03‏/04‏/2023

الذات تصف نفسها صوفياً

أ. م. د. سامي محمود إبراهيم

رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب - جامعة الموصل  

   إنسانية التصوف، وعالميته، جعلت منه منهجاً للتعبد، والزهد، والنقاء، والصفاء الروحي والجسدي، وهو حصيلة جهد وفهم للفكر الإنساني عموماً، والإسلامي خصوصاً، والذي انطلق من مشـروع الكل المتكامل، وهذا ما نجده في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِيِنكُم وَأتممتُ عَلَيكُم نِعمتِي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسلامَ ديناً}(المائدة/٣).

كما يستدل التصوف على باطن الآيات، والأحاديث الشـريفة، وتأويلها وتفسيرها باطناً وليس ظاهراً، حيث يرون أن ظاهرها هي لعموم الناس غير المتفقهين في الدين، أما باطنها، فهي للمتثقفين في الدين والعلم.

إن التصوف هو تقوية الروح إيمانياً ضد خطر الماديات وشيوع المادة، فبالإيمان تستنير الروح، وتصبح نوراً يملأ سـراج الوجود، وهذا من آيات الله تعالى: {إن في ذَلكَ لآياتٌ للمتوسمين}(سورة الحجر/٧٥). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله) (رواه الترمذي). وكذلك قوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن لله عز وجل عباداً يَعرفونَ الناس بالتوسم)، وهو استدلال بالعلامات، يبدو ظاهراً لكل صوفي ومؤمن.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، نجد أن التصوف واجب أخلاقي، يقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم-: (أدبني رَبِّي فأحسنَ تَأديبي)، وقال أيضاً: (إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق).

يتحدث علماء النفس والاجتماع عن خطورة العزلة الاجتماعيه.. إن عزلة الفرد عن المجتمع لا بد لها من سبب، ومن هذه الأسباب حالات الاكتئاب النفسـي، التي تأتي عن طريق مغريات الحياة الفانية، فالإنسان بطبعه يحب اكتساب كل متاع الحياة الدنيا، فإذا لم يكسب ذلك الموقف، فسيصاب بصدمه وحالة نفسيه، وبالتالي الانعزال، لكن التصوف عالج ذلك بالعزله التعبديه، وذكر الله سبحانه وتعالى {ألا بَذكرِ الله تطمَئن القلوُب}، وكذلك القناعة الكافية ورضى النفس، فالإنسان بطبعه ينعزل ليستعيد ويسترد قواه النفسية، ثم يعود مرة أخرى ويزاول أعماله.

فالتصوف هو تفقه في الدين ومعرفة بالدنيا، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: (مَن يُرد اللهُ بهِ خيراً، يفقهُه في الدين)، إذ يعتبر التصوف جانباً من أخص جوانب الحياة الروحية في الإسلام، وهو تجربة وسلوك قبل أن يكون مذهباً وفكراً، ذلك أنه يعدّ تعميقاً لمعاني العقيدة، واستبطاناً لظواهر الشـريعة، وتأملاً لأحوال الإنسان في الدنيا، وتأويلاً للرموز، يعطي للشعائر قيماً موغلة في الأسـرار، كما أن فيه انتصاراً للروح على الحرف، أو المضمون على الشكل، أو الباطن على الظاهر.

هكذا تقتضـي قراءة التصوف أن تقف عند أبعاد التواصل في هذا المعنى. ومن الأكيد أن بلاغة الذات الصوفية تصنع مقومات جمالها، وأسس فنونها الخاصة بها، بطرق مقصورة عليها، تتخذ سماتها من الموضوعات التي تشغل الصوفي، ومن الأنواع الكتابية التي يجعلها علة إلى إيصال أحاسيسه ورؤاه وأفكاره .

فالصوفي ينكر إنكاراً باتاً أن الحقيقة هي ذلك الواقع المحسوس، لأن الواقع المحسوس، الذي يتشبث به العامة، ويكادون يقدسونه، لا يشبع نزعته الروحية العالية، والشوق إلى معرفة الحقيقة المجردة.

ذلك أن عالم التصوف لا يكف عن إثارة الباحثين في ساحته لاجتراح التساؤلات، بناء على الإرث الصوفي المتجدد، الذي لم يسجل تاريخ الفكر انقطاعه عن التواصل مع العصـر الحديث، لكونه نتاجاً إنسانياً بمعنى الكلمة. وكل منتج إنساني هذا حاله لا بد أن يستعصـي عن الانقطاع، وأن يتعالى عن التحقيب الزمني وآثاره، خلافاً لما تكون عليه عادة النظريات المؤدلجة، أو المشاريع الفكرية المنهجية.

 وأخيراً، التصوف ملكة فطرية، وميل طبيعي، من غير اكتساب معرفي. وهو الغريزة التي يولد عليها الإنسان. فالإنسان صوفي بفطرته؛ روحياً من ناحية كينونتة انطولوجياً، فالإنسان بفطرته يحب الاعتكاف في الحالات الاعتيادية، هرباً من صعوبات الحياة وظلمها. وفي خضم هذا الضياع يكتشف الصوفي لكل شيء معنى، ويغدو اللفظ معنى أولاً في داخله معان كثيرة هي وليدة معنى المعنى، تلك الطاقة الإيحائية بلا حدود، فقد خلص الصوفيون مفهوم المعنى من جموده، ونبهوا من موقع الفكر الديني والفلسفي، إلى ضرورة اكتشاف المناطق المجهولة من المعنى، والتحرر من قيد اللفظ.

لهذا نجد أن النص الصوفي، هو نص يقول ولا يقول، لا يمكن أبداً أخذه على محمل الظاهر، ولا قراءته مثلما تقرأ النصوص العادية والمألوفة، ذلك أن مرماه وهدفه أن يبلغ إلى الروح ويخاطب العقل ويتلبس بالحواس ويقرب التجربة الصوفية، التي هي تجربة في العرفان .

وهكذا نجد الصوفي يترحل عبر العالم، ويقرأ في كتاب الوجود الكبير. إن رجل المقام لا يقيم في مكان محدد الأعيان، بل إن الترحل الواقعي، وتجريب الآفاق الجديدة، والخروج من مكان، والدخول إلى مكان جديد، حتى يصطاد الحقيقة في طريق، أو في غابة، أو على ظهر سفينة، أو في صحراء، أو بين مفاصل واد، أو تحت جناحي طائر.

أما الرمز في النثر الصوفي، فهو قضية تعبيرية، وأسلوب للتعبير الأمثل عند المتصوفة، لأنه مخرج آمن لأفكارهم الجديدة الجريئة، ومن أبرز سماته أنه قد يكون رمزاً لنقيضه، فالموت - مثلاً - رمز للحياة، لأنه حياة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق