15‏/11‏/2011

نظـــرة علـــى تربية الحمام الزاجل في الموصل


الموصل – عماد ابراهيم


 في الموصل، وعلى غير عادة سكان المدن الأخرى، قلما تجد بيتا من البيوت يخلو من حيوان أليف، قطةً كان أو طائر الكناري، أو بلبلاً أو دجاجاً أو طيور الزينة أو الحمام الزاجل.
 ومن أهم الهوايات لدى العديد من الناس تربية الحمام في البيوت، لذا أينما وجهت ناظريك في السماء فإنك لا شك ترى مجاميع الحمام تحلق بشكل يأسر الناظر إليها، ولا غرو، فهذا هو السبب الرئيسي وراء تربية الحمام في مدينة الموصل، والعناية بها وبأنواعها وأصولها.....


وقد سلط البعض من الباحثين في(الموصليات) الضوء على هذا الجانب من عادات أهل الموصل، ومن أشهر من كتب في هذا الموضوع الباحث والمؤرخ الموصلي الكبير الأستاذ سعيد الديوجي عليه رحمة الله في كتابه (تاريخ الموصل) الجزء الثاني في الصفحة 302.
حيث أشار إلى أن تربية الحمام متجذرة في الموصل منذ عصور خلت، واصفا بشكل دقيق كيفية تعلق أهالي الموصل بتربية هذه الحيوانات الأليفة بشكل كبير فقال: (وكان في سوق الصاغة بضعة دكاكين لبيع الحمام، ويرجع في تقديرها إلى "شيخ المطيرجية"، وآخر من أدركنا منهم هو "داود الريمة" وله دكان في سوق المطيرجية، ويرجعون إليه في أمورها.  وبعد صلاة العصر يصعد مربو الطيور فوق أسطح المنازل، ويطيّرون الحمام، ويتناقشون بجمال طيورهم، وما تقوم به من دوران، وكلما قرب من السطح لوّح لها بقصبة طويلة في يده، فتعود وتستمر في طيرانها، وكانوا يتفاخرون "بالطير القلاّب" الذي يقلب في الجو عند طيرانه، ولم تزل بعض البيوت تحتفظ بما ورثته من طيور، محتفظة بأنسابها وصفاتها.).  انتهى كلام الأستاذ الديوجي.                 
في هذا التحقيق سنحاول الوقوف على الجوانب التي لم يتم تناولها من قبل، مثل، أنواع الحمام وأنواع الأعلاف والسباقات التي تجري بينها وما إلى ذلك.
البداية كانت من خلال استضافتي في دار صديقي "ابو فرح" وهو مولع بتربية وتكثير الأصناف المميزة من الحمام الزاجل؛ حيث استضافني هو وقريبه السيد محمد أبو علي فكان لي معه هذا الحوار.
الحوارـ ما هو السبب وراء تربية الحمام بشكل عام والزاجل بشكل خاص؟.
-تربية الطيور وغيرها من الحيوانات الأليفة من الأمور التي اعتاد عليها أهل الموصل منذ القدم، والسبب هو الحب والرأفة بالحيوانات، وتستطيع أن تقول رقة المشاعر والأحاسيس التي تدفع بالإنسان ليفرغها في تربية الحيوانات البريئة وبذل الوقت والجهود والأموال في سبيل هذا  الامر. 
كما أن البعض يتخذ منها مصدرا للرزق، عن طريق إكثار الأنواع الجيدة منها والمحافظة عليها، وآخرون: وهم الذين يسمون عند عامة الناس بـ(المطيرجية)، وهم الذين يشكلون مصدر القلق الذي يصيب الناس من مربي الحمام، وهم الذين لايملكون عملاً، والذين يطلق عليهم الناس بالعامية (عطالة بطالة)، هؤلاء يقضون أوقاتهم أمام أبراج الحمام على أسطح البيوت، فتقع أعينهم على بيوت الجيران، وتقف حماماتهم على بيوت الجيران فيقومون برميها بالأحجار لتعاود الطيران، ما يجعل الناس تتذمر من جميع المربين بسبب هؤلاء.                                                                                
أما عن الحمام الزاجل، فانه يحظى بالمكانة الأولى بين الحمام وذلك بسبب الذكاء الكبير الذي يتمتع به دون غيره من أنواع الحمام، لأنه يستطيع قطع مسافات طويلة تصل إلى 1000 كيلومتر أو أكثر في بعض الأحيان، وقد قام البعض من المربين بإطلاق الحمام الزاجل من مدينة الفاو الواقعة جنوب العراق على الخليج العربي لتصل إلى الموصل خلال 24 ساعة أو قريبا منها.
ما هي مواصفات ومزايا الحمام الزاجل؟.
-الحمام الزاجل بشكل عام يتمتع بالتحمل الشديد في الطيران لمسافات طويلة كما ذكرنا، كما يمتاز بحبه الشديد والمنقطع النظير لموطنه الذي يعيش فيه وخاصة إذا توفر له في هذا المكان أسباب الراحة، لذا تراه يعود لموطنه الأصلي مهما بعدت المسافة ومهما طال الوقت، حيث يذكر بعض المربون القدماء عن بعض أصناف الزاجل أنه عاد إلى موطنه الأصلي الذي فتح عينيه فيه بعد سنين من الغربة عنه سواء كان الفراق بسبب البيع أو الإهداء أو غير ذلك، كما يتمتع بالغيرة الشديدة على الأنثى بحيث لا يمكن أن يتزاوج ذكران مع أنثى، كما ويمتاز بطول العمر في حال توفر الظروف الملائمة لذلك بحيث يصل عمر بعضها إلى 8 سنوات أو أكثر، وهذا ما يدعو المربين إلى العناية بهذه الأصناف المميزة من الحمام الزاجل.
الحوارـ هل له أنواع وما هي أهمها؟.
- هناك أنواع عديدة من الحمام الزاجل، فمنها الأخضر والسماوي وهما الأذكى من بين سائر الأنواع، وهذه الأنواع يتم العناية بها وبنسلها والمحافظة عليها من التهجين لذا ترى البعض من المربين يختص بهذين النوعين دون غيرهما، وهناك أنواع أخرى كثيرة مثل المقرمش وزاز الأبيض وغيرها، وقد يبلغ سعر الحمامة الواحدة إلى(1000دولار) وهناك أقل منها وهناك أكثر؛ ومنها ما يتم استيراده من دول عديدة عن طريق مختصين بهذه التجارة.
الحوار ـ كيف تميزون الحمام الزاجل عن غيره من أنواع الحمام؟.
-الحمام الزاجل له أوصاف خاصة تميزه عن سائر أنواع الحمام، منها، الحجم الكبير لبعض أنواعه، وطول المنقار، وكبر فتحتي الأنف أو المنخرين، وعينان حمراوان محاطتان ببياض وأجفان مشحمة، وقدمين خاليتين تماما من الريش وأظافر سوداء، وبعض الأنواع يكون الصدر فيها عالياً، ويعتمد كذلك على أصل الطائر ومدى نقائه من طرف الأب والأم.
الحوارـ ماهي مراحل تربية الحمام الزاجل؟ وهل من صعوبات تتخللها؟.
-يكون بيت الحمام أو البرج بمثابة البيت الذي يعيش فيه الحمام على مقاييس محددة، مثل 2م في 2م في 2م على أقل تقدير، ويحتوي البرج على رفوف، وتوضع عليها سلال خاصة مصنوعة من السعف وتوضع داخلها الأعشاش؛ فعندما يخرج الفرخ الصغير من البيضة يحضى بعناية خاصة، فمنذ بلوغه اليوم الرابع يتم تلقيحه بلقاحات خاصة ضد أمراض الطيور التي تصيب الطيور عادة مثل (الخناق، والجدري المائي، والجدري"الفالول")، وغيرها، وبعد ذلك يضاف إلى علفه الخاص فيتامينات تساعد على النمو بشكل سليم، ومن هذه الفيتامينات ما يضاف إلى ماء الشرب.
 تركنا دار أبي فرح لنتوجه إلى سوق الطيور الذي يقع وسط المدينة في منطقة باب الطوب وتحديدا في سوق الأربعاء لنسأل عن (شيخ الكار) أو كما يقول عنه البعض(شيخ المطيرجية)" مع أن البعض يكره هذه الكلمة"، فأرشدنا إلى السيد محمد الحيالي الذي يبلغ من العمر نيفا وستين سنة.
الحوارـ منذ متى وأنت تربي الحمام؟.
-قبل أن أبلغ العاشرة من عمري وأنا مولع بتربية حمام الزينة بأنواعه مثل (عروس البحر، حمام البطريق، الصابوني، الشمعي، نقش البتة، اللطخ، الدنفش، وغيرها)، والزاجل على وجه الخصوص؛ وما زلت أمتهن تربية الحمام فهي مصدر عيشي منذ أكثر من ثلاثين سنة، فأنا أقدم صاحب محل في سوق الأربعاء، فمنذ افتتاح السوق وأنا أمتلك فيه عدة محلات بحيث كانت البداية لتوافد محبي الطيور للتجارة بها في هذا السوق، تبعني بعد ذلك الكثير من أمثال أبو زكريا المشهور ببيع الأسماك الآن، وغيره من الهواة فأصبح سوقا للطيور، ولايزال.
الحوارـ عبر هذه السنين الطويلة في تربية الحمام، هل واجهت مواقفاً لا تغادر الذاكرة؟.
-المواقف كثيرة بعدد سني ممارستي لهذه الهواية والتي تحولت إلى حرفة، ولكن أهمها: ذات مرة زرت أحد المربين في داره بناء على دعوة منه، فوجدت أنه قد خصص غرفة من غرف الدار للحمام، فيها من العناية ما لا يتوفر لأولاده وزوجته، وحكى لي شخص أن أحد المربين وبسبب ضيق الدار قام بتخصيص جزء من دولاب ملابسه وفي غرفة نومه للحمام، وأحيانا وهذا -قد حصل بالفعل- فبسبب الحمام تصل الأمور بين بعض المربين إلى القتل، وهذا معلوم بين أهل الكار حيث حصلت حادثة قبل عشرين سنة حيث وصل عدد القتلى من الفريقين المتخاصمين على الحمام إلى سبعة رجال.وهذا أغرب الحوادث التي كان الحمام هو السبب ورائها.                           
وهناك أيضا خصام يقع بين الأب وابنه وبين الأخ وأخيه، بل حتى بين الرجل وزوجته، والجيران فيما بينهم، وكل ذلك بسبب الحمام.
وغير بعيد عن شيخ الكار محمد الحيالي وفي نفس السوق هناك فرع من فروع تربية الحمام، وهو بيع الأعلاف، التقينا بالسيد بدران سالم متخصص ببيع الأعلاف.
الحوارـ ما هي أنواع الأعلاف التي تعطونها للحمام؟.
- هناك أكثر من 30 نوعا من العلاف وكل له فائدته، ولكن الرئيسية منها والأساسية هي (الحنطة، والدخن، وحب زهرة الشمس، والهرطبان، والبزاليا، والذرة الصفراء، والبيضاء، والعدس، والماش، والشعير).                                  
ونقوم كذلك بمزج بعض الأنواع وبنسب محددة للحصول على أعلاف عالية الجودة وذات فائدة أكبر، وهناك إضافات بروتينية نباتية وحيوانية مختلفة تضاف إلى الأعلاف من أجل الحصول على تغذية جيدة للحمام وخاصة للحمام الضعيف أو المريض، فتكون على شكل مكملات غذائية لعملية العلاج.
الحوارـ وماذا عن أسعار الأعلاف؟.
- الأسعار بشكل عام مناسبة فهي تتراوح بين 750 دينارا و 1000 دينار للكيلوغرام الواحد، ولكن هناك من يفضل أن يقوم بخلط بعض الأنواع للحصول على أعلى جودة ممكنة من الأعلاف، وهذا بحسب الطلب فيكون سعره أعلى بقليل، وبالعموم فهي متوفرة ومتيسرة للجميع.
جانب آخر من عالم الحمام الزاجل، وهو سباقات الحمام عبر المدن العراقية، وهذا ما دعانا لزيارة نادي النور لسباقات الحمام الزاجل والحديث إلى المشرف على النادي، السيد احمد أبو سيف.
الحوارـ كيف تقام سباقات الحمام الزاجل، وما هي أوقاتها؟.
-سباقات الحمام الزاجل لها موسم خاص بها في كل عام، وقبل أن تقام هذه السباقات يكون هناك سباقات تدريبية وتمهيدية للسباقات الحقيقية، تكون التدريبات عن طريق إطلاق الحمام الزاجل من مسافات أقصر نسبيا وتدريجيا الأبعد فالأبعد، حيث نبدأ من منطقة النمرود أو منطقة القيارة ونقوم بضبط ساعاتنا من لحظة الإطلاق حتى يأتينا اتصال من البيت ليخبرنا عن الحمامات التي وصلت لنعلم بأيها نشارك في المسابقات المقبلة.                                           
أما عن السباقات الأساسية فهي أربع، الأول يكون من مدينة سامراء، والثاني من منطقة العزيزية جنوب بغداد، والثالث من منطقة الرفاعي في مدينة الناصرية، والرابع والأخير يكون من مدينة البصرة.                                              
وكل هذه السباقات تجري خلال شهور (كانون الثاني وشباط وآذار)، وخاصة عندما يكون الجو صحواً ومناسباً.
الحوارـ ما هي الآلية التي تتبعونها في هذه السباقات؟.
-نقوم بالإعلان عن السباقات بفترة مناسبة ليتقدم مربوا الحمام بتسجيل أسماء حمائمهم المشاركة في السباقات حيث أن لكل حمامة اسم يميزها عن غيرها؛ وكذلك فإن لكل حمامة سواراً خاصاً في القدم يميزها عن غيرها من حيث الصفات الخاصة بها.
كما نقوم باستيفاء مبالغ عن كل حمامة مشاركة ليتم الإنفاق على الفريق المشرف على نقل الحمام إلى محل الإطلاق، كما نقوم بشراء الهدايا التي تقدم لأصحاب الحمامات الفائزة.                                                            
وعند الإطلاق يقوم الفريق المرافق للحمامات بالاتصال بالفريق المراقب عند نقطة الوصول ليبلغه بساعة الإطلاق وبالدقيقة بالضبط، فترى أعين المربين تتسمر في السماء لمراقبة حماماتهم.. بقي أن أذكر أن لكل سباق وقتا محددا، فسباق سامراء يستغرق للوصول إلى الموصل بحدود 3 ساعات، وسباق العزيزية 5 ساعات تقريبا، أما سباق الرفاعي فيستغرق 8 ساعات أو أكثر، أما سباق البصرة وهو الأطول فيستغرق بحدود الـ 24 ساعة.
الحوارـ هل واجهتكم مواقف طريفة عند إطلاقكم للحمام في السباقات؟.
-ذات مرة أطلقنا مجموعة كبيرة من الحمام فكان أحد هذه الحمامات يطير لارتفاع متر أو مترين ثم يحط ثم نقوم بدفعه للطيران فيعاود الطيران مرة أخرى مترا أو أكثر فيحط حتى ابتعدت الطيور المتسابقة فلم نعد نراها وهذا الطائر ما يزال يراوح في محله ما جعلنا نضحك حد القهقهة فقمنا بالإمساك به ورميه في الهواء عالياً فطار في اتجاه غير الاتجاه الصحيح فجعلنا نضحك أكثر كثيرا.
الحوارـ من هم أشهر المشاركين في هذه السباقات؟.
-عادة المتسابقون هم نفسهم الذين يعاودون الاشتراك في هذه السباقات وكل منهم يشارك بعدة حمامات وكل حمامة لها اسم وقاعدة بيانات خاصة بها نحتفظ بها في ملف خاص لدينا في النادي لنكون على بينة من كل المعلومات المفيدة عن كل حمامة من حيث الاسم واسم الأب والأم والعمر واللقاحات والسباقات الماضية والمراتب التي حصل عليها.         
وأشهر المتسابقين هم (أحمد جاسم، واحمد محمد"ابو سيف"، وطه داود، وعزت أمجد، وابو سعد الحداد، ومحمد العلاف، ومحمد ساحة، وباسل منجي، ومزهر القصاب) وغيرهم.                                 
بعد كل هذا، بقي أن نذكر بأن الحمام الزاجل كان قد حصل على اكبر عدد من أعلى الأوسمة التي منحت للحيوانات في الحرب العالمية الثانية، وهو وسام (ديكن)، فمن أصل حوالي السبعين وساما منحت للحيوانات التي كان لها دور بارز في انتصار الحلفاء في تلك الحرب، كان للحمام الزاجل لوحده 32 وساما.
من هذا نعلم مدى الذكاء الذي يتمتع به هذا الطائر الجميل، وقد نعذر المولعين بالحمام الزاجل وبتربيته.r
                                                      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق