03‏/04‏/2023

فـي ظــلال آيــة

د. دحام إبراهيم الهسنياني

يقول الله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. (فاطر: 2).

ما أعظمها من آية، وهي تدعو إلى نشـر الطمأنينة في النفوس، من خلال ربط العبد بخالقه، لمعرفة غاية وجوده في هذه الحياة.

وفي هذه الآية صورة من صور قدرة الله. وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشـري، يتم

فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعاً.

إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض، وتصله بقوة الله. وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض، وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله. وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض، وتشـرع له طريقه إلى الله.

ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه، وتكريمه بما كرمه؛ وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته؛ وفيما أنعم به عليه؛ مما يعلمه ومما لا يعلمه، وهو كثير.

ورحمة الله تتمثل في الممنوع، تمثلها في الممنوح. ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان. يجدها في نفسه، وفي مشاعره؛ ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان، ولو فقد كل شيء، مما يعد الناس فقده هو الحرمان. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!

وما من نعمة يمسك الله معها رحمته، حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة تحفها رحمة الله، حتى تكون هي بذاتها نعمة. ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله، فإذا هو مهاد. وينام على الحرير؛ وقد أمسكت عنه، فإذا هو شوك القتاد. ويعالج أعسر الأمور برحمة الله، فإذا هي هوادة ويسـر. ويعالج أيسـر الأمور وقد تخلت رحمة الله، فإذا هي مشقة وعسـر. ويخوض بها المخاوف والأخطار، فإذا هي أمن وسلام. ويعبر بدونها المناهج والمسالك، فإذا هي مهلكة وبوار!

ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها، ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس، برحمة الله، تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة. ومن داخل النفس، مع إمساكها، تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!

هذا الباب وحده يفتح، وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسد جميع المسالك، فلا عليك، فهو الفرج والفسحة واليسـر والرخاء. وهذا الباب وحده يغلق، وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك، فما هو بنافع، وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!

هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق، ويضيق السكن، ويضيق العيش، وتخشن الحياة، ويشوك المضجع، فلا عليك، فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك، ثم يفيض الرزق، ويقبل كل شيء، فلا جدوى، وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!([1]).

 

معنى الفتح والإمساك:

كلمة (يفتح)، وما فيها من معاني العطاء والكرم الرباني، فهو سبحانه لم يقل (يعطي)، فخزائن الله تفتح بعطائه لمن يشاء سبحانه! وقال سبحانه: (للناس)، فلم يخص أحداً دون أحد. هذه الآية تتحدث عن معنى بليغ، ختم به الآية الأولى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

الفتح: العطاء، والإمساك: المنع، والإرسال: الإطلاق بعد المنع. وليس المراد بالرحمة هنا مجرد المال، كما قال بعض المفسـرين، ولا هو مع الصحة والجاه والعلم، كما قال آخرون.. كلا، فإن المال قد يؤدي إلى الطغيان والاستغلال، فقد رأينا الكثير من أصحاب الملايين حولوا الشعوب الضعيفة إلى شـركات مساهمة يملكون أسهمها، ويتحكمون بأهلها، ويحيلونهم إلى عبيد مستخدمين، أو لاجئين مشـردين.. وقد تؤدي الصحة بصاحبها إلى المغامرة والأخطار. أما الجاه، فهو - في الأعمّ الأغلب - أداة للبغي والعدوان. وربّ علمٍ الجهلُ خير منه، كالعلم الذي أنتج القنبلة الذرية، وما إليها من الأسلحة الجهنمية.. كلا، ليس المراد برحمته تعالى في هذه الآية المال وحده، ولا الصحة وحدها، ولا مجرد الجاه والعلم، وإنما المراد بها لطف الله وهدايته إلى الخير، ووقايته من الشر.

يقول الشوكاني: كُلُّ مَا يَفْتَحُهُ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ نِعْمَةٍ يُنْعِمُ اللهُ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ. وَهَكَذَا الْإِمْسَاكُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ اللهُ مِنْ نِعَمِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، لَا مُعْطِيَ سِوَاهُ، وَلَا مُنْعِمَ غَيْرُهُ([2]).

ويرى (الآلوسي) أن الفتح مجاز عن الإرسال بعلاقة السببية، فإن فتح المغلق سبب لإطلاق ما فيه وإرساله، ولذا قوبل بالإمساك والإطلاق، كناية عن الإعطاء، كما قيل: أطلق السلطان للجند أرزاقهم، فهو كناية متفرعة على المجاز.. وفي اختيار لفظ (الفتح) رمز إلى أن الرحمة من أنفس الخزائن، وأعزها منالاً، وتنكيرها للإشاعة والإبهام، أي: أي شيء يفتح الله تعالى من خزائن رحمته، أي رحمة كانت؛ من نعمة وصحة وأمن وعلم وحكمة، إلى غير ذلك مما لا يحاط به([3]).

 

تفسير الآية الكريمة:

قوله تعالى: {ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}.

أيْ: أيُّ شيء يمنحه الله لعباده، ويتفضل به عليهم من خزائن رحمته؛ من نعمةٍ، وصحةٍ، وأمنٍ، وعلمٍ، وحكمةٍ، ورزقٍ، وإرسال رسلٍ لهداية الخلق، وغير ذلك من صنوف نعمائه، التي لا يحيط بها عدٌّ، فلا يقدر أحدٌ على إِمساكه، وحرمان خلق الله منه، فهو الملك الوهاب الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لِما منع. لأن الكون - بجميع مواقع النعمة والرحمة فيه - خاضعٌ لقدرته المطلقة، فليس لأحدٍ من خلقه شيءٌ من ذلك إلاَّ بإذنه، فلا يستطيع أيٌّ منهم أن يغلق أيّ باب من أبواب الرحمة التي يريد الله أن يفتحها لخلقه.

يقول الإمام القرطبي: أَيْ أَنَّ الرُّسُلَ بُعِثُوا رَحْمَةً لِلنَّاسِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِرْسَالِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ اللهُ مِنْ مَطَرٍ أَوْ رِزْقٍ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُمْسِكَهُ، وَمَا يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ، فلا يقدر أَحَدٌ عَلَى أَنْ يُرْسِلَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ: قَالَهُ الضَّحَّاكُ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ تَوْبَةٍ. وَقِيلَ: مِنْ تَوْفِيقٍ وَهِدَايَةٍ. قُلْتُ: وَلَفْظُ الرَّحْمَةِ يَجْمَعُ ذَلِكَ، إِذْ هِيَ مُنَكَّرَةٌ لِلْإِشَاعَةِ وَالْإِبْهَامِ، فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِكُلِ رَحْمَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ، إِذَا أَصْبَحَ وَقَدْ مُطِرَ النَّاسُ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْفَتْحِ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}. ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس عن ابن وهب، عنه([4]).

يقول ابن جزي: «﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها﴾، الفتح عبارة عن العطاء، والإمساك عبارة عن المنع، والإرسال: الإطلاق بعد المنع، والرحمة: كل ما يمنّ الله به على عباده من خيري الدنيا والآخرة. فمعنى الآية: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله. فإن قيل: لم أنّث الضمير في قوله فَلا مُمْسِكَ لَها، وذكّره في قوله: فَلا مُرْسِلَ لَهُ، وكلاهما يعود على ما الشـرطية، فالجواب: أنه لما فسّر من الأولى، بقوله {من رحمة} أنّثه، لتأنيث الرحمة، وترك الآخر على الأصل من التذكير {مِنْ بَعْدِهِ}، أي من بعد إمساكه. {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} رفع (غير) على الصفة لخالق على الموضع، وخفضه صفة على الرفع. ورزق السماء: المطر، ورزق الأرض: النبات، والمعنى تذكير بنعم الله([5]).

{وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ}، أيْ وأيُّ شيء يمسكه ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخرة، فلا أحد يقدر على منحه للعباد بعد أن أمسكه جل وعلا.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، أي هو تعالى الغالب على كل شيء، الحكيم في صنعه، الذي يفعل ما يريد على مقتضـى الحكمة والمصلحة، الذي يملك العزة كلها من خلال ما يملكه من القوّة كلها، كما يؤكد الحكمة في حركة كل شيءٍ في خلقه، لأنه المطّلع على حقائق الأشياء في ما يصلحها ويفسدها، القادر على تحريكها تبعاً لإرادته.

 قال المفسـرون: والفتحُ والإِمساك عبارة عن العطاء والمنع، فهو الذي يضر وينفع، ويعطي ويمنع.

تعبير (الرحمة)، له معنى واسع وشامل، لكلّ المواهب الإلهيّة في الكون، معنويةً وماديةً. ولهذا السبب يحسّ المؤمن، عندما توصد أمامه جميع الأبواب، بأنّ الرحمة تنساب في قلبه وروحه، فيكون مسـروراً وقانعاً، هادئاً ومطمئناً، حتّى وإن كان مأسوراً في السجن. وتارةً ينعكس الحال، وذلك حينما تكون جميع الأبواب الظاهرية مفتوحة أمام الإنسان، ومع ذلك يحسّ في أعماقه بالضيق والضغط، ويرى الدنيا على سعتها سجناً مظلماً موحشاً، لمجرد عدم انفتاح باب الرحمة الإلهية في أعماقه. وهذا أمر محسوس وملموس للجميع.

 

 

الآية دليل على سبق رحمة الله تعالى غضبه:

إن رحمة الله - جل وعلا - قد وسعت كل شيء.. وإن معالمها ومظاهرها في كل شيء.. فبرحمته خلق وأوجد.. وبها أحيا وأعطى.. وبها رزق وأشفى.. وبها يتوب على عباده ويغفر.. فكيف يعرض مسلم عن التوبة إلى الله والرجوع إليه، وهو يدرك أن رحمة الله سبقت غضبه.. وأنه ما دخل الجنة من دخل، وما نجا من النار من نجا، إلا برحمته وغفرانه.

يقول أبو السعود العمادي: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ}، عبَّر عن إرسالِها بالفتحَ إيذاناً بأنَّها أنفسُ الخزائنِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ، وأعزُّها منالاً، وتنكيرُها للإشاعةِ والإبهام، أيْ أي شيء يفتحُ اللَّهُ من خزائنِ رحمتِه، أيَّة رحمةٍ كانتْ؛ من نعمةٍ وصحَّةٍ وأمنٍ وعلمٍ وحكمةٍ، إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحاط به {فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}، أي لا أحدَ يقدِر على إمساكِها، {وَمَا يُمْسِكْ}: أيْ أيّ شيء يُمْسِك {فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ}: أي لا أحدَ يقدِر على إرسالِه. واختلافُ الضَّميرينِ لـ(ما)؛ أنَّ مرجعَ الأوَّلِ مفسَّرٌ بالرَّحمةِ، ومرجعَ الثَّانِي مطلقٌ، يتناولُها وغيرَها كائناً ما كان، وفيه إشعارٌ بأنَّ رحمتَه سبقتْ غَضبه. {مِن بَعْدِهِ}: أي من بعدِ إمساكِه، {وَهُوَ العزيز}: الغالبُ على كلِّ ما يشاءُ من الأمور،ِ التي من جُملتها الفتحُ والإمساك، {الْحَكِيمُ}: الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ حسبما تقتضيِه الحِكمةُ والمصلحةُ. والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها، ومعربٌ عن كونِ كلَ من الفتحِ والإمساكِ، بموجبِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ أمرُ التَّكوينِ([6]).

يقول الرازي: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى سَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ، مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: التَّقْدِيمُ، حَيْثُ قَدَّمَ بَيَانَ فَتْحِ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، لَكِنَّهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْفَضْلِ.

وَثَانِيهَا: هُوَ أن أَنَّثَ الْكِنَايَةَ فِي الْأَوَّلِ، فَقَالَ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}، وَجَازَ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ يُقَالَ (لَهُ)، وَيَكُونُ عَائِدًا إِلَى مَا، وَلَكِنْه سبحانه قَالَ: {لَها}، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَفْتُوحَ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، )وَلَا مُمْسِكَ لِرَحْمَتِهِ)، فَهِيَ وَصْلَةٌ إِلَى رَحِمَتْه. وَقَالَ عِنْدَ الْإِمْسَاكِ: {وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ}، بالتذكير، ولم يقل (لها)، فَمَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مُرْسِلَ لِلرَّحْمَةِ، بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَا يُرْسِلُ هُوَ غَيْرُ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تعالى: {وَما يُمْسِكْ}، عَامٌّ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَتَخْصِيصٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ}، فَإِنَّهُ مُخَصَّصٌ مُبَيَّنٌ.

وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِهِ}، أَيْ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، فَاسْتَثْنَى هاهنا وَقَالَ لَا مُرْسِلَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَنَزَلَ (له) مرسلاً. وعند الإمساك، قَالَ {لَا مُمْسِكَ لَهَا}، وَلَمْ يَقُلْ غَيْرُ اللَّهِ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ إِذَا جَاءَتْ لَا تَرْتَفِعُ، فَإِنَّ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُعَذِّبُهُ بَعْدَهَا، هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَمَنْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ فَقَدْ يَرْحَمُهُ اللَّهُ بَعْدَ الْعَذَابِ، كالفساق من أهل الإيمان([7]).

قال عامر بن عبد قيس: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن، فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي:

الأولى: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(فاطر، الآية: 2).

الثانية: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ}(يونس: 108).

الثالثة: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(الطلاق: 8).

الرابعة: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(هود: 7)([8]).

وهذا يعني أن عامر بن عبد القيس كان يقرأ هذه الآيات، ويستأنس بها، ويعمل بها.

وإذا تأمّلنا الآية، نجد فيضاً من أنعم الله الّتي لا تعدّ ولا تحصـى على عباده، فهو خالق السماء والأرض، وجاعل الملائكة رسلاً يوصلون آثار قدرته وجليل وحيه إلى عباده. {ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}، لقد فتح الله رحمته لأنبيائه وأصفيائه، جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وأنقذ يوسف من الجبّ، ومن السجن، واستجاب دعاء يونس في بطن الحوت، وآزر موسى في طريقه إلى فرعون، وأنزل رحمته بأصحاب الكهف، وحفظهم ثلاثمائة سنين، وازدادوا تسعاً، وشملت رحمة الله محمداً في الهجرة، وهو طريد: {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا}(التوبة: 40).

وإذا أمسك الله رحمته عن عبد، فلن ينفعه مال ولا رجال. وإذا استقرّ اليقين في القلب، تنبّه إلى كيد الشّيطان وفنّه. فالمؤمن يعلم أن الشيطان عدوّ لنا، يزيّن لنا الشّرّ ليوقعنا في المعصية، فمن أطاع الشيطان زيّن له سوء عمله فرآه حسناً، ووقع في الضلال، ومن يضلل الله فما له من هاد([9]).

 

تأثير الآية الكريمة على سيد قطب:

يقول الأستاذ سيد قطب: "ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة، عرفتها منه في هذه الآية.. لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة، واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسـي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة. واجهتني في ذات اللحظة. ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها، وأن تسكب حقيقتها في روحي؛ كأنما هي رحيق أرشفه، وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها، لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها. تقدّم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيراً. ومررت بها من قبل كثيراً. ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة، وتقول: هأنذا، نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها، فانظر كيف تكون!

إنه لم يتغير شيء مما حولي، ولكن لقد تغير كل شيء في حسـي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها؛ ولكنه قلّما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة، وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتمّ هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح، والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق، وأنا في مكاني!

إنها رحمة الله يفتح الله بابها، ويسكب فيضها في آية من آياته، آية من القرآن تفتح كوة من النور، وتفجر ينبوعاً من الرحمة، وتشق طريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة، في ومضة عين، وفي نبضة قلب، وفي خفقة جنان. اللهم حمداً لك، اللهم منزل هذا القرآن هدى ورحمة للمؤمنين"([10]).

 

مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده تعالى:

هذه الآيةٌ تلفتُ انتباهنا إلى مسألة رحمةِ الله المفتوحة للناس، هذه الرحمة التي لا ممسكَ، ولا مرسلَ لها، إلا الله سبحانه. ولنعلم أن مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده تعالى، فما يعطي من خير، فلا يستطيع أحد منعه ولا إمساكه، وأي خير يمسكه فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح، لأن الأمور كلها بيده، ومنه البذل والعطاء، والمنع والإمساك. وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور، التي منها الفتح والإمساك، وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل، بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم، والتوجه إليه في قضاء حاجاتهم، والتوكل عليه في جميع مآربهم، والإعراض عما سواه من جميع خلقه([11]).

يقول ابن عجيبة: ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات، وواردات، وإلهامات، وعلوم لدنية، وحِكَم ربانية، وتعرفات جمالية وجلالية، فلا ممسك لها، بل الله يفتح على مَن يشاء، ويسد الباب في وجه مَن شاء. وسدُّ الباب في وجه العبد عن معرفته الخاصة، علامته: عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل مَن وصله إليهم، وصَحِبهم، وعظَّمهم، وخدمهم، فقد فتح الله له الباب في وصوله إليه، وكل مَن نكبه عنهم، ولم يصحبهم، كما ذكر، فقد سُدّ الباب في وجهه عن معرفته العيانية. وفي الحكم: «سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه، إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم، إلا مَن أراد أن يوصله إليه».

وما يُمسك من ذلك، فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بعده، ولو صلّى وصام ألف عام. قال القشيري: ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضباب يقهره. ويقال: ما يلزم قلوبَ أوليائه وأحوالهم من التيسير، فلا مُمسك له، والذي يمنع من أعدائه- بسبب ما يُلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها- فلا مُيَسِّرَ له من دونه([12]).

يقول محمد سيد طنطاوي: وقوله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته وفضله على عباده. والمراد بالفتح هنا: الإطلاق والإرسال، على سبيل المجاز، بعلاقة السببية، لأن فتح الشيء المغلق، سبب لإطلاق ما فيه وإرساله.

أي: ما يرسل الله تعالى، بفضله وإحسانه، للناس، من رحمة، متمثلة في الأمطار، وفي الأرزاق، وفي الصحة، وفي غير ذلك، فلا أحد يقدر على منعها عنهم.

وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، أي: وما يمسك من شيء لا يريد إعطاءه لهم، فلا أحد من الخلق يستطيع إرساله لهم، بعد أن منعه الله تعالى عنهم.

وَهُوَ تعالى - الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه غالب، الْحَكِيمُ في كل أقواله وأفعاله.

وعبّر سبحانه وتعالى - في جانب الرحمة بالفتح، للإشعار بأن رحمته من أعظم النعم وأعلاها، حتى لكأنها بمنزلة الخزائن المليئة بالخيرات، والتي متى فتحت أصاب الناس منها ما أصابوا من نفع وبر.

ومِنْ في قوله {مِنْ رَحْمَةٍ} للبيان. وجاء الضمير في قوله: {فَلا مُمْسِكَ لَها} مؤنثاً، لأنه يعود إليها وحدها.

وجاء مذكراً في قوله {فَلا مُرْسِلَ لَهُ}، لأنه يشملها ويشمل غيرها. أي: وما يمسك من رحمة، أو غيرها، عن عباده، فلا يستطيع أحد أن يرسل ما أمسكه.

وشبيه بهذه الآية قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُـرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}(يونس: 107). وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُـرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الأنعام: 17)([13]).

وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب، وإن لم يشأ لم يتب، فمردود، لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبداً، ولا يجوز عليه أن لا يشاؤها مِنْ بَعْدِهِ من بعد إمساكه، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ}، أي: من بعد هدايته، وبعد آياته، وَهُوَ {الْعَزِيزُ} الغالب القادر على الإرسال والإمساك، {الْحَكِيمُ} الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه([14]).

ويقال الذي يقرنه بقلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير، فلا ممسك له، والذي يمنعه عن أعدائه- بما يلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها - فلا ميّسر له من دونه([15]).

إنها آيةٌ تلفتُ انتباهنا إلى مسألة رحمةِ الله المفتوحة للناس، هذه الرحمة التي لا ماسكَ لها، ولا مرسلَ لها إلا الله.

آية تجلِّي لنا عظيم رحمةِ هذا الإله الحقِّ للناس؛ فهم خلقُه، وهو ربُّهم الرحيمُ، الفاتح لهم من رحماته وعطاءاته، وَفْقَ حكمته ومشيئته.

إذًا، هي رحمةٌ للناس من إلهٍ حقٍّ عزيزٍ حكيم قائم على خلقِه، وَفْق نظام مُحكمٍ ومتوازن، تتجلَّى من خلاله عَظَمتُه وقدرته وحكمته.

إذًا، فلا ماسكَ ولا مرسل للرحمة إلا اللهُ، وعلى الإنسان أن ينتبه إلى ذلك، ويستوعبَه ويراه جيدًا؛ فهي إذًا عطاءات الحق تعالى، ورحماتُه لعباده، في إطار منظَّم مُحكمٍ متناسقٍ متسلسلٍ متواصل مترابطٍ متَّزنٍ آمنٍ، بقدرته وحكمته.

وأن يرى الإنسان ذلك - أي: فتح رحمة الله للناس - ثم يحيلها إلى الصدفة أو الطبيعة أو العبثية، أو يمر عليها كأن لم يَرَها - فكأنما غيّب فيه؛ حقيقة وواقعًا، ملاحظًا ومشاهدًا، أساسه خلقٌ مترابِطٌ، متوازنٌ، بديعٌ، خاضعٌ لقدرة إلهٍ حقٍّ رحيم عزيز حكيم.


([1]) في ظلال القرآن: 6/132.

([2]) فتح القدير: 4/388.

([3]) روح المعاني: 11/338.

([4]) الجامع لأحكام القرآن: 14/321.

([5]) التسهيل لعلوم التنزيل: 2/171.

([6]) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: 7/142.

([7]) مفاتيح الغيب: 26/222.

([8]) الدر المنثور، للسيوطي: 7/5.

([9]) الموسوعة القرآنية، خصائص السور: 7/149.

([10]) في ظلال القرآن: 6/135.

([11]) تفسير المراغي: 22/105.

([12]) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد: 4/516.

([13]) التفسير الوسيط للقرآن الكريم: 11/322.

([14]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: 3/597.

([15]) لطائف الإشارات: 3/191.

هناك 5 تعليقات:

  1. بارك الله فيك شيخنا العزيز وجعلها الله في ميزان حسناتك وخصك وخصنا برحمته الواسعة

    ردحذف
  2. وفقك الله وسدد خطاك وحفظك من كل سوء ومكروه دكتور دحام ابراهيم الهسنياني العزيز والغالي.. دمت سالما وبحفظ الله ورعايته

    ردحذف
  3. بارك الله بيك وبعلمك.نرجو لك دوام الصحة والعافية.يكثر من امثالك.

    ردحذف
  4. عاشت ايدك دكتور

    ردحذف