03‏/04‏/2022

أبو بكر أفندي الخشناوي الشهرزوري العالم الكوردي الذي وَطّد الإسلام في جنوب أفريقيا

أ. د. فرست مرعي

  لم تكن الإمبراطورية العثمانية من بين القوى الاستعمارية لمنطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، وبالتالي فإنها لم تشارك في (مؤتمر برلين) (1884- 1885م) الذي عقدته القوى الاستعمارية الأوروبية من أجل تقسيم القارة الإفريقية إلى مناطق نفوذ خاضعة لها، لكن ذلك لا يعني انعدام الصلة بين العثمانيين وأفريقيا، فمثلما كان للعثمانيين وجود في معظم أقاليم شمال أفريقيا، كان لهم وجود أيضًا في بعض مناطق جنوب الصحراء.

وترتكز العلاقات بين العثمانيين وأفريقيا الجنوبية على عدة عوامل ثقافية، وعلى رأسها الإسلام، فمن المعروف أن (جنوب أفريقيا) وقعت تحت الاستعمار الهولندي، بإشراف من شركة الهند الشرقية الهولندية منذ عام 1652م،

واستمر الحكم الهولندي للمنطقة حتى احتلال بريطانيا لها عام 1795م بعد معركة (مويزنبيرغ)([1])، واستمر تعاقب الاستعمار الهولندي والبريطاني على هذه المنطقة، حتى تأكدت حيازة بريطانيا لها بعد الاتفاقية البريطانية الهولندية عام 1814م.

كانت هذه المنطقة تُعرف خلال الاستعمار الهولندي الطويل بـ(مستعمرة الكيب)([2]). وبحسب الفصل العنصري لسكان المستعمرة، كان المجتمع يتشكل من أقلية بيضاء مهاجرة من أصول أوروبية، أطلقوا على أنفسهم تسمية (أفريكان)([3])، وغير البيض وأغلبهم من قبائل البانتو الإفريقية التي تتكون من مجموعات عرقية مختلفة، وما يُعرف بالجنس الخِلاسي؛ الناتج عن زيجات البيض مع نساء من قبائل الهوتنتوت الإفريقية، بالإضافة إلى مسلمي الملايو، وهم الذين قاموا بثورة إسلامية ضد الاستعمار الهولندي لشبه جزيرة الملايو، وتم نفيهم مع عائلاتهم إلى (جنوب أفريقيا)([4]).

لم يختلف وضع المستعمرة كثيرًا في ظل الفصل العنصري في أثناء حكم البريطانيين، عما سبقه أثناء حكم الهولنديين، ورغم صدور قانون (رقم خمسين)، عام 1828م، الذي ينص على مساواة جميع الناس أمام القانون بغض النظر عن اللون والجنس، فإن سياسات الفصل العنصري استمرت في المستعمرة حتى صدور قرار البرلمان البريطاني عام 1833م بإلغاء الرق في بريطانيا وجميع مستعمراتها.

انعكس هذا القرار بشكل إيجابي على أوضاع المسلمين في (جنوب أفريقيا)، وانتعش الوجود الإسلامي هناك، حيث وصل عددهم بحلول عام 1840م إلى نحو 7 آلاف. ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى أن الخلافات بين المسلمين هناك بلغت أشدها، وبالأخص بشأن مسألة (مولد الخليفة)؛ حيث كان فريق منهم يحتفل بمولد الشيخ عبد الله بن عبد السلام، شيخ الطريقة الصوفية لمسلمي الملايو، وكانوا يطوفون بشوارع المدينة يدقون الطبول ويرددون الأناشيد. وفريق آخر أطلق على نفسه (أتباع النبي)، رفض هذه الاحتفالات واعتبرها بدعة، وربما يكون هذا الفريق قد تأثر بالدعوة الوهابية في أثناء رحلات الحج([5]). 

من هنا وُلدت فكرة استدعاء مرشد روحي من الخارج لمسلمي (جنوب أفريقيا)، لتعليمهم مبادئ الإسلام وحل الخلافات الفقهية بينهم. وقد كانت الأجواء السياسية آنذاك تسمح بتواصل بريطانيا بالدولة العثمانية لحل هذه المسألة، فقد كانت العلاقة ودية بينهما آنذاك، بعد توقيع معاهدة باريس 1856م بعيد حرب القرم (1854 – 1856م)، التي ساندت فيها كل من بريطانيا وفرنسا العثمانيين في حربهم ضد الروس، ومن خلال نصوص المعاهدة التزم بموجبها السلطان عبد المجيد الأول بتحسين أوضاع المسيحيين في الإمبراطورية، مقابل التزام بريطانيا بتحسين أوضاع المسلمين في جميع مستعمراتها([6]).

وكان أول اتصال عثماني مباشر بمسلمي (مستعمرة الكيب) عام 1859م، عندما أرسل السلطان عبد المجيد إليهم باخرة محملة بالهدايا. ولم يتوقف الباب العالي عن إرسال المساعدات لمسلمي الكيب، خلال الأزمة الناتجة عن الجفاف في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر.

ويطلق المؤرخون على فترة ما بعد (معاهدة باريس) بفترة الانفتاح العثماني على العالم، وهي الفترة التي شهدت أقصى امتداد عثماني إلى أقاليم جنوب الصحراء.

وفي عام 1863م أصدر السلطان عبد العزيز الأول مرسومًا بإرسال الفقيه العثماني أبو بكر أفندي إلى (رأس الرجاء الصالح)، وذهب مع تلميذه عمر لطفي أفندي، من أجل تعليم المسلمين هناك أمور دينهم، وحل المسائل الخلافية بين فقهائهم، واستقبلهم المسلمون هناك استقبالاً حافلاً، وفي فترة قصيرة صار لأبي بكر أفندي أكثر من 300 طالب علم.

صورة نادرة للملا أبو بكر أفندي
افتتح أبو بكر أفندي أول مدرسة للمسلمين في جنوب أفريقيا، وكانت تربطه علاقة وطيدة بتلاميذه هناك، الذين علمهم قراءة القرآن والشعائر الإسلامية. وخلال فترة وجيزة تعلم لغتهم، ووضع كتابًا بلغتهم بعنوان: (بيان الدين-  Bayan al-din) ( وهو كتاب فقهي في أصول المذهب الحنفي، نُشر عام 1869م، وكان من أوائل الكتب المترجمة إلى اللغة الأفريكانية في (جنوب أفريقيا)، نشرته مطبعة الحكومة العثمانية في استنبول عام1877م، بدعم مالي شخصي من قبل السلطان عبدالحميد الثاني(1876 – 1909م).

فضلاً عن ذلك أسس الملا أبوبكر أفندي أول مدرسة لتعليم الإسلام للبنات في (جنوب أفريقيا)، أشرفت عليها إحدى زوجاته.

وكان لأبي بكر أفندي دور كبير في تشكيل الهوية العثمانية بين مسلمي أفريقيا الجنوبية، وساهم في تطوير العلاقات بينهم وبين العثمانيين. ورغم أن (جنوب أفريقيا) لم تكن تابعة رسميًا لنفوذ الدولة العثمانية، فإن المسلمين هناك كانوا تابعين روحيًا إلى العثمانيين، وقد ظل أبو بكر أفندي بقية حياته في (جنوب أفريقيا)، حتى تُوفي عام 1880م ودُفن هناك.

وشهدت عقود الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر، دعمًا ماليًا كبيرًا من السلاطين العثمانيين لبناء المساجد في أفريقيا الجنوبية، فتم بناء ثلاثة مساجد في (رأس الرجاء الصالح)، وثلاثة مساجد في مدينة (بورت إليزابيث). ومنذ بداية الستينيات من القرن التاسع عشر ظهرت فكرة تعيين قنصل عثماني عام في (جنوب أفريقيا)، وتمت الاتصالات بين وزير الخارجية العثماني مع نظيره البريطاني للحصول على الموافقات الرسمية، وتمت الموافقة عام 1863م.


هناك مسألة مهمة أخرى، كانت سببًا في توطيد العلاقات بين العثمانيين ومسلمي جنوب أفريقيا، عندما نوقش مشروع قانون التعليم في بريطانيا، وكان يتضمن اشتراط تعليم العقيدة المسيحية في المدارس التي تتلقى معونة حكومية، سواء داخل بريطانيا أم في مستعمراتها، فحل السلطان عبدالعزيز، وقنصله العام في (جنوب أفريقيا)، الأزمة([7])، لا سيما عندما ناشد المسلمون بريطانيا عام 1855م لدعم نشاطهم التعليميِّ بتوفير دعاة ومعلِّمين أسوةً بغيرهم، وبوصفهم من دافعي الضَّرائب؛ فكان إرسال العالم الكوردي أبو بكر أفندي إلى (رأس الرَّجاء)، والذي قدم جهوداً ملموسة في المجال التّربويِّ والتَّعليمي، فقام ببناء بضع مدارس؛ من بينها مدرسة في مدينة (كيبْ تاوْن)، مخصَّصة للبنات في عام1870م، وكانت تحت إشراف إحدى زوجاته. وتلك كانت البداية الحقيقيَّة للمدارس الإسلاميَّة بمفهومها الحديث*.           
وقد أثارت هذه التطورات قلق أحد نواب برلمان مدينة الرأس السيد (دو روپ De Roubair الذي كان متعاطفاً مع مسلميها، فرأى أن الحل الوحيد لهذه المعضلة يكمن في استدعاء مرشد روحي مسلم إلى المدينة من خارج (جنوب أفريقيا). وقد تطابقت هذه الفكرة مع فحوى الرسالة التي قدمها أئمة المدينة في 15 أبريل/ نيسان عـام 1867م إلى النائب (دو روب)، يطلبون فيها بعث رجل دين مسلم إلى المدينة من بلد مسلم، كي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عند الحديث عن التجربة الديمقراطية في دولة (جنوب أفريقيا)، تثور في الذهن تساؤلات عديدة حول مدى نجاح هذه التجربة، وكيفية التحول الكبير من الاستعمار إلى الاستقلال، فعقب عقود عديدة من التفرقة العنصرية وما سبقها من الحقبة الاستعمارية، نجحت (جوهانسبرغ) في قطع مشوار طويل، لتجد لنفسها  أخيراً مكاناً مناسباً على متن قاطرة التقدم البشري، ولتقف على رأس دول القارة السمراء اقتصادياً. ولا أدل على إحساس العالم، ومؤسساته المالية، بالطفرة الاقتصادية التي حققتها دولة جنوب أفريقيا، من مطالبة صندوق النقد الدولي - لها ولغيرها من الأقطار ذات الاقتصاديات الواعدة - بزيادة حجم إسهاماتها المالية في الصندوق، لمواجهة التحديات الاقتصادية، وتفادي تكرار الأزمة العالمية، وهو ما يدل على نجاحها في إعادة ترسيم دورها وتحديد موقعها على خريطة العالم الاقتصادية. وقد انعكس هذا التقدم الاقتصادي في شكل تحول وتطور ونهضة في جميع المجالات، وارتفاع في احتياط النقد الأجنبي، وانخفاض في معدلات البطالة، وزيادة كبيرة في ميزان التبادل التجاري، وتقدم في مجال العدالة الاجتماعية والحياة الديمقراطية، التي يعكر صفوها هذه الأيام بعض المشاكل الآنية لعمال المناجم.

وبعد ثلاثين سنة من الصراع المسلح (1960 – 1990م)، الذي قاده حزب (المؤتمر الوطني الأفريقي) ضد نظام التمييز العنصري (الآبارتهيد)، دخلت البلاد مرحلة انتقال ديمقراطي سنة 1990م.

يعلمهم مبادئ الإسلام وتطبيقه في الحياة. وكان تبريرهم لهذا الطلب أن كل مراجعهم الإسلامية مدونة بـ(الجاوية)، وهي لغة حملها آباؤهم من أرخبيـل الملايو منـذ أوساط القرن السابع عشر، ولم تعـد متداولة في منطقة رأس الرجاء الصالح، بسبب نسيانها مع الزمن([8]).

وهكذا ولدت فكرة (استقدام مرشد ديني من الخارج)، وأضحت مطلباً لكل من الأئمة والنائب، على الـسواء، وفي هذا السياق اتصـل النائب بالحكومة البريطانية عام 1862م، التـي اتصلت بدورها بالعثمانيين لتحقيق تلك الفكرة.

وتجاوبا مع طلب ملكة بريطانيا فكتوريا(1837 – 1901م) حول طلب مرشد ديني لمسلمي مدينة الرأس (= كيب تاون الحالية) في جنوب أفريقيا، صدر مرسوم عثماني في 3 اكتوبر/ تشرين الاول عام 1862م بإرسال العلامة " أبوبكر أفندي" إلى رأ س الرجاء الصالح تلبية لطلب مسلميها على نفقة الحكومة العثمانية.

 هناك عدة أسباب جعلت البريطانيين يلجأون إلى الدولة العثمانية لمعالجة هذه القضية، منها:

1-   وجود علاقات ودية بين الطرفين نتيجة تحالفهما عام 1854م في (حرب القرم)، وتوقيته بعد انتهائها عام 1856م، والتوقيع على (معاهدة باريس). وقد التزم السلطان العثماني في المادة الرابعة من هذه المعاهدة بـتحسين أوضاع المسيحيين في جميع أنحاء امبراطوريته، مقابل هذا الالتزام العثماني أخذت الحكومة البريطانية على عاتقها - بشكل غير رسمي - الاهتمام برعاياهـا المسلمين، بمن فيهم القاطنين في مستعمراتها.

2-      كانت الدولة العثمانية في ذلك الوقت مركز الخلافة الإسلامية.

3-      سيطرة الدولة العثمانية آنذاك على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة.

4-      كون الدولة العثمانية أقوى دولة إسلامية في تلك الفترة.

5-      انقطاع الصلات بين مسلمي مدينة (الرأس)، وأصولهم في (أرخبيل الملايو).

وتعطي هذه الأسباب تفسيراً لعدم استعانة حكومة لندن بمرشد ديني من دول أو مناطق إسلامية أخرى، مثل (أرخبيل الملايـو)، المـوطن الأصلي لغالبية مسلمي مدينة الرأس، والغني بعلمائه، والخاضع انذاك للحكم الهولندي، أو من (الهند)، التي كانت في طور الخضوع للنفوذ البريطاني الكامل، بعد أن شهدت حضارة إسلامية عريقة([9]).

 وتجاوبا مع الحيثيات البريطانية المذكورة بالأعلى، صدر مرسوم عثماني في 3 اكتوبر/ تشرين الأول عام 1862م، بإرسال العلامة (أبو بكر أفندي) إلى (رأس الرجاء الصالح)، تلبية لطلب مسلميها، على نفقة الحكومة العثمانية.

وأبو بكر أفندي رجل دين وعلامة كوردي ضليع بالمذاهب السنية الأربعـة، ولـد عـام 1823م في منطقة (شهرزور)، الواقعة شرقيّ السليمانية بكردستان العراق. تلقى تعليمه الابتدائي في منطقتـه، ثـم تابع دراسته الدينية في اسطنبول وبغداد. وسنأتي على التعريف به مفصلاً فيما يأتي.

 

­­­­­­­­دور العلماء الكورد:

  لعب العلماء الكورد دور الوسيط الثقافي بين المتحدثين باللغات العربية والفارسية والتركية، كما لعب العلماء  والمتصوفة الكورد؛ من أمثال: إبراهيم الكوراني([10])، ومولانا خالد النقشبندي، ومحمد أمين الكوردي([11])، وسعيد النورسي، دوراً ريادياً في نشر أفكار الصوفية، التي تجاوزوا بها الحدود اللغوية بين الهند وإيران وتركيا والعالم العربي. ربما كانت العلامة الفارقة الأوضح، عن أولئك المتصوفة المعروفين جيداً، هي الوساطة الثقافية الفذة التي أداها العلامة الكوردي أبو بكر أفندي.

 انحدر هذا العالم الجليل من كوردستان الجنوبية، واستقر به المطاف في (جنوب افريقيا) عام 1863م، وألف كتاباً قيماً في الإرشاد الديني في الإسلام، كتبه باللهجة الهولندية المحلية لشعب الملايو، وقد استهدف الكتاب المجتمع المسلم في (جنوب أفريقيا).

وصل هذا العالم، مدينة (كيب تاون) في سنة 1863م، مبعوثاً من السلطان العثماني عبد العزيز، بهدف تعليم الفقه والشريعة الإسلاميتين، وفض بعض النزاعات الدينية التي قسمت المجتمع. وقد دأب على تدريس اللغة العربية، مثلما تعلم اللغة المحلية المعروفة بالأفريقانية (الأفريكانز)، وهي لهجة محلية هولندية. فيما كانت أبرز أعماله تأليفه لكتاب (بيان الدين Bayan al-din)، الذي كتبه باللغة الأفريقانية، ولإيصال رسالته كتبه بالأبجدية الفارسية العربية.

درس أبو بکر أفنـدي في إحـدی مـدارس مدينة (أرضروم Erzurum)، بعد أن هاجر إليها مع عشيرته، إثر تعرض (شهرزور) والمناطق المجاورة لها لغزو من قبل البدو.

وكان الملا أبو بكر الأفندي قد درس في المدرسة التي أسسها في الأصل أبو نصر الأمير سليمان القرشي الأمجدي (حوالي 1060 – 1134م) لمن يرغب في التعلم. ولا يُعرف الكثير عن أبي نصر الأمير سليمان من وثائق أبو بكر الشخصية. ومع ذلك، فهو معاصر لسليمان غازي، مؤسس الإمبراطورية العثمانية وسلطان الروم، الذي عاش في أوقات مماثلة.

وفي أواخر أيام حكم السلطان عبـد المجيد الأول(1839 – 1861م) قدم أبو بكر أفنـدي إلى (اسطنبول)، لطلـب العـون مـنـه، للمساعدة في التغلب على المجاعة التي تفشت في منطقة (أرضروم). وبينما كان هناك علمت الحكومة العثمانية بموضـوع طلب المرشـد الديني لمسلمي (رأس الرجاء الصالح)، فوقع الاختيار عليـه، بسـبب معرفتـه العميقـة بـالعلوم الإسلامية للمذاهب السنية الأربع: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، بالإضافة إلى حكمته اللافتـة وذكائه المميز، فطلب منه السلطان عبدالعزيز الذهاب، وقبـل الطلـب، فـشـد الرحال إلى (رأس الرجاء الصالح).

وقد توجـه أبـو بـكر أفنـدي، ومساعده: عمر لطفـي أفنـدي([12])، مـن اسطنبول إلى جنوب أفريقيا، عبر فرنسا وبريطانيا، فأبحرا من ميناء ليفربول Liverpool البريطاني، في الثالـث مـن ديسمبر/ كانون الأول عـام 1862م، وبعد 44 يوماً وصلا إلى مدينة الرأس ( = مدينة كيب تاون الحالية).

اختلف المؤرخون في موضوع علـم مسلمي مدينـة الرأس المسبق بوصول أبي بكر أفندي ومساعده إلى مدينتهم، فيذكر كل من (Mahida) و (Davids) أن إحدى الروايات تفيد أن مسلمي مدينة الرأس علموا بذلك بعـد مرور يومين مـن وصـولهما، وعندئذ أرسلوا وفـداً لاستقبالهما؛ مؤلفاً من وجهائهم، بالإضافة إلى أئمة وحجاج المدينة، وقد أخذت حينها صورة تذكارية لهذه المناسبة، وهي محفوظة في متحف التاريخ الثقافي لجنوب أفريقيا (South African Cultural History Museith  ) في مدينة (الرأس). أما عمر لطفي أفندي، فقد ذكر في محاضراتـه عـن هـذه الرحلة، التي نشرت باللغة الإنجليزية عام 1991م، أن مجموعة من الأئمة والحجاج في مدينة الرأس كانوا على علـم بتـاريخ الوصـول، وكانوا في استقبالهما حين وصلا إلى مرفأ المدينة (وفقاً لرحلة عمر لطفي أفندي، الذي رافق أبا بكر بحراً، ثم عاد في سن متأخرة إلى تركيا، حيث لا يزال أحفاده يقيمون. ترجم كتاب سفره الباحث الإسلامي التركي الأمريكي (يوسف كافاكجي) من التركية العثمانية إلى الإنكليزية).

وقد اتهم بعض مسلمي مدينة الرأس أبو بكر أفندي بنشر المذهب الحنفي، بدعم من الدولة العثمانية، مكان المذهب الشافعي السائد بينهم.

فحل نزاعات المساجد كان يتم - بنظر البعض - حسب المذهب الحنفي، كما سرت أقاويل أن المدرسة العثمانية التي أسسها أبو بكر أفندي كانت تنشر المذهب الحنفـي تحـت غطاء المذهب الشافعي، واعتبر عدد من سكان مدينة الرأس الذين يتبعون المذهب الشافعي، أن کتاب (بيان الدين) الذي وضعة أبـو بـكر أفنـدي، هو وسيلة لبـث تعاليم المذهب الحنفي. وحتى تحريمه لأكل الجراد البحري، والسرطان، كان - من وجهة نظر البعض - مظهراً من مظاهر الفتاوى الحنفية([13]).

وقد وصلت درجة الاستياء مـن أفكـار أبـو بـكر أفنـدي إلى حد تقدیم شکوی ضده عبر إرسال وفد إلى مكة واسطنبول، كـمـا قـام بعض مسلمي مدينـة الرأس بتقديم عريضة إلى الحاكم البريطاني يطالبون فيها بترحيل أبو بكر عن مدينتهم، وغالى البعض في تعصبهم للمذهب الشافعي فرفضوا تزويج بناتهم لرجال أحناف.

وفي عام 1881م تم إنشاء أول مسجد حنفي في مدينة الرأس، كما تم حل قضية الخلاف الشافعي الحنفي كليـاً بعد تأسيـس مجلس القضاء الإسلامي عام 1945م.

وأبو بكر أفندي رجل دين وعلامة كوردي ضليع بالمذاهب السنية الأربعـة، ولـد عـام 1823م في منطقة شهرزور الواقعة شرقيّ مدينة السليمانية بكوردستان العراق. تلقى تعليمه الابتدائي في منطقتـه، ثـم تابع دراسته الدينية في اسطنبول وبغداد،  قتل والده الملا عمر البغدادي، الوالي عثماني، على أيدي رجال القبائل المحليين الثائرين ضد السلطة.

ويذكر أحـد المراجـع أن نسل أبو بكر أفندي يعود إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بينما ينفي مرجع آخر أي صلة لنسله بقبيلة قريش، وهناك مرجع ثالث يجمع بين الرأيين فيفيـد أن أبـو بـكر أفنـدي هـو مـن أسرة أرستقراطية من قريش استقرت في كوردستان ولا يعطـي هـذا المرجع أي إشارة إلى الأصل الكوردي لهذه الأسرة.

 ويبدو أن رأي المرجع الثاني هو أكثر قبولاً لأنه من المستحيل أن يكون شخص من العرق الكوردي الآري مثل أبو بكر أفندي متصـل سـلالياً بالنبي محمـد (صلى الله عليه وسلم) السامي العربي الهاشمي،

أمـا رأي المرجع الثالث فهو ضعيف لعدم استناد صاحبه لأي قرينة تثبت ذلك. وبخصوص كلمـة (أفندي)، فهي لقب عثماني وتعني السيد، ولا صلة لهـا باسم العائلة أو الكنية.

وجاء التعريف به في أحد المصادر التركية كما يلي: "البحر المحقق، والحبر المدقق، شيخ العلم، ومفتي الأربعة الأئمة، مأمور الدولة العثمانية إلى جنوب أفريقيا لنشر العلوم الدينية والمعارف الربانية في سنة1318، مولانا  أبوبكر الخشناوي ابن ملا عمر بيك ابن مولانا صلاح الدين ابن مصطفى بيك ابن مولانا بابا بير سليمان ابن ملا مصطفى ابن ملا إبراهيم ابن مولانا أمير سليمان ابن مولانا أمير محمد ابن مولانا عضدالدين عبدالله أبي زيد ابن مولانا الحبر الكامل مقتدى الأماجد والأوائل ذي الجاه عزالدين محمد الفضل - قدس سره - ابن أمير عبدالله ابن زين الدين ملا أحمد ابن عبدالحق سليمان الخشناوي ابن مولانا أبو المحسن ملا عثمان حامد ابن أبو نصر الأمير سليمان الغازي القرشي الأمجدي".

وتجدر الإشارة أنّ الوثائق العثمانية تؤكد ابتعاث عالم الدين أبو بكر أفندي إلى رأس الرجاء الصالح (جنوب غرب دولة جنوب أفريقيا)، من أجل حلّ القضايا الفقهية للمسلمين القاطنين فيها عام 1863م، وذلك في زمن السلطان العثماني عبد العزيز الأول.

وبقي أبو بكر أفندي في مهمته 17 عاماً من أجل توضيح التعاليم الإسلامية الصحيحة، وحلّ الخلافات الفقهية للمسلمين فيها. وتوفي بمرض الملاريا في 29 أغسطس/آب 1880 في مدينة (كيب تاون) (ثالث أكبر مدن أفريقيا الجنوبية)، وكان على وشك زيارة (موزمبيق)، ليترك وراء ظهره إرثاً كبيراً من المساجد والمدارس التي بناها، إلى جانب تعاليمه الدينية التي حفظها عنه طلابه. كما أنه قدم العديد من المساهمات الرئيسية للإسلام في جنوب أفريقيا. قدم الطربوش للرجال، وكذلك إعادة الحجاب للمرأة، والأهم من ذلك، بالإضافة إلى دوره كمدرس، قام أيضًا بنشر اللغة العربية الأفريكانية.

وما زال بالإمكان استشعار تراث وأثر (أبو بكر أفندي) بعد أكثر من 150 عامًا، من خلال كتاباته، وكذلك روايات وأنشطة أحفاده الذين عاشوا في هذا البلد 5 أجيال، حسبما أكد العالم التركي في جامعة (كيب تاون).

أما أبناؤه وأحفاده، فهم يمارسون شعائرهم وفق المذهب الحنفي. وتوفي الأفندي أبو بكر بعد إصابته بمرض الملاريا في 23 اغسطس/ آب عام1880م، أثناء سفره إلى (موزمبيق).

نشأ العديد من أحفاد أبو بكر أفندي من زواجه من (طهورة سابان كوك)، التي تزوجها بعد التخلي عن الزوجة الأولى ( رُقية ميكر).

تزوج الأفندي من ثلاثة نساء، وهن: رقية، طهورة، فهيمة، وخلّف عدداً من الأولاد، هم كل من: أحمد عطاء الله، هشام نعمة الله، محمد علاء الدين، عمر جلال الدين، حسين فوزي، أما ابنته فهيمة فكانت أكبر أبنائه من زواجه من رقية.

تستمر الأسرة في الإقامة في جنوب أفريقيا، مع عودة البعض إلى تركيا، وهاجر البعض إلى أستراليا. واصل بعض أبناء أبو بكر خطاه في الخدمة في كل مكان، مع ابن واحد، أحمد عطاء الله ، الذي انخرط في سياسة كيب. وأصبح عضوًا في لجنة المقبرة، لأن المقبرة التي يقع فيها قبر والده كانت مهددة بالإغلاق من قبل إدارة مدينة (كيب تاون)، كما أنه قد ترشح لعضوية البرلمان عن مدينة (كيب تاون)، لكنه لم يحالفه الحظ في الحصول على الأصوات المطلوبة، بسبب تغيير في نظام الأصوات التراكمية،  الذي تم تعديله خصيصًا لإبقائه خارج المجلس التشريعي. كما خدم البعض من أبنائه وأحفاده في الجيش العثماني، وقاتلوا في الحجاز ضد الانتفاضة التي قادها شريف مكة (الحسين بن علي) سنة 1916م، بدعم من الإنكليز لإخراج العثمانيين من الديار المقدسة، التي سماها المؤرخون العرب بالثورة العربية الكبرى.

 

واستقر نجل أبوبكر أفندي( أحمد عطاء الله) في (سنغافورة)، وأصبح نائباً للقنصل العثماني فيها إلى أن توفاه الله، ودفن هناك، وقبره معروف.

ومن جانب آخر، فإن صعاباً كبيرة كانت تنتاب حياة عالمنا الكوردي الجليل في تلك الحقبة، فكان هناك صراع بين شعب ملايو في مدينة (كيب تاون)، وأطرافها، والمستعمرين الأوروبيين من الهولنديين والغنكليز، أي البيض. ومن الواضح أن مسلمي كيب مالاي قد عانوا وفقدوا بعض هويتهم الدينية نتيجة ترحيلهم من قبل الهولنديين من بلدانهم الأصلية في جنوب الهند وجنوب شرق آسيا البحرية. وتتحدث الوثائق التاريخية عن تأثير الملا أبوبكر أفندي في إدخال الحجاب الإسلامي والطربوش، على مسلمي (الرأس)، بالرغم من قدوم العديد من علماء الإسلام الآخرين إلى (جنوب أفريقيا)(**).

كما حاول كسر (النظام الديني)، الذي كان موجودًا في (كيب مسلم)، حيث كان يسمح

فقط لأولئك المرتبطين بالإمام السابق بأن يقفوا في الصف خلف الإمام، ويمتلكوا المعرفة لأنفسهم ويمارسوا السلطة على عامة الناس. وعلى مر السنين، تطور نظام (رجال الدين) في كيب مسلم مع الأئمة الذين يتمتعون بسلطة ملموسة.

إن مكانة الأئمة، إلى جانب الأمن الاقتصادي والازدهار في كثير من الحالات، كان بسبب التبرعات المالية السخية والهبات من قبل المصلين، بين عامي 1866 و 1900م، وتم الاستماع إلى أكثر من عشرين قضية تتعلق بمسجد في شبه جزيرة كيب، في المحكمة العليا، فيما يتعلق بمناصب الأئمة وخلافتهم. عملياً كل مسجد في (كيب)، في القرن التاسع عشر، واجه هذه المشكلة. كان هذا من شأنه أن يلقي به في مزيد من الخلاف مع سكان (كيب مالاوي). تضمنت ممارساتهم أيضًا ممارسات الملايو التقليدية والقبلية الشعبية غير الإسلامية، التي نشأت من منازل أجدادهم في الجزر الأندونيسية والماليزية، ولا تزال بعض هذه الممارسات موجودة في (أندونيسيا)، حيث يمارس بعض السكان الإسلام بشكل عام بصورة شعبية استناداً إلى ميراثهم قبل الإسلام، منها ممارسة عبادة الروح. وقد استطاع الملا أفندي جاهداً الحد من هذه الممارسات الشعبية التي تقترب من الوثنية، وإدخال الإسلام الصحيح (إسلام التوحيد الخالص) بين أفراد شعب المالاوي، كما أن شعب الملايو على الرغم من تمسكهم بتراثهم الإسلامي لم يتمكنوا من نطق الكلمات والنصوص العربية بشكل صحيح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(**) ينحدر مجتمع الملايو من العناصر الثائرة وغير المرغوبة من قبل المستعمر الهولندي، في جزر شرق الهند، والذين جرى إبعادهم من قبل السلطات الهولندية في القرن السابع عشر، وكذلك من المستوطنين الذين جلبوا إلى هناك كعبيد. وكان المجتمع قد فقد لغته الوطنية الملاوية تدريجياً، مثلما فقدت كل لغات جنوب شرق آسيا هناك، واعتمدت بدلها لغة المستعمر. لقد كانت أكثر الشخصيات المنفية المعروفة آنذاك الشيخ يوسف، من (ماكاسار)، وهو أستاذ علیم وباحث في الصوفية، ناضل مع رفاقه المناهضين للوجود الهولندي في سلطنة (بانتين)، في (جاوة الغربية)، عام 1682م، مما حدا بالهولنديين إلى نفيه إلى (جزيرة سيلان)، ومن ثم إلى (رأس الرجاء الصالح). وعلى الرغم من أن رفاته أعيد لاحقاً إلى موطنه الأصلي في جنوب (سيليفس)، بناء على طلب العائلة المالكة في (جووا)، فإن ضريحه ما زال معلماً مهماً للمجتمع الملاوي المحلي.

أحد الأسباب الرئيسية لعدم شعبية أبو بكر هو إعلانه أن (سرطان البحر) (= الاستاكوزا، أو أمُّ الربيان)([14]) - وهو عنصر أساسي في غذاء مسلمي الرأس - حرام وفق المذهب الحنفي السائد، تبعاً لمجلة الأحكام العدلية([15])، بينما هو حلال حسب المذهب الشافعي، مما أدى إلى ردة فعل من قبل مسلمي الملايو، الذين يمارسون شعائرهم الإسلامية وفق المذهب الشافعي. لذا تم رفع القضية إلى المحكمة من قبل (crayfish - جماعة جراد البحر)، في عام 1863م، حيث حكم القاضي البريطاني (هيل) لصالح جماعة جراد البحر وضد أبي بكر([16]). بعد ذلك قدم بعض المسلمين التماسًا لإبعاده عن الرأس( = كيب تاون)([17]). وقد وصلت درجة الاستياء مـن أفكـار أبـو بـكر أفنـدي إلى حد تقدیم شکوی ضده عبر إرسال وفد إلى مكة واسطنبول. كـمـا قـام بعض مسلمي مدينـة الرأس بتقديم عريضة إلى الحاكم البريطاني، يطالبون فيها بترحيل أبو بكر عن مدينتهم، وغالى البعض في تعصبهم للمذهب الشافعي فرفضوا تزويج بناتهم لرجال أحناف.

لذلك غادر الملا الافندي مقر إقامته في (كيب تاون)، وانتقل على بعد 12 كم إلى (نيولاندز)، إلى منزل واسع في منطقة (ستوني بليس). وما يبدو أن أبا بكر كان شافعياً، ولكنه كان يتبع المذهب الحنفي في إصدار الفتاوى، وأقسم في المحكمة العليا عام 1869م، عندما كان الشاهد الرئيسي في القضية المتعلقة بخلافة إمام مسجد شارع بويتنغراخت، أنه كان دائمًا شافعيًا، لكن لأنه استخدم نصوص الفقه الحنفي، شكك الكثيرون من المسلمين الذين يتبعون المذهب الشافعي في كلمته، فضلاً أن تدريسه للطلاب، وكتابة كتابه (بيان الدين)، هو وفق المذهب الحنفي؛ المذهب الرسمي للدولة العثمانية. ومن كل ذلك، ومن تصريحاته التي أدلى بها في المحكمة، فإنه من الصعوبة ربطه بمدرسة دون أخرى. كان لقبه في الأصل (مفتي المدارس الأربع)، لذا يمكن للمرء أن يجادل بأنه كان ملماً بفقه كل من المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي على حدٍ سواء.

حاول أبوبكر أفندي استخدام اللغة المحلية (الأفريقانية –الأفريكانية)، ثم شرع في تجميع كتاب (بيان الدين)، الذي تم طبعه من قبل وزارة التعليم التركية في استنبول، وهي جزء مثير للاهتمام وهام من تاريخ (جنوب أفريقيا)، وهو بمثابة مرجع قيم لاستخدام اللغة الأفريكانية خلال تلك الحقبة في الأحياء الإسلامية في (كيب تاون). إنه يعطي نظرة ثاقبة حول استخدام اللغة الأفريكانية في ما يسمى بإحياء (سلام) (عامية للإسلام) في (كيب تاون)، في تلك الفترة. إنه مهم أيضًا، نظرًا لأن هذا المجتمع لم يكن له إلمام باللغة الهولندية كلغة أمّ، وبالتالي لم يتأثر - في الغالب - بقواعد الإملاء. على هذا النحو، كان هذا أول كتاب كبير يُكتب وينشر باللغة الأفريكانية، على الرغم من كتابته بخط عربي معدل، حيث تُستخدم علامات التشكيل للإشارة إلى نطق اللغة الأفريكانية. الكتاب، الذي يبلغ مجموع صفحاته 254 صفحة، يبدو أنه يتبع مدرسة الفقه الحنفي. تم تقسيمه إلى ثمانية أجزاء، كل منها يتناول جزءاً معيناً من الشريعة الإسلامية: كتاب الطهارة (ص 2 - 66)، كتاب الصلاة (ص 66 - 219)،  كتاب الصيام (ص 258 – 284)، كتاب الزكاة (ص 219-258)، كتاب الذبح والتذكية (ص 284-302)،  كتاب المنهيات (ص 302 - 344)، كتاب المشروبات (ص 344-349)، كتاب الصيد (ص 349-354).

وتجدر الإشارة إلى أن المستشرق والباحث الهولندي (أدريانوس فان سيلماس Adrianus van Selms) نشر لأول مرة ترجمة صوتية في النص اللاتيني لعمل أبي بكر أفندي (بيان الدين) في عام 1979م، منذ أن قدم العمل الأصلي اللغة الأفريكانية المحكية دون استخدام أحرف العلة عام 1869م.  وكانت مهمة (أدريانوس فان سيلمز) الشاقة، هي فك رموز الكلمات الأفريكانية المارة الذكر، حيث تمكن أبو بكر أفندي من ابتكار أحرفً عربية جديدة للعديد من الأحرف الأفريكانية غير الموجودة في الأبجدية العربية. والمثير للاهتمام هو أن هذه الحروف المبتكرة يجب أن تكون فريدة من نوعها، ومع ذلك لا يزال من الممكن التعرف عليها من قبل السكان الذين تعلموا بالفعل اللغة العربية التقليدية. نظرًا لأن هذا كان تعديلًا محليًا للغة، تم استخدامه فقط بين مجتمع كيب تاون المسلم، فقد ثبت أنه غير مقروء لمن هم على دراية باللغة العربية التقليدية([18]).

وقد عـاد بعـض مـن أفراد ذريته إلى تركيـا، وهـاجر آخرون إلى كندا وأسترالیا ونیوزیلاندا. ومـا زالـت كـنـيـة (أفندي) تشير حتى الآن إلى اسم عائلة معروفة في (جنوب أفريقيا).

ومن جهته، يعترف المستشرق الهولندي بخصوص تأثير العلماء الكورد: "لقد وجدتُ نفسـي أهتم كثيراً بالطرق الصوفية في كوردستان، وأدوارها السياسية، ووجدت الطرق الصوفية ذاتها في (أندونيسيا). إضافة إلى ذلك، وجدتُ تأثيراً كوردياً غير مباشر على الإسلام في (أندونيسيا)، وخاصة بما يخص التصوف، رغم أنه  لم يذهب  أي كوردي إلى هناك. كان الأندونيسيون والكورد يلتقون في مكة والمدينة. في الماضي كان الكثير من الأندونيسيين يدرسون على يد مدّرسين أكراد، والأندونيسيون يربطون الكورد بالإسلام. ويطلقون الآن اسم (كوردي) على الرجال في العائلات التقية".

وأحفاد العالم الكوردي العثماني أبو بكر أفندي، الذي أرسل إلى جنوب أفريقيا في عام 1863 لتعليم الدين الإسلامي،  يفتخرون اليوم بتعريفهم على أنهم أحفاد العالم أبو بكر أفندي، وبهويتهم التركية (= نسوا هويتهم الكوردية)، التي اجتمعوا بها أخيراً.

ساهم أبو بكر أفندي في نشر تعاليم الدين الإسلامي بين شعب أفريقيا الجنوبية طوال 18 عاماً، أمضاها هناك منذ 16 كانون الثاني/ يناير 1863، لكن إرثه وإسهامه للمسلمين الأفارقة طواه النسيان بعد مرور هذا الوقت الطويل، كما نسيت آثار الدولة العثمانية. وعُثِرَ على الأحفاد بمساعدة أحد المؤرخين، وهم يقيمون الآن في (اسطنبول)، بعد تعرفهم على جذورهم.

صورة تجمع الملا أبوبكر أفندي الكُردي مع طلاب أول مدرسة دينية أنشأها في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا

عبر أحد الأحفاد، ويدعى أحمد كمال عطا الله، عن فخره بأنه حفيد من الجيل الثالث لأبي بكر أفندي، قائلاً: "تم إرسال جدي أبو بكر أفندي، إلى (جنوب أفريقيا) بناءً على طلب الملكة (فيكتوريا) المساعدة من السلطان، الذي قام بدوره بتنظيم المسلمين في منطقة (رأس الرجاء الصالح)، كما قام بتعليمهم تعاليم الدين الإسلامي. ويشرفني أن أكون من نسله، ومن أحفاده".

وقال (روشتو غوفان عطاء الله)، الحفيد من الجيل الرابع لأبو بكر أفندي: "انتقل جدي إلى سنغافورة كسفير للدولة العثمانية، وتوفي بعد فترة وجيزة في عام 1880م. وكان جدي (شوكرو)، من أحد أبنائه الأربعة، يتقن سبع لغات، كما كان الطيار الأول في جنوب أفريقيا، وقد شارك في الحرب العالمية الأولى باسم الدولة العثمانية، ثم شارك في معركة كوت العمارة".

واصل أبناء أبو بكر أفندي: أحمد عطاء الله، وحسام نعمة الله أفندي، بعد وفاة والدهم، خدماتهم التعليمية بالمدرسة العثمانية التي افتتحها أحمد عطاء الله أفندي في مدينة (كيمبرلي)، والتي أدت دوراً مهماً لشباب المجتمع الإسلامي، إلى جانب أنشطته في مدرسة علم الكلام الإسلامي التي افتتحها في مدينة (بورت إليزابيث). كما قام شقيقه هشام نعمة الله أفندي بالتبرع، وبجمع تبرعات لمشروع سكة حديد الحجاز، وشارك أيضاً بعقد عدة اجتماعات مع الزعيم الهندوسي الأسطوري (مهاتما غاندي) في مدينتي (دوربان) و(ناتال)، ضد السياسات العنصرية في (جنوب أفريقيا)، مما أثر على حياته.

يعد الدكتور محمد شوكرو، أحد أحفاد أبو بكر أفندي، وقد ولد في منطقة (بوكاب) (منطقة تجمع المسلمين) في مدينة (كيب تاون) عام 1915م. تخرج من كلية الطب في (جامعة كيب تاون) عام 1942م،  وتم تسجيله في التاريخ كأول طبيب مسلم في جنوب أفريقيا، وتوفي في سن مبكر بسبب مرض السل.

وعلى الرغم من اندثار آثار العثمانيين في (جنوب أفريقيا) مع نظام التمييز العنصري القائم على التمييز العرقي، فإن شوق أحفاد أبو بكر أفندي لحظة اجتماعهم بأصولهم وهويتهم الأصلية هو أمر ظاهر.

يفخر كمال عطاء الله بأنه حفيد العالم العثماني أبو بكر أفندي، بقوله: "لقد ولدت في بداية نظام التمييز العنصري عام 1941، وكنت مواطناً من الدرجة الثانية لأنني مسلم، كما لم يتم ذكر تاريخ جنوب أفريقيا الإسلامي في تلك الفترة، فقد كان الإسلام ديناً من الدرجة الثانية، أما الآن تغير كل شيء بإتمامنا حلقات المغامرة التي بدأت قبل 160 عاماً".

يتابع كمال عطاء الله: "نحن آخر العثمانيين الذين عاشوا في جنوب أفريقيا، ولم نكن نعرف من نحن؟ أما اليوم، فقد تعرفنا على أصولنا وهويتنا التي فقدناها لفترة من الزمن، نريد أن نمتلك هويتنا التركية من جديد، والحمد لله صرنا أتراكاً من جديد".




[1] - احتلّ البريطانيون المستعمرة في عام 1795، بعد (معركة مويزنبيرغ)، في ما يُعرف في يومنا هذا بـ(كيب تاون). وأعادت بريطانيا المستعمرة إلى الهولنديين في 1مارس / آذار عام1803م، بموجب شروط (معاهدة أميان) عام 1802م. لكن بما أن الجمهورية الباتافية أمّمت منذ ذلك الحين الشركة الهندية الشرقية الهولندية عام1796م، باتت المستعمرة تحت الحكم المباشر للاهاي. إلا أن السيطرة الهولندية لم تدم طويلًا، إذ أبطل اندلاع الحروب النابليونية في18 مايو/ أيار عام 1803م سلام أميان. في يناير/ كانون الثاني عام 1806م، احتل البريطانيون المستعمرة لمرة ثانية بعد (معركة بلاوبيرغ)، في ما يُعرف اليوم ببلاوبيرغشتراند. أكدت المعاهدة الإنجليزية الهولندية لعام 1814م انتقال السيطرة إلى بريطانيا العظمى. ومع ذلك بقي معظم المستوطنين الهولنديين في المستعمرة تحت القيادة الجديدة للبريطانيين.

[2] - كانت مستعمرة كيب بالهولندية  Kaapkolonie مستعمرةً لشركة الهند الشرقية الهولندية في منطقة أفريقيا الجنوبية، تمركزت في (رأس الرجاء الصالح) الذي استمدت اسمها منه. احتلت المستعمرة ودولها المتعاقبة التي دُمجت فيها المستعمرة جزءًا كبيرًا من جنوب أفريقيا الحديثة. كانت بين عامي 1652 و1691م  تحت إمرة شركة الهند الشرقية الهولندية، وبين عامي 1691 و1795م محافظةً لها. أسّس (يان فان ريبيك) المستعمرة بهدف إعادة التزويد، وكميناء توقّف لسفن تجارة شركة الهند الشرقية الهولندية مع آسيا. أصبحت (كيب) تحت الحكم الهولندي منذ عام 1652م حتى عام 1795، ومجددًا منذ عام 1803 حتى عام 1806م. وتحولت المستعمرة بسرعة إلى مستعمرة استيطانية في السنوات التي تلت إقامتها، الأمر الذي أثار فزع المساهمين في شركة الهند الشرقية الهولندية، الذين ركزوا بصورة رئيسية على جني الأرباح من التجارة الآسيوية. وكانت المستوطنة مكان تقاعد مثالي لموظفي الشركة، لكونها المستوطنة الوحيدة الدائمة لشركة الهند الشرقية الهولندية التي لم تَقم بدور ميناء تجارة. بعد عدة سنين من الخدمة في الشركة، كان بإمكان الموظف استئجار قطعة أرض في المستعمرة بصفته اين فرايبورغر أي (مواطن حر)، ووجب عليه زراعة المحاصيل التي تَرتَّب عليه بيعها لشركة الهند الشرقية الهولندية مقابل سعر ثابت. ولما كانت هذه المزارع بحاجة لعمالة مكثفة، استورد الفرايبورغر العبيد من (مدغشقر) و(موزمبيق) و(آسيا)، الذين زادوا بسرعة من عدد السكان. بعد إبطال الملك لويس الرابع عشر لـ(مرسوم فونتينبلو)، في أكتوبر / تشرين الأول عام1685م، الذي حمى حق (الهوغونتيين) في (فرنسا) في ممارسة العبادة البروتستانتية دون اضطهاد من الدولة، جذبت المستعمرة العديد من المستوطنين الهوغونتيين، الذين اندمجوا في النهاية مع عامة السكان الفرايبورغريين.

[3] - الأفريقان أو الأفريكان هم الجنوب أفريقيين البيض، وهم شعوب أوروبية مختلطة استوطنت جنوب أفريقيا، يبلغون حوالي 7% من سكان جنوب أفريقيا. والكلمة مشتقة من معنى أفريقي باللغة الهولندية. يتحدث الأفريكان اللغة الأفريكانية، وهي لغة مشتقة من اللغة الهولندية، وتأثرت بالإنجليزية وكثير من اللغات الأخرى. و كان تجار شركة الهند الشرقية الهولندية (في أو سي)، بقيادة (يان فان ريبيك)، أول شعب يقيم مستعمرةً أوروبية في (جنوب أفريقيا). بُنيت مستوطنة (كيب) من قِبلهم عام 1652م، كنقطة إعادة تزويد، وكمحطة متوسطة، ذهابًا وإيابًا، لسفن شركة الهندية الشرقية الهولندية، بين هولندا وباتافيا (جاكرتا) في الهند الشرقية الهولندية(= أندونيسيا الحالية). باتت محطة الدعم بصورة تدريجية لجماعة استيطانية، هم أسلاف البوير، وهناك جماعة إثنية في جنوب أفريقيا تُعرف أيضًا بالأفريقان.

[4]- الهند الشرقية الهولندية: هي المستعمرة الهولندية سابقاً في شرق آسيا، والتي أصبحت تعرف حالياً، بعد استقلالها، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية، بـ(أندونيسيا)، وتكوّنت من المستعمرات المؤممة لشركة الهند الشرقية الهولندية، والتي وقعت تحت حكم الحكومة الهولندية في العام1800. وخلال القرن التاسع عشر، توسّعت الهيمنة الهولندية ومستعمراتها، ووصلت أعظم حدّ للسيطرة في بداية القرن العشرين.كانت هذه المستعمرة من أكثر المستعمرات الأوروبية قيمةً تحت حُكم الإمبراطورية الهولندية، وأسهمت في بسط نفوذ هولندا على تجارة التوابل والمحاصيل النقدية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. بُني النظام الاجتماعي الاستعماري على هيكلية عِرقيّة واجتماعية صارمة، شهدت توطّن النخبة الهولندية الحاكمة منفصلةً عن مناطق السكان الأصليين من رعاياهم، ولكن بقوا على تواصلٍ معهم. بعد العام 1800، بدأ استعمال الاسم (أندونيسيا)، ليشير إلى تلك المنطقة الجغرافية. في بداية القرن العشرين، راح المفكرون المحليّون يطوّرون مفهوم (أندونيسيا) كدولة أمّة، واضعين بذلك لبِنة أساسية في مرحلة السعي نحو الاستقلال. فكّك الاحتلال الياباني للهند الشرقية الهولندية، خلال الحرب العالمية الثانية، الحكمَ الاستعماري والاقتصادي الهولندي في تلك المنطقة. وبعد استسلام اليابان في أغسطس 1945، أعلن الوطنيون الأندونيسيون الاستقلال، والذي دافعوا عنه بخوضهم الثورة الوطنية الأندونيسية. في مؤتمر الطاولة المستديرة الهولندي الأندونيسـي، في العام 1949، اعترفت هولندا رسمياً بسيادة أندونيسيا، باستثناء (غينيا الجديدة) الهولندية (غرب غينيا الجديدة)، والتي انفصلت عن إندونيسيا بعد 14 عاماً، في العام 1963، طبقاً لأحكام (اتفاقية نيويورك).

[5] -أحمد زكريا، جنوب أفريقيا والدولة العثمانية. عقود من التبعية الروحية، في 23/12/2018م، https://www.noonpost.com/content/25950

[6] - المرجع نفسه.

[7] - المرجع نفسه.

[8] - محمد صادق إسماعيل، تجربة جنوب أفريقيا: نيلسون مانديلا والمصالحة الوطنية، ص37.

[9] - محمد صادق إسماعيل، تجربة جنوب أفريقيا: نيلسون مانديلا والمصالحة الوطنية، المرجع السابق، ص38.

[10]-  إبراهيم الكوراني: الشيخ إبراهيم بن شهاب الدين حسن الشهرزورى الشهراني الكوراني الكوردي الشافعي، نزيل المدينة المنورة، قال الشيخ مصطفى الحموي: هو محقق العلوم على اختلاف أنواعها، ومقيد شواردها، ومؤهل أطلال المعارف بعد إقواء رباعها، نادرة الأعصار، وعديم الشكل في سائر الأمصار، حامل لواء الشريعة والحقيقة، وغائص بحار الأنظار الدقيقة، أظهر نوعاً من المعارف لا يدرك أهل زمانه جنسه، فصار ملة واحدة، وطريقة منزهة من كل خسة، فهو إمام الأمة، وحبر الملة، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، فقيه الصوفية، وصوفي الفقهاء، وعالم الصلحاء، وصالح العلماء، وارث علوم الأولياء، ووارد موارد الأصفياء. ولد في شوال سنة 1025هـ / 1615م ببلاد (شهران)، من جبال الكورد  (= كوردستان الشرقية – إيران)، ونشأ في عفة وصيانة وديانة، وأخذ في طلب العلم ببلاده على مشايخ قطره، وفاز منه بالحظ الأوفى، وقرأ التفسير على المنلا محمد بن شريف الكوراني الصديقي، وما ترك شيئاً من العلوم إلا وحققه في بلاده، إلا علمي التصوف والحديث، ففي بلاد العرب. وخرج بعد وفاة والده قاصداً لأداء الفريضة، وسنة الزيارة، فمرّ على (بغداد)، فأقام بها قدر عامين. توفي في المدينة المنورة عام1101هـ/ 1690م. ينظر: نعمان بن محمود بن عبد الله، أبو البركات خير الدين، الآلوسي، جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، قدم له: علي السيد صبح المدني، مطبعة المدني، 1401هـ/1981م، ج1، ص54. 

[11] - محمد أمين الكوردي: هو نجم الدين محمد أمين الكوردي النقشبندي ابن فتح الله زاده الإربلي البغدادي. ولد في أربيل بإيالة شهرزور العثمانية، ونشأ بها. تلقى علومه على علماء بلده، وأخذ الطريقة النقشبندية عن عمر بن عثمان  الطويلي الكوردي. ثم ذهب إلى مكة للحج، وتفرغ للعبادة فيها. ثم قصد المدينة المنورة، وانتسب إلى المدرسة المحمودية، بعد أن تعلم اللغة التركية العثمانية. وبعد سنوات سافر إلى مصر، وانتسب إلى رواق الأكراد في الأزهر، وعيّن وكيلًا لإدارة الرواق. اشتغل بالتدريس والتأليف، ونشر الطريقة النقشبندية‌ في مصر، وانتسب إلى الطريقة على يديه كثير. واتخذ من خانقاه بيبرس الجاشنكير، التي كانت مخصصة للسادة الصوفية، مقرًا له، وأقام فيها خلوته. توفي يوم 12 ربيع الأول سنة1332هـ/ 7 فبراير – شباط 1914م بالقاهرة، ودفن في القرافة. وبعد 25 سنة نقل جثمانه إلى الضريح المقام بمسجد بيبرس جاشنكير بالجمالية، وقبره بها مشهور يزار، يعرف بـ(ضريح سيدى الشيخ محمد أمين البغدادي)، ويعمل له مولد كل عام. ينظر: زكي محمد مجاهد. الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجري، بيروت، لبنان: دار الغرب الإسلامي. الطبعة الثانية، ص 576.

[12] - يذكر أحد الباحثين الترك ( أحمد أوجار) في أطروحته التي طبعها في استنبول عام2008م (لا تنسوا ميراثكم، العثمانيون في جنوب أفريقيا) أن عمر لطفي مساعد الملا أبوبكر أفندي هو ابن أخيه حصراً.

[13] - جاء في (الموسوعة الفقهية الكويتية)، في حكم أكل هذه الحيوانات عند الشافعية، ما يلي :ﻭﻳﺤﺮﻡ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻴﺔ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ ‏(ﺍﻟﺒﺮﻣﺎﺋﻲ‏)، ﺃﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﻴﺸﻪ ﺩﺍﺋﻤﺎً ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺮ ﻭﺍﻟﺒﺤﺮ، ﺇﺫﺍ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ ﻧﻈﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮ ﻣﺄﻛﻮﻝ. ﻭﻗﺪ ﻣﺜﻠﻮﺍ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻀﻔﺪﻉ، ﻭﺍﻟﺴﺮﻃﺎﻥ، ﻭﺍﻟﺤﻴﺔ، ﻭﺍﻟﻨﺴﻨﺎﺱ، ﻭﺍﻟﺘﻤﺴﺎﺡ، ﻭﺍﻟﺴﻠﺤﻔﺎﺓ، ﻭﺗﺤﺮﻳﻢ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻟﺒﺮﻣﺎﺋﻲ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﺮﻯ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺮﺍﻓﻌﻲ ﻭﺍﻟﻨﻮﻭﻱ ﻓﻲ (ﺍﻟﺮﻭﺿﺔ)، ﻭﺃﺻﻠﻬﺎ ﻭﺍﻋﺘﻤﺪﻩ ﺍﻟﺮﻣﻠﻲ. ﻟﻜﻦ ﺻﺤﺢ ﺍﻟﻨﻮﻭﻱ ﻓﻲ (ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻉ) ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺳﺎﻛﻨﺎً ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻓﻌﻼً، ﺗﺤﻞ ﻣﻴﺘﺘﻪ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻣﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﻴﺸﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮ، ﺇﻻ ﺍﻟﻀﻔﺪﻉ، ﻭﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺪ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺨﻄﻴﺐ ﻭﺍﺑﻦ ﺣﺠﺮ ﺍﻟﻬﻴﺘﻤﻲ، ﻭﺯﺍﺩﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻀﻔﺪﻉ، ﻛﻞّ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﺳﻢ. ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﻓﺎﻟﺴﺮﻃﺎﻥ ﻭﺍﻟﺤﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﺴﻨﺎﺱ ﻭﺍﻟﺘﻤﺴﺎﺡ ﻭﺍﻟﺴﻠﺤﻔﺎﺓ، ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﺳﺎﻛﻨﺔ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ، ﺗﺤﻞ، ﻭﻻ ﻋﺒﺮﺓ ﺑﺈﻣﻜﺎﻥ ﻋﻴﺸﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﻛﻨﺔ ﺍﻟﺒﺮ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ، ﺗﺤﺮﻡ.

14- تاريخياً، كانت حكومة لندن قد ألغت الرق في جميع مستعمراتها عام 1833م، وأدركت سلطاتها في (جنوب أفريقيا)، بعد تلك الخطوة، حاجتها إلى يد عاملة بديلة، وخصوصاً في مزارع قصب السكر في منطقة (ناتال)، التي ضمتها إلى ممتلكاتهـا عـام 1843م، وكانت الزراعة في هذه المزارع مزدهرة في الجـزر القريبـة مـن شواطئ جنوب أفريقيـا، مثـل (جـزر موريسوش)، بسبب مهارة العمال الهنود الذين جلبوا خصيصاً لهذا العمل، فما كان من حكومة ناتال إلا أن تقدمت بطلب لحكومة الهند تلتمس فيه الموافقة على استقدام عمال مـن الهنـد مقابـل أجر يـدفـع لهـم، وعرفـوا بالإنجليزية باسـم: (Indentured workers)، وبعد محادثات بين الطرفين وافقت حكومة الهند على طلب حكومة ناتال.

وفي عام 1860م وصلت أول دفعـة مـن هؤلاء العمال إلى بورت ناتال (مدينة دوربان حالياً)، كان بينها 24 مسلماً، بقـي منهم تسعة بعد انتهاء العمل. وبين عامي 1860 و1861م وصـل 1360 هندياً، 12% منهم من المسلمين، واستمر تدفق هـؤلاء العمال الهنـود حتى عام 1911م،  حين بلغ عددهم 152642 شخصاً، كـان حـوالي 966 منهم من المسلمين الذين تميزوا لدى وصولهم بتنـوع عرقي ومذهبي ومهني، وحتى مناطقي، في وطنهم الأم.

وابتداء من سبعينات القرن التاسع عشر وصل إلى (ناتال) مجموعة ثانية من الهنود، أتت من منطقة (كوجارات) بغرب الهنـد، بقصـد التجارة، وخاصة مع الهنود، لكن بفضل مهارة أفرادها، ورأس مالهم، تمكنت من التجارة - فيما بعد - مع المستعمرين البيض أيضاً، والسيطرة على التجارة من وإلى الهند. عرفت هذه  المجموعة من التجار باسم الهنود المسافرين (Indian Passengers)، لأنهم دفعوا من مالهم أجرة الطريق. وشكل المسلمون 80% من أفرادها، حيث أطلق عليهم بطريق الخطأ اسم (العرب)، لأنهم اتخذوا اللباس السائد في الشرق الأوسط زياً لهم (محمد صادق إسماعيل، تجربة جنوب أفريقيا: نيلسون مانديلا والمصالحة الوطنية، مرجع سابق، ص38).

 

[14]  - السرطان أو السلطعون ، أما الاسم العلمي فهو:Brachyura)  ) وهو حيوان قشري عشر قدمي، ينتمي لما تحت رتبة قصيرات الذنب، نظراً لقصر ذيله البارز أو المخفي تحت قفصه الصدري. تنتشر السرطانات في كل محيطات العالم، وتوجد عدة أنواع منها، تستوطن المياه العذبة والبر، خاصة في المناطق الاستوائية. هناك حوالي 6,793 نوعاً معروفاً حالياً و 1800 أحافير غير مبهمة لأنواع منقرضة مختلفة، من 93 عائلة مختلفة، تنتمي إلى رتبة السرطانات. ولا ينتمي السرطان الناسك، وجراد البحر، والجمبري، والقريدس، والروبيان، وسرطان حدوة الحصان، إلى رتبة السرطانات، بالرغم من تشابه التسمية أو الشكل. الأنواع التي تنتمي إلى عائلة متفاوتات الذيول، بالإنكليزية:  Anomura)‏ ) تشبه عادة السرطانات الحقيقية، ولكنها ليست كذلك.

[15]- مجلة الأحكام العدلية: وهي عبارة عن قانون مدني مستمد من الفقه على المذهب الحنفي، وضعتها لجنة من العلماء في الدولة العثمانية. وتشتمل على مجموعة من أحكام المعاملات والدعاوى والبينات، وضعتها لجنة علمية مؤلفة من ديوان العدلية بالأستانة (= استنبول)، ورئاسة ناظر الديوان، سنة 1286هـ،/1869م. ولما أحست الدولة العثمانية بخطر القوانين الوضعية في البلدان الأوروبية يهددهم في عرضه الجذاب وتنسيقه المحكم، شكلت لجنة من فقهائها البارزين، ترأسها أحمد جودت پاشا، وعهدت إليها بتنظيم أحكام العلاقات المدنية في الفقه الإسلامي على المذهب الحنفي، واستمر عمل هذه اللجنة سبع سنوات، من 1869 إلى 1876م، حيث صدر هذا التنظيم باسم المجلة، وسميت بذلك؛ لأنها كانت تصدر أبوابًا متتابعة، فأشبهت في صدورها المجلات. بُدء في العمل بقوانين المجلة من العام 1877م، واشتملت المجلة على 16 كتاباً، هي : كتاب البيوع- كتاب الأجارات- كتاب الكفالة- كتاب الحوالة-كتاب الرهن- كتاب الأمانات- كتاب الهبة- كتاب الغصب والإتلاف- كتاب الحجر والإكراه والشفعة- كتاب الشركات- كتاب الوكالة- كتاب الصلح والإبراء- كتاب الإقرار- كتاب الدعوى- كتاب البينات والتحليف- كتاب القضاء ، وجاءت في [1851] مادة، وتعتبر المجلة أول تنظيم تشريعي كان استمداده من الفقه الإسلامي. الجدير بالذكر أنه إلى الآن ما زالت مجلة الأحكام العدلية أساس القانون المدني في الأردن والكويت. وصاغت الأحكام التي اشتملت عليها في مواد ذات أرقام متسلسلة، على نمط القوانين الحديثة، ليسهل الرجوع إليها، والإحالة عليها. ونشأت مجلة الأحكام العدلية بعد توقف حرب القرم الأولى بين المسلمين العثمانيين والروس، والتي أدت إلى بقاء جالية إسلامية ضخمة تحت سلطة الروس، فطلبت السلطنة العثمانية من الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو تقنيناً واضحاً لكيفية معاملة الرعايا المسلمين، مما دفع الروس للرد بالمثل، فأنشأ السلطان عبد المجيد لجنة من الفقهاء الحنفية، مع مساهمين من المذاهب الثلاث الأخرى مراقبين، لتقنين القضاء والأحكام الفقهية الإسلامية، فصدرت مجلة الأحكام العدلية. والتي هي مجموعة من التشريعات مكونة من ستة عشر كتاباً؛ أولها كتاب البيوع، وآخرها كتاب القضاء، صدر آخر أعدادها في فترة خلافة السلطان عبدالحميد الثاني، في شعبان سنة 1293 هجري شمسي 1876م، وإلى جانب التقنين الفقهي الإسلامي، جرى تقنين لما يخص القضاء والأحوال المدنية في شؤون جميع الأديان والمذاهب في الدولة العثمانية.

[16]- سليم أرغون، مساهمة وحياة العالم العثمانلي أبو بكر أفندي نحو الفكر والثقافة الإسلامية في جنوب إفريقيا، 2000م( باللغة التركية).

[17]- لقد نشرت رئاسة الشؤون الدينية التركية (ديانت) فتوى حسب المذهب الحنفي السائد في تركيا، وقبلها الدولة العثمانية، حرمت فيها أكل بلح البحر(= سرطان البحر) والجمبري والحبار والسلطعون، وقالت إن “بلح البحر والجمبري والحبار والسلطعون لا تُصنَّف أسماكًا، لذا فإن أكلها محرم في الإسلام”، معتبرة أن “القرآن يسمح بتناول الأطعمة التي يتم الحصول عليها من البحر، ولا يشمل ذلك الكائنات البحرية التي يمكن أن تعيش على الأرض”، بحسب موقع (دوفار) التركي، بنسخته الإنجليزية. واعتمدت (ديانت) على تفسيرات منسوبة إلى المذهب الحنفي، تحرّم أكل الجمبري، وما شابهه، على الرغم من الاتفاق بين المذاهب الأربعة - ومنهم المذهب الحنفي- على جواز أكله، باعتباره نوعًا من الأسماك. ورأت أنه “وفقاً للمذهب الحنفي، يحرم تناول بلح البحر والجمبري والحبار والسلطعون”، بينما يمنع المذهب الشافعي “تناول الضفادع وسرطان البحر والسلاحف والثعابين المائية". ونقلت (ديانت) عن المذهب الشافعي جواز “أكل الكائنات التي تعيش في الماء وتموت في وقت قصير بمجرد خروجها من الماء، بغض النظر عن شكلها أو طريقة موتها”. أما حيوانات البحر التي تعيش على اليابسة، فلا يجوز أكلها، إلا إذا كانت تشبه الحيوانات البرية التي تؤكل لحومها، حسب (ديانت). ينظر: صحيفة العرب الأردنية، العدد 12162 في /8/2021م.

[18] - مارتن فان بروينسن، عالم كوردي من القرن التاسع عشر في جنوب إفريقيا،  2000م؛ ملاس. صوفيون وزنادقة: دور الدين في المجتمع الكوردي. المقالات المجمعة.، اسطنبول: مطبعة إيزيس ، ص 133 – 141؛ سرحات أوراكجي، تحليل تاريخي للروابط الناشئة بين الإمبراطورية العثمانية وجنوب إفريقيا بين 1861-1923م، اكتوبر 2007م. إبراهيم محمد ماهيدا - تاريخ المسلمين في جنوب إفريقيا – التسلسل الزمني( باللغة التركية). سليم أرغون، حياة ومساهمة الباحث عثمانلي  أبو بكر أفندي في الفكر والثقافة الإسلامية في جنوب إفريقيا، 2000م.( باللغة التركية).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق