03‏/04‏/2022

حول ثنائية الدنيا والآخرة

أ. د. عماد الدين خليل 

كتاب الله وهو يتحدث ويشرّع ويرسم المعالم لحياتنا الدنيا.. فجأة ، ودون سابق إنذار يدير المنظور صوب اليوم الآخر.. ليس مرةً أو مرتين أو عشرين مرةً أو ثلاثين، وإنما على مدى كتاب الله؛ من بدئه حتى منتهاه، نجد أنفسنا إزاء هذه النقلة المفاجئة من الدنيا إلى الآخرة!

ليس هذا فحسب، بل هو يضغط الحياة الدنيا في أضيق مساحة، ويمدّ في مساحة الحياة الأخرى.. فيجعل الأولى ساعة من نهار، عشـرة أيام، حفل تعارف ما يلبث الذين انفضوا عنه أن ينسوا أسماء وملامح الوجوه التي تعرفوا عليها.. بينما هناك في المقابل يغدو اليوم الواحد كألف سنة مما نعد: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ

مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }(سورة المعارج: الآية 4 ).

ليس استهانة بالحياة الدنيا، التي طالما أكّد في مشروعه الحضاري ضـرورة إعمارها لكي تكون البيئة الصالحة لعبادة الإنسان، ليس بالمفهوم الطقوسي أو الشعائري، وإنما بالمفهوم الحضاري الذي تصير فيه كل فاعلية عمرانية يمارسها الإنسان عبادةً يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.. ليس هجراً وتحقيراً للحياة، كما يفعل بعض المتصوفة، والبوذيون، والهندوس، ورهبان المسيحية.. وإلا ما وضع هذه المنظومة الخصبة من آياته البيّنات التي تسعى إلى بناء الحياة الدنيا وإعمارها وتنميتها.. ليس رفضاً للحياة الدنيا ونفياً لها، وهو طالما أكّد على ضـرورة الالتحام بها، والكفاح لحماية منجزاتها، والمضي بها قدماً إلى الأمام..

ليس هذا أو ذاك، ولكنها الرؤية الإلهية الشاملة.. رؤية العليم الخبير التي تطل على المنظور من فوق، فترى الحالة بحجمها تماماً.. دونما زيادة أو نقصان، فتضع النقاط على الحروف، وترسم أقدار الدنيا والآخرة بما يستحقه الطرفان.

وأين نحن الذين قدرت أعمارنا بالخمسين والستّين والسبعين سنة، والتي اختزلت آجالنا عبر هذا المدى الزمني الضيق المحدود، المترع بالثقوب السوداء، من أعمارنا الأبدية هناك حيث تزول العقبات والمتاريس، ويكف الموت عن اختطاف أرواح الناس، ويمدّ لهم في البقاء إلى أبد الآبدين؟

أين نحن الذين امتلأت حياتهم الدنيا بالدمامل والقروح.. بالكدح المتواصل.. بالأوجاع والآلام، وبالقلق والهم والخوف، وبالمصائب التي تنقض علينا على حين غفلة منا، من تلك الحياة الوضيئة التي لا يعتصرها الهم والكدر.. الباقية الخالدة.. المترعة باللذائذ والمسرّات؟!

وكيف ستغدو المدن العامرة، والأبراج الهائلة، والمصانع الكبرى، والشوارع والمتنزهات الفارهة، والمؤسسات والبنوك والمصارف، والصناعات التي لا أوّل لها ولا آخر؟ كيف ستغدو الدول الكبرى والإمبراطوريات العظمى التي تحكم نصف العالم؟ كيف سيغدو الحكام والطواغيت والأباطرة والملوك والأمراء؟ كيف سيغدو الأغنياء والمترفون الذين تكدست في خزائنهم تلال الذهب والفضة، وملأت جيوبهم وبطونهم أكداس الدراهم والدنانير؟ وكيف ستغدو التكنولوجيا الهائلة بكشوفها المدهشة ومعطياتها التي تقدم كل يوم جديداً؟ وكيف ستغدو آليات الحرب والقوة والقتال والتدمير من صواريخ عابرة للقارات، وطائرات عملاقة، وأقمار فضاء، ومدافع بعيدة المدى، وأسلحة فتاكة؟ بل كيف ستغدو القنابل الذرية، والهيدروجينية، التي تجعل الأخضر هشيماً؟ كيف ستغدو السوبر ماركتات المترعة بالبضائع، والملاهي السكرى بالملذات، والنوادي التي يتعرى فيها الإنسان، وحانات الخمور، وصالات القمار التي تحرق فيها آلاف الدولارات وملايينها؟ كيف ستغدو الأزياء المتجددة، ومسابقات الجمال التي تستهدف تعهير المرأة وتحويلها إلى أداة رخيصةً للمتعة؟ أين ستغدو مؤسسات الإعلان التي جعلت من المرأة وسيلتها الفاجرة للربح والاتجار؟ أين ستغدو المؤسسات الإعلامية الكبرى؛ من تلفزيون وسينما ومسرح وفضائيات، تعرف كيف تنفث السم الزعاف في جسد البشرية المترع بالثقوب السوداء؟ أين سيذهب هذا كله في لحظة المصير، في ساعة الحسم الكوني عندما يصدر الأمر الإلهي ببدء الحساب العسير؟

لنقرأ في كتاب الله سبحانه وتعالى بعض ما يتيسر لنا، لكي يتبين لنا حجم الهول النازل من السماء، والذي سيحيل هذا كله إلى أنقاض وركام.. إلى هباءٍ منثور.. إلى دمارٍ شامل لا يكاد يبقي على شيء من هذا كله ولا يذر.. لنقرأ بعيون مفتوحة، وأفئدة واعية، وعقول ذكية، وآذان تعرف كيف تلتقط صوت النذير: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} (سورة الفرقان: الآية 23)، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً(سورة الكهف: الآيتان 7-8)، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)(سورة الكهف: الآيات 103-105)، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ{26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ{27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ{29} خُذُوهُ فَغُلُّوهُ{30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ{31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ{32} (سورة الحاقة: الآيات 25-32) {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ{8} وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ{9} وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً{10}(سورة المعارج: الآيات 8-10) { إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ{1} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ{2} وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ{3} وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ{4} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ{5} ( سورة الانشقاق : الآيات 1-5 ) {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا{2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا{3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا{5} ( سورة الزلزلة : الآيات 1-5 ) { الْقَارِعَةُ{1} مَا الْقَارِعَةُ{2} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ{3} يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ{4} وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ{5}  ( سورة القارعة : الآيات 1-5 ) {اعْـلـَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } ( سورة الحديد : الآية 20 ) {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }( سورة يونس : الآية 24 ).

كل هذا العمران.. كل تلك المؤسسات الكبرى.. كل ذلك الكم الهائل من الكشوف والاختراعات.. كل تلك الملاهي والمنتديات.. كل تلك الشوارع الفارهة وناطحات السحاب العملاقة.. كل تلك الأسلحة الفتاكة التي لم ترحم الأمم الضعيفة والشعوب المستعبدة.. كل ذلك الغرور والصلف البشري والتباهي بالقوة الخارقة.. كل هذا سيغدو في لحظةٍ واحدةٍ هباءً منثوراً !!

فليستنفر أولئك الطواغيت الكبار يوم القيامة كل ما يملكون من قوة؛ من جيوش ومخابرات ورجال أمن وجماهير.. من أسلحة ومن قنابل ومدمرات.. ولسوف يرون من المنتصر هناك يوم الحساب العسير.

الله - جلّ في علاه - أم هم؟  {... وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }( سورة البقرة : الآية 165 ) {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ{15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ{16} فَلْيَدْعُ نَادِيَه{17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ{18} (سورة العلق : الآيات 15-18 ) { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُـرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِـرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً{68} ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً{69} ( سورة مريم  : الآيتان 68-69 ).

يا الله على هذه القدرة المطلقة التي لا يقف أمامها شيء.. أي شيء على الإطلاق..
يا الله على هذه اليد العليا التي ستعرف كيف ترى طواغيت البشـرية الذين امتد بهم الضلال إلى ما لم يتخيله الإنسان، مصيرهم الذي ينتظرهم عما قريب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ...}( سورة الزمر : الآية 67 ).

فكيف بنا إزاء هذه الحقيقة التي طالما أكدها كتاب الله، رددها بين الحين والحين، أعاد القول فيها من زوايا مختلفة منبهاً الناس إلى ألاّ يغتروا بزخرف الحياة الدنيا وزينتها.. وألاّ يلهيهم متاعها الزائل عن الحقائق الكبرى التي تحكم السماوات والأرض، وتحقق قيم الحق والعدل في الكون؟

إننا إزاء هذه الثنائية التي تمسك بصيرورة الحياة الدنيا وتسوقها إلى مصائرها.. ثنائية الدنيا والآخرة.. يجب أن نعيد الحساب كمسلمين، مرةً ومرتين وثلاثاً، في طبيعة سلوكنا البشري في العالم، وأن نحسب الحساب الذكي المتبصـّر الذي يضع نصب عينيه المعادلة بطرفيها، لكي لا يجنح بها الضلال ويسوقها الشيطان إلى ما يريده هو ويتمناه، لا ما نريده نحن..

ومرةً أخرى، وثانيةً وعاشرةً، يتحتم التأشير على حقيقة أن هذه الثنائية تضع للمنظور الإسلامي للدنيا ألف حساب.. تنزل لها الشرائع، وترسم لها الصراط، وتدفعها وتحفزها لأن تحيا حياةً سعيدةً آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغداً من كل مكان.. أن تحمي نفسها، بما وسعها الجهد، من عدوان المعتدين، وأن تبني الحياة بمشـروعها الحضاري الذي وضعت آيات الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) تأسيساته، وتمضـي به قدماً إلى الأمام لكي تنشئ حضارةً قدّر لها أن تسوق العالم لعدة قرون، وهي قديرةٌ على أن تنبعث وتتجدد في كل عصـرٍ تشمر فيه الأمة عن ساعد الجد، وتعرف كيف أن مهمتها في الأرض هو البناء والتنمية والعمران، شرط ألاّ تجعل ذلك هدفاً بحدّ ذاته، وانما وسيلةً لجعل الحياة بيئة صالحة لعبادة الله - جلّ في علاه - ، ومرةً أخرى، ليس بالمفهوم الشعائري أو الطقوسي، وإنما بالمفهوم الحضاري، حيث تصير كل فاعلية، بما فيها الكشوف والاختراعات والنشاط المختبري الصـرف، عبادةً يتقرب بها الإنسان إلى الله..

إنه الرفض الحاسم لمقولة: (الدنيا قنطرةً فاعبروها ولا تعمروها)، واستبدالها بمقولة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)!!

إنه التوازن المدهش الذي ترسمه يد الله سبحانه وتعالى ، العليم الخبير.. التوازن بين الفناء والخلود، بين الانصرام والأبدية، بين مطالب الحياة الدنيا وضروراتها ونعيم الآخرة.. التوازن الذي لا يميل ولا يجور، وإنما هي الرؤية العادلة التي تضع الأمور في نصابها الحق، وتسيرها لصالح الإنسان.. سعادة الإنسان وكرامته في الدارين على السواء: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }( سورة الإسراء : الآية 70 ).

إن نقطة الارتكاز المحورية في المنظور الايماني للحياة الدنيا هي الآخرة، ويجيئ العمل للدنيا تمهيداً لتلك الغاية.. فالثنائيات كافةً - في المنظور الإسلامي - تتوافق وتتناغم، ولا تتقاتل وتصطرع.. فليس ثمة تناقض على الإطلاق بين الطرفين، ذلك أن بناء الحياة الدنيا وتنميتها وعمرانها، وفق منظومة القيم التي ترضي الله - جلّ في علاه -، هي الطريق إلى الآخرة، وعلى الإنسان أن يكدح ويواصل العمل حتى يدس أنفه في التراب.. ولسوف يلقى نتيجة عمله في الدنيا والآخرة معاً، حيث لا يظلم الإنسان مثقال حبةٍ من خردل إزاء سعيه الدنيوي هذا.. وإلاّ فهو الضياع في الدنيا والآخرة، وهو باطل الأباطيل، وقبض الريح، وحصاد الهشيم!!

إن آيات القرآن الكريم، بسبب تدفقها هذا، بسبب إلحاحها على تلك النقلة المفاجئة من الدنيا إلى الآخرة.. من اللحظة العابرة إلى الخلود.. بسبب تأكيدها المتواصل على ضرورة أن نفتح وعينا وبصائرنا على هذه الحقيقة.. انما توجه خطابها للمؤمنين والكفار على السواء.. هؤلاء لكي يزدادوا عطاءً وعملاً وإبداعاً، وأولئك لكي يكفوا عن سكرتهم التي أعمت عيونهم عن رؤية المعادلة والتعامل معها بطرفيها معاً.

فيا أيها الناس.. أيها السكارى.. أيها النائمون.. أيها الغافلون.. أفيقوا.. انتهبوا.. فإن يوم القيامة على بعد خطوات منكم: {... وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ}(سورة الأنبياء: الآية 109)، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }(سورة النازعات: الآية 46)، {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ{10} أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً{11} قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ{12} فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ{13} فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ{14} (سورة النازعات : الآيات 10-14) {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً{103} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً{104}(سورة طه: الآيتان 103-104).

أيها المتكالبون على المناصب والسلطات، المتقاتلون على حفنات من الدراهم والدنانير، ما الذي تبقى من أعماركم سوى سنوات قلائل.. لحظاتٍ من عمر الزمن.. ستلقون بعدها الحساب العسير..

أيها الملتصقون كالعناكب والذباب والصراصير والفئران على فتات الحياة الدنيا.. تعضون عليها بالنواجذ، وتدوسون في سبيل الحصول على المزيد منها القيم والأعراف والمقدسات..

أيها الحكام.. أيها الطواغيت.. أيتها الإلهة المزيفة التي استعبدت شعوبها، وأعملت في رقابها السكاكين الحادة، وأجاعتها وأفقرتها وشردتها في الأرض .. في سبيل سنواتٍ تافهةٍ مضافةٍ إلى تسلطكم.. سنواتٍ لا تعدو أن تكون دقائق ولحظات في عمر الزمن، ولكنها حملتكم مسؤولية تقشعر لهولها الأبدان.. ولسوف تلقونَ جزاء ما صنعته أيديكم.. ما ساقتكم إليه شهوتكم للحكم والسلطان..

أيها الأثرياء.. أصحاب الملايين والمليارات التي اغتصبوها من أفواه الجائعين.. ما الذي ستقدمه لكم أكثر من ثلاث وجبات في اليوم، وعدداً محدوداً من الملابس والمراكب.. وداراً واحدةً لسكناكم.. ثم ما تلبثون أن تتركوها لذرياتكم التي تعرف كيف تبعثرها بالإغراق في الملذات والفساد، فتحملكم المسؤولية مضاعفةً مرتين!!

انتبهوا أيها الأغبياء الذين وضعوا أنفسهم، التي كرمها الله سبحانه وتعالى، تحت أقدام المغريات التافهة التي لا تساوي شروى نقير، إذا ما قورنت بوعد الله - جلّ في علاه -.. أصبحوا عبيداً لها، تسخرهم ولا يسخرونها، تسوقهم إلى ما تريده هي لا ما يريدونه هم، حتى تجعلهم في نهاية الأمر حطاماً..

أيها المستعبدون للصغائر والتفاهات.. أفيقوا قبل فوات الأوان.. وإلا والله إنها الصفقة الخاسرة بكل المعايير..

أيها الغائبون عن حقائق الأشياء.. أفيقوا !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق