03‏/04‏/2023

حديث عن الكتابة المسمارية ومكتبة آشور بانيبال

­­د. سعد سعيد الديوەجي

   تعرضت أرض العراق - ما بين النهرين - خلال تاريخها الممتد لأكثر من (5000 عام) لغزوات عسكرية وثقافية مريرة، أتت على بعض معالمها التاريخية والأثرية والحضارية، وكان من سوء حظنا أننا عشنا بعض هذه الغزوات، أثناء الاحتلال الأخير للعراق؛ عندما تُركت المتاحف والمواقع الأثرية للسلب والنهب، بينما بقت الدبابات الغازية تحمي وزارة النفط، والآخر عندما دمر الدواعش كل ما وقعت أيديهم عليه من جوامع وكنائس ومواقع أثرية، يريدون بها محو ذاكرة شعب، بذرائع دينية انطلت على بعض المغفلين!.

بجانب هذا التدمير المادي، ظهرت أصوات تنتقد التاريخ، وتحط منه، بتفاهة نادرة، للتشكيك بحضارة أمة عريقة، فيقول أحدهم بأن أهل العراق لم يعرفوا الديمقراطية، وأن (حمورابي) سادس ملوك الإمبراطورية البابلية (1792-1750 ق.م)، صاحب المسلة المشهورة، التي احتوت على (282) مادة قانونية، كان أول حاكم ديكتاتوري، وأن شـريعته المكتوبة بالخط المسماري تثير الرعب الجسدي والنفسي!.

إن منهجية إلغاء الماضي والتاريخ؛ جملةً وتفصيلاً، وبمثل هذه الأساليب، مسألة لا يراد منها إلا الانتقاص من مقومات الحضارة، فالتاريخ - بكل مفاصله - يجب أن يكون مدرسة لمن يريد التطلع للمستقبل، وذلك تجنباً للخيبة والإحباط، ومحو التاريخ يعني محو الإنسان ثقافياً وحضارياً، وتحويله إلى كائن لا معنى لوجوده إلا بإشباع معدته وغرائزه، فالتاريخ ثقافة، والثقافة هي المكون الرئيسـي لشخصية الإنسان وعقيدته.

فعندما بدأت الكتابة المسمارية (3000 ق.م تقريباً)، على عهد الحضارة السومرية، ثم انتقلت للبابليين والآشوريين عبر الأكديين (الكلدان)، كانت قد بدأت عهداً في فتح أبواب تدوين المعرفة، ولولاها لضاع تراث الإنسانية، وبقيت البشـرية بلا ذاكرة، تتخبط يميناً ويساراً.

يقول المستشـرق الشهير (ادوارد كييرا)، في كتابه الشهير (كتبوا على الطين)، الذي ألّفه في  الثلاثينات من القرن الماضي، بأن هذه الكتابة تعبّر عن تلك الرغبة الدافعة لدى إنسان ذلك العصـر لتأكيد ذاته من خلال عملية شاقة جداً، ومعقدة، باستخدام ألواح الطين المجفف لغرض الكتابة.

ويقول (كييرا): "كانت العملية التي قدموا بها تاريخهم وحضارتهم معقدة وشاقة تستحق الاحترام"، وقد وقفنا قليلاً نتأمل عملية تصنيع رُقم (لوح صغير) طيني صغير من أجل الكتابة بأدوات خاصة، وأن المتداول منه كان بعشـرات الألوف، وما كان يكتنف العملية من صعوبة في تجميع نوع خاص من الطين، وتنقيته، وطحنه، ونخله، وعجنه، بعد صب الماء عليه، ثم صبه في قوالب خاصة، أو على شكل اسطوانات، كل ذلك يجعلنا نتخيل صعوبة عملية التعليم التي أساسها الكتابة.

وإن الأمر يزداد صعوبة عندما تتم الكتابة على الحجر الصلب، فالقوانين والمعاملات ووثائق التمليك كانت موجودة على رُقم طينية عند أطراف البيع والشراء، ونسخ لدى السلطة، وكل ما يتعلق بعلوم الطب والهندسة والفلك والقصص كان مسطراً على تلك الرُقم الطينية، وحتى على الحجر، مما يؤشر على مهارة كُتاب تلك اللغة.

ويقول السيد (كييرا) عن شـريعة حمورابي: هو من السلالة الملكية الأولى التي حكمت بابل (1830 1530 ق.م)، والتي أظهرت للعالم أن العقل البابلي لم يكن له مثيل، ومهما كان للرومان من فضل في حق التشـريع، فقد سبقهم البابليون فيه بما لا يقل عن ألفي سنة. ثم يردف معقباً: "وكلما ازدادت قراءتي للشـريعة البابلية، ازداد إعجابي بذكاء المشرع".

لقد ورث البابليون (الساميون)، الذين جاءوا من شبه الجزيرة العربية، حضارة أهل سومر، فكان أمام المشـرع مهمة عسيرة، ألا وهي التوفيق بين حضارتين ليستا على خط مستقيم واحد.

ومن خلال الكتابة المسمارية، يؤكد السيد (كييرا) بأن البابليين والآشوريين، وهم أقوام سامية جاءوا من شبه الجزيرة العربية، قد بذلوا جهوداً مضنية لمعرفة مكان الإنسان في الكون، وعرفوا أن الفارق الجوهري الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان هو الذكاء لا الشكل.

لقد كان المُعلم ينتقل هنا وهناك يمارس مهنته، ويتبعه تلاميذه، وكان هذا التعليم الخصوصي كافياً لإعداد كتبة يسدّون احتياجات أعمال الفروع التجارية، وغيرها من أمور الدولة، وهذا النوع من التعليم يعادل الدراسات العليا في زماننا هذا، ثم يستمر الطالب بتلقي العلوم حتى يصبح عالماً بالمفهوم السائد آنذاك، ومن ثم يدخل سلك الكهانة.

ويشـرح سيد (كييرا) كيف كان الطلاب يعملون نوعاً من الرُقم اللينة، التي تعاد الكتابة عليها عدة مرات، وكيفية إعطاء الواجبات للطلاب، كل ذلك ليثبت أن شعباً بهذا الإصرار على تجاوز المحن والصعوبات يستحق الإعجاب والاحترام.

لقد سجلت تلك الحضارة كل شيء على الطين، بدون كلل ولا ملل، فقد احتل الطب - مثلاً - مكانة مهمة في الحياة العامة، حتى أن قوانين (حمورابي) خصصت عدة أقسام منها للجراحة، كما حدّدت أجور العلاج بالنسبة للحالة الاجتماعية، فأجرة الطبيب التي يتقاضاها من الغني تختلف عن أجرته التي يتقاضاها من العامل أو الرقيق، وأن الآشوريين وصفوا علاجاً لأمراض كثيرة.

ولعل أهم انعكاس للكتابة الآشورية المسمارية على مسيرة الثقافة الإنسانية، هو ما احتوته مكتبة آشور بانيبال، الملقب بـ(الملك المثقف) (668 - 626 ق.م)، فقد تم العثور على رسائل صادرة منه شخصياً، موجهة إلى أحد الحكام، يأمره بها بجمع الألواح من المعابد، وإرسالها له، وهو أحد ملوك نينوى العظام، والتي يقول بحقها الرحالة الشهير (لكنغهام)، عام (1816م)، بأنها كانت أكبر مدينة ظهرت في العالم آنذاك.

فحتى ذلك الزمان، وكما يقول الأستاذ (فؤاد قزانجي)، بأنه يصعب القول بوجود مكتبات عامة، وقد برزت فكرة المكتبة الجامعة في عهد الملك (سنحاريب) (705 - 681 ق.م)، وعززها خلفه (اسـرحدون)، وأضاف إليها بعض الرُقم، إلا أن (آشور بانيبال) خصص لها جناحاً مستقلاً في قصـره، وأخذت صفة المؤسسة المستقلة كمَعلم بارز في سلك الحضارة آنذاك.

وتقع (مكتبة آشور بانيبال) في جزء واسع من قصـره على (تل قوينجق)، المقابل لـ(تل توبة)، الذي يربض عليه (جامع النبي يونس) (ع) في (نينوى)، وكانت أعظم مكتبة عُرفت حتى الآن في التاريخ القديم، فقد تم العثور عليها بين عامي (1845 -1851م)، وفيها أكثر من (31000) رُقم طيني، معظمها بحالة جيدة، وهي التي حفظت تراث وادي الرافدين، مثل (ملحمة جلجامش)، والقواميس اللغوية البابلية والآشورية، وكثير من مبادئ الطب والهندسة والنظريات الرياضية، وبراهينها، وهي محفوظة في المتحف البريطاني الآن في (لندن).

ولقد ثبت تاريخياً بأن (آشور بانيبال) بعث بمكتبته إلى جميع أرجاء البلاد الواقعة تحت حكمه، ليبحثوا عن الرُقم البابلية والسومرية، أي الحضارات السابقة للحضارة الآشورية، ثم قاموا بترجمتها وحفظها، فكانت جسـراً بين الثقافات المتلاحقة لوادي الرافدين.

ولو تخيلنا هذه العملية قليلاً، حيث لا ورق ولا قلم ولا وسائط نقل حديثة، لوقفنا إجلالاً واحتراماً لتلك العقليات التي فكرت بمثل هذه الأمور!، ومن المؤكد أن إنجاز هذا العمل قد تطلب وقتاً طويلاً، وعدداً كبيراً من الأساتذة المثقفين، وأن المترجمين كانوا يلاقون متاعب جمة في النقل من لغة قد بطل استعمالها قبل أكثر من ألف عام، ألا وهي السومرية.

ويقول الأستاذ (قزانجي) بأن هذه المكتبة قد عرفت تصنيفاً يدعى بالتصنيف الملكي، وتم فيه تخصيص بعض الأركان للموضوعات الهامة، ونقش قائمة بالمحتويات فوق المداخل، حيث رُتبت الرُقم على الرفوف، أو في أوعية فخارية، أو مزهريات، وكانت الرُقم مرتبة حسب موضوعاتها الرئيسية؛ كالسحر والتنجيم والدين والتاريخ والطب وباقي العلوم.

بالإضافة لذلك، فإن طريقة الإعارة كانت طريقة متقدمة اعتمدت التنسيق الحسابي، وكانت أعظم ما قدم بخصوص التنظيم المكتبي.

وكان (آشور بانيبال) فخوراً بعمله هذا، فقد دوّن على كل لوح من ألواح مكتبته عبارة (ممتلكات آشور بانيبال ملك الجيوش ملك آشور).

لقد وضع (آشور بانيبال) مكتبته في غرف حصينة ذات جدران عريضة سميكة، حفظتها من العبث لأكثر من أربع وعشـرين قرناً، وحتى بعد تهديم نينوى وسقوطها عام (612ق.م).

أما إن كانت المكتبة مفتوحة أمام الناس جميعاً أم لا، فذلك سؤال لم يجب عليه أحد، إلا أنه من المؤكد أنها كانت موضوعة تحت تصـرف العلماء والكهنة ورجال القانون.

ورغم هذه المكتشفات المذهلة، فإنها لا تمثل - بالنسبة لمعظم الآثاريين ودارسي علم الآشوريات - إلا نسبة (10%)، أو أقل، مما هو موجود فعلاً، وذلك لظروف البلد الذي لم يعرف الاستقرار.

إن تدمير هذه الحضارة مادياً، أو الاستهزاء بها من خلال صناديق الاقتراع، أمر يدعو للحزن والرثاء! وسيلعن التاريخ كل من سعى ويسعى في هذا المجال، لأنها حضارة خالدة من حق البشرية كلها الافتخار بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق