15‏/11‏/2011

الفكــر النقـدي المقاصــــدي عنــد الإمـام الشاطــــبي


بقلم أمين حجي الدوسكي


     معلوم أن الفكر النقدي، قد تبلورت معالمه، عند علماء المسلمين في عصر الرسالة وبعده، تحت نهج العملية الاجتهادية التي رسمها الشارع الحنيف، وذلك أن الأدلة الشرعية محصورة معدودة فيما يتعلق بالكتاب والسنة، ولكن ينطوي تحتها معاني أصولية، يندرج فيها جميع الحوادث المستجدة، والمسمى الآن فقه النوازل، من جهة لحوقها بتلك الأصول وهذا سر قول الشرع الإسلامي؛ بصلاحيته لكل زمان ومكان؛ فتعدد تلك الأصول والمنطوية تحتها معاني جامعة للحوادث المستجدة؛ سبباً في ابراز العمل الاجتهادي لتنزيل فقه النوازل على تلك الأصول، وما إن برز بعملية لحوق الفروع إلى الأصول؛ القياس والتي هي مادة الاجتهاد. فكان ...


العملية الاجتهادية باب من أبواب النقد الفكري على صعيد الاجتهاد في معرض النص الظاهر والمجمل والمشكل وعلى صعيد القياس والادلة المختلف فيها والتي ظهرت بعد ظهور كنوز معالم القياس –مادة الاجتهاد-
     وكان من ضمن تلك النقود النقد الفكر المقاصدي، الا انه لم يدون كما دون القياس والاستحسان والأدلة الأخرى، وكان أول من بذر نبتته وبنى لبنته الإمام الجويني في كتابيه البرهان في أصول الفقه وغياث الأمم في التياث الظلم، ولكن بقيت قواعد ذلك العلم متناثرة بين كتب أصول الفقه والحديث والتفسير والفقه نفسه، حتى بروز نجم الإمام الشاطبي الغرناطي الإسباني في القرن الثامن الهجري، فأسس نظريته المقاصدية في كتابه الموافقات والاعتصام. وإليك بيان نقده المقاصدي من خلال طرحه لفكرة الجمع بين كليات الشريعة وجزئياتها.
تعريف
المقاصد لغة: القصْدُ: استقامةُ الطّريق؛ وقصد يقصِدُ قصداً فهو قاصِدُ. والقصْد: الا تسرف ولا تقتر  وفي الحديث "ما عال مقتصدٌ ولا يعيل"1.
     المقاصد اصطلاحاً: "الحكم التي أرادها الله تعالى من أوامره ونواهيه لتحقيق عبوديته وإصلاح العباد في المعاش والمعاد"2، وهذا تعريف مقاصد الشريعة.
     والفكر هو: إعمال العقل في الشيء للوصول إلى حل أو نتيجة ما.
     والنقد هو: التمييز بين جيد الشيء ورديئه؛ لذا (فكر النقد المقاصدي) يكون: إعمال العقل في العملية الاجتهادية، للوصول إلى الحكم الشرعي، بعد التمييز بين ما هو مقصود للشارع مما هو ليس بمقصود؛ أو هو مقصود بالتبع لا بالأصل.
     والقصد بالجمع بين الكليات والجزئيات؟ الجمع بين الأدلة الدالة للقطع والمستقرأة من جزئيات؟ أفاد الكلي به القطع؛ والمسمى الكليات الثلاث: وهو (الضروري والحاجي والتحسيني) مثل "الضرورات تبيح المحظورات" "وتقدر بقدرها" "والمشقة تجلب التيسير"...
وهناك الكليات النصية العامة كقوله تعالى: {إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَان...الآية) (إن الله يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمانَاتِ إلَى أهْلِهَا وَإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْل...الآية) النساء-58 (وَأوْفُوا بِالعُقُود) المائدة-1 (وَأوْفُوا بِالعَهْد) الإسراء-34 (الاَّ تَزِرُوا وَازِرَةٌ وِزْرُ أخْرَى) النجم-38، وفي الحديث: "لا ضرار ولا ضرار" "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" "إن الله كتب الاحسان على كل شيء" "إنما الاعمال بالنيات". فيجب الجمع بين هذه الكليات، وبين تلك الأجزاء؛ التي بجمعها ولمِّ شتاتها أعطت الكلي منه صورة قطعية ثابتة الحكم.
     فمعرفة حقيقة الجزئي ومفاده العلمي لا يرى الا من خلال الأدلة الكلية، وكذلك الكلي بدون الجزئي لا حقيقة لوجوده إلا في الأذهان والعقول لا في الخارج الواقعي، ومفاد القول الجمعي بينهما؛ أنه لا يجوز الاستغناء في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية لودها، دون الرجوع الى القواعد الأصولية المقصودة للشارع، وكذلك لا يجوز الركون إلى القواعد بدون عرضها على التفصيليات؛ فثمرة الاجتهاد التكاملي موقوفة على معية المتلازمين المذكورين، وهذا نوع من ضروب الاجتهاد المقاصدي 3.
      يقول الإمام الشاطبي: "لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من (الضروريات والحاجيات والتحسينات) وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة؛ كان النظر الشرعي فيها أيضاً عاماً لا يختص بجزئية دون أخرى؛ لأنها كليات تقضى على كل جزئي تحتها... [و] ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهى إليه، بل هي أصول الشريعة، وقد تمت فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره، فهي الكافية في مصالح الخلق عموما وخصوصاً لأن الله تعالى قال: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُم}المائدة-3 وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِيْ الكِتَابِ مِنْ شَيء} الانعام-38, وفى الحديث "تركتكم على الجادة" [اخرجه في التيسير عن رزين] وقوله (صَلَى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم): (لا يهلك على الله إلا هالك) [جزء من حديث رواه الشيخان كما في الجامع الصغير] .
     وإذا كان كذلك، وكانت الكليات، والتي هي أصول الشريعة؛ فما تحتها من الجزئيات مستمدة من تلك الأصول الكلية؛ فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
     وإشكالية النقد المقاصدي عند الإمام الشاطبي، تتبلور هنا؟ عند من يقوم بالعملية الاجتهادية، أو الفتوى، عند استنباط الأحكام، أو عرض مسألة شرعية، بالاستناد إلى جزئيات الشريعة معرضاً عن كلياتها، وكأنها مستغنية عنها، أو الذي يأخذ بالكلي تاركاً الجزئي، والعملية الأولى أقرب ما يكون، هدم الكلي بالجزئي، فيكون هدماً للشريعة، والعملية الثانية، هي أبتناء للأحكام على الفكر الذهني الغير الموجود في الخارج، فيكون وهماً؛ لأنه بدون الجزئي لا وجود للكلي؛ يقول الشاطبي: " محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها... وكما أن من أخذ بالجزئي معرضاً عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه؛ وبيان ذلك:
1- أن تلقى العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج وإنما هو مضمن في الجزئيات.. 
2-الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه ..
3- أن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به...  وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع.. 
4-إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع في النظر بينهما.. 
5-لو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح وهو مناقض لمقصود الشارع ولأنه من جملة المحافظة على الكليات لأنها تخدم بعضها بعضا..  وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة 4.
 تطبيقات توفيقية للجمع بين الكلي والجزئي وما يئول إليه الحكم
     حفظ الضروريات يستلزم العلم بجهة الحفظ؛ لئلا يؤدي إلى الإخلال بها أو مكملاتها مثال:
- يجب القصاص بالقتل بالمثقل وفق قصد الشارع في تثبيت القصاص حفظا للحياة، ولو اقتصر على المحدد لم ينسد باب القتل وهو مخالف قصد الشارع.  
- اقامة الصلاة بتمامها ضروري؛ ورخصة القصر والجمع وعدم القيام للمريض فيها حاجي، فجمع الشرع بين الضروري - حفظ الدين - والحاجي - رفع الحرج - ووفق قاعدة المشقة تجلب التيسير، وهكذا مع الرخص الأخرى.
- الغرر مدفوع بقاعدة حفظ المال؛ وبيع السلم مخصص منه وفق قاعدة رفع الحرج - الحاجي.
- الربا مدفوع بقاعدة حفظ المال وغيره؛ وبيع العرايا مخصص دفعا للحرج – الحاجي- فجمعنا بين الأصل والتبع لأنهما مكملان للبعض.
يقول الشاطبي: "إن تلك المراتب الثلاث [الضروريات والحاجيات والتحسينيات] يخدم بعضها بعضا ويخص بعضها بعضا فإذا كان كذلك فلا بد من اعتبار الكل في مواردها وبحسب أحوالها" 5.
 فكر النقد المقاصدي في ضوء "صورة التعارض بين الكلي والجزئي
     معلوم أن من الأدلة الظنية خبر الواحد، وهي عند الشاطبي من الأدلة التوفيقية؛ إذا كملت شروط صحتها، فهل يجب عرض هذا الظني على الكلي – فإن وافق وإلا ردَّ- أم لا؟ عند الإمام الشافعي لا يجب، وعند عيسى ابن أبان يجب، وقال الشاطبي وللمسألة أصل عند السلف الصالح، وإليك بعض الأمثلة في رد الجزئي بالكلي والظني بالقطعي.
     -حديث (إن الميت ليعذب ببكاء الحي) -متفق عليه عن ابن عمر- ردت عائشة (رضي الله عنها) هذا الحديث  لقوله تعالى (ألا تزر وازرة وزر أخرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى) النجم-38-39 6...[كما] أهمل [الإمام] مالكاً إعتبار حديث "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" و "أرأيت لو كان على أبيك دين"  لمنافاته لذلك الأصل القرآني الكلي.
 -وردَّت حديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء-رواه الحاكم والنسائي والطبراني عن ابن عباس- لقوله تعالى (لا تدركه الابصار) الانعام-103. ورُدَّ على النافون بان أدلة الرؤية مشفوعة بأدلة أخرى قطعية وهي الرؤية يوم القيامة ولا فرق في صحة الرؤيا في الدنيا والآخرة.
- وردَّت هي وابن عباس خبر أبي هريرة "في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء" إستنادا إلى أصل مقطوع به وهو رفع الحرج .
- وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم وقالت "إنما كان رسول الله يحدث عن أقوال الجاهلية" لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا ولا طيرة ولا عدوى.
- وردَّ مالك بن أنس حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا: وكان يضعفه ويقول يؤكل صيده فكيف يكره لعابه. وغيره كثير 7.
    وقد عد الباحث أحمد الريسوني من هذا المنحى الاجتهادي - عرض الجزئي على الكلي والجمع بينمها- بمسألتين:
     الأول: تقييد التصرف في الحقوق المشروعة الثابتة، مثل تقييد تصرف المالك في ملكه وحقه إذا عارض مقصد الشريعة، والقواعد العامة، وهو المسمى عند الاصطلاح القانوني (منع التعسف في استعمال الحق) ولخصها الدكتور وهبة الزحيلي على النحو التالي:
قصد الإضرار بالغير.  
قصد غرض غير مشروع.
جـ- ترتب ضرر اعظم من المصلحة.     
د- الاستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير.
هـ- استعمال الحق مع الاهمال أو الخطأ 8.
وهذا التقييد يكون حسب المصلحة، إما تقييداً جُزئياً أو تقييداً كلياً. 
     هذا هو الجانب العملي لفكر النقد المقاصدي، وذلك في التمييز بين الحقوق العامة من الخاصة؛ وحين التعارض بينهما؛ يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وإن كان في الظاهر جور بحق المحق للحق، ولكن في الحقيقة دفع المضرة العامة منفعتها مقدمة على جلب المصلحة الخاصة عند التعارض، وهذا يتعلق أيضاً بقاعدة "درء المفسدة أولى من جلب المصلحة".
     الثاني: وتقييد إلزامية العقود الصحيحة المستوفية لشروطها الشكلية. فمستند ذلك راجع الى قصد الشارع في رفع الظلم واقامة العدل في المعاملات عامة والعقود خاصة وليس (العقد شريعة المتعاقدين) الا اذا جاء موافقا لقصد الشارع فاذا تجاوزها وجب نقضها او تعديلها ومن الادلة على ذلك قوله "لو بعت من اخيك ثمرا فاصابته جائحة، فلا يحل لك أن تاخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق" (رواه مسلم وابو داود) وأمر (صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) (بوضع الجوائح) رواه مسلم 9. r
المراجع:
1. كتاب العين, الخليل بن احمد الفراهيدي, ت170هـ, ترتيب د. عبد الحميد الهنداوي, (بيروت: دار الكتب العلمية ط1, 2003م), 3/393-394, مادة ق-ص-د,  
2. مقاصد الشريعة عند ابن تيمية, يوسف احمد محمد البدوي, (الأردن: دار النفائس للنشر والتوزيع, الاردن, ط1, 2000م),     
3. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي, أحمد الريسوني, تقديم, طه جابر العلواني, (المعهد العالمي للفكر الاسلامي, ط4, 1995م), ص369-372.
4. الشاطبي ابي اسحاق ابراهيم بن موسى الغرناطي المالكي, الموافقات في أصول الشريعة, تحقيق, الشيخ عبدالله دراز (القاهرة: دار الحديث, ط 2006, 3/5-12.
5. نفسه, 3/9-10. بتصرف.
6. نفسه, 3/14-15. بتصرف.
7. المصدر السابق, 3/14-19.بتصرف واختصار.
8. وهبة الزحيلي, الفقه الاسلامي وادلته, (دمشق: دار الفكر, ط2, 1984, 4/32-38. نقلا من نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي,  ص373.
9. نظرية المقاصد, ص372-375. بتصرف.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق