15‏/11‏/2011

قصة قصيرة مصباح سلمان العتيق


رشا الصيدلي - هولندا


  لطالما حلم يوما أن يملك قوى خفية تحقق له أحلامه المستحيلة؛ الثراء  والعيش في قصر كبير مع خادمات جميلات حوله، شقراوات وسمراوات .
  كان يغمض عينيه كل مساء تاركا خياله يذهب بعيدا في عوالم لا نهاية لها من الأمنيات والأحلام الوردية.
 هو يعيش وحيدا في حاله فقر مستمر .. في زريبة بائسة تضم حجرة صغيرة فيها سرير حديدي صدئ ينام عليه، ووسادة قطنية اتخذها حضنا لأحلامه، ومع طلوع الشمس يرتدي هندامه القطني البالي الذي يضيق بجسده البدين، ينطلق إلى عمله بعربته الخشبية، يقودها حماره ...


العجوز ببطء فوق الطرقات، يجوب الأزقة القديمة للقرية يشتري أشياء عتيقة نالت منها وطأة الزمن، فأصبحت من سقط المتاع .. كمدفئة مفككة صدئة ..وخزانة خشبية مهملة .. ومروحة مكسورة، وكراس بالية.. وغيرها من الأشياء، ليقوم ببيعها إلى صديقه غيلان الناصر صاحب محل الخردة في سوق القرية الذي ينتظره في دكانه، حتى غروب الشمس .
وفي يوم شتائي مشمس وبينما كان يسير بعربته في احد الأزقة مطلقا العنان لأحلامه الوردية، أفاق من صدمة شيء وقع عليه من السماء.. شيء ما شج رأسه .
صرخ مرتعبا، وأوقف عربته القديمة على الفور بضربة خفيفة من سوطه على ظهر حماره العجوز، واخذ يتلمس فروة رأسه، رفع بصره إلى الأعلى حيث سطوح البيوت الخربة المطلة على الزقاق، وراح  يشتم من رمى عليه قطعة الخردة، لكن ما من مجيب ..
حدث نفسه قائلا "انهم لا يملكون الشجاعة لمواجهتي".
استمر يشتم ويلعن بكلمات لا يضمها اي قاموس شتائم في الدنيا..والقى نظرة إلى ذلك الشيء فوجد انه مصباح نحاسي قديم .. كالمصابيح السحرية التي سمع عنها في قصص الف ليلة وليلة ؛ وطالما حلم بها وهي تغير مسار حياته البائسة.
التقط المصباح وتمتم مع نفسه "مصباح محطم لا فائدة فيه .. فلو كان ذا قيمة ما قذف به هؤلاء الحثالة " ثم رمى به مع الخردوات التي في حضن العربة موجها سوطه مرة ثانية نحو الريح ليجد له مستقرا على ظهر ذلك الحمار المسكين، الذي انطلق بالعربة حثيثا كعادته.
حل المساء؛ وشعر سلمان بآلام شديدة تلهب رأسه، لذا قرر العودة إلى اسطبله، دون أن يعرج على صاحبه بائع الخردة.
وما أن أرخى الليل سدوله حتى أحس بوهن شديد يعم جسده المنهك، فألقى بنفسه في السرير دون ان يتناول عشاءه، وراح يغط بنوم عميق..
 ثم استيقظ بعد ساعات وهو يلهث وقد أخذت الحمى منه كل مأخذ، حتى أنه كان يهذي بكلام غير مفهوم، تناول جرعة ماء من صفيحة معدنية عند رأسه ثم عاد إلى سريره، محاولا النوم  مرة ثانية..
 وإذا به يسمع صوتا غريبا..نهض مذعورا وقلبه يخفق، وقد دب النشاط في جسده المريض..اخرج ماسورة حديدية كانت تحت سريره هي سلاحه الذي يدافع به عن نفسه وقت الملمات، اعتقد أن ثمة لصا ما يحوم في المكان، ويحاول دخول زريبته واقتحام حجرته.       
صرخ بحذر : "من هناك ؟ ".
-ـ "أنا ..خادم المصباح"
 ..سمع الصوت يأتيه من خارج حجرته .. حيث الإسطبل الذي يضع فيه عربته وحماره وما يخزنه من خردوات ... حمل مصباحه اليدوي، وفتح باب الحجرة.. وقال بصوت عال :
ـ" أين أنت .؟.هيا اخرج لي أيها اللص ؟" ..
- "أنا هنا ..اقترب ارجوك ..وساعدني في الخروج "
.. الصوت يأتي من مكان قريب من عربته ... خطا خطوات حذرة مقتربا من مصدر الصوت ..تأمل المكان جيدا على ضوء مصباحه.. لا شيء هناك ..مجرد خردوات..ولم تمض لحظات حتى جاءه الصوت مرة اخرى:
 ـ انا هنا ..في المصباح  .
لاحظ ان الصوت ينبعث من ذلك المصباح العتيق الذي سقط على رأسه نهارا....تساءل مع نفسه بدهشة :
" المصباح يتكلم، هل يعقل أنني قد أكون عثرت على مصباح علاء الدين دون ان ادري؟..يا الهي ..كيف هذا ..يبدو انني جننت، مد يده الى المصباح بحذر ثم رفعه من بين الخردوات ..لكنه بسرعة أسقطه من يده وهو يسمع الصوت الصادر منه مجددا..
-ارجوك ساعدني على الخروج  .
حدق الى المصباح وهو بين مصدق مايسمعه ومكذب ..
 ـ كيف تريدني ان اخرجك ؟"
- فقط ادعك المصباح بيديك .." ..
قال معربا عن قلقه :" لكني اخشى ان تغدر بي ان اخرجتك " ..
-" اطمئن لن أؤذيك.. بل سأكافئك " ..
ـ "اذا كان هكذا ..فلا بأس " .
وكما في الحكايات ،مسح سلمان المصباح بكلتا يديه فاذا بمارد عملاق ينطلق من المصباح.
-" من انت ؟ "...قالها والذعر يملأ كيانه وهو يرى ما يراه من العجب .
-" انا ..خادم المصباح ..اشكر لك مساعدتي في الخروج من سجني بعد مضي دهور علي وانا داخله ..
-" لكن لماذا طلبت مساعدتي في حين انك لم تطلب مساعدة من كانوا يملكون المصباح قبل رميه علي ؟ "..
ضحك المارد ضحكة عظيمة كادت تصم اذن الرجل المسكين ثم توقف متاملا اياه قائلا :
-" ذلك البيت اللعين لم يكن يسكنه غير عجوز لا تسمع ولا تبصر جيدا ..ومن كثرة ما كنت اناديها وهي لاترد، خلت انها مجنونة ..ومن حسن حظي انها رمت بالمصباح من سطح بيتها ليسقط داخل عربتك القديمة ".
ـ اسمع جيدا .لا اسمح لك ان تتكلم بسوء عن عربتي الحبيبة "..قالها والعنفوان يملأه.
-" عذرا ..بما اني وعدتك بمكافأة ..فلك ما تريد .. ثلاث امنيات احققها لك " ..
اشرقت اسارير وجه سلمان وقال مسرورا :
-" حقا .؟!!.اذن دعني افكر جيدا "..بدأ يذرع المكان جيئة وذهابا وهو يحدث نفسه ما هي اول امنية يختارها ..وفجأة  خطرت له ان يكون ثريا ..لكن الثراء وحده لا يكفي ..فالسلطة جميلة اذا اقترنت بالثراء ..فلكم تمنى ان يكون ملكا على رأسه تاج من الذهب وله رعايا وبحوزته الكثير من النساء الجميلات ..اذا، ليكن اختياره ذكيا .. وبعد تفكير قال للمارد:
ـ "اريد ان اكون ملكا على مدينة كبيرة"
-" هل انت متأكد ؟ " قالها المارد وهو ينحني بجثته العظيمة نحوه وكأنه يريد أن يلمس إصرار  هذا الرجل ذي الهندام البالي، على اختياره.
-" نعم ..متأكد "
-" لك ما تريد يا ...مهلا ..ماهو اسمك ؟ "
-" اسمي سلمان ..وأدعى سلمان العتيق "
-" لك ما تريد يا سلمان العتيق " ..
وفجأة وجد نفسه في مكان فخم يحيط به رجال ونساء بملابس فاخرة..التفت إلى نفسه فوجد أنه أصبح بحلة زاهية جميلة، يزين رأسه تاج من الذهب مرصع بالجواهر والأحجار النفيسة..
ها قد تحققت أمنيته وأصبح ملكا ..كان يجلس كل يوم على عرشه يتولى مهام الملك وينظر بقضايا الرعايا، رغم أنه لا يفهم شيئا...
 ثم مالبث أن ضاق ذرعا وهو يرى الظروف تجري عكس إرادته، فلجأ للقوة، واضطهاد الرعية..حتى وصل في استبداده إلى درجة انه ثار عليه ذات يوم، سكان المدينة التي يحكمها فهاجموا قصره وزحفوا إلى الجناح الذي يحتله، وحاولوا اقتحام بابه بالطرق بالمعاول والعصي، كان يرتجف من شدة الخوف واخذ يبحث عن مصباحه العتيق فوجده بين ثنيات فراشه دعكه فخرج إليه المارد قال له بهلع :
-" اليك بأمنيتي الثانية .. عد بي الى ما كنت عليه فورا، وطر بي الى زريبتي. "فتحير المارد وظن انه يمزح فأعاد عليه القول وهو يصرخ متهما اياه بالغباء، فامتثل المارد لطلبه وأعاده إلى زريبته، فسر سرورا عظيما وحمد الله على سلامته.
في اليوم التالي عاد سلمان العتيق الى حياته السابقة وراح من جديد يجول في الأزقة القديمة، ينادي بصوت منغم، ملؤه المرح والتفاؤل ويتوقف بين حين وآخر ليلاطف الصغار الذين يلتفون حول عربته، يشاكسون حماره، وبدلا من إطلاق الشتائم كان يمازح من يلتقي بهم عند أعتاب البيوت من النساء والرجال، ويتلقى ما يلقى عليه من سطوح المنازل وهو يبتسم .. ولما ظهر له المارد ذات مرة وسأله عن أمنيته الثالثة اجابه سليمان :
أمنيتي الأخيرة هي أن تتركني بسلام فلا أراك ثانية.r

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق