته... فينبغي لكل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وأن يطيعهم فيما يأمرون"([5]).

وانظر إلى قول ابن المقفع، وهو يرشد الناس إلى كيفية التعامل مع حكامهم، بنظرة فارسية ساسانية، فيقول: "... تعلمهم، وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتؤدبهم، وكأنهم يؤدبونك، تشكرهم، ولا تكلفهم الشكر، بصيرًا بأهوائهم، مؤثرًا لمنافعهم، ذليلًا إن ظلموك، راضيًا إن أسخطوك..."([6]).

وأما ابن الطقطقي، فيقول: "ومن الحقوق الواجبة للملك على الرعيّة: التّعظيم والتّفخيم لشأنه؛ في الباطن والظاهر([7])، وتعويد النفس ذلك، ورياضتها، بحيث تصير ملكة مستقرة، وتربية الأولاد على ذلك، وتأديبهم به، ليتربى هذا المعنى معهم"([8]).

وقال البربهاري: "إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى. وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح، فاعلم أنه صاحب سنة"([9]).

 وقال محمد العبد الكريم، معقباً على قول البربهاري: "هذه معايير صاحب الهوى وصاحب السنة، فمن دعا على السلطان فهو صاحب هوى، وقد أصبحت هذه المقولة، وغيرها، تنزل على سلاطين الجور والاستبداد لا فرق، فمن دعا عليهم، فهو صاحب هوى"([10]). 

  ومن غير الدعاء، فمن حق الملك على المحكومين، كما يرى الجاحظ في كتابه (التاج في أخلاق الملوك)، الذي ألفه للوزير العباسي الفتح بن خاقان([11]): "أن يقف منه الداخل بالموضع الذي لا ينأى عنه، ولا يقرب منه، وأن يسلم عليه قائماً. فإن استدناه، قرب منه، فأكبّ على أطرافه يقبلها، ثم تنحّى عنه قائماً، حتى يقف في مرتبة مثله. فإن أومأ إليه بالقعود، قعد. فإن كلمه، أجابه بانخفاض صوتٍ، وقلة حركة. وإن سكت، نهض من ساعته"([12]).

وقال: "فإن كلمه، أجابه بانخفاض صوتٍ، وقلة حركة، وحسن استماع. فإذا قطع الملك كلامه، قام فرجع القهقرى"([13]).

وعند انصـراف الملك، فعلى من في الحاشية "أن يقوم معه إذا قام، ويدعو بدابته ليركب حيث يراه، ويشيعه ماشياً، قبل ركوبه، خطى يسيرةً، ويأمر حشمه بالسعي بين يديه. على هذا كانت أخلاق آل ساسان من الملوك وأبنائهم"([14]).

وحول التقرب إلى الملك، يقول: "ولم يتقرب العامة إلى الملوك بمثل الطاعة، ولا العبيد بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الاستماع"([15]).

وحول أخلاق الملك السعيد، يقول: "ومن أخلاق الملك السعيد: البحث عن سـرائر خاصته وحامته، وإذكاء العيون [الجواسيس] عليهم خاصةً، وعلى الرعية عامة"([16]). 

ومن أخلاق الملك السعيد أيضاً: "البحث عن كل خفي ودفين حتى يعرفه معرفة نفسه عند نفسه، وأن لا يكون شيء أهم ولا أكبر في سياسته ونظام ملكه من الفحص"([17]).

ولم ير ملك قط كان أعجب في هذا الأمر من (أردشير بن بابك)([18]). ويقال إنه كان يصبح، فيعلم كل شـيء بات عليه من كان في قصبه دار مملكته من خيرٍ أو شـر، ويمسي فيعلم كل شيءٍ أصبحوا عليه"([19]).

ومن أخلاق الملك السعيد، إلى سعادة الرعية، يقول: "إن سعادة العامة في تبجيل الملوك وطاعتها، كما قال أردشير بن بابك: سعادة الرعية في طاعة الملوك، وسعادة الملوك في طاعة المالك. والملوك هم الأس، والرعية هم البناء. ومن لا أسَّ له مهدوم"([20]).

قال الفضيل بن عياض: "لو كان لي دعوة مستجابة، ما جعلتها إلَّا في السلطان.

قيل له يا أبا علي فسر لنا هذا. قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن جاروا وظلموا، لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم([21])، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين"([22]).

قال ناصـر عبد الكريم العقل، في تعليقه على (شـرح السنة) للبربهاري: "من الأصول الشـرعية التي قررها السلف، إقرارهم كلام الفضيل، ونقلوه واستحسنوه، وجعلوه قاعدة من قواعد الدين، وأصلاً من أصول العقيدة، يتناقلونه إلى يومنا هذا؛ لأنه مبني على النصوص الشـرعية التي وردت عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإن من أعظم صور المناصحة: الدعاء لولي الأمر بأن يهديه الله ويصلحه ويوفقه ويسدده ويعينه وييسر له الأعوان الصالحين، هذا من الأمور التي ترجع فائدتها لدين الناس ودنياهم، لا لذات السلطان فقط، مع أنه يجب أن ندعو للمسلم بالصلاح وإن لم يكن سلطاناً، فكيف إذا كان سلطاناً.

إذا تأملت مقتضى النصوص الشـرعية والمصالح الدينية والدنيوية، تجد أنه لا يدعو على السلطان إلَّا أحد اثنين: إما صاحب هوى؛ وهو الغالب، بمعنى أن عنده هوى؛ سواء كان هذا الهوى هوى القلب، أو ما يسمى هوى الاتجاه، الذي هو اتباع الفرق.

بعض الناس قد يكون سبب دعائه على السلطان مبني على أمر شذّ به عن جماعة المسلمين؛ إما اتجاه، وإما حزب، وإما فكر، فيكون عنده توجه معين يجعله يقف من السلطان الظالم والفاجر موقفاً يصل إلى الدعاء عليه، فلذلك لا يدعو على السلطان إلَّا متهور جاهل، أو صاحب هوى"([23]).

6- نظرية الاعتراف: 

  قال القانوني والدستوري عبد الرزاق السنهوري: "الخلافة - الحكومة - المفروضة بالقوة والإكراه، رغم أنها فاسدة شـرعاً، إلَّا أنه يجوز اعتبارها قانونية بحكم الواقع، حين تجمع بين عنصـرين: عنصـر واقعي، وعنصـر قانوني"([24]).

  وقال مبيناً:  العنصـر الواقعي هو فرض السيطرة الفعلية على إقليم الدولة التي يعلن نفسه حاكماً عليها... ويجب أن يفرض النظام والأمن في الإقليم الذي يسيطر عليه، وأن يكون قادراً على المحافظة عليهما.

أما بالنسبة إلى العنصـر القانوني، فهو العنصـر الذي تكتسب به صفة الشـرعية، وهذا العنصـر هو عقد البيعة، لأنها هي الاعتراف الرسمي الشكلي من المسلمين بالحكومة المفروضة بالقوة، هذا الاعتراف الذي يتخذ عادة صورة عقد البيعة، الذي يقدمه قادة الأمة مكرهين؛ كلهم أو بعضهم - ليس من الضـروري أن يكون أغلبية الناخبين - إنما يعترفون رسمياً بولاية المسيطر المستبد (أو من يخلفه) ويبايعونه، أي يعلنون ولاءهم لحكومته"([25]).

7- نظرية الدعاء والاستسلام (نظرية الحسن البصـري): 

 تقول النظرية: "لا يمكن مواجهة سلطة الحاكم الجائر، أو منافسته، أو إزالته، إلَّا بالدعاء والتسليم لقضاء الله، لأن تسلطه علينا عقوبة من الله جراء فساد العامة. دون الالتفات إلى التخطيط وإعداد العدة لإزالته".

ظهر دعاة هذه النظرية بعد واقعتي: (الحرة)؛ سنة (61ه/681م)([26])، و(دير الجماجم)؛ سنة (83هـ/702م)([27]).

قال الدكتور حاكم المطيري: "وقد كان لهذه الهزيمة [هزيمة موقعتي الحرَّة، ودير الجماجم] أثر كبير على الفكر السياسي والعقائدي، حيث شاع القول بالإرجاء والجبر من جهة، ووجوب السمع والطاعة للإمام الجائر، وإن كان كمثل الحجاج، من جهة أخرى؛ إذ إن االله هو الذي يسلطهم، ولا يمكن رفع هذا البلاء إلَّا بالدعاء، وهذا هو القضاء الذي يجب التسليم له والصبر عليه؟"([28]).

وقال أيضاً: "كان لهذه الهزيمة آثارها النفسية والفكرية؛ إذ ذهب فيها كثير من علماء المصـرين (البصـرة، والكوفة)، وعبادهم، على يد الحجاج الطاغية. فلم يكن لهذا من تفسير، عند كثير من الناس، إلَّا أن هذه عقوبة من الله، وأن هذه إرادة الله التي يجب عدم اعتراضها أو مقاومتها، بل الاستسلام لها والرضا بها. ولم يلتفتوا إلى تخلف أسباب النصـر بسبب سوء التخطيط، وقدرات الحجاج العسكرية"([29]).

 

الدنيا للملوك، والحكمة للعلماء:

 عن سفيان بن عيينة قال: قال عيسى بن مريم: يا معشـر الحواريين، كما ترك لكم الملوك الحكمة، فكذلك اتركوا لهم الدنيا([30]). 

وقد كان الحسن البصـري هو داعية هذا الفكر، فقد قيل له: ألا تخرج، فتغيّر؟ فكان يقول: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف([31]).

وقد سئل: ما تقول في قتال هذا الطاغية [يعني الحجاج]، الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ قال: " أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله، فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء، فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"([32]).

وكان يقول: "لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا، ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف، فيوكلون إليه، فوالله ما جاؤوا بيومِ خيرٍ قط"([33]).

وقيل له: ألا تدخل على الأمراء فتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر؟ قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه. إن سيوفهم لتسبق ألسنتنا([34]).

ومن أقواله أيضاً: "والله ما سلط الحجاج إلَّا عقوبة، فلا تعترضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضـرع"([35]).

- وقال الحسن البصـري في الأمراء: هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلَّا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن - والله - إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر([36]).

وقد وجدت هذه الآراء السياسية الفكرية صداها في نفوس أهل البصـرة بعد الهزيمة، وشاعت فيها لوجود الحسن البصري([37]).

 

قنبلة الدكتور علي الوردي:

 قال علي الوردي: "يخيل لي أن الطغاة وجدوا في الواعظين خير معوان لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم، فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضاً، فنسوا بذلك ما حل بهم على أيدي الطغاة من ظلم.

وعندما ينتهز الواعظ الفرصة، يهتف بالناس قائلاً: إنكم أذنبتم أمام الله، فحق عليكم البلاء من عنده. والواعظ بذلك يرفع مسؤولية الظلم الاجتماعي عن عاتق الظالمين، فيضعها على عاتق المظلومين أنفسهم... فيأخذون بالاستغفار وطلب التوبة.

وبهذه الطريقة يستريح الطغاة. فقد أزاحوا عن كواهلهم مسؤولية تلك المظالم التي يقومون بها، ووضعوها على كاهل ذلك البائس المسكين الذي يركض وراء لقمة العيش صباح مساء – ثم يلاحقه الواعظون بعد هذا بعقاب الله الذي لا مرد له.

إن مشكلة الوعاظ أنهم يأخذون جانب الحاكم، ويحاربون المحكوم. فتجدهم يعترفون بنقائص الطبيعة البشـرية، حين يستعرضون أعمال الحكام؛ فإذا ظلم الحاكم رعيته، أو ألقى بها في مهاوي السوء، قالوا: إنه اجتهد فأخطأ، وكل إنسان يخطئ، والعصمة لله وحده.

أما حين يستعرضون أعمال المحكومين، فتراهم يرعدون ويزمجرون وينذرونهم بعقاب الله الذي لا مرد له، وينسبون إليهم سبب كل بلاء ينزل بهم"([38]).


 



[1] - الأموال، لابن زنجويه: (1/77؛ رقم: 32).

[2] - السنة، لابن أبي عاصم: (2/492؛ رقم: 1024)؛ السلسلة الضعيفة: (رقم: 1662).

[3] - الماوردي، نصيحة الملوك: (ص53)، تحقيق: الشيخ خضر محمد خضر، مكتبة الفلاح - الكويت، ط1، 1403هـ/1983م.

[4] - يقصد: الملك العادل، والسلطان العادل. "لأن بالسلطان الجائر تفسد البلاد والعباد، وتقترف المعاصي والآثام، وتورث دار البوار، وذلك أن السلطان إذا عدل انتشر العدل في رعيته، وأقاموا الوزن بالقسط، وتعاطوا الحق فيما بينهم، ولزموا قوانين العدل، فمات الباطل، وذهبت رسوم الجور، وانتعشت قوانين الحق، فأرسلت السماء غياثها، وأخرجت الأرض بركاتها، ونمت تجارتهم، وزكت زروعهم، وتناسلت أنعامهم، ودرت أرزاقهم، ورخصت أسعارهم، وامتلأت أوعيتهم، فواسى البخيل، وأفضل الكريم، وقضيت الحقوق، وأعيرت المواعين، وتهادوا فضول الأطعمة والتحف، فهان الحطام لكثرته، وذل بعد عزته، وتماسكت على الناس مروآتهم، وانحفظت عليهم أديانهم. وبهذا تبين لك أن الوالي مأجور على ما يتعاطاه من إقامة العدل، ومأجور على ما يتعاطاه الناس بسببه.

وإذا جار السلطان: انتشر الجور في البلاد، وعم العباد، فرَقّت أديانهم، واضمحلت مروآتهم، وفشت فيهم المعاصي، وذهبت أماناتهم، وتضعضعت النفوس، وقنطت القلوب، فمنعوا الحقوق، وتعاطوا الباطل، وبخسوا المكيال والميزان، وجوزوا البهرج، فرفعت منهم البركة، وأمسكت السماء غياثها، ولم تخرج الأرض زرعها أو نباتها، وقل في أيديهم الحطام، وقنطوا، وأمسكوا الفضل الموجود، وتناجزوا على المفقود، فمنعوا الزكوات المفروضة، وبخلوا بالمواساة المسنونة، وقبضوا أيديهم عن المكارم، وتنازعوا المقدار اللطيف، وتجاحدوا القدر الخسيس، ففشت فيهم الأيمان الكاذبة، والحيل، في البيع، والخداع في المعاملة، والمكر والحيلة في القضاء والاقتضاء، ولا يمنعهم من السـرقة إلَّا العار، ومن الزنا إلَّا الحياء، فيظل أحدهم عارياً عن محاسن دينه، متجرداً عن جلباب مروءته، وأكثر همته قوت دنياه، وأعظم مسراته أكله من هذا الحطام. ومن عاش كذلك، فبطن الأرض خير له من ظهرها". الطرطوشي، سـراج الملوك: (ص45)، المطبوعات العربية، مصـر، 1289هـ، 1872م.

[5] - التبر المسبوك في نصيحة الملوك: (ص43)، ضبطه وصححه: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1409هـ /1988م.

[6] - عبد الله بن المقفع (ت: 142هـ)، الأدب الصغير والأدب الكبير: (ص96)، دار صادر، بيروت.

[7] - أي: استحضار صورته في قلبه، في كل تقلباته، وتعظيمه في الظاهر والباطن.

[8] - ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية: (ص38)، تحقيق: عبد القادر محمد مايو، دار القلم العربي، بيروت، ط1، 1418هـ / 1997م.

[9] - البربهاري، شـرح السنة: (ص51)، تحقيق: د. محمد سعيد سالم القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، ط1، 1408هـ/1987م).

[10] - تفكيك الاستبداد: (ص158).

[11] - الفتح بن خاقان بن أحمد بن غرطوج، أبو محمد: (ت: 247هـ/861م): أديب، شاعر، فصيح، كان في نهاية الفطنة والذكاء. فارسي الأصل، من أبناء الملوك. اتخذه المتوكل العباسي أخاً له، واستوزره، وجعل له إمارة الشام على أن ينيب عنه. وكان يقدمه على جميع أهله وولده. واجتمعت له خزانة كتب حافلة من أعظم الخزائن. وألف كتابا سماه (اختلاف الملوك)، وكتاباً في (الصيد والجوارح)، وكتاب (الروضة والزهر)، وقتل مع المتوكل.  أعلام الزركلي: (5/133).

[12] - الجاحظ، التاج في أخلاق الملوك: (ص7)، تحقيق: أحمد زكي باشا، المطبعة الأميرية، القاهرة، ط1، 1332هـ - 1914م.

[13] - نفسه: (ص8).

[14] - نفسه: (ص8-9).

[15] - نفسه: (ص57).

[16] - قال أحمد زكي باشا، حول ما قاله الجاحظ، عند تحقيقه للكتاب: "نتعرف به مقدار التأثير الكبير الذي كان للحضارة الفارسية في الحضارة الإسلامية، على عهد العباسيين. حتى لقد ينسى الجاحظ خطته ومنهاجه، فيسرد بعض عادات الفرس ورسومهم القديمة، كأنها مألوفة في تلك الأيام، وهي مما لا يكون تحت حكم الإسلام". التاج: (ص24).

[17] - التاج: (ص167).

[18] - أردشير بن بابك بن ساسان، أول إمبراطور ساساني، مؤسس الإمبراطورية الساسانية، (ت: 241م) من الطبقة الرابعة من ملوك الفرس؛ وهم الأكاسـرة الساسانية، وجميع الأكاسـرة؛ الذين كان آخرهم يزدجرد بن شهريار، من ولده. الوافي بالوفيات: (1/10)؛ تاريخ أبو الفداء الأيوبي: (1/47).

[19] - نفسه: (ص167).

[20] - نفسه: (ص2-3).

[21] - قال العبد الكريم: "فجورهم وظلمهم - كما يرى الفضيل - على أنفسهم. ومن المعلوم بالبداهة أن ضـررهم المتعدي على غيرهم أشد من كل الأضـرار مجتمعة، فظلم السلطان يتعدى الطير والهواء، وظلمه سبب مباشر للفقر والمذلة". تفكيك الاستبداد: (ص158).

[22] - شـرح السنة: (ص51).

[23] - دروس صوتية مفرغة: (د18/9-10).

[24] - فقه الخلافة وتطورها: (ص228).

[25] - فقه الخلافة وتطورها: (ص228، 229).

[26] - وهم الصحابة والعلماء الذين خرجوا بالمدينة على يزيد بن معاوية، فحصل ما حصل من قتل وسلب ونهب واغتصاب...

[27] - وهم القراء الذين خرجوا على عبد الملك بن مروان في العراق.

[28] - الحرية أو الطوفان: (ص154).

[29] - الحرية أو الطوفان: (ص155-155).

[30] - مختصر تاريخ دمشق: (20/117).

[31] - طبقات ابن سعد: (7/127).

[32] - طبقات ابن سعد: (7/120).

[33] - طبقات ابن سعد: (7/121).

[34] - طبقات ابن سعد: (7/131).

[35] - تاريخ الإسلام للذهبي: (3/25).

[36] - جامع العلوم والحكم: (2/117).

[37] - الحرية أو الطوفان: (ص155).

[38] - وعاظ السلاطين: (ص: 11، 12)، دار كوفان - لندن، ط2، 1995م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق